بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 605

  • البداية
  • السابق
  • 605 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 110254 / تحميل: 5675
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

السابقة و اللاحقة و التدبّر فيها - و الله أعلم - أن يكون المراد بدخولهم من حيث أمرهم أبوهم أنّهم دخلوا مصر أو دار العزيز فيها من أبواب متفرّقة كما أمرهم أبوهم حينما ودّعوه للرحيل، و إنّما اتّخذ يعقوب (عليه السلام) هذا الأمر وسيلة لدفع ما تفرّسه من نزول مصيبة بهم تفرّق جمعهم و تنقص من عددهم كما اُشير إليه في الآية السابقة لكن اتّخاذ هذه الوسيلة و هي الدخول من حيث أمرهم أبوهم لم يكن ليدفع عنهم البلاء و كان قضاء الله سبحانه ماضيا فيهم و أخذ العزيز أخاهم من أبيهم لحديث سرقة الصواع و انفصل منهم كبيرهم فبقي في مصر و أدّى ذلك إلى تفرّق جمعهم و نقص عددهم فلم يغن يعقوب أو الدخول من حيث أمرهم من الله من شي‏ء.

لكنّ الله سبحانه قضى بذلك حاجة في نفس يعقوب (عليه السلام) فإنّه جعل هذا السبب الّذي تخلّف عن أمره و أدّى إلى تفرّق جمعهم و نقص عددهم بعينه سببا لوصول يعقوب إلى يوسف (عليه السلام) فإنّ يوسف أخذ أخاه إليه و رجع سائر الإخوة إلّا كبيرهم إلى أبيهم ثمّ عادوا إلى يوسف يسترحمونه و يتذلّلون لعزّته فعرّفهم نفسه و أشخص أباه و أهله إلى مصر فاتّصلوا به.

فقوله:( ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْ‏ءٍ ) أي لم يكن من شأن يعقوب أو هذا الأمر الّذي اتّخذه وسيلة لتخلّصهم من هذه المصيبة النازلة أن يغني عنهم من الله شيئاً ألبتّة و يدفع عنهم ما قضى الله أن يفارق اثنان منهم جمعهم بل اُخذ منهم واحد و فارقهم و لزم أرض مصر آخر و هو كبيرهم.

و قوله:( إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها ) قيل: إنّ( إِلَّا ) بمعنى لكن أي لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها الله فردّ إليه ولده الّذي فقده و هو يوسف.

و لا يبعد أن يكون( إِلَّا ) استثنائيّة فإنّ قوله:( ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْ‏ءٍ ) في معنى قولنا: لم ينفع هذا السبب يعقوب شيئاً أو لم ينفعهم جميعاً شيئاً و لم يقض الله لهم جميعاً به حاجة إلّا حاجة في نفس يعقوب، و قوله:( قَضاها ) استئناف و جواب سؤال كأنّ سائلاً يسأل فيقول: ماذا فعل بها؟ فاُجيب بقوله:( قَضاها ) .

و قوله:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) الضمير ليعقوب أي إنّ يعقوب لذو

٢٤١

علم بسبب ما علّمناه من العلم أو بسبب تعليمنا إيّاه و ظاهر نسبة التعليم إليه تعالى أنّه علم موهبيّ غير اكتسابيّ و قد تقدّم أنّ إخلاص التوحيد يؤدّي إلى مثل هذه العناية الإلهيّة، و يؤيّد ذلك أيضاً قوله تعالى بعده:( وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) إذ لو كان من العلم الاكتسابيّ الّذي يحكم بالأسباب الظاهريّة و يتوصّل إليه من الطرق العاديّة المألوفة لعلمه الناس و اهتدوا إليه.

و الجملة:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) إلخ، ثناء على يعقوب (عليه السلام)، و العلم الموهبيّ لا يضلّ في هدايته و لا يخطئ في إصابته و الكلام كما يفيده السياق يشير إلى ما تفرّس له يعقوب (عليه السلام) من البلاء و توسّل به من الوسيلة و حاجته في يوسف في نفسه لا ينساها و لا يزال يذكرها، فمن هذه الجهات يعلم أنّ في قوله:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) إلخ، تصديقاً ليعقوب (عليه السلام) فيما قاله لبنيه و تصويبا لما اتّخذه من الوسيلة لحاجته بأمرهم بما أمر و توكّله على الله فقضى الله له حاجة في نفسه.

هذا ما يعطيه التدبّر في سياق الآيات و للمفسّرين أقوال عجيبة في معنى الآية كقول بعضهم: إنّ المراد بقوله:( ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ - إلى قوله -قَضاها ) إنّه لم يكن دخولهم كما أمرهم أبوهم يغني عنهم أو يدفع عنهم شيئاً أراد الله إيقاعه بهم من حسد أو أصابه عين و كان يعقوب (عليه السلام) عالما بأنّ الحذر لا يدفع القدر و لكن كان ما قاله لبنيه حاجة في نفسه فقضى يعقوب تلك الحاجة أي أزال به اضطراب قلبه و أذهب به القلق عن نفسه.

و قول بعضهم: إنّ المعنى أنّ الله لو قدر أن تصيبهم العين لأصابتهم و هم متفرّقون كما تصيبهم مجتمعين.

و قول بعضهم: إنّ معنى قوله:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) إلخ أنّه لذو يقين و معرفة بالله لأجل تعليمنا إيّاه و لكنّ أكثر الناس لا يعلمون مرتبته.

و قول بعضهم: إنّ اللّام في( لِما عَلَّمْناهُ ) للتقوية و المعنى أنّه يعلم ما علّمناه فيعمل به لأنّ من علم شيئاً و هو لا يعمل به كان كمن لا يعلم. إلى غير ذلك من أقاويلهم.

٢٤٢

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى‏ يُوسُفَ آوى‏ إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الإيواء إليه ضمّه و تقريبه منه في مجلسه و نحوه، و الابتئاس اجتلاب البؤس و الاغتمام و الحزن، و ضمير الجمع للإخوة.

و معنى الآية:( وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى‏ يُوسُفَ ) بعد دخولهم مصر( آوى) و قرّب( إِلَيْهِ أَخاهُ ) الّذي أمرهم أن يأتوا به إليه و كان أخا له من أبيه و اُمّه( قالَ ) له( إِنِّي أَنَا أَخُوكَ ) أي يوسف الّذي فقدته منذ سنين - و الجملة خبر بعد خبر أو جواب سؤال مقدّر( فَلا تَبْتَئِسْ ) و لا تغتمّ( بِما كانُوا ) أي الإخوة( يَعْمَلُونَ ) من أنواع الأذى و المظالم الّتي حملهم عليها حسدهم لي و لك و نحن أخوان من اُمّ أو لا تبتئس بما كان غلماني يعملون فإنّه كيد لحبسك عندي.

و ظاهر السياق أنّه عرّفه نفسه بإسرار القول إليه و سلّاه على ما عمله الإخوة و طيّب نفسه فلا يعبأ بقول بعضهم أنّ معنى قوله: إنّي أنا أخوك: أنا أخوك مكان أخيك الهالك - و قد كان أخبره أنّه كان له أخ من اُمّه هلك من قبل فبقي وحده لا أخ له من اُمّه - و لم يعترف يوسف له بالنسب و لكنّه أراد أن يطيّب نفسه.

و ذلك أنّه ينافيه ما في قوله:( إِنِّي أَنَا أَخُوكَ ) من وجوه التأكيد و ذلك إنّما يناسب تعريفه نفسه بالنسب ليستيقن أنّه هو يوسف. على أنّه ينافي أيضاً ما سيأتي من قوله لإخوته عند تعريفهم نفسه:( أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ) فإنّه إنّما يناسب ما إذا علم أخوه أنّه أخوه فاعتزّ بعزّته كما لا يخفى.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) السقاية الظرف الّذي يشرب فيه، و الرحل ما يوضع على البعير للركوب، و العير القوم الّذين معهم أحمال الميرة و ذلك اسم للرجال و الجمال الحاملة للميرة و إن كان قد يستعمل في كلّ واحد من دون الآخر، ذكر ذلك الراغب في مفرداته.

و معنى الآية ظاهر و هذه حيلة احتالها يوسف (عليه السلام) ليأخذ بها أخاه إليه كما قصّة و فصّله الله تعالى و جعل ذلك مقدّمة لتعريفهم نفسه في حال التحق به أخوه

٢٤٣

و هما منعّمان بنعمة الله مكرمان بكرامته.

و قوله:( ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) الخطاب لإخوة يوسف و فيهم أخوه لاُمّه، و من الجائز توجيه الخطاب إلى الجماعة في أمر يعود إلى بعضهم إذا كان لا يمتاز عن الآخرين، و في القرآن منه شي‏ء كثير، و هذا الأمر الّذي سمّي سرقة و هو وجود السقاية في رحل البعير كان قائماً بواحد منهم و هو أخو يوسف لاُمّه لكن عدم تعيّنه بعد من بينهم كان مجوّزاً لخطابهم جميعا بأنّكم سارقون فإنّ معنى هذا الخطاب في مثل هذا المقام أنّ السقاية مفقودة و هي عند بعضكم ممّن لا يتعيّن إلّا بعد الفحص و التفتيش.

و من المعلوم من السياق أنّ أخا يوسف لاُمّه كان عالماً بهذا الكيد مستحضراً منه و لذلك لم يتكلّم من أوّل الأمر إلى آخره و لا بكلمة و لا نفى عن نفسه السرقة و لا اضطرب كيف؟ و قد عرّفه يوسف أنّه أخاه و سلّاه و طيّب نفسه فليس إلّا أنّ يوسف (عليه السلام) كان عرّفه ما هو غرضه من هذا الصنع، و أنّه إنّما يريد بتسميته سارقا و إخراج السقاية من رحله أن يقبض عليه و يأخذه إليه فتسميته سارقا إنّما كان اتّهاماً في نظر الإخوة و أمّا بالنسبة إليه و في نظره فلم يكن تسمية جدّيّة و تهمة حقيقيّة بل توصيفاً صوريّاً فحسب لمصلحة لازمة جازمة.

فنسبه السرقة إليهم - بالنظر إلى هذه الجهات - لم تكن من الافتراء المذموم عقلا المحرّم شرعاً، على أنّ القائل هو المؤذّن الّذي أذّن بذلك.

و ذكر بعض المفسّرين: أنّ القائل:( إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) . بعض من فقد الصاع من قوم يوسف من غيره أمره و لم يعلم أنّ يوسف أمر بجعل الصاع في رحالهم.

و قال بعضهم: إنّ يوسف (عليه السلام) أمر المنادي أن ينادي به و لم يرد به سرقة الصاع، و إنّما عنى به أنّكم سرقتم يوسف من أبيه و ألقيتموه في الجبّ، و نسب ذلك إلى أبي مسلم المفسّر.

و قال بعضهم: إنّ الجملة استفهاميّة، و التقدير: أ إنّكم لسارقون؟ بحذف همزة الاستفهام، و لا يخفى ما في هذه الوجوه من البعد.

٢٤٤

قوله تعالى: ( قالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ ) الفقد - كما قيل - غيبة الشي‏ء عن الحسّ بحيث لا يعرف مكانه، و الضمير في قوله:( قالُوا ) للإخوة و هم العير، و قوله:( ما ذا تَفْقِدُونَ ) مقول القول و الضمير في قوله:( عَلَيْهِمْ ) ليوسف و فتيانه كما يدلّ عليه السياق.

و المعنى قال إخوة يوسف المقبلين ليوسف و فتيانه: ما ذا تفقدون؟ و في السياق دلالة على أنّ المنادي إنّما ناداهم من ورائهم و قد أخذوا في السير.

قوله تعالى: ( قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) الصواع بالضمّ السقاية و قيل: إنّ الصواع هو الصاع الّذي يكال به، و كان صواع الملك إناء يشرب فيه و يكال به و لذلك سمّي تارة سقاية و اُخرى صواع، و يجوز فيه التذكير و التأنيث، و لذلك قال:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ ) و قال:( ثُمَّ اسْتَخْرَجَها ) .

و الحمل ما يحمله الحامل من الأثقال، و قد ذكر الراغب أنّ الأثقال المحمولة في الظاهر كالشي‏ء المحمول على الظهر تختصّ باسم الحمل بكسر الحاء، و الأثقال المحمولة في الباطن كالولد في البطن و الماء في السحاب و الثمرة في الشجرة تختصّ باسم الحمل بفتح الحاء.

و قال في المجمع: الزعيم و الكفيل و الضمين نظائر و الزعيم أيضاً القائم بأمر القوم و هو الرئيس.

و لعلّ القائل:( نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ) هو فتيان يوسف و القائل:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) يوسف (عليه السلام) نفسه لأنّه هو الرئيس الّذي يقوم بأمر الإعطاء و المنع و الضمانة و الكفالة و الحكم، و يعود معنى الكلام على هذا إلى نحو من قولنا: أجاب عنهم يوسف و فتيانه أمّا فتيانه فقالوا:( نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ) ، و أمّا يوسف فقال:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ‏ ) ، و هذه جعالة.

و ظاهر بعض المفسّرين: أنّ قوله:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) تتمّة قول المؤذّن:( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) و على هذا فقوله:( قالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ - إلى قوله -صُواعَ الْمَلِكِ ) معترض.

٢٤٥

قوله تعالى: ( قالُوا تَالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَ ما كُنَّا سارِقِينَ ) المراد بالأرض أرض مصر و هي الّتي جاؤها و معنى الآية ظاهر.

و في قولهم:( لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ ) دلالة على أنّهم فتّشوا و حقّق في أمرهم أوّل ما دخلوا مصر للميرة بأمر يوسف (عليه السلام) بدعوى الخوف من أن يكونوا جواسيس و عيونا أو نازلين بها لأغراض فاسدة اُخرى فسألوا عن شأنهم و محلّهم و نسبهم و أمثال ذلك، و به يتأيّد ما ورد في بعض الروايات أنّ يوسف أظهر لهم أنّه في ريب من أمرهم فسألهم عن شأنهم و مكانهم و أهلهم و عند ذلك ذكروا أنّ لهم أبا شائخا و أخا من أبيهم فأمر بإتيانهم به، و سيأتي في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

و قولهم:( وَ ما كُنَّا سارِقِينَ ) نفي أن يكونوا متّصفين بهذه الصفة الرذيلة من قبل أو يعهد منهم أهل البيت ذلك.

قوله تعالى: ( قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ ) أي قال فتيان يوسف أو هو و فتيانه سائلين منهم عن الجزاء: ما جزاء السرق أو ما جزاء الّذي سرق منكم إن كنتم كاذبين في إنكاركم.

و الكلام في قولهم:( إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ ) في نسبة الكذب إليهم يقرب من الكلام في قولهم:( إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) و قد تقدّم.

قوله تعالى: ( قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) مرادهم أنّ جزاء السرق نفس السارق أو جزاء السارق نفسه بمعنى أنّ من سرق مالاً يصير عبداً لمن سرق ماله و هكذا كان حكمه في سنّة يعقوب (عليه السلام) كما يدلّ عليه قولهم:( كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) أي هؤلاء الظالمين و هم السرّاق لكنّهم عدلوا عنه إلى قولهم:( جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ ) للدلالة على أنّ السرقة إنّما يجازى بها نفس السارق لا رفقته و صحبه و هم أحد عشر نسمة لا ينبغي أن يؤاخذ منهم لو تحقّقت السرقة إلّا السارق بعينه من غير أن يتعدّى إلى نفوس الآخرين و رحالهم ثمّ للمسروق منه أن يملك السارق نفسه يفعل به ما يشاء.

٢٤٦

قوله تعالى: ( فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ ) فيه تفريع على ما تقدّم أي أخذ بالتفتيش و الفحص بالبناء على ما ذكروه من الجزاء فبدأ بأوعيتهم و ظروفهم قبل وعاء أخيه للتعمية عليهم حذراً من أن يتنبّهوا و يتفطّنوا أنّه هو الّذي وضعها في رحل أخيه ثمّ استخرجها من وعاء أخيه و عند ذلك استقرّ الجزاء عليه لكونها في رحله.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ) إلى آخر الآية. الإشارة إلى ما جرى من الأمر في طريق أخذ يوسف (عليه السلام) أخاه لاُمّه من عصبة إخوته، و قد كان كيداً لأنّه يوصل إلى ما يطلبه منهم من غير أن يعلموا و يتفطّنوا به و لو علموا لما رضوا به و لا مكّنوه منه، و هذا هو الكيد غير أنّه كان بإلهام من الله سبحانه أو وحي منه إليه علّمه به طريق التوصّل إلى أخذ أخيه. و لذلك نسب الله سبحانه ذلك إلى نفسه مع توصيفه بالكيد فقال:( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ) .

و ليس كلّ كيد بمنفيّ عنه تعالى و إنّما تتنزّه ساحة قدسه عن الكيد الّذي هو ظلم و نظيره المكر و الإضلال و الاستدراج و غيرها.

و قوله:( ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ) بيان للسبب الداعي إلى الكيد، و هو أنّه كان يريد أن يأخذ أخاه إليه، و لم يكن في دين الملك أي سنّته الجارية في أرض مصر طريق يؤدّي إلى أخذه، و لا أنّ السرقة حكمها استعباد السارق و لذلك كادهم يوسف - بأمر من الله - بجعل السقاية في رحله ثمّ إعلام أنّهم سارقون حتّى ينكروه فيسألهم عن جزائه إن كانوا كاذبين فيخبروا أنّ جزاء السرق عندهم أخذ السارق و استعباده فيأخذهم بما رضوا به لأنفسهم.

و على هذا فلم يكن له أن يأخذ أخاه في دين الملك إلّا في حال يشاء الله ذلك و هو هذا الحال الّذي رضوا فيه أن يجازوا بما رضوا به لأنفسهم.

و من هنا يظهر أنّ الاستثناء يفيد أنّه كان من دين الملك أن يؤخذ المجرم بما يرضاه لنفسه من الجزاء و هو أشقّ، و كان ذلك متداولاً في كثير من السنن

٢٤٧

القوميّة و سياسات الملوك.

و قوله:( نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) امتنان على يوسف (عليه السلام) بما رفعه الله على إخوته، و بيان لقوله:( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ) و كان امتناناً عليه.

و في قوله:( وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) بيان أنّ العلم من الاُمور الّتي لا يقف على حدّ ينتهي إليه بل كلّ ذي علم يمكن أن يفرض من هو أعلم منه.

و ينبغي أن يعلم أنّ ظاهر قوله:( ذِي عِلْمٍ ) هو العلم الطارئ على العالم الزائد على ذاته لما في لفظة( ذِي ) من الدلالة على المصاحبة و المقارنة فالله سبحانه و علمه الّذي هو صفة ذاته عين ذاته، و هو تعالى علم غير محدود كما أنّ وجوده أحدي غير محدود، خارج بذاته عن إطلاق الكلام.

على أنّ الجملة( وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) إنّما تصدق فيما أمكن هناك فرض( فَوْقَ ) و الله سبحانه لا فوق له و لا تحت له و لا وراء لوجوده و لا حدّ لذاته و لا نهاية.

و لا يبعد أن يكون قوله:( وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) إشارة إلى كونه تعالى فوق كلّ ذي علم بأن يكون المراد بعليم هو الله سبحانه اُورد في هيئة النكرة صوناً للّسان عن تعريفه للتعظيم.

قوله تعالى: ( قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) إلى آخر الآية، القائلون هم إخوة يوسف (عليه السلام) لأبيه، و لذلك نسبوا يوسف إلى أخيهم المتّهم بالسرقة لأنّهما كانا من اُمّ واحدة، و المعنى أنّهم قالوا: إن يسرق هذا صواع الملك فليس ببعيد منه لأنّه كان له أخ و قد تحقّقت السرقة منه من قبل فهما يتوارثان ذلك من ناحية اُمّهما و نحن مفارقوهما في الاُمّ.

و في هذا نوع تبرئة لأنفسهم من السرقة لكنّه لا يخلو من تكذيب لما قالوه آنفاً:( وَ ما كُنَّا سارِقِينَ ) لأنّهم كانوا ينفون به السرقة عن أبناء يعقوب جميعا و إلّا لم يكن ينفعهم ألبتّة فقولهم:( فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) يناقضه و هو ظاهر. على

٢٤٨

أنّهم أظهروا بهذه الكلمة ما في نفوسهم من الحسد ليوسف و أخيه - و لعلّهم لم يشعروا به - و هذا يكشف عن اُمور مؤسّفة كثيرة فيما بينهم.

و بهذا يتّضح بعض الاتّضاح معنى قول يوسف:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) كما أنّ الظاهر أنّ قوله:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) إلى آخر الآية كالبيان لقوله:( فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ ) و كما أنّ قوله:( وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ ) عطف تفسير لقوله:( فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ ) .

و المعنى - و الله أعلم -( فَأَسَرَّها ) أي أخفى هذه الكلمة الّتي قالوها أي لم يتعرّض لما نسبوا إليه من السرقة و لم ينفه و لم يبيّن حقيقة الحال بل( فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ ) و كأنّ هناك قائلاً يقول: كيف أسرّها في نفسه فاُجيب أنّه( قالَ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) و أسوأ حالا لما في أقوالكم من التناقض و في نفوسكم من غريزة الحسد الظاهرة و اجترائكم على الكذب في حضرة العزيز بعد هذا الإكرام و الإحسان كلّه( وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ ) إنّه قد سرق أخ له من قبل فلم يكذّبهم في وصفهم و لم ينفه.

و ذكر بعض المفسّرين أنّ معنى قوله:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) إلخ: أنّكم أسوأ حالا منه لأنّكم سرقتم أخاكم من أبيكم و الله أعلم أسرق أخ له من قبل أم لا.

و فيه: أنّ من الجائز أن يكون هذا المعنى بعض ما قصده يوسف بقوله:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) لكنّ الكلام فيما تلقّاه إخوته من قوله هذا و الظرف هذا الظرف هم ينكرون يوسف (عليه السلام) و هو لا يريد أن يعرّفهم نفسه، و لا ينطبق قوله في مثل هذا الظرف إلّا بما تقدّم.

و ربّما ذكر بعضهم أنّ الّتي أسرّها يوسف في نفسه و لم يبدها لهم هي كلمته:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكان ) فلم يخاطبهم بها ثمّ جهر بقوله:( وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ ) و هذا بعيد غير مستفاد من السياق.

قوله تعالى: ( قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) سياق الآيات يدلّ على أنّهم إنّما قالوا هذا القول لمّا

٢٤٩

شاهدوا أنّه استحقّ الأخذ و الاستعباد، و ذكروا أنّهم أعطوا أباهم موثقا من الله أن يرجعوه إليه فلم يكن في مقدرتهم أن يرجعوا إلى أبيهم و لا يكون معهم، فعند ذلك عزموا أن يفدوه بواحد منهم إن قبل العزيز، و كلّموا العزيز في ذلك أن يأخذ أيّ من شاء منهم، و يخلي عن سبيل أخيهم المتّهم ليرجعوه إلى أبيه.

و معنى الآية ظاهر، و في اللفظ ترقيق و استرحام و إثارة لصفة الفتوّة و الإحسان من العزيز.

قوله تعالى: ( قالَ مَعاذَ الله أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ ) ردّ منه (عليه السلام) لسؤالهم أن يأخذ أحدهم مكانه و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ) إلى آخر الآية قال في المجمع: اليأس قطع الطمع من الأمر يقال يئس ييأس و أيس يأيس لغة، و استفعل مثل استيأس و استأيس. قال: و يئس و استيأس بمعنى مثل سخر و استسخر و عجب و استعجب.

و النجيّ القوم يتناجون الواحد و الجمع فيه سواء قال سبحانه:( وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا ) و إنّما جاز ذلك لأنّه مصدر وصف به، و المناجاة المسارّة و أصله من النجوة هو المرتفع من الأرض فإنّه رفع السرّ من كلّ واحد إلى صاحبه في خفية، و النجوى يكون اسماً و مصدراً قال سبحانه:( وَ إِذْ هُمْ نَجْوى‏ ) أي يتناجون، و قال في المصدر:( إِنَّمَا النَّجْوى‏ مِنَ الشَّيْطانِ ) و جمع النجيّ أنجية قال: و برح الرجل براحا إذا تنحّى عن موضعه. انتهى.

و الضمير في قوله:( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ ) ليوسف و يمكن أن يكون لأخيه و المعنى( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا ) أي إخوة يوسف( مِنْهُ ) أي من يوسف أن يخلّي عن سبيل أخيه و لو بأخذ أحدهم بدلا منه( خَلَصُوا ) و خرجوا من بين الناس إلى فراغ( نَجِيًّا ) يتناجون في أمرهم أ يرجعون إلى أبيهم و قد أخذ منهم موثقا من الله أن يعيدوا أخاهم إليه أم يقيمون هناك و لا فائدة في إقامتهم؟ ما ذا يصنعون؟.

( قالَ كَبِيرُهُمْ ) مخاطباً لسائرهم( أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً

٢٥٠

مِنَ الله ) ألّا ترجعوا من سفركم هذا إليه إلّا بأخيكم،( وَ مِنْ قَبْلُ ) هذه الواقعة( ما فَرَّطْتُمْ ) أي تفريطكم و تقصيركم( فِي ) أمر( يُوسُفَ ) عهدتم أباكم أن تحفظوه و تردّوه إليه سالماً فألقيتموه في الجبّ ثمّ بعتموه من السيّارة ثمّ أخبرتم أباكم أنّه أكله الذئب.

( فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ ) أي فإذا كان الشأن هذا الشأن لن أتنحّى و لن اُفارق أرض مصر( حتّى يَأْذَنَ لِي أَبِي ) برفعه اليد عن الموثق الّذي واثقته به( أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ) فيجعل لي طريقا إلى النجاة من هذه المضيقة الّتي سدّت لي كلّ باب و ذلك إمّا بخلاص أخي من يد العزيز من طريق لا أحتسبه أو بموتي أو بغير ذلك من سبيل!!.

أمّا أنا فاختار البقاء هاهنا و أمّا أنتم فارجعوا إلى أبيكم إلى آخر ما ذكر في الآيتين التاليتين.

قوله تعالى: ( ارْجِعُوا إِلى‏ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَ ما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ ) قيل المراد بقوله:( وَ ما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا ) إنّا لم نشهد في شهادتنا هذه:( إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ ) إلّا بما علمنا من سرقته، و قيل المراد ما شهدنا عند العزيز أنّ السارق يؤخذ بسرقته و يسترقّ إلّا بما علمنا من حكم المسألة، قيل و إنّما قالوا ذلك حين قال لهم يعقوب: ما يدري الرجل أنّ السارق يؤخذ بسرقته و يسترقّ؟ و إنّما علم ذلك بقولكم، و أقرب المعنيين إلى السياق أوّلهما.

و قوله:( وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ ) قيل أي لم نكن نعلم أنّ ابنك سيسرق فيؤخذ و يسترقّ و إنّما كنّا نعتمد على ظاهر الحال و لو كنّا نعلم ذلك لما بادرنا إلى تسفيره معنا و لا أقدمنا على الميثاق.

و الحقّ أنّ المراد بالغيب كونه سارقاً مع جهلهم بها و معنى الآية إنّ ابنك سرق و ما شهدنا في جزاء السرقة إلّا بما علمنا و ما كنّا نعلم أنّه سرق السقاية و أنّه سيؤخذ بها حتّى نكفّ عن تلك الشهادة فما كنّا نظنّ به ذلك.

٢٥١

قوله تعالى: ( وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَ إِنَّا لَصادِقُونَ ) أي و أسأل جميع من صاحبنا في هذه السفرة أو شاهد جريان حالنا عند العزيز حتّى لا يبقى لك أدنى ريب في أنّا لم نفرط في أمره بل إنّه سرق فاسترقّ.

فالمراد بالقرية الّتي كانوا فيها بلدة مصر - على الظاهر - و بالعير الّتي أقبلوا فيها القافلة الّتي كانوا فيها و كان رجالها يصاحبونهم في الخروج إلى مصر و الرجوع منها ثمّ أقبلوا مصاحبين لهم، و لذلك عقّبوا عرض السؤال بقولهم:( وَ إِنَّا لَصادِقُونَ ) أي فيما نخبرك من سرقته و استرقاقه لذلك، و نكلّفك السؤال لإزالة الريب من نفسك.

٢٥٢

( سورة يوسف الآيات ٨٣ - ٩٢)

قَالَ بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَميلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِم جَميعاً إِنّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ( ٨٣) وَتَوَلّى‏ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى‏ عَلَى‏ يُوسُفَ وَابْيَضّتْ عَينَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيم( ٨٤) قَالُوا تَاللّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى‏ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ( ٨٥) قَالَ إِنّمَا أَشْكُوا بَثّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ( ٨٦) يَا بَنِيّ اذْهَبُوا فَتَحَسّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رّوْحِ اللّهِ إِنّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَوْحِ اللّهِ إِلّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ( ٨٧) فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يا أَيّهَا الْعَزِيزُ مَسّنَا وَأَهْلَنَا الضّرّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدّقْ عَلَيْنَا إِنّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدّقِينَ( ٨٨) قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ( ٨٩) قَالُوا أَءِنّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنّهُ مَن يَتّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ( ٩٠) قَالُوا تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنّا لَخَاطِئِينَ( ٩١) قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ( ٩٢)

٢٥٣

( بيان‏)

الآيات تتضمّن محاورة يعقوب بنيه بعد رجوعهم ثانياً من مصر و إخبارهم إيّاه خبر أخي يوسف و أمره برجوعهم ثالثاً إلى مصر و تحسّسهم من يوسف و أخيه إلى أن عرّفهم يوسف (عليه السلام) نفسه.

قوله تعالى: ( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) في المقام حذف كثير يدلّ عليه قوله:( ارْجِعُوا إِلى‏ أَبِيكُمْ فَقُولُوا ) إلى آخر الآيتين و التقدير و لمّا رجعوا إلى أبيهم و قالوا ما وصّاهم به كبيرهم قال أبوهم بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً إلخ.

و قوله:( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) حكاية ما أجابهم به يعقوب (عليه السلام) و لم يقل (عليه السلام) هذا القول تكذيباً لهم فيما أخبروه به و حاشاه أن يكذب خبراً يحتفّ بقرائن الصدق و تصاحبه شواهد يمكن اختباره بها، و لا رماهم بقوله:( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) رميا بالمظنّة بل ليس إلّا أنّه وجد بفراسة إلهيّة أنّ هذه الواقعة ترتبط و تتفرّع على تسويل نفسانيّ منهم إجمالاً و كذلك كان الأمر فإنّ الواقعة من أذناب واقعة يوسف و كانت واقعته من تسويل نفسانيّ منهم.

و من هنا يظهر أنّه (عليه السلام) لم ينسب إلى تسويل أنفسهم عدم رجوع أخي يوسف فحسب بل عدم رجوعه و عدم رجوع كبيرهم الّذي توقّف بمصر و لم يرجع إليه، و يشهد لذلك قوله:( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ) فجمع في ذلك بين يوسف و أخيه و كبير الإخوة فلم يذكر أخا يوسف وحده و لا يوسف و أخاه معا، فظاهر السياق أنّ ترجّيه رجوع بنيه الثلاثة مبنيّ على صبره الجميل قبال ما سوّلت لهم أنفسهم أمراً.

فالمعنى - و الله أعلم - أنّ هذه الواقعة ممّا سوّلت لكم أنفسكم كما قلت ذلك في واقعة يوسف فصبر جميل قبال تسويل أنفسكم عسى الله أن يأتيني بأبنائي الثلاثة جميعاً.

٢٥٤

و من هنا يظهر أنّ قولهم: إنّ المعنى: ما عندي أنّ الأمر على ما تصفونه بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فيما أظنّ، ليس في محلّه.

و قوله:( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) ترجّ مجرّد لرجوعهم جميعاً مع ما فيه من الإشارة إلى أنّ يوسف حيّ لم يمت - على ما يراه - و ليس مشربا معنى الدعاء، و لو كان في معنى الدعاء لم يختمه بقوله:( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) بل بمثل قولنا: إنّه هو السميع العليم أو الرؤف الرحيم أو ما يناظرهما كما هو المعهود في الأدعية المنقولة في القرآن الكريم.

بل هو رجاء لثمرة الصبر فهو يقول: إنّ واقعة يوسف السابقة و هذه الواقعة الّتي أخذت منّي ابنين آخرين إنّما هما لأمر مّا سوّلته لكم أنفسكم فسأصبر صبرا و أرجو به أن يأتيني الله بأبنائي جميعاً و يتمّ نعمته على آل يعقوب كما وعدنيه إنّه هو العليم بمورد الاجتباء و إتمام النعمة حكيم في فعله يقدّر الاُمور على ما تقتضيه الحكمة البالغة فلا ينبغي للإنسان أن يضطرب عند البلايا و المحن بالطيش و الجزع و لا أن ييأس من روحه و رحمته.

و الاسمان: العليم الحكيم هما اللّذان ذكرهما يعقوب ليوسف (عليه السلام) لأوّل مرّة أوّل رؤياه فقال:( إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ثمّ ذكرهما يوسف ليعقوب (عليه السلام) ثانياً حيث رفع أبويه على العرش و خرّوا له سجداً فقال:( يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ - إلى أن قال -هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) .

قوله تعالى: ( وَ تَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا أَسَفى‏ عَلى‏ يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ) قال الراغب في المفردات: الأسف الحزن و الغضب معا، و قد يقال لكلّ واحد منهما على الانفراد و حقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبا، و متى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا - إلى أن قال - و قوله تعالى:( فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) أي أغضبونا قال أبوعبدالله(١) الرضا: إنّ الله لا يأسف كأسفنا و لكن له أولياء يأسفون و يرضون

____________________

(١) كذا في النسخة المنقولة عنها و الصحيح أبوالحسن.

٢٥٥

فجعل رضاهم رضاه و غضبهم‏ غضبه. قال: و على ذلك قال: من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة. انتهى.

و قال: الكظم مخرج النفس يقال: أخذ بكظمه، و الكظوم احتباس النفس و يعبّر به عن السكوت كقولهم: فلان لا يتنفّس إذا وصف بالمبالغة في السكوت، و كظم فلان حبس نفسه قال تعالى:( إِذْ نادى‏ وَ هُوَ مَكْظُومٌ ) و كظم الغيظ حبسه قال تعالى:( وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ ) ، و منه كظم البعير إذا ترك الاجترار و كظم السقاء شدّة بعد ملئه مانعاً لنفسه. انتهى.

و قوله:( وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ ) ابيضاض العين أي سوادها هو العمى و بطلان الإبصار و ربّما يجامع قليل إبصار لكن قوله الآتي:( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى‏ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ) الآية ٩٣ من السورة يشهد بأنّه كناية عن ذهاب البصر.

و معنى الآية:( ثمّ تولّى ) و أعرض يعقوب (عليه السلام)( عَنْهُمْ ) أي عن أبنائه بعد ما خاطبهم بقوله:( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) ( وَ قالَ: يا أَسَفى) و يا حزني( عَلى‏ يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ ) و ذهب بصره( مِنَ الْحُزْنِ ) على يوسف( فَهُوَ كَظِيمٌ ) حابس غيظه متجرّع حزنه لا يتعرّض لبنيه بشي‏ء.

قوله تعالى: ( قالُوا تَالله تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حتّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ ) الحرض و الحارض المشرف على الهلاك و قيل: هو الّذي لا ميت فينسى و لا حيّ فيرجي، و المعنى الأوّل أنسب بالنظر إلى مقابلته الهلاك، و الحرض لا يثنّى و لا يجمع لأنّه مصدر.

و المعنى: نقسم بالله لا تزال تذكر يوسف و تديم ذكره منذ سنين لا تكفّ عنه حتّى تشرف على الهلاك أو تهلك، و ظاهر قولهم هذا أنّهم إنّما قالوه رقّة بحاله و رأفة به، و لعلّهم إنّما تفوّهوا به تبرّما ببكائه و سأمة من طول نياحه ليوسف، و خاصّة من جهة أنّه كان يكذّبهم في ما كانوا يدعونه من أمر يوسف، و كان ظاهر بكائه و تأسّفه أنّه يشكوهم كما ربّما يؤيّده قوله:( ما أَشْكُو ) إلخ.

٢٥٦

قوله تعالى: ( قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى الله وَ أَعْلَمُ مِنَ الله ما لا تَعْلَمُونَ) قال في المجمع: البثّ الهمّ الّذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثّه أي يفرّقه، و كلّ شي‏ء فرّقته فقد بثثته و منه قوله:( وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ) انتهى فهو من المصدر بمعنى المفعول أي المبثوث.

و الحصر الّذي في قوله:( إنّما أَشْكُو ) إلخ، من قصر القلب فيكون مفاده أنّي لست أشكو بثّي و حزني إليكم معاشر ولدي و أهلي، و لو كنت أشكوه إليكم لانقطع في أقلّ زمان كما يجري عليه دأب الناس في بثّهم و حزنهم عند المصائب، و إنّما أشكو بثّي و حزني إلى الله سبحانه، و لا يأخذه ملل و لا سأمة فيما يسأله عنه عباده و يبرمه أرباب الحوائج و يلحّون عليه و أعلم من الله ما لا تعلمون فلست أيأس من روحه و لا أقنط من رحمته.

و في قوله:( ‏وَ أَعْلَمُ مِنَ الله ما لا تَعْلَمُونَ‏ ) إشارة إجماليّة إلى علمه بالله لا يستفاد منه إلّا ما يساعد على فهمه المقام كما أشرنا إليه.

قوله تعالى: ( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) قال في المجمع: التحسّس - بالحاء - طلب الشي‏ء بالحاسّة و التجسّس - بالجيم - نظيره‏ و في الحديث: لا تحسّسوا و لا تجسّسوا، و قيل إنّ معناهما واحد و نسق أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظين كقول الشاعر( متى أدن منه ينأى عنه و يبعد) .

و قيل: التجسّس بالجيم البحث عن عورات الناس، و بالحاء الاستماع لحديث قوم و سئل ابن عبّاس عن الفرق بينهما؟ قال: لا يبعد أحدهما عن الآخر: التحسّس في الخير و التجسّس في الشرّ. انتهى.

و قوله:( وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله ) الروح بالفتح فالسكون النفس أو النفس الطيّب و يكنّى به عن الحالة الّتي هي ضدّ التعب و هي الراحة و ذلك أنّ الشدّة الّتي فيها انقطاع الأسباب و انسداد طرق النجاة تتصوّر اختناقاً و كظماً للإنسان و بالمقابلة الخروج إلى فسحة الفرج و الظفر بالعافية تنفّساً و روحاً لقولهم يفرّج

٢٥٧

الهمّ و ينفّس الكرب فالرّوح المنسوب إليه تعالى هو الفرج بعد الشدّة بإذن الله و مشيّته، و على من يؤمن بالله أن يعتقد أنّ الله يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد لا قاهر لمشيّته و لا معقّب لحكمه، و ليس له أن ييأس من روح الله و يقنط من رحمته فإنّه تحديد لقدرته و في معنى الكفر بإحاطته و سعة رحمته كما قال تعالى حاكيا عن لسان يعقوب (عليه السلام):( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) و قال حاكيا عن لسان إبراهيم (عليه السلام):( وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّاالضَّالُّونَ ) الحجر: ٥٦، و قد عدّ اليأس من روح الله في الأخبار المأثورة من الكبائر الموبقة.

و معنى الآية - ثمّ قال يعقوب لبنيه آمراً لهم -( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ ) الّذي اُخذ بمصر و ابحثوا عنهما لعلّكم تظفرون بهما( وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله ) و الفرج الّذي يرزقه الله بعد الشدّة( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) الّذين لا يؤمنون بأنّ الله يقدر أن يكشف كلّ غمّة و ينفّس عن كلّ كربة.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) إلخ، البضاعة المزجاة المتاع القليل، و في الكلام حذف و التقدير فساروا بني يعقوب إلى مصر و لمّا دخلوا على يوسف قالوا إلخ.

كانت لهم - على ما يدلّ عليه السياق - حاجتان إلى العزيز و لا مطمع لهم بحسب ظاهر الأسباب إلى قضائهما و استجابته عليهم فيهما.

إحداهما: أن يبيع منهم الطعام و لا ثمن عندهم يفي بما يريدونه من الطعام على أنّهم عرفوا بالكذب و سجّل عليهم السرقة من قبل و هان أمرهم على العزيز لا يرجى منه أن يكرمهم بما كان يكرمهم به في الجيئة الأولى.

و ثانيتهما: أن يخلّي عن سبيل أخيهم المأخوذ بالسرقة، و قد استيأسوا منه بعد ما كانوا ألحّوا عليه فأبى العزيز حتّى عن تخلية سبيله بأخذ أحدهم مكانه.

و لذلك لمّا حضروا عند يوسف العزيز و كلّموه و هم يريدون أخذ الطعام و إعتاق أخيهم أوقفوا أنفسهم موقف التذلّل و الخضوع و بالغوا في رقّة الكلام

٢٥٨

استرحاما و استعطافا فذكروا أوّلاً ما مسّهم و أهلهم من الضرّ و سوء الحال ثمّ ذكروا قلّة ما أتوا به من البضاعة ثمّ سألوه إيفاء الكيل، و أمّا حديث أخيهم المأخوذ فلم يصرّحوا بسؤال تخلية سبيله بل سألوه أن يتصدّق عليهم و إنّما يتصدّق بالمال و الطعام مال و أخوهم المسترقّ مال العزيز ظاهراً ثمّ حرّضوه بقولهم:( إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) و هو في معنى الدعاء.

فمعنى الآية:( يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ ) و أحاط بنا جميعاً المضيقة و سوء الحال( وَ جِئْنا ) إليك( بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) و متاع قليل لا يعدل ما نسألك من الطعام غير أنّه نهاية ما في وسعنا( فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا ) و كأنّهم يريدون به أخاهم أو إيّاه و الطعام( إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) خيرا.

و قد بدؤا القول بخطاب( يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ ) و ختموه بما في معنى الدعاء و أتوا خلاله بذكر سوء حالهم و الاعتراف بقلّة بضاعتهم و سؤاله أن يتصدّق عليهم و هو من أمرّ السؤال و الموقف موقف الاسترحام ممّن لا يستحقّ ذلك لسوء سابقته، و هم عصبة قد اصطفّوا أمام عزيز مصر.

و عند ذلك تمّت الكلمة الإلهيّة أنّه سيرفع يوسف و أخاه و يضع عنده سائر بني يعقوب لظلمهم، و لذلك لم يلبث يوسف (عليه السلام) دون أن أجابهم بقوله:( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ ) و عرّفهم نفسه، و قد كان يمكنه (عليه السلام) أن يخبر أباه و إخوته مكانه و أنّه بمصر طول هذه المدّة غير القصيرة لكن الله سبحانه شاء أن يوقف إخوته أمامه و معه أخوه المحسود موقف المذلّة و المسكنة و هو متّك على أريكة العزّة.

قوله تعالى: ( قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) إنّما يخاطب المخطئ المجرم بمثل هل علمت و أ تدري و أ رأيت و نحوها و هو عالم بما فعل لتذكيره جزاء عمله و وبال ذنبه لكنّه (عليه السلام) أعقب استفهامه بقوله:( إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) و فيه تلقين عذر.

فقوله:( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ ) مجرّد تذكير لعملهم بهما من

٢٥٩

غير توبيخ و مؤاخذة ليعرّفهم من الله عليه و على أخيه و هذا من عجيب فتوّة يوسف (عليه السلام)، و يا لها من فتوّة.

قوله تعالى: ( قالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ) إلى آخر الآية تأكيد الجملة المستفهم عنها للدلالة على أنّ الشواهد القطعيّة قامت على تحقّق مضمونها و إنّما يستفهم لمجرّد الاعتراف فحسب.

و قد قامت الشواهد عندهم على كون العزيز هو أخاهم يوسف و لذلك سألوه بقولهم:( أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ) مؤكّداً بإنّ و اللّام و ضمير الفصل فأجابهم بقوله:( أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي ) و إنّما ألحق أخاه بنفسه و لم يسألوا عنه و ما كانوا يجهلونه ليخبر عن منّ الله عليهما، و هما معا المحسودان و لذا قال:( قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ) .

ثمّ أخبر عن سبب المنّ الإلهيّ بحسب ظاهر الأسباب فقال:( إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) و فيه دعوتهم إلى الإحسان و بيان أنّه يتحقّق بالتقوى و الصبر.

قوله تعالى: ( قالُوا تَالله لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ ) الإيثار هو الاختيار و التفضيل، و الخطأ ضدّ الصواب و الخاطئ و المخطئ من خطأ خطأً و أخطأ إخطاء بمعنى واحد، و معنى الآية ظاهر و فيها اعترافهم بالخطأ و تفضيل الله يوسف عليهم.

قوله تعالى: ( قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) التثريب التوبيخ و المبالغة في اللوم و تعديد الذنوب، و إنّما قيّد نفي التثريب باليوم ليدلّ على مكانة صفحة و إغماضه عن الانتقام منهم و الظرف هذا الظرف هو عزيز مصر اُوتي النبوّة و الحكم و علم الأحاديث و معه أخوه و هم أذّلاء بين يديه معترفون بالخطيئة و أنّ الله آثره عليهم بالرغم من قولهم أوّل يوم:( لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‏ أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

ثمّ دعا لهم و استغفر بقوله:( يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) و هذا دعاء و استغفار منه لإخوته الّذين ظلموه جميعاً و إن كان الحاضرون عنده اليوم بعضهم

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

هذا ، و قال لبيد في خيه لأمّه أربد :

فودّع بالسلام أبا حريز

و قل وداع أربد بالسلام

و قال البحتري في رثاء أبي سعيد :

نستقصر الأكباد و هي قريحة

و نذمّ فيض الدمع و هو سجام

« و لكنّه » أي : الموت .

« ما لا يملك ردّه ، و لا يستطاع دفعه » و عنه عليه السّلام :

الموت لا والدا يبقي و لا ولدا

هذا السبيل إلى أن لا ترى أحدا

كانّ النبيّ و لم يخلد لامتّه

لو خلّد اللّه خلقا قبله خلدا

للموت فينا سهام غير خاطئة

من فاته اليوم سهم لم يفته غدا

١ « بأبي أنت و أمّي اذكرنا عند ربّك ، و اجعلنا من بالك » أي : ممّن تبالي به و يكون عندك مهمّا ، أو ممّن يكون في خاطرك لا منسيّا ، و في ( تاريخ اليعقوبي ) : سمعوا صوتا من البيت ، يسمعون الصوت و لا يرون الشخص ، فقال : السّلام و رحمة اللّه و بركاته عليكم أهل البيت إنّه حميد مجيد إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا ٢ ، كلّ نفس ذائقة الموت و إنّما توفّون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار و أدخل الجنّة فقد فاز و ما الحياة الدّنيا إلاّ متاع الغرور ٣ ، لتبلون في أموالكم و أنفسكم و لتسمعنّ من الّدين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الّذين أشركوا أذى كثيرا و إن تصبروا و تتقوا فإنّ ذلك من عزم الأمور ٤ إنّ في اللّه خلفا من كلّ هالك ، و عزاء من كلّ مصيبة ، عظّم اللّه أجوركم ، و السّلام و رحمة اللّه . فقيل لجعفر بن

ـــــــــــــــــ

( ١ ) نقل الأبيات صاحب ديوان علي عليه السّلام فيه : ٤٨ .

( ٢ ) الأحزاب : ٣٣ .

( ٣ ) آل عمران : ١٨٥ .

( ٤ ) آل عمران : ١٨٦ .

٥٠١

محمّد عليه السّلام : من كنتم ترونه ؟ فقال : جبرئيل عليه السّلام ١ .

و مرّ في قوله عليه السّلام « خصصت حتّى صرت مسليا عن سواك » نظيره عن ( الكافي ) ٢ ، و يأتي في فصل الإمامة الخاصّة قوله عليه السّلام : لقد قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و إنّ رأسه لعلى صدري ، و لقد سالت نفسه في كفّي فأمررتها على وجهي ، و لقد وليت غسله ، و الملائكة أعواني فضجّت الدار و الأفنية ملأ يهبط ،

و ملأ يعرج ، و ما فارقت سمعي هينمة منهم ، يصلّون عليه حتّى واريناه في ضريحه » ٣ .

و أمّا شرح وفاته صلى اللّه عليه و آله ففي ( المناقب ) : قال ابن عباس و السدي ، لمّا نزل قوله تعالى : إنّك ميّت و إنّهم ميّتون ٤ قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : ليتني أعلم متى يكون ذلك ؟ فنزلت سورة النصر ، فكان ( النبيّ صلى اللّه عليه و آله ) يسكت بين التكبير و القراءة بعد نزولها فيقول : « سبحان اللّه ، و بحمده استغفر اللّه و أتوب إليه » فقيل له في ذلك ؟ فقال : أما إنّ نفسي نعت إليّ إلى أن قال ثمّ نزلت : لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم . . . ٥ ثمّ نزلت عليه بعرفة :

اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام . دينا . . . ٦ ثمّ نزلت عليه بعد أحد و ثمانين يوما آيات الربا ٧ ثمّ نزلت بعدها :

و اتّقوا يوما ترجعون فيه إلى اللّه . . . ٨ و هي آخر آية نزلت من السماء ،

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١١٤ .

( ٢ ) مرّ في أوائل هذا العنوان .

( ٣ ) يأتي في العنوان ٤ من الفصل الثامن .

( ٤ ) الزمر : ٣٠ .

( ٥ ) التوبة : ١٢٨ .

( ٦ ) المائدة : ٣ .

( ٧ ) انظر الآيات ٢٧٥ ٢٨١ من سورة البقرة .

( ٨ ) البقرة : ٢٨١ .

٥٠٢

فعاش بعدها أحد و عشرين يوما .

قال ابن جريح : تسع ليال . و قال ابن جبير و مقاتل : سبع ليال . و لمّا مرض مرضه الّذي توفي فيه ، و ذلك يوم السبت أو الأحد من صفر أخذ بيد علي عليه السّلام و تبعه جماعة من أصحابه ، و توجّه إلى البقيع ، ثمّ قال : السّلام عليكم أهل القبور و ليهنكم ما أصبحتم فيه ممّا فيه الناس ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أوّلها ، إنّ جبرئيل كان يعرض عليّ القرآن كلّ سنة مرّة ، و قد عرضه العام عليّ مرّتين ، و لا أراه إلاّ لحضور أجلي ١ .

و رواية تهنية النبيّ لموتى البقيع بعدم بقائم بعده حتّى يبتلوا بفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أوّلها بمعنى كون الفتن الأخرى نتيجة الفتن الأولى حين وفاته رواية قطعية رواها المؤالف و المخالف ، و هي دالّة على أنّ الباقين بعده لم يكونوا مذعنين لما يأمرهم بعده في أمر خلافته ، و كيف لا ،

و قد صدّوه عن وصيّته ، و قد أكّد في خروجهم في جيش أسامة مرّة بعد مرّة ،

و كلّما أفاق من الغشوة حتّى لعن المتخلّف عن ذلك ، و قد تخلّفوا ، و دالّة على أنّ ما فعلوه يوم السقيفة كان خطأ عظيما ، و خبطا جسيما لا تعدّ مفاسده ، و لا تنقضي و خاماته .

و مرّت رواية محمّد بن حبيب في ( أماليه ) في نجوى أمير المؤمنين عليه السّلام للنبيّ صلى اللّه عليه و آله وقت تغسيله ، و قوله له : أشكو إليك كمدا و إدبارا مخالفين ، و داء الفتنة فإنّها قد استعرت نارها ، و داؤها الداء الأعظم ٢ .

هذا ، و من المراثي الجيّدة رثاء أبي محمّد التميمي ليزيد بن مزيد الشيباني ابن أخي معن بن زائدة ، و كان هارون الرشيد يستجيدها ، و إذا

ـــــــــــــــــ

( ١ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٣٤ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) مرّ في بدء هذا العنوان .

٥٠٣

سمعها بكى ، و هي :

أحقا أنّه أودى يزيد

تبيّن أيّها الناعي المشيد

أ تدري من نعيت و كيف فاهت

به شفتاك كان بها الصعيد

أحامي المجد و الإسلام أودى

فما للأرض ويحك لا تميد

تأمّل هل ترى الإسلام مالت

دعائمه و هل شاب الوليد

و هل مالت سيوف بني نزار

و هل وضعت عن الخيل اللبود

و هل تسقى البلاد عشار مزن

بدرّتها و هل يخضّر عود

أما هدّت لمصرعه نزار

بلى و تقوّض المجد المشيد

و حلّ ضريحه إذ حلّ فيه

طريف المجد ذي حسب جمود

أبعد يزيد تختزن البواكي

دموعا أو تصان لها خدود

لتبكك قبّة الإسلام لمّا و هت أطنابها و وهى العمود

و يبك شاعر لم يبق دهر

له نسبا و قد كسد القصيد

فمن يدعو الإمام لكلّ خطب

ينوب و كلّ معضلة تؤود

و من يحمي الخميس إذا تعايا

بحيلة نفسه البطل النجيد

فإن يهلك يزيد فكلّ حيّ

فريس للمنية أو طريد

ألم يعجب له أنّ المنايا

فتكن به وهن له جنود

قصدن له و كنّ يحدن عنه

إذا ما الحرب شبّ له وقود

لقد عزّى ربيعة أنّ يوما

عليها مثل يومك لا يعود

إلاّ أنّها إغراقات و جزافات شعرية ، فالرجل إن كان شجاعا كان قاتلا للناس بغير الحقّ ، و إن كان جوادا كان باذلا للمال في غير الحقّ ، و إنّما الكلام الحقّ ما قاله عليه السّلام فيه صلى اللّه عليه و آله .

٥٠٤

٤٥

الحكمة ( ٢٩٢ ) و قال عليه السّلام على قبر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ساعة دفن :

إِنَّ اَلصَّبْرَ لَجَمِيلٌ إِلاَّ عَنْكَ وَ إِنَّ اَلْجَزَعَ لَقَبِيحٌ إِلاَّ عَلَيْكَ وَ إِنَّ اَلْمُصَابَ بِكَ لَجَلِيلٌ وَ إِنَّهُ قَبْلَكَ وَ بَعْدَكَ لَجَلَلٌ أقول : في ( تذكرة سبط ابن الجوزي ) قال الشعبي : بلغني أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام وقف على قبر النبيّ صلى اللّه عليه و آله و قال : إنّ الجزع ليقبح إلاّ عليك ، و إنّ الصبر ليجمل إلاّ عنك ، ثمّ قال :

ما فاض دمعي عند نازلة

إلاّ جعلتك للبكا سببا

و إذا ذكرتك سامحتك به

مني الجفون ففاض و انسكبا

إنّي أجلّ ثرى حللت به

أن لا أرى بثراه مكتئبا

١ « إنّ الصبر لجميل إلاّ عنك » عنه عليه السّلام كما في ( المناقب ) في رثائه :

نفسي على زفراتها محبوسة

ياليتها خرجت مع الزفرات

لا خير بعدك في الحياة و إنّما

أخشى مخافة أن تطول حياتي

٢ و عن عمّته عاتكة فيه :

أعينيّ من ذا بعد ما فجعتما به

تبكّيان الدهر من ولد آدم

« و إن الجزع لقبيح إلاّ عليك » قال السروي : روي أنّ الصديقة عليها السّلام ما زالت بعد أبيها معصبة الرأس ، ناحلة الجسم ، منهدّة الركن ، باكية العين ، محترقة القلب ، يغشى عليها ساعة بعد ساعة ، و تقول لولديها : أين أبوكما الّذي كان يكرمكما ، و يحملكما مرّة بعد مرّة ؟ أين أبو كما الّذي كان أشدّ الناس شفقة

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي : ١٦٧ .

( ٢ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٤٠ ، و صاحب ديوان علي عليه السّلام فيه : ٤٠ .

٥٠٥

عليكما ، فلا يدعكما تمشيان على الأرض ؟ و لا أراه يفتح هذا الباب أبدا و لا يحملكما على عاتقه كما لم يزل يفعل بكما . ثمّ مرضت . . . ١ .

و في الخبر : أنّها بكت حتّى تأذّي بها أهل المدينة ، فقالوا لها : قد آذيتنا بكثرة بكائك . فكانت تخرج إلى مقابر الشهداء ، فتبكي حتّى تقضي حاجتها ، ثمّ تنصرف ٢ .

و مثله الحسين عليه السلام ، الصبر جميل إلاّ عنه ، و الجزع قبيح ، إلاّ عليه ، بل في الخبر : و على مثل الحسين عليه السّلام فلتلطم الخدود ، و لتشقّ الجيوب ، فإنّ الفاطميات لطمن عليه ، و شققن عليه ٣ .

و روي أنّ السجاد عليه السّلام بكى عليه حتّى خيف على عينيه ، و كان إذا أخذ إناء ماء ليشرب بكى حتّى يملأها دما ، و قال : و كيف لا أبكي ، و قد منع أبي من الماء الّذي كان مطلقا للسباع و الوحوش ٤ .

و روي أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال حين نظر إلى الحسين عليه السّلام : يا عبرة كلّ مؤمن ٥ .

و في ( الكافي ) عن الصادق عليه السّلام : لمّا قتل الحسين عليه السّلام أقامت إمرأته الكلبية عليه مأتما ، و بكت و بكت النساء حتّى جفّت دموعهن و ذهبت ، فبينا هي كذلك إذ رأت جارية من جواريها تبكي و دموعها تسيل ، فسألتها عن ذلك ،

فقالت : شربت شربة سويق . قال فأمرت بالطعام و الأسوقة ، و قالت : إنّما نريد

ـــــــــــــــــ

( ١ ) المناقب لابن شهر آشوب ٣ : ٣٦٢ .

( ٢ ) الخصال للصدوق : ٢٧٢ ح ١٥ باب الخمسة .

( ٣ ) التهذيب للطوسي ٨ : ٣٢٥ ح ٢٣ ، و النقل بتصرف .

( ٤ ) المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ١٦٦ .

( ٥ ) كامل الزيارات لابن قولويه : ١٠٨ ح ١ .

٥٠٦

بذلك أن نتقوّى على البكاء ١ .

« و إنّ المصاب بك لجليل » عنه صلى اللّه عليه و آله : من أصيب بمصيبة ، فليذكر مصيبته بي فإنّها من أعظم المصائب .

هذا ، و في ( عيون ابن قتيبة ) قال ابن الكلبي : لمّا قبض النبيّ صلى اللّه عليه و آله سمع بموته نساء من كندة و حضر موت ، فخضبن أيديهن و ضربن بالدفوف ، فقال رجل منهم لأبي بكر في أيّامه :

أبلغ أبا بكر إذا ما جئته

إنّ البغايا رمن أي مرام

أظهرن من موت النبي شماتة

و خضبن أيديهنّ بالعلام

فاقطع هديت أكفهن بصارم

كالبرق أومض من متون غمام

فكتب أبو بكر إلى عامله ثمّة فأخذهن ، و قطّع أيديهن ٢ .

هذا ، و مما يدخل في الباب قول بعض الأدباء نثرا : لقد رزئنا من فلان عالما في شخص ، و أمّة في نفس ، مضى و المحاسن تبكيه ، و المناقب تعزّى فيه ، و العيون لما قرّت به أسخنها ريب المنون ، و الصدور لمّا شرحت به قبضها فقد المقدور . فاح فتيت المسك من مآثره ، كما يفوح العبير من محابره .

هذه المكارم تبدي شجوها لفقده ، و تلبس حدادها من بعده ، و هذه المحاسن قامت نوادبها مع نوادبه ، و اقترنت مصائبها بمصائبه .

« و إنّه قبلك و بعدك لجلل » أي : هيّن ، قال امرؤ القيس لمّا قتل أبوه :

ألا كلّ شي‏ء سواه جلل ٣ .

قالوا : نعي في أحد إلى امرأة من الأنصار أخوها و أبوها و زوجها ،

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي للكليني ١ : ٤٦٦ ح ٩ ، و النقل بتلخيص .

( ٢ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ٣ : ١١٦ .

( ٣ ) لسان العرب لابن منظور ١١ : ١١٧ مادة ( جلل ) و صدره : بقتل بني أسد ربّهم .

٥٠٧

فسألت عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله فقالوا : كما تحبّين . قالت : أرونيه . فلمّا نظرت إليه قالت :

كلّ مصيبة بعدك جلل ١ .

و يأتي جلل بمعني : الجليل أيضا ، قال ابن و علة الجرمي :

فلئن عفوت لأعفون جللا

و لئن سطوت لأوهنن عظمي

و في معنى كلامه عليه السّلام « و إنّه قبلك و بعدك لجلل » قول حسّان أيضا في رثاء النبيّ صلى اللّه عليه و آله :

و ما فقد الماضون مثل محمّد

و لا مثله حتّى القيامة يفقد

هذا ، و قالت الخنساء في أخيها صخر :

فلست أرزى بعده برزية

فأذكره إلاّ سلّت و تجلّت

و قال متمّم في أخيه مالك الّذي قيل فيه : فتى و لا كمالك .

لعمري و ما دهري بتأبين هالك

و لا جزع مما أصاب فأوجعا

قال في شواهد ( الكتاب ) لسيبويه ، أي : لا أرثي ، و لا أبكي بعده هالكا ، و لا أجزع بعده من شي‏ء ٢ .

و قال اعرابي : إنّها و اللّه مصيبة جعلت سواد الرؤوس بيضا ، و بياض الوجوه سودا ، و هوّنت المصائب ، و شيّبت الذوائب .

و لبعضهم :

ألا ليمت من شاء بعدك إنّما

عليك من الأقدار كنت أحاذر

أيضا :

و كنت عليه أحذر الموت وحده

فلم يبق لي شي‏ء عليه أحاذر

ـــــــــــــــــ

( ١ ) السيرة لابن هشام ٣ : ٤٣ و المغازي للواقدي ١ : ٣١٥ و تاريخ الطبري ٢ : ٢١٠ سنة ٣ و المرأة : أمّ عامر الأشهلية .

( ٢ ) المعروف أنّ كتاب شرح شواهد الكتاب تأليف أبي جعفر النحاس ، و لم أجد البيت فيه .

٥٠٨

٤٦

الحكمة ( ٤٧٣ ) و قيل له عليه السّلام : لو غيّرت شيبتك يا أمير المؤمنين ؟ فقال عليه السّلام :

اَلْخِضَابُ زِينَةٌ وَ نَحْنُ قَوْمٌ فِي مُصِيبَةٍ يريد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله .

قول المصنّف : « و قيل له عليه السّلام : لو غيّرت شيبتك يا أمير المؤمنين » و كأنّه عليه السّلام لم يغيّر شيبته إلى آخر عمره ابتداء لما ذكر هنا ، و أخيرا لما روى عبد اللّه بن سنان أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله خضب و الحسين عليه السّلام قد خضب ، و أبو جعفر عليه السّلام ، و لم يمنع عليّا عليه السّلام إلاّ قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله : تخضب هذه من هذه ١ .

و ممّا قيل في الاعتذار عن ترك الخضاب قول شاعر :

و قائلة أتخضب فالغواني

تطير من ملاحظة القتير

فقلت لها المشيب نذير عمري

و لست مسودّا وجه النذير

و قيل لحكيم : شبت و أنت شاب ، فلم لا تعالجه بالخضاب ؟ فقال : إنّ الثكلي لا تحتاج إلى الماشطة ( أراد ثكله بعمره ) .

« فقال عليه السّلام : الخضاب زينة و نحن قوم في مصيبة » و في الخبر : أنّ الحسين عليه السّلام لمّا وضع الحسن عليه السّلام في اللحد قال :

أ أدهن رأسي أم أطيب محاسني

و رأسك معفور و أنت سليب

٢ و لا بدّ أنّ السجاد عليه السّلام ترك الخضاب دائما ، لأنّه كان في مصيبة أبيه إلى آخر عمره .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي للكليني ٦ : ٤٨١ ح ٨ و له شاهد أخرجه الصدوق في علل الشرائع : ١٧٣ ح ١ و قوله « تخضب هذه من هذه » إخبار النبيّ صلى اللّه عليه و آله عليّا عليه السّلام بشهادته ، و هو حديث مشهور مرّ تخريجه في العنوان ٨ من الفصل الخامس .

( ٢ ) المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ٤٥ ، و في النسخ

« أ أدهن رأسي أم أطيب محاسني »

٥٠٩

« يريد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله » هكذا في ( المصرية ) و لكن في ( ابن أبي الحديد ) ١ بدل الجملة « برسول اللّه صلى اللّه عليه و آله » و في ( ابن ميثم ) ٢ « يعني برسول اللّه صلى اللّه عليه و آله » و في ( الخطّية ) « يريد برسول اللّه صلى اللّه عليه و آله » و على نقل ابن أبي الحديد يكون « برسول اللّه صلى اللّه عليه و آله » جزء كلامه عليه السّلام ، و على نقل الآخرين من كلام الرواة الرضي رضوان اللّه عليه أو غيره ، و كأنّ نقل ابن ابي الحديد أصحّ ، و يكون تنكير ( مصيبة ) للتعظيم ، و على نقل ( ابن ميثم و الخطّية ) الصفة مقدّرة ، و كيف كان فما في المصرية ليس بصحيح لأنّه كخلاف الإجماع المركّب .

٤٧

الحكمة ( ٨٨ ) و حكى عنه أبو جعفر محمّد بن علي الباقر عليهما السّلام أنّه قال :

كَانَ فِي اَلْأَرْضِ أَمَانَانِ مِنْ عَذَابِ اَللَّهِ وَ قَدْ رُفِعَ أَحَدُهُمَا فَدُونَكُمُ اَلْآخَرَ فَتَمَسَّكُوا بِهِ أَمَّا اَلْأَمَانُ اَلَّذِي رُفِعَ فَهُوَ ؟ رَسُولُ اَللَّهِ ص ؟ وَ أَمَّا اَلْأَمَانُ اَلْبَاقِي فَالاِسْتِغْفَارُ قَالَ اَللَّهُ تَعَالَى وَ ما كانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اَللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ٨ : ٣٣ ٣ و هذا من محاسن الاستخراج و لطائف الاستنباط .

قول المصنف : « و حكى عنه أبو جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليهما السّلام » و قريب ممّا حكى عنه عليه السّلام الباقر عليه السّلام ما حكى الصادق عليه السّلام لكن عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال : إنّ لكم في حياتي خيرا ، و في مماتي خيرا ، أمّا في حياتي فقد قال تعالى : و ما كان اللّه ليعذّبهم و أنت فيهم ٤ و أمّا في مماتي فتعرض عليّ أعمالكم فأستغفر لكم ٥ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٤ : ٥٢٢ لكن لفظ شرح ابن ميثم ٥ : ٤٦٦ مثل المصريّة .

( ٢ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٤ : ٥٢٢ لكن لفظ شرح ابن ميثم ٥ : ٤٦٦ مثل المصريّة .

( ٣ ) الأنفال : ٣٣ .

( ٤ ) الأنفال : ٣٣ .

( ٥ ) الكافي للكليني ٨ : ٢٥٤ ح ٣٦١ عن الصادق عليه السّلام عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و تفسير العياشي ٢ : ٥٤ ح ٤٥ و تفسير القمي : ٢٧٧ عن الباقر عليه السّلام عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله .

٥١٠

« أنّه قال كان في الأرض أمانان . . . فهو رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله » عن أبي سعيد الخدري أنّ عمارا قال للنبيّ صلى اللّه عليه و آله : وددت أنّك عمّرت فينا عمر نوح عليه السّلام .

فقال صلى اللّه عليه و آله : يا عمّار حياتي خير لكم ، و وفاتي ليس بشرّ لكم ، أمّا في حياتي فتحدّثون و أستغفر اللّه لكم ، و أمّا بعد وفاتي فاتّقوا اللّه و أحسنوا الصلاة عليّ و على أهل بيتي فإنّكم تعرضون عليّ بأسمائكم و أسماء آبائكم و قبائلكم ، و إن يكن خيرا حمدت اللّه تعالى ، و إن يكن سوءا أستغفر اللّه لذنوبكم . فقال المنافقون و الشكّاك و الّذين في قلوبهم مرض : يزعم أنّ الأعمال تعرض عليه بعد وفاته بأسماء الرجال ، و أسماء آبائهم و أنسابهم إلى قبائلهم ، إنّ هذا لهو الافك . فأنزل اللّه تعالى : و قل اعملوا فسيرى اللّه عملكم و رسوله و المؤمنون ١ فقيل له : و من المؤمنون ؟ فقال : عامة و خاصّة ، أمّا الّذين قال اللّه تعالى و المؤمنون فهم آل محمّد صلى اللّه عليه و آله و الأئمة منهم عليهم السّلام ٢ .

و روى ابن ديزيل عن الحسن بن الربيع البجلي ، عن أبي إسحاق الفزاري ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك في قوله تعالى : فإمّا نذهبنّ بك فإنّا منهم منتقمون . أو نرينّك الّذي و عدناهم فإنّا عليهم مقتدرون ٣ قال :

أكرم اللّه تعالى نبيّه صلى اللّه عليه و آله أن يريه في أمّته ما يكره ، رفعه إليه و بقيت النقمة ٤ .

« و أمّا الأمان الباقي فالاستغفار » قال تعالى : و لو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا اللّه و استغفر لهم الرسول لوجدوا اللّه توّابا رحيما ٥ ،

ـــــــــــــــــ

( ١ ) التوبة : ١٠٥ .

( ٢ ) محاسبة النفس لابن طاووس : ١٨ .

( ٣ ) الزخرف : ٤١ ٤٢ .

( ٤ ) أخرجه ابن ديزيل عنه شرح ابن أبي الحديد ١ : ٢٥٥ و ابن مردويه و البيهقي في الشعب عنهما الدر المنثور ٦ : ١٨ عن حميد عن أنس .

( ٥ ) النساء : ٦٤ .

٥١١

و من يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورا رحيما ١ .

« قال اللّه تعالى » في الأنفال في الآية ( ٣٣ ) .

و ما كان اللّه ليعذّبهم و أنت فيهم و ما كان اللّه معذّبهم و هم يستغفرون و قبل الآية : و إذ قالوا اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ٢ و بعد الآية : و ما لهم الاّ يعذّبهم اللّه و هم يصدّون عن المسجد الحرام ٣ .

و في تفسير الآية روايات ، إحداها : ما أشار إليه المصنّف ، و الثانية : ما في ( تفسير القميّ ) أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال لقريش : إنّ اللّه بعثني أن أقتل جميع ملوك الدّنيا ، و أجرّ الملك اليم ، فأجيبوني إلى ما أدعوكم إليه تملكوا بها العرب و تدين لكم بها العجم ، و تكونوا ملوكا في الجنّة . فقال أبو جهل : اللّهمّ إن كان هذا الّذي يقوله محمّد هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ٤ حسدا للنبيّ صلى اللّه عليه و آله ثمّ قال : كنّا و بنو هاشم كفرسي رهان نحمل إذا حملوا ، و نطعن إذا طعنوا ، و نوقد إذا أوقدوا . فلمّا استوى بنا و بهم الركب قال قائل منهم : منّا نبيّ ، لا نرضى بذلك أن يكون في بني هاشم ، و لا يكون في بني مخزوم . ثمّ قال : غفرانك اللّهم . فأنزل اللّه تعالى في ذلك : و ما كان اللّه . . .

و هم يستغفرون ٥ حين قال : « غفرانك اللّهمّ » فلّما همّوا بقتل النبيّ صلى اللّه عليه و آله و أخرجوه من مكّة قال اللّه تعالى : و ما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه و هم يصدّون عن

ـــــــــــــــــ

( ١ ) النساء : ١١٠ .

( ٢ ) الأنفال : ٣٢ .

( ٣ ) الأنفال : ٣٤ .

( ٤ ) الأنفال : ٣٢ .

( ٥ ) الأنفال : ٣٣ .

٥١٢

المسجد الحرام و ما كانوا أولياءه . . . ١ يعني قريشا ما كانوا أولياء مكّة إن أولياؤه إلاّ المتّقون ٢ أنت و أصحابك يا محمّد . فعذّبهم اللّه بالسيف يوم بدر فقتلوا ٣ .

و الثالثة : ما رواه ( الكافي ) في خبر مضمونه : أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله لمّا بيّن مناقب أمير المؤمنين عليه السّلام غضب الحارث الفهري ، و قال : اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فأنزل تعالى مقالته ، و أنزل آية : و ما كان اللّه ليعذّبهم و أنت فيهم و ما كان اللّه معذّبهم و هم يستغفرون ( فقال له النبيّ صلى اللّه عليه و آله : و إمّا تبت و إمّا رحلت ؟ فقال : بل أرحل . فلمّا صار بظهر المدينة أتته جندلة ، فرضت هامته ، ثمّ أنزل : سأل سائل بعذاب واقع . للكافرين ليس له دافع ٤ .

و روى قريبا منه الثعلبي في ( تفسيره ) كما نقله عنه سبط ابن الجوزي في ( تذكرته ) إلاّ أنّه روى أن النبيّ صلى اللّه عليه و آله لمّا قال يوم الغدير للناس : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، قال الحارث : اللّهمّ إن كان ما يقول محمّد حقّا . . . إلى آخره مثله ٥ .

هذا ، و روى ( الكافي ) في خطب التوحيد عن أمير المؤمنين عليه السّلام في وصف النبيّ صلى اللّه عليه و آله : اصطفاه بالتّفضيل ، و هدى به من التّضليل ، اختصّه لنفسه ،

و بعثه إلى خلقه برسالاته و بكلامه ، يدعوهم إلى عبادته و توحيده ، و الإقرار

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الأنفال : ٣٤ .

( ٢ ) الأنفال : ٣٤ .

( ٣ ) تفسير القمي ١ : ٢٧٦ .

( ٤ ) الكافي للكليني ٨ : ٥٨ ح ١٨ ، و الآيتان ( ١ ٢ ) من سورة المعارج .

( ٥ ) أخرجه الثعلبي في تفسيره عنه تذكرة الخواص : ٣٠ و فرات الكوفي بثلاث طرق في تفسيره : ١٨٩ ، ١٩٠ و الحسكاني بثلاث طرق في شواهد التنزيل ٢ : ٢٨٦ ، ٢٨٨ ح ١٠٣٠ ، ١٠٣٣ ، ١٠٣٤ و رواه الطبرسي في مجمع البيان ١٠ : ٣٥٢ .

٥١٣
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

بربوبيّته ، و التّصديق بنبيّه ، بعثه على حين فترة من الرسل ، و صدف عن الحقّ ، و جهالة بالربّ ، و كفر بالبعث و الوعيد ، فبلّغ رسالاته ، و جاهد في سبيله ،

و نصح لامّته ، و عبده حتّى أتاه اليقين ١ .

و روى الخطيب في عبد الوهاب كاتب عيسى بن المقتدر مسندا عن أمير المؤمنين عليه السّلام في وصف النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال : لم يكن بالطّويل الممعط و لا القصير المتردد ، و كان ربعة و لم يكن بالجعد القطط ، و لا السبط ، كان جعدا رجلا و لم يكن بالمطهمّ ، و لا المكلثم كأنّ في الوجه تدويرا ، أبيض مشربا ،

أدعج العينين ، أهدب الأشفار ، جليل المشاش و الكتد ، ذا مسربة ، شثن الكفّين و القدمين ، إذا مشى تقلّع كأنّما يمشي في صبب ، و إذا التفت التفت جميعا ، بين كتفيه خاتم النبوّة ، و هو خاتم النّبيين ، أجرأ الناس صدرا ، و أصدق الناس لهجة ، و أوفاهم بذمة ، و ألينهم عريكة ، من رآه بديهة هابه ، و من خالطه معرفة أحبّه ، يقول ناعته : لم أر قبله و لا بعده مثله صلى اللّه عليه و آله ٢ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) لم أعثر عليها في كتاب التوحيد من الكافي ، و قريب منه ضمن خطبة في الكافي ٨ : ١٧٤ كتاب الروضة .

( ٢ ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ١١ : ٣٠ و مرّ تخريجه من طرق أخرى في العنوان ٥ من هذا الفصل .

٥١٤

٥١٥

الفصل السابع في الامامة العامّة

٥١٦

١

من الحكمة ( ١٤٧ ) في جزء كلامه عليه السّلام لكميل :

اَللَّهُمَّ بَلَى لاَ تَخْلُو اَلْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وَ إِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً لِئَلاَّ تَبْطُلَ حُجَجُ اَللَّهِ وَ بَيِّنَاتُهُ .

وَ كَمْ ذَا وَ أَيْنَ أُولَئِكَ وَ اَللَّهِ اَلْأَقَلُّونَ عَدَداً وَ اَلْأَعْظَمُونَ قَدْراً يَحْفَظُ اَللَّهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَ بَيِّنَاتِهِ حَتَّى يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ وَ يَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ هَجَمَ بِهِمُ اَلْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ اَلْبَصِيرَةِ وَ بَاشَرُوا رُوحَ اَلْيَقِينِ وَ اِسْتَلاَنُوا مَا اِسْتَوْعَرَهُ اَلْمُتْرَفُونَ وَ أَنِسُوا بِمَا اِسْتَوْحَشَ مِنْهُ اَلْجَاهِلُونَ وَ صَحِبُوا اَلدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ اَلْأَعْلَى أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اَللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَ اَلدُّعَاةُ إِلَى دِينِهِ آهِ آهِ شَوْقاً إِلَى رُؤْيَتِهِمْ .

اِنْصَرِفْ يَا ؟ كُمَيْلُ ؟ إِذَا شِئْتَ . أقول : كلامه عليه السّلام هذا لكميل متواتر ، رواه من العامّة ابن عبد ربّه في

٥١٧

( عقده ) عن أيّوب بن سليمان ، عن عامر بن معاوية ، عن أحمد بن عمران الأخفش ، عن الوليد بن صالح الهاشمي ، عن عبد اللّه بن عبد الرّحمن الكوفي ،

عن أبي مخنف ، عن كميل عنه عليه السّلام ١ ، و أبو هلال العسكري في ( ديوان معانيه ) ، عن أبي أحمد العسكري ، عن الهيثم بن أحمد ، عن علي بن حكيم الآذري ، عن الرّبيع بن عبد اللّه المدني ، عن عبد اللّه بن الحسن ، عن محمّد بن علي ، عن آبائه ، عن كميل ، عنه عليه السّلام ٢ ، و سبط ابن الجوزي في ( تذكرته ) مسندا عن أبي حمزة ، عن عبد الرحمن بن محمّد ، عن كميل ، عنه عليه السّلام ٣ .

و من الخاصّة الكليني ، و الصدوق ، و ابن أبي شعبة الحلبي ، و الشيخان ،

و النعماني ، روى الأوّل من ( الكافي ) بإسنادين عن الحسن بن محبوب ، عن أبي أسامة و هشام بن سالم ، عن أبي حمزة ، عن أبي إسحاق عمّن يثق به من أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام : أنّه عليه السّلام قال : اللهمّ إنّك لا تخلي أرضك من حجّة لك على خلقك ٤ .

و روى مسندا عن أبي حمزة ، عن أبي إسحاق ، عن الثقة من أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام سمعوه يقول في خطبة له : اللهمّ و إنّي لأعلم أنّ العلم لا يأرز كلّه ، و لا ينقطع موادّه ، و أنّك لا تخلي أرضك من حجّة لك على خلقك ظاهر ليس بالمطاع ، أو خائف مغفور كيلا تبطل حججك ، و لا يضلّ أولياؤك بعد إذ هديتهم ، بل أين هم و كم أولئك الأقلّون عددا ، و الأعظمون عند اللّه جلّ ذكره قدرا ، المتّبعون لقادة الدّين الأئمّة الهادين ، الذين يتأدّبون بآدابهم ، و ينهجون نهجهم ؟ فعند ذلك يهجم بهم العلم على حقيقة الايمان ، فتستجيب أرواحهم

ـــــــــــــــــ

( ١ ) العقد الفريد لابن عبد ربه ٢ : ٦٩ .

( ٢ ) ديوان المعاني للعسكري ١ : ١٤٦ .

( ٣ ) تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي : ١٤١ .

( ٤ ) الكافي للكليني ١ : ١٧٨ ح ٧ .

٥١٨

لقادة العلم ، و يستلينون من حديثهم ما استوعر على غيرهم ، يأنسون بما استوحش منه المكذّبون ، و أباه المسرفون . أولئك أتباع العلماء ، صحبوا أهل الدّنيا بطاعة اللّه تبارك و تعالى ، أولياؤه ، و دانوا بالتّقية عن دينهم و الخوف من عدوّهم ، فأرواحهم معلّقة بالمحل الأعلى ، فعلماؤهم و أتباعهم خرس صمت في دولة الباطل ، منتظرون لدولة الحقّ ، و سيحقّ اللّه الحقّ بكلماته و يمحق الباطل . هاها طوبى لهم على صبرهم على دينهم في حال هدنتهم ، و يا شوقاه إلى رؤيتهم في حال ظهور دولتهم ، و سيجمعنا اللّه و إيّاهم في جنّات عدن ،

و من صلح من آبائهم و أزواجهم و ذريّاتهم ١ .

و روى أيضا بالأسناد أنّه عليه السّلام خطب على منبر الكوفة ، و حفظ عنه فقال :

اللهمّ إنّه لا بدّلك من حجج في أرضك ، حجّة بعد حجّة على خلقك ، يهدونهم إلى دينك و يعلّمونهم علمك ، كيلا يتفرّق أتباع أوليائك ، ظاهر غير مطاع أو مكتتم يترقّب ، إن غاب عن النّاس شخصهم في حال هدنتهم فلم يغب عنهم قديم مبثوث علمهم ، و آدابهم في قلوب المؤمنين مثبتة ، فهم بها عاملون .

و يقول عليه السّلام في هذه الخطبة في موضع آخر : في من هذا ولهذا يأرز العلم ، إذا لم يوجد له حملة يحفظونه ، و يروونه كما سمعوه من العلماء و يصدّقون عليهم فيه ، اللهمّ فإنّي لأعلم أنّ العلم لا يأرز كلّه ، و لا ينقطع موادّه ، و أنّك لا تخلي أرضك من حجّة لك على خلقك ، ظاهر ليس بالمطاع أو خائف مغمور ، كيلا تبطل حججك و لا يضلّ أولياؤك بعد إذ هديتهم ، بل أين هم ، و كم هم أولئك الأقلّون عددا الأعظمون عند اللّه قدرا ٢ ؟

و رواه الثاني في ( إكماله ) بأحد عشر إسنادا عن عبد الرّحمن بن جندب ،

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي للكليني ١ : ٣٣٥ ح ٣ ، و الآية ٢٣ من سورة الرعد .

( ٢ ) الكافي للكليني ١ : ٣٣٩ ح ١٣ .

٥١٩

عن كميل ، عنه عليه السّلام ، و بإسنادين عن فضيل بن خديج ، عن كميل ، عنه عليه السّلام ،

و بإسناد عن أبي صالح ، عن كميل ، عنه ، و بآخر عن أبي إسحاق عن الثقة ،

عنه صلى اللّه عليه و آله ، و قال : و لهذا الحديث طرق كثيرة ١ .

و رواه الثّالث في ( تحفه ) ، و الرابع في ( إرشاده ) ، و الخامس في ( أماليه ) ،

و إسناده عن المفيد ، عن الصدوق ، عن أبيه ، عن ماجيلويه ، عن محمّد بن علي الصيرفي ، عن نصر بن مزاحم ، عن عمر بن سعد ، عن فضيل بن خديج ، عن كميل ، عنه عليه السّلام ٢ .

و رواه الأخير في ( غيبته ) مثل خبر شيخه الكليني ، و زاد قبل قوله : « فمن هذا و لهذا يأرز العلم ، إذا لم يوجد له حملة . . . » يأنسون بما يستوحش منه المكذّبون ، و يأباه المسرفون باللّه . كلام يكال بلا ثمن ، من كان يسمعه بعقله فيعرفه و يؤمن به و يتّبعه و ينهج نهجه فيصلح به . ثمّ يقول . . . ٣ « اللهمّ بلى لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجّة » قال البحتري :

و هل خلا الدّهر أولاه و آخره

من قائم بهدى مذكوّن البشر

في ( الأغاني ) قال خالد بن صفوان : أوفدني يوسف بن عمر إلى هشام بن عبد الملك إلى أن قال : قال خالد بن صفوان لهشام : إنّ ملكا من الملوك قبلك خرج في عام مثل عامك هذا إلى الخورنق و السدير في عام قد بكر و سميّه و تتابع وليّه ، و أخذت الأرض زينتها على اختلاف ألوان نبتها في ربيع مونق ، فهو في أحسن محضر ، و أحسن مختبر ، بصعيد كأنّ ترابه قطع ، و قد كان أعطى فتاء السنّ ، مع الكثرة و الغلبة و القهر ، فنظر فأبعد النّظر ، ثمّ قال

ـــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه الصدوق بأحد عشر طريقا عن عبد الرحمن ، و بطريقين عن فضيل ، و بطريق واحد عن أبي صالح ، و بطريق واحد عن أبي إسحاق عن ثقة من أصحابنا في كمال الدين : ٢٨٩ ح ٢ ، و : ٣٠٢ ح ١٠ .

( ٢ ) تحف العقول لابن شعبة : ١٧٠ ، و الارشاد للمفيد : ١٢٢ ، و الأمالي لأبي علي الطوسي : ٢٠ .

( ٣ ) الغيبة للنعماني : ٨٧ .

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605