بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 605

  • البداية
  • السابق
  • 605 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 110182 / تحميل: 5675
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

٢١

اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا وَارِثَ آدَمَ صِفْوَةِ اللهِ

قد عَلِمَ أولوا الألباب أنّ السّلام تحية الإسلام(١) ، وإنّ التسليم مطيّة التعظيم والتكريم، وقد ورد عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: (إبدؤا بالسّلام قبل الكلام، فمن بدأ بالكلام قبل السّلام فلا تُجيبوه)(٢)

وعن عليّعليه‌السلام قال: (لا تَغْضَبُوا ولا تُغْضَبُوا، أفشُوا السّلام وأطيبُوا الكلامَ وَصَلّوا باللّيل والناسُ نيام تَدْخُلُوا الجنّةَ بسلامٍ)(٣)

________________________

١ ـ ولذا نری الشريعة المقدّسة قد أكّدت علی إفشاء السّلام ونشره في الأوساط ومدحت المبتدأ به ووعدته بالثواب الجزيل، وجعلت ردّ السّلام واجباً كفائيّاً وهذا ما نطق به القرآن الكريم في سورة النساء آية (٨٦)، والسنّة الشريفة أيضاً ومَن أراد أنْ يقف علی الروايات التي تتطرّق للسلام عليه بمراجعة أصول الكافي ج ٢، ص ٦٣٨ ـ باب التسليم

٢ ـ أُصول الكافي للكليني ج ٢، ص ٦٣٨

٣ ـ وهذا نصّ الرواية المذكورة في الكافي ج ٢ ص ٦٣٨، ح ٧ ط الأسوة، (عن جعفر بن محمّد الأشعري، عن ابن القدّاح عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إذا سَلّم أحَدُكُمْ فليَجهر بسلامه لا يقول: سلّمتُ فَلَم يَردُّوا عليَّ، ولعلّهُ يكونُ قد سلَّمَ ولمْ يسمعُهم، فإذا رَدَّ أحدُكم فليجهر بردِّهِ ولا يقُولُ الـمُـسلِّمُ : سلّمتُ فلم يردّوا عليَّ، ثمّ قال: كان عليٌّ يقول: لا تَغْضَبُوا ولا تُغضَبوا افشوا السلامَ وأطيبوا الكلام وصَلّوا بالليل والناس نيام تَدْخلوا الجنّة بسلام، ثمّ تلاعليه‌السلام قول الله عزّوجلّ :( السَّلَامُ المُؤمِنُ المُهَيمِنُ )

٢٢

وعن الباقرعليه‌السلام قال: (إنّ الله يحبُّ إفشاء السلام)(١)

وعن الصادقعليه‌السلام قال: (البادي بالسّلام أولی بالله ورسوله)(٢) ، إلی غير ذلك ممّا لا يحصیٰ(٣) فإن قال قائلٌ : أوليسَ حياةُ الـمُـسلَّمِ عليه وحضوره وقربه شروطاً لصحّة التسليم، فما معناه في هذه الزيارات ؟

قلتُ : بلی، والكلّ متحقّق بالنسبة إلی آل الله(٤) المعصومين، فإنّهم أحياءٌ عند ربّهم(٥) في بساط القرب وعرش القُدس يرزقون بموائد العلم والمعرفة فيُطعمون بألوان أطعمة الروحانيّين، ويسقون من كأس المقرّبين، يروْن مقام شيعتهم، ويسمعون كلامهم، ويردّون سلامهم كما في الزيارة الرضويةعليه‌السلام (٦)

________________________

١ ـ أصول الكافي : ج ٢، ص ٦٣٨، ح ٥

٢ ـ نفس المصدر : ص ٦٣٩، ح ٨

٣ ـ روی الكلينيرحمه‌الله في الكافي ج ٢، ص ٤٧٢، ح ١٢، ط المكتبة الإسلامية عن هارون بن خارجة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: (مِنَ التواضع أنْ تُسلّم علی مَنْ لقيتَ)

وأيضاً روی الطبرسي رحمه‌الله في مجمع البيان ج ٣، ص ١٠٨ ـ ط بيروت عن مالك بن التيهان قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (مَن قال السّلامُ عليكم كُتبَ له عشر حسنات، ومَن قال السّلامُ عليكم ورحمة الله كُتِبَ له عشرون حسنة، ومَن قال السّلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاته كُتِبَ له ثلاثون حسنة)

٤ ـ هذه العبارة (آلُ الله) وردت في زيارة الإمام الحسينعليه‌السلام في النصف من رجب، راجع مفاتيح الجنان ص ٥٣٧

٥ ـ هذه إشارة إلی قوله تعالی في سورة آل عمران آية (١٦٩) :( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ )

٦ ـ وهي إحدی زيارات الإمام الرضاعليه‌السلام التي لم يذكرها الشيخ عبّاس القمّي في

٢٣

ويدلُّ عليه من العقل براهين ساطعة، ومِن النقل أخبارٌ كثيرة لائحة يطول يطول المختصر بذكرها(١) ، وقد كفاك شاهداً علی هذا ما في الزيارة الجامعة

مفاتيحه وإنّما ذكرها صاحب ضياء الصالحين ص ٢٦٧

وهي : «السّلامُ عَلَيكَ يا مولايَ وابن مولاي وَرَحمةُ اللهِ وبركاته أشهدُ باللهِ أنّكَ تشهدُ مَقامي وتسمع كلامي وَتَردّ سلامي وأنتَ حيٌّ عند ربّكَ مَرزوقٌ ...»

وأيضاً هذا المعنی ورد في زيارة أمير المؤمنينعليه‌السلام في ميلاد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي : ( . أشهدُ أنّك تسمعُ كلامي، وتشهدُ مقامي .)

١ ـ ومن الأخبار والروايات التي تؤكّد علی أنّهمعليهم‌السلام أحياء، عليكَ بمراجعة كتاب بصائر الدرجات لابن الصفّار القمّي ص ٢٨٢ ـ وص ٤٢٤ باب الأعمال تعرض علی رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّةعليهم‌السلام ومن المعلوم والواضح لو لم يكونواعليهم‌السلام أحياءً ما تُعرض عليهم أعمال العباد، وعرض الأعمال من شأن الأحياء لا الأموات، ومن هذه الروايات :

أ ـ (عن الحسن بن علي الوشاء عن أحمد بن عمير عن أبي الحسنعليه‌السلام قال: سأل عن قول الله عزّوجلّ :( اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّـهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) قال: إنّ أعمال العباد تُعرض علی رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كلُّ صباح أبرارها وفجّارها فاحذروا)

ب ـ (عن أبي بصير عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: الأعمال تعرض كلَّ خميس علی رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ أمير المؤمنين صلوات الله عليهما

وأيضاً ممّا يدلّ علی أنّ الأئمّةعليه‌السلام أحياءٌ هو ما نطقت به الروايات التي صرّحت بزيارتهمعليهم‌السلام للموتی وأنّ الموتیٰ يزورونهم، وفي هذا الخصوص عقد صاحبُ البصائر باباً مستقلّاً ص ٢٧٤ منها :

«عن أبان بن تغلب عن أبي عبداللهعليه‌السلام أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لقي أبابكر فاحتجّ عليه ثمّ قال له : أما ترضیٰ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيني وبينكَ ؟ قال: فكيف لي به فأخذ بيده

٢٤

(ورضيكم خلفاء(١) في أرضه وحججاً علی بريّته)(٢) إلی قوله (وشهداء علی خلقه وأعلاماً لعباده ومناراً في بلاده)(٣) وكذا ما فيها أيضاً (أنتم السبيل الأعظم والصراط الأقوم وشهداء دار الفناء وشفعاء دار البقاء(٤) والرحمةُ الموصولة والآية المخزونة .)(٥)

وأتیٰ مسجد قبا فإذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه فقضیٰ علی أبي بكر فرجع أبو بكر مذعوراً فلقي عمر فأخبره فقال : مالكَ أما عَلِمتَ سحر بني هاشم»

«عن عباية الأسدي قال: دخلتُ علی أمير المؤمنين عليه‌السلام وعنده رجل رثّ الهيئة وأمير المؤمنين عليه‌السلام مقبل عليه يكلِّمه فلمّا قام الرجل قلتُ : يا أمير المؤمنين عليه‌السلام مَن هذا الذي أشغلكَ عنّا ؟ قال: هذا وصيّ موسیٰ عليه‌السلام » وهناك سيل من الروايات

١ ـ (عن الجعفري قال: سمعتُ أبا الحسن ـ الرضاعليه‌السلام ـ يقول: الأئمّة خلفاء الله عزّوجلّ في أرضه) راجع الكافي ج ١، ح ١، باب أنّ الأئمّة خلفاء الله

٢ ـ (عن عبدالله بن أبي يعفور قال: قال أبو عبداللهعليه‌السلام : يابن أبي يعفور إنّ الله واحد متوحِّد بالوحدانية، متفرِّد بأمره، فخلق خلقاً فقدّرهم لذلك الأمر فنحن هم يابن أبي يعفور فنحن حجج الله في عباده، وخزّانه علی علمه، والقائمون بذلك) راجع الكافي ج ١، ح ٥ باب الأئمّة ولاة أمر الله وخزنة علمه)

٣ ـ راجع شرح هذه الجملة من الزيارة الجامعة في الأنوار اللامعة للسيّد الجليلرحمه‌الله عبدالله شبّر ص ١١٣ ـ ط، مكتبة الأمين

٤ ـ عن الإمام الصادق والباقرعليهما‌السلام قالا : (والله لنشفعنّ في المذنبين من شيعتنا حتّی يقول أعداؤنا :( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ... ) ، راجع تفسير البرهان ج ٣، ص ١٨٧، ح ١

٥ ـ قال العلّامة المرحوم عبدالله شبّر في شرحه لهذه الجملة في الأنوار اللامعة ص ١٣٨ : (أي هم علامات قدرة الله تعالیٰ وعظمته ولكن معرفة ذلك كما ينبغي

٢٥

وكذا ما في حديث النورانية «يا سلمان إنّ ميّتنا إذا مات لم يمت ومقتولنا إذا قُتِل لم يُقتل، وغائبنا إذا غابَ لم يَغب ولا نلد ولا نولد ولا في البطون ولا يُقاس بنا أحد من الناس .»(١)

وما ورد من التسليم علی أهل القبور(٢) ممّا يرفع الاستبعاد المذكور فإنّ المخاطب به هو أرواحهم الباقية، ونفوسهم الناطقة التي خُلِقت للبقاء دون أجسادهم البالية التي يعرضها التلاشي والفناء، فإذا صحّ التسليم علی مَن هذا حاله، فكيف يُنكر صحّته بالنسبة إلی المعصومين الذين لا تُفنی أرواحهم، ولا تُبلی أجسادهم(٣) المصونة عند عرش الله العظيم فإنّ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا )

مخزونة إلّا عن خواص أوليائهم وفيه إشارة إلی أنّ الآيات هم الأئمّة الهداةعليهم‌السلام وقد قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ما لله آية أكبر منّي)

١ ـ أخرج هذا الحديث الحافظ رجب البرسي في مشارق أنوار اليقين ص ٢٥٧، ط بيروت الأعلمي وهذا الحديث هو مقطع من خطبةٍ للإمام عليّعليه‌السلام

٢ ـ روي بسندٍ صحيح عن عبدالله بن سنان قال: قلتُ للصادقعليه‌السلام : كيف أُسلِّم علی أهل القبور ؟ قالعليه‌السلام : نعم، تقول : «السلام علی أهل الدِّيار من المؤمنينَ والمسلمينَ أنتم لنا فَرطٌ ونحن إنْ شاء الله بكم لاحقُونَ»

وروی المحدِّث القمّي في مفاتيح الجنان ص ٦٨٨ عن محمّد بن مسلم قال: قلت للصادق صلوات الله وسلامه عليه : (نزور الموتی ؟ قال: نعم قلت : فيعلمون بنا إذا أتيناهم ؟ قال: إي والله ليعلمون بكم ويفرحون بكم ويستأنسون إليكم)

٣ ـ روی الصفّار في كتاب بصائر الدرجات ص ٤٤٣، ح ١ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: (قال النبيّ يوماً لأصحابه : حياتي خيرٌ لكم ومماتي خيرٌ لكم

قال : فقالوا : يارسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا حياتك نعم، قالوا : فكيف مماتك ؟ فقال : إنّ الله

٢٦

وَجْهَهُ ) (١) وقد ورد تفسيره(٢) بهمعليهم‌السلام ، فهم الباقون بعد فناء الأشياء،( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) (٣)

وروی في البصائر بسنده عن الباقرعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه : حياتي خيرٌ لكم تُحدّثون ونحدّث لكم، ومماتي خيرٌ لكم تعرض عليَّ أعمالكم

حرّم لحومنا علی الأرض أنْ يُطعم منها

وأيضاً في نفس المصدر قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّ الله حرّم لحومنا علی الأرض فلا يطعم منها شيئاً)

١ ـ القصص : ٨٨

٢ ـ أي تفسير الوجه المذكور بالآية الشريفة فسّروه بالأئمّةعليهم‌السلام كما في تفسير القمّي ج ٢، ص ١٢٤، ط الأعلمي في تفسير هذه الآية الشريفة حيث قال: عن أبي حمزة، عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله :( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) قال: فيفنی كلُّ شيءٍ ويبقی الوجه ؟ الله أعظم من أنْ يوصف، لا، ولكن معناها كلُّ شيءٍ هالك إلّا دينه ونحن الوجه الذي يؤتی الله منه، لم نزل في عباده ما دام الله له فيهم روبة، فإذا لم يكن له فيهم روبة فرفعنا إليه ففعل بنا ما أحبّ، قلتُ : جُعِلتُ فداك وما الروبة ؟ قال: الحاجة

وأيضاً روی أبو جعفر الصفّار في كتابه بصائر الدرجات ص ٦١ ج ٢، ط : مكتبة المرعشي روايةً علی أنّ الأئمّةعليهم‌السلام هم وجه الله تعالی وهي :

(عن محمّد بن حمران عن أسود بن سعيد قال: كنت عند أبي جعفرعليه‌السلام فأنشأ يقول ابتداءً من غير أن يُسأل : نحن حجّة الله ونحن باب الله، ونحن لسان الله، ونحن وجه الله، ونحن عين الله في خلقه، ونحن ولاة أمر الله في عباده)

٣ ـ الرحمن : ٢٦ ـ ٢٧ وروی القمّي في تفسيره ج ٢، ص ٣٢٣، ط الأعلمي في تفسيره لهذه الآية قال:( وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ) دين ربّك، وقال عليّ بن الحسينعليهما‌السلام : نحن الوجه الذي يؤتی الله منه

٢٧

فإنْ رأيتُ حسناً جميلاً حمدتُ الله علی ذلك، وإنْ رأيتُ غيرَ ذلك استغفرتُ الله لكم)(١)

وكيف كان فعلی الزائر أنْ يذعن بحياتهمعليهم‌السلام وحضورهم، وإحاطة علمهم بأحوال شيعتهم، وأطوارهم وحركاتهم وسكناتهم وجميع تنقّلاتهم(٢) فليراع الأدب عند زيارتهم، وليكن بين يديهم خاشعاً خاضعاً ضارعاً مسكيناً مستكيناً كالعبد الذليل الواقف بين يدي مولاه الجليل، كيف وهم موالي الخلق والخلق كلّهم عبيد لهم عبيد الطاعة كما في بعض الأخبار، بل عبيد الرق كما عن بعض الأخبار

بقي الكلام في مواضع ثلاثة :

الأوّل : في تفسير السلام فقد اختلفت فيه أقاويل الأعلام علی وجوه :

منها : إنّه مأخوذ من سلم الآفات سلامةً أي سلمت من المكاره والآفات(٣) وإليه يرجع ماقيل من أنّه دعاء بالسلامة لصاحبه من آفات الدُّنيا وعذاب الآخرة وضعه الشارع موضع التحية والبشریٰ بالسلامة وكذا ماقيل من أنّه من السلامة من الأذی(٤)

________________________

١ ـ بصائر الدرجات : ص ٤٤٤، ح ٤، ط : مكتبة المرعشي

٢ ـ عن محمّد بن مسلم قال: سألته عن الأعمال هل تُعرض علی النبيّ ؟ قال: ما فيه شك، قلت له : أرأيتَ قول الله تعالی :( اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّـهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) قال: إنّهم شهود الله في أرضه

وأيضاً عن بُريد العجلي قال: كنتُ عند أبي عبداللهعليه‌السلام فسألته عن قوله تعالی :( اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّـهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) قال: إيّانا عنی

راجع بصائر الدرجات : ص ٢٢٤ وص ٤٢٧، ط مكتبة المرعشي النجفي

٣ ـ راجع لسان العرب ج ٦، ص ٣٤٣، ط : بيروت

٤ ـ نفس المصدر

٢٨

كما في قوله :( فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ) (١) أي لايؤذونكَ كما يؤذيكَ غيرهم وأنت خبير بأنّ هذا المعنی لا يُناسب المقام إلّا أنْ يتكلّف بجعله دعاء لشيعته ومحبّيه

ومنها : إنّه مأخوذ من السلام الذي هو اسم من أسماء الله(٢) كما قال:( السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ ) (٣) ، وقال :( لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ ) (٤) أي دار الله علی أحد الوجهين سُمّي به لسلامته وتنزهه عن نقائص الإمكان، أو لأنّ أفعاله صواب وسداد لا يعتريها النقصان، أو لأنّه مسلم ومؤمن لكلّ مَن التجأ إلی ما به من مكاره الحدثان، وحافظ علی كلّ مَن توجّه إلی جنابه بوسيلة الإيمان، فالمعنی : اللهُ عليك أي حافظ لأسرارك المستترة، وعلومك المكنونة المخزونة من أنْ تنالها أيدي الجهلة أو عاصم لك من الرِّجس والسهو والخطأ، ومن كلّ ما يكره من المعائب والنقائص، وقد يقال : إنّ المراد اسم السلام عليكَ أي اسم الله عليك فإن أُريد به ما ذُكِر وإلّا فلا معنی له ولذا حملوا قول الشاعر اسم السلام عليكما علی الزيادة، وربما يتكلّف لتصحيحه بما لا حاجة إليه

ومنها : إنّه من السلم وهو الصلح كما قال:( وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ ) (٥) ، وقال : ________________________

١ ـ الواقعة : ٩١

ـ أي السلام

٢ ـ لسان العرب : ج ٦، ص ٣٤٣

٣ ـ سورة الحشر : ٢٣

٤ ـ سورة الأنعام : ١٢٧ راجع تفسير مجمع البيان للطبرسي ج ٤، ص ٤٥٣ ط : التاريخ العربي

٥ ـ سورة الأنفال : ٦١، وذيل الآية الشريفة :( فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )

٢٩

(إنّي سلمٌ لمن سالمكم وحربٌ لمَن حاربكم)(١) أي مسالم، فهذه الكلمة للائذان بالمسالمة وترك المحاربة، وقد كانوا يؤمنون بها مَن يخاف شرّهم ومكيدتهم

ومنها : إنّه من التسليم فهو إمّا بشری له(٢) بما بشّره الله به من السلطنة الكاملة والغلبة علی الأعداء في زمان الرجعة)(٣) ، أو إيذان بأنّه مُسلِّم ومفوّض له جميع أموره مطيع له في جميع أوامره ونواهيه، ومؤمن بسرّه وعلانيّته، كما في الزيارة الجامعة : «مؤمن بسرّكم وعلانيّتكم(٤) وشاهدكم وغائبكم وأوّلكم وآخركم، ومفوِّض في ذلك كلّه إليكم(٥) ، ومسلِّم فيه معكم وقَلْبي لكم مُسلِّم ورأيي لكم

________________________

١ ـ لقد وردت هذه العبارة في زيارة عاشوراء المقدّسة المرويّة عن الإمام الباقرعليه‌السلام ، وأيضاً وردت في أحاديث كثيرة منها قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله للإمام عليّ والحسن والحسينعليهم‌السلام : (إنّي سلمٌ لمَن سالمكم وحربٌ لمن حاربكم)

وبهذا الشأن راجع أمالي الشيخ المفيد ص ٢١٣، ط : جامعة المدرّسين، ومشارق أنوار اليقين للبرسي ص ٣١، وص ٥٣، ط : الأعلمي

٢ ـ أي للإمام الحسينعليه‌السلام

٣ ـ راجع تفسير القمّي ج ١، ص ٣٨٧، ط : بيروت، وتفسير العياشي : ج ٢، ص ٢٥٩ و ٢٦٠، ح ٢٨، وتفسير البرهان للبحراني ج ٢، ص ٣٦٨ ح ١، وكتاب الرجعة للأسترآبادي

٤ ـ أي بما استتر عن أكثر الخلق من غرائب أحوالكم وبما عُلِن منها أو مؤمن باعتقاداتكم السرنية وبأعمالكم وأقوالكم العلانية

٥ ـ أي لا اعتراض عليكم في شيءٍ من أُموركم بل أعلم أنّ كلّما تأتون به فهو بأمره تعالی أو المعنی أُسلِّم جميع أموري إليكم لكي تصلحوا خللها وفاسدها، فإنّ

٣٠

تَبعٌ ونُصرَتي لكم مُعدَّةٌ حتّی يُحييَ الله تعالی دينَهُ بكم، ويردَّكم في أيّامه، ويُظهركم لعدلِهِ، ويُمكِّنكم في أرضه، فمعكُم معكُم(١) لا مع عدوّكم ...»

ويؤيّد الأوّل(٢) : ما روي عن داود بن كثير الرقي، قال: قلتُ : ما معنی السلام علی الله وعلی رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فقال : إنّ الله لـمّا خلق نبيّه ووصيّه وابنيه وابنته وجميع الأئمّة وخلق شيعتهم أخذ عليهم الميثاق، وأنْ يصبروا ويصابروا وأن يتّقوا الله، ووعدهم أنْ يسلم لهم الأرض المباركة والحرم الآمن، وأنْ ينزل لهم البيت المعمور ويظهر لهم السقف المرفوع وينجيهم من عدوّهم والأرض التي يبدّلها من دار السلم ويسلّم ما فيها لهم ولا شبهة فيها ولا خصومة فيها لعدوّهم وأن يكون لهم فيها ما يحبّون وأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله علی الأئمّة وشيعتهم الميثاق بذلك وإنّما عليه أن يذكره نفس الميثاق وتجديد له علی الله لعلّه أن يعجله ويعجل المسلم لهم بجميع ما فيه(٣)

ويؤيّد الثاني(٤) : ما في جملة من التفاسير من أنّ المراد بقوله : «ويُسلِّموا تسليماً» في قوله :( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا

أعمال الخلائق تعرض عليهم، كما روي عن مولانا الصادقعليه‌السلام قال :

(تُعرض الأعمال علی رسول الله أعمال العباد كلّ صباحٍ أبرارها وفجّارها فاحذروها وهو قول الله تعالی : ( اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّـهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ) (راجع أصول الكافي ج ١، ح ١، باب عرض الأعمال علی النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة)

١ ـ أي معكم بالقلب واللسان أو في الدُّنيا والرجعة أو في الدُّنيا والآخرة

وللزيادة راجع شرح الزيارة الجامعة للعلّامة شبر ص ١٦٥ ـ ١٦٦، ط : مكتبة الأمين

٢ ـ وهو أنّ السلام مأخوذ من السلم من الآفات والمكاره

٣ ـ الكافي، ج ١ ص ٤٥١

٤ ـ وهو أنّ السلام مأخوذ من السلام وهو من أسماء الله تعالی

٣١

يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (١)

هو السلام عليك أيّها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال الطريحي : واستصوبه بعض الأفاضل لقضية العطف، ولأنّه المتبادر إلی الفهم عرفاً

وروی الكاهلي(٢) عن الصادقعليه‌السلام أنّه تلا هذه الآية فقال : لو أنّ قوماً عبدوا الله ووحّدوه، ثمّ قالوا لشيء صنعه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لو صنع كذا وكذا ووجدوا ذلك في أنفسهم كانوا بذلك مشركين، ثمّ قال:( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ) قال: هو التسليم في الاُمور(٣)

وعنه(٤) عليه‌السلام في قوله الله تعالی :( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) (٥) قال : هم الأئمّة(٦) ، ويجري فيمن استقام من شيعتنا وسلّم لأمرنا، وكتم حديثنا

________________________

١ ـ النساء : ٦٥

٢ ـ هو عبدالله بن يحيی أبو محمّد الكاهلي عربي، روی عن أبي عبدالله الصادق وأبي الحسن الكاظمعليهما‌السلام ، وكان وجهاً عند الإمام الكاظم، ووصّیٰ به علي بن يقطين فقال له : (اضمن لي الكاهلي وعياله أضمن لك الجنّة) راجع رجال النجاشي ص ٢٢١ رقم ٥٨٠

٣ ـ بصائر الدرجات : ص ٥٢٠، الجزء العاشر، ح ٣، ط : المرعشي النجفي

٤ ـ أي عن الإمام الصادقعليه‌السلام

٥ ـ سورة فصلت : ٣٠

٦ ـ أخرج القمّي في تفسيره ج ٢، ص ٢٣٧، ط : الأعلمي في تفسير هذه الآية( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قال: علی ولاية أمير المؤمنينعليه‌السلام

وأخرج الطبرسي في تفسيره مجمع البيان ج ٩، ص ١٧، ط : مؤسسة التاريخ العربي، ونور الثقلين ج ٤، ص ٥٤٧، ح ٤٣، (عن محمّد بن الفضيل قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن الاستقامة فقال : هي والله ما أنتم عليه)

٣٢

عند عدوّنا(١)

وعن الباقرعليه‌السلام قال: (قد أفلح المسلّمون، إنّ المسلّمين هم النجباء)(٢)

وعنهعليه‌السلام : (إنّ الإمام هادٍ مهدي لا يدخله الله في عماء ولا يحمله علی هيئة ليس للناس النظر في أمره ولا التبختر عليه وإنّما أُمروا بالتسليم)(٣)

وأخبار التسليم لآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله كثيرة(٤)

ومنها(٥) : إنّ هذه الجملة(٦) قد صارت حقيقيّة عرفية في إنشاء الثناء

________________________

١ ـ تجد هذه الرواية في بصائر الدرجات ص ٥٢٤، ح ٢٢ وهذه تكملة الرواية : ( فتستقبلهم الملائكة بالبشریٰ من الله بالجنّة وقد والله مضی أقوامٌ كانوا علی مثل ما أنتم عليه من الذين استقاموا وسلّموا لأمرنا وكتموا حديثنا ولم يذيعوه عند عدوّنا ولم يشكّوا كما شككتم فاستقبلهم الملائكة بالبشری من الله بالجنّة

٢ ـ اُنظر بصائر الدرجات ص ٥٢٠ الجزء العاشر، وتفسير البرهان ج ٤، ص ٥٤٩، ح ١١

٣ ـ بصائر الدرجات ص ٥٢٣، الجزء العاشر، ح ٢١

٤ ـ مَن أراد الوقوف علی أخبار وروايات التسليم لآل محمّدعليهم‌السلام عليه بمراجعة كتاب بصائر الدرجات حيث عقد باباً مستقلّاً تحت عنوان (التسليم لآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فيما جاء عندهم) تجده في الجزء العاشر من الكتاب ص ٥٢٠، ط : المرعشي النجفي وسوف نذكر روايتين خوفاً من الإطالة والاطناب :

روی عن جميل بن درّاج عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: (إنّ من قرّة العين التسليم إلينا أن تقولوا لكلّ ما اختلف عنّا أنْ تردوا إلينا)

وأيضاً عن صفوان عن داود بن فرقد عن زيد عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: (تدري بما أُمروا، أُمِروا بمعرفتنا والردّ إلينا والتسليم لنا)

٥ ـ أي من الأقوال التي ذكرها الأعلام في معنی السلام وهو المعنی الخامس

٦ ـ أي جملة (السّلامُ عليكَ)

٣٣

والتمجيد نظير جملتي الصلاة والتحميد، فيجري فيها ما ذكروه في الحمد لله من الأصل، والعدول عنه إلی الجملة الإسمية للدلالة علی الدوام وغير ذلك من الاحتمالات في اللام وتفصيل الكلام لا يليق بالمقام(١)

الموضع الثاني في تفسير كونه عليه السّلام وارثاً للأنبياء والأوصياء

فاعلم إنّ الوارث هو الذي يبقیٰ بعد موت آخر مع استحقاقه لتركته بقيامه مقامه، ونزوله في منزلته فكأنّه هو(٢) ، وسُمِيَ تعالی بالوارث، لأنّه باقٍ بعد فناء الأشياء(٣) ، ولأنّه يرث الأرض ومَن عليها وهو خير الوارثين، والمؤمنون هم الوارثون لأنّهم يرثون منازل الكفّار في الجنّة، أو لأنّهم يمكَنْون في الأرض في زمان الرجعة كما قال تعالیٰ :( أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) (٤)

وفي الدُّعاء : (واجعلهما ـ أي السمع والبصر ـ الوارثين منّي، أي ابقهما صحيحين إلی زمان الموت بعد ضعف جميع أعضائي)(٥) ، وكونهعليه‌السلام وارثاً

________________________

١ ـ راجع تفسير (الفرقان في تفسير القرآن للشيخ الدكتور محمّد الصادقي) ج ١، ص ٨٩، ط : طهران

٢ ـ راجع المصباح المنير للفيومي ص ٦٥٤ ط : دار الهجرة

٣ ـ إشارة إلی قوله تعالی في سورة الرحمان (الآية ٢٦ و ٢٧) :( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ )

٤ ـ الأنبياء : ١٠٥

٥ ـ بحار الأنوار، ج ٨٣، ص ١٣٠، باب ٤٣ ـ التعقيب المختص بصلاة الفجر، وإليك نصّه : «كان رسول الله صلی الله عيله وآله إذا صلی الغداة قال: اللهم متعني بسمعي وبصري واجعلهما الوارثين مني وأرني ثاري في عدوّي»

٣٤

للأنبياء كسائر الأئمّة النقباء ممّا لا ريب فيه، والأخبار والزيارات(١) مشحونة بذلك كما لا يخفیٰ علی المتتبّع فيها

وروي عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: إنّ العلماء ورثة الأنبياء وذلك أنّ الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنّما ورّثوا أحاديث من أحاديثهم فمَن أخذ بشيءٍ منها فقد أخذ حظّاً وافرا(٢)

وقد فسّر العلماء في بعض الأخبار بأئمّتنا الأبرارعليهم‌السلام (٣)

ولا يُنافي ذلك ما روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورّث)(٤) أي لا نبقي الميراث لأحدٍ أو لا يرث أحدٌ منّا، لضعفه أوّلاً بروايته من غير طرقنا، ومخالفته للآيات القرآنية(٥) ، والأخبار الكثيرة، وقد وضعوا هذا الخبر ليحرموا ________________________

١ ـ منها زيارتهعليه‌السلام في النصف من رجب : (... السلامُ عليكَ ياوارث علم الأنبياء السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله، السلام عليك يا وارث نوح نبيّ الله ...)

ومنها زيارته في يوم عرفة : (السلامُ عليك ياوارث آدم صفوة الله، السلامُ عليك يا وارث نوح نبيّ الله . السلامُ عليك يا وارث محمّدٍ حبيب الله ...)

٢ ـ راجع بصائر الدرجات ص ١١، ح ٣، ط : مكتبة المرعشي النجفي وهذه تتمّة الحديث (فانظروا علمكم هذا عمّنْ تأخذونه فإنّ فينا في كلِّ خلفٍ عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين

٣ ـ راجع المصدر نفسه

٤ ـ أخرجه البخاري ج ٣ ص ٧ في غزوة خيبر ؛ صحيح مسلم ج ٢، ص ٧٢ باب قول النبيّ : لا نورّث، ما تركنا فهو صدقة من كتاب الجهاد والسير ؛ مسند أحمد ج ١ ص ٦

٥ ـ إنّ مسألة توريث الأنبياء منصوص عليها بعموم القرآن مثل قوله تعالی :( لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ) النساء : ٧

٣٥

وقوله تعالی :( يُوصِيكُمُ اللَّـهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ) النساء : ١١

قال السيّد عبد الحسين شرف الدِّين في كتابه النصّ والاجتهاد ص ٥٥، المورد السابع : «كلّها ـ أي آيات المواريث ـ عامّة تشمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فمن دونه من سائر البشر فهي علی حدّ قوله عزّوجلّ :( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ) وقوله :( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّـهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ ) ونحو ذلك من آيات الأحكام الشرعية يشترك فيها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وكلُّ مكلّف من البشر، لا فرق بينهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبينهم، غير أنّ الخطاب فيها متوجّه إليه ليعمل به وليبلّغه إلی مَن سواه فهو من الحيثيّة أولی في الالتزام بالحكم من غيره» وأيضا ممّا يدلّ علی الإرث قوله تعالی في خبر زكريا :( إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا )

ولابدّ من حمل الإرث في هذه الآية علی إرث المال دون النبوّة وشبهها حملاً للفظ يرثني من معناه الحقيقي المتبادر منه إلی الأذهان، إذ لا قرينة هنا علی النبوّة ونحوها، بل القرائن في نفس الآية متوفّرة علی إرادة المعنی الحقيقي دون المجاز وأيضاً قوله تعالی في سورة النمل :( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ )

وإنّ هذه الآيتين الأخيرتين صريحتان علی توريث الأنبياءعليهم‌السلام ، واستدلّت فاطمة الزهراء عليها‌السلام بهاتين الآيتين في خطبتها، حيث قال السيّد شرف الدِّين في النص والاجتهاد ص ٦٣ : (ولعمري أنّها عليها‌السلام أعلم بمفاد القرآن ممّن جاءوا متأخِّرين عن تنزيله، فصرفوا الإرث هنا إلی وراثة الحكمة والنبوّة دون الأموال، تقديماً للمجاز علی الحقيقة بلا قرينة تصرف اللفظ عن معناه الحقيقي المتبادر منه بمجرّد الإطلاق وهذا ممّا لا يجوز)

٣٦

فاطمةعليها‌السلام عن ميراث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ومحاجّة عليّعليه‌السلام معهم في ذلك معروفة(١) ، وتأويله ثانياً : بأنّ المراد عدم توريث متاع الدُّنيا بشأن النبوّة لاقتضائه توريث العلوم والمعارف خاصّة، وهذا لا يُنافي توريثهم إيّاه بشأن البشرية، فإنّ لكلٍّ من الشأنين خواص ليست للآخر، هذا مع أنّ الغرض إثبات الوارثية في الجملة، وهو ممّا لم ينكره أحد، وأمّا معنی كونهمعليهم‌السلام ورثة للأنبياء فيحتمل وجوهاً :

منها : إنّهم ورثوا ما أعطاهمعليهم‌السلام من العلوم والمعارف والأسرار فعلموه كما علموه، فإنّ العلم لا يموت بموت العالم، بل يصير إلی عالمٍ آخر، وقد قال الباقرعليه‌السلام : «إنّ عليّاًعليه‌السلام عالم هذه الاُمّة، والعلم يتوارث ولا يهلك أحدٌ منّا إلّا تركَ من أهله مَن يعلم مثل علمه أو ما شاء الله»(٢)

وروي أيضاً في باب (أنّ الأئمّةعليهم‌السلام ورثوا علم آدمعليه‌السلام وجميع العلماء) بسنده عن الفضل بن يسار قال: (سمعتُ أبا عبداللهعليه‌السلام يقول: إنّ العلم الذي هبط مع آدم لم يُرفع، وأنّ العلم يتوارث وما يموت منّا عالمٌ حتّى يخلفه من أهله مَن يعلم علمه أو ما شاء الله)(٣)

وبسنده عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: (كانت في عليّعليه‌السلام سنّة ألف نبيّ، وقال : إنّ العلم الذي نزل مع آدم لم يُرفع، وما ماتَ عالمٌ فذهب علمه، وأنّ العلم ليتوارث [و] أنّ الأرض لا تبقیٰ بغير عالم)(٤)

________________________

١ ـ راجع الاحتجاج للطبرسي ج ١، ص ٩٠ ـ ٩٣

٢ ـ رواه الصفّار في بصائر الدرجات ج ٣، ص ١١٨، ح ٤ في باب (العلماء إنّهم يرثون العلم بعضهم من بعض ولا يذهب العلم من عندهم)

٣ ـ نفس المصدر : ص ١١٤، ح ١

 ـ الواو في المصدر غير موجودة

٤ ـ بصائر الدرجات : ص ١١٤، ح ٢

٣٧

وبسنده عنهعليه‌السلام أيضاً قال: (يمصّون الصماء ويدعون النّهر العظيم، قيل له : ومَن النهر العظيم ؟ قال: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والعلم الذي أتاه الله، أنّ الله جمع لمحمّدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله سنن النبيّين من آدم هلّم جرّا إلی محمّد، قيل له : وما تلك السنن ؟ قال : علم النبيّين بأسره، وأنّ الله جمع لمحمّدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله علم النبيّين بأسره، وأنّ رسول الله صيّر ذلك كلّه عند أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال له الرجل : يابن رسول الله فأمير المؤمنين أعلم أو بعض النبيّين ؟ فقالعليه‌السلام (١) : اسمعوا ما نقول : إنّ الله يفتح مسامع مَنْ يشاء، أنّي حدّثتُ أنّ الله جمع لمحمّدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله علم النبيّين، وأنّه جعل ذلك كلّه عند أمير المؤمنين، وهو يسألني هو أعلم أم بعض النبيّين)(٢)

وبسنده أيضاً عن أبي الحسن الأوّلعليه‌السلام قال: قلتُ له : جعلت فداك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ورث علم النبيّين كلّهمعليهم‌السلام ؟

قال لي : نعم قلت : من لدن آدم إلی أن انتهی إلی نفسه ؟ قال: نعم قلت : ورثهم النبوّة وما كان في آبائهم من النبوّة والعلم ؟ قال: ما بعث الله نبيّاً إلّا وقد كان محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله أعلم منه قال: قلتُ : إنّ عيسی بن مريم كان يُحيي الموتیٰ بإذن الله قال: صدقت وسليمان بن داود كان يفهم كلام الطير قال ؛ وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقدر علی هذه المنازل(٣)

________________________

 ـ في مصدر الرواية (الثماد) بدل (الصماء) والثماد هو الماء الذي لا مادّة له

١ ـ في المصدر (فقال أبو جعفرعليه‌السلام ) بدل من (فقالعليه‌السلام )

٢ ـ بصائر الدرجات : ص ١١٧، ح ١٢

٣ ـ الشارحرحمه‌الله ما نقل الرواية بتمامها وإنّما ذكر صدرها وذيلها ونحن نذكر المقطع الذي لم يذكره : (علی هذه المنازل فقال : إنّ سليمان بن داود قال للهدهد حين فقده وشكّ في أمره مالي لا أری الهدهد أم كان من الغائبين وكانت المردة والريح والنمل

٣٨

إلی أن قال: فقد ورثنا نحن هذا القرآن، فعندنا ما يقطع به الجبال ويقطع به البلدان ويحيي به الموتی بإذن الله، ونحن نعرف ما تحت الهواء(١)

إلی أن قال: إنّ الله يقول:( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (٢) ثمّ قال(٣) :( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) (٤) فنحن الذين اصطفانا الله، فقد ورثنا علم هذا القرآن الذي فيه تبيان كلّ شيء(٥)

وروي أيضاً في باب أنّ الأئمّة ورثوا علم أُولي العزم من الرُّسل وجميع الأنبياء، وأنّهم أُمناء الله في أرضه وعندهم علم البلايا والمنايا وأنساب العرب(٦)

والإنس والجنّ والشياطين له طائعين وغضب عليه فقال : لأعذّبنّه عذاباً شديداً أو لأذبحنّه أو ليأتيني بسلطانٍ مبين، وإنّما غضب عليه لأنّه كان يدلّه علی الماء، فهذا وهو طير قد أُعطی ما لم يعطَ سليمان وإنّما أراده ليدلّه علی الماء فهذا لم يعط سليمان وكانت المردة له طائعين ولم يكن يعرف الماء تحت الهواء وكانت الطير تعرفه، أنّ الله يقول في كتابه :( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ ) (الرعد : ٣١)

١ ـ أيضاً الشارح هنا لم يكمل الرواية ونحن سوف نكملها : ( الهواء وإن كان في كتاب الله لآياتٍ ما يُراد بها أمرٌ من الاُمور التي أعطاه الله الماضين النبيّين والمرسلين إلّا وقد جعله الله ذلك كلّه لنا في أُمّ الكتاب، إنّ الله تبارك وتعالی يقول .)

٢ ـ النمل : ٧٥

٣ ـ في مصدر الرواية هكذا (ثمّ قال عزّوجلّ ...)

٤ ـ فاطر : ٣٢

٥ ـ بصائر الدرجات : ص ١١٤، ح ٣

٦ ـ راجع بصائر الدرجات ج ٣، ص ١١٨ الباب الثاني

٣٩

وبسنده عن عبد الرحمان بن أبي نجران(١) قال: كتبَ أبو الحسن الرضاعليه‌السلام رسالةً وأقرأنيها قال: قال عليّ بن الحسينعليهما‌السلام : إنّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله كان أمينُ الله في أرضه فلمّا قُبض محمّدٌصلى‌الله‌عليه‌وآله كنّا أهل البيت ورثته ونحن أُمناء الله في أرضه، عندنا علم البلايا والمنايا وأنساب العرب ومولد الإسلام وإنّا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الإيمان وحقيقة النفاق(٢) إلی أنْ قال: نحن ورثة الأنبياء ونحن ورثة أُولي العزم من الرُّسل(٣)

وبسنده عن الباقرعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّ أوّل وصيّ كان علی وجه الأرض هبة الله بن آدم وما من نبيّ مضیٰ إلّا وله وصيّ، لأنّ عدد جميع

________________________

١ ـ هو عمرو بن مسلم التميمي مولیً كوفي رویٰ عن الرضاعليه‌السلام ، وكان عبد الرحمان ثقة ثقة معتمداً علیٰ ما يرويه راجع رجال النجاشي ص ٢٣٥ (٦٢٢)

٢ ـ هذه تكملة الرواية : ( وحقيقة النفاق وأنّ شيعتنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم أخذ اللهُ علينا وعليهم الميثاق يردون موردنا ويدخلون مدخلنا نحن النجباء وأفراطنا أفراط الأنبياء ونحن أبناء الأوصياء ونحن المفرحون في كتاب الله ونحن أولی الناس بالله ونحن أولی الناس بكتاب الله ونحن أولی الناس بدين الله ونحن الذين شرع لنا دينه فقال في كتابه شرع لكم يا آل محمّد من الدِّين ما وصّی به نوحاً، وقد وصّانا بما أوصی به نوحاً والذي أوحينا إليك يا محمّد وما وصّينا به إبراهيم وإسماعيل وموسیٰ وعيسیٰ وإسحاق ويعقوب فقد علمنا وبلغنا ما علمنا واستودعنا علمهم، نحن ورثة الأنبياء ونحن ورثة أولي العزم من الرُّسل أنْ أقيموا الدِّين يا آل محمّد ولا تفرّقوا فيه وكونوا علی جماعة كبر علی المشركين مَنْ أشرك بولاية علي ما تدعوهم إليه من ولاية عليّ أنّ الله يا محمّد يهدي إليه مَنْ يُنيب من يُجيبكَ إلی ولاية عليّعليه‌السلام

٣ ـ بصائر الدرجات : ج ٣، ص ١١٨، ح ١

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

لجلسائه : لمن مثل هذا هل رأيتم مثل ما أنا فيه ، و هل أعطي أحد مثل ما أعطيت ؟ و كان عنده رجل من بقايا حملة الحجّة و المضيّ على أدب الحقّ و منهاجه و لم تخل الأرض من قائم للّه بحجّة في عباده فقال : أيّها الملك إنّك سألت عن أمر ، أفتأذن لي في الجواب عنه ؟ . . . ١ .

و قال منصور بن حازم من أصحاب أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام لقوم من العامّة : ألستم تعلمون أنّ رسول اللّه كان هو الحجّة من اللّه على خلقه ، فحين ذهب الرّسول من كان الحجّة بعده ؟ فقالوا : القرآن . قال : ننظر في القرآن فإذا يخاصم به المرجى‏ء و الحروري و الزّنديق الّذي لا يؤمن حتّى يغلب خصمه ،

فعرف أنّ القرآن لا يكون حجّة إلاّ بقيّم ما قال فيه كان حقّا ، فمن قيّم القرآن ؟

قالوا : كان عبد اللّه بن مسعود و فلان و فلان يعلمون . قال : يعلمون كلّه . قالوا :

لا . قال لهم : لم نجد أحدا يقال يعرف ذلك كلّه إلاّ علي ، و إذا كان الشّي‏ء بين قوم و قال هذا : لا أدري لمن هو ، و قال هذا : لا أدري ، و قال آخر : أدري أنّه لي ، فهو له ،

فأشهد أنّ عليّا عليه السّلام كان قيّم القرآن ، و كانت طاعته مفروضة ، و كان حجّة بعد النّبي صلى اللّه عليه و آله على النّاس كلّهم ، و أنّه ما قال في القرآن فهو حقّ ، و أشهد أنّ عليّا عليه السّلام لم يذهب حتّى ترك حجّة من بعده كما ترك الرّسول حجّة من بعده ٢ .

قال ابن أبي الحديد بعد نقل العنوان : و هذا يكاد يكون تصريحا بمذهب الإمامية ، إلاّ أنّ أصحابنا يحملونه على أنّ المراد به الأبدال الّذين وردت الأخبار النّبويّة عنهم أنّهم في الأرض سائحون ، فمنهم من يعرف و منهم من

ـــــــــــــــــ

( ١ ) لم أجده في الأغاني .

( ٢ ) الكافي للكليني ١ : ١٨٨ ح ١٥ ، و معرفة الرجال للكشي ، اختياره : ٤٢٠ ح ٧٩٥ ، و روى صدره الكليني في الكافي ١ : ١٦٨ ح ٢ و النقل بتصرف يسير .

٥٢١

لا يعرف ، و أنّهم لا يموتون حتّى يودعوا السرّ ، و هو العرفان عند قوم آخرين يقومون مقامهم . . . ١ .

قلت : قد عرفت أنّ الكلام كالمتواتر عنه عليه السّلام و دلالته أيضا صريحة ،

و هل حمل أصحابه إلاّ تحكّم ؟ و من هؤلاء الأبدال الذين قال ابن أبي الحديد هل جنّ أو ملك ؟ إن هي إلاّ أسماء سمّيتموها أنتم و آباؤكم ما أنزل اللّه بها من سلطان . . . ٢ . و لم لم يحملوا أخبار الأبدال على أهل بيته الأئمّة الاثني عشر عليه و عليهم السّلام ، كما هو القاعدة في حمل المجمل على المفصّل ،

و المشكوك على المتيقّن ؟ و ما يفعلون بقوله عليه السّلام بعد : « إمّا ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا » ، فأيّ بدل من أبدالهم كان ظاهرا مشهورا ، و أيّهم كان خائفا مغمورا ، . . . فإنّها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور ٣ ؟

و كيف ، و كلامه عليه السّلام يشمل الأنبياء ؟ فإنّ تعبيره عليه السّلام : « لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجّة » ، و معلوم أنّ الأنبياء من القائمين للّه بحجّة بلا خلاف ، فلا بدّ أن يراد بالحجّة الأنبياء و من كان بمنزلتهم من أوصيائهم ، و لم يكن بعد نبيّنا صلى اللّه عليه و آله من يكون مثله في العصمة ، و من يقوم به الحجّة سوى الأئمّة الاثني عشر بإجماع الامّة .

و روى ابن قتيبة في ( عيونه ) مسندا عن إبراهيم بن عبد الرّحمن قال :

قال النّبيّ صلى اللّه عليه و آله : يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين ، و انتحال المبطلين ، و تأويل الجاهلين ٤ .

و قال محمّد بن علي بن بابويه في ( إكماله ) في قوله تعالى : . . . إنّما أنت

ـــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٤ : ٣١٣ .

( ٢ ) النجم : ٢٣ .

( ٣ ) الحج : ٤٦ .

( ٤ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ٢ : ١١٩ .

٥٢٢

منذر و لكلّ قوم هاد ١ : دليل على أنّه لم تخل الأرض من هداة في كلّ قوم ،

و كلّ عصر تلزم العباد الحجّة للّه تعالى من الأنبياء و الأوصياء ، فالهداة من الأنبياة و الأوصياء لا يجوز انقطاعهم ما دام التّكليف من اللّه تعالى لازما للعباد ٢ .

و قال أيضا في قوله تعالى : و إذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة . . . ٣ : دليل على أنّ الحكمة في الخليفة أبلغ من الحكمة في الخليفة ، فلذلك ابتدأ به لأنّه سبحانه حكيم ، و الحكيم من يبدأ بالأهم دون الأعم ،

و ذلك تصديق قول الصادق جعفر بن محمّد عليه السّلام ، حيث يقول : « الحجّة قبل الخلق ، و مع الخلق و بعد الخلق » ٤ . و لو خلق اللّه تعالى الخليفة خلوّا من الخليفة لكان قد عرّضهم للتّلف إلى أن قال : و من زعم أنّ الدّنيا تخلو ساعة من إمام لزمه أن يصحّح مذهب البراهمة في إبطالهم الرّسالة ، و لو لا أنّ القرآن نزل بأنّ محمّدا صلى اللّه عليه و آله خاتم الأنبياء لوجب كون رسول في كلّ وقت ، فلمّا صحّ ذلك ارتفع معنى كون الرّسول بعده ، و بقيت الصورة المستدعية للخليفة في العقل ٥ .

هذا ، و في ( تاريخ خلفاء السيوطي ) في خلفائهم الذين ينصبونهم و يجعلونهم حجّة بينهم و بينه تعالى ، كما كان الوثنيّون ينحتون بأيديهم و ثنا ، ثمّ يجعلونه إلها يعبدونه ليقرّبهم إلى اللّه زلفى ، أو الّذين يغلبونهم بالسيف فيأخذون منهم البيعة ، و يخلعون من كان خليفتهم قبل ، و يأمرونهم

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الرعد : ٧ .

( ٢ ) كمال الدين للصدوق : ٦٦٧ .

( ٣ ) البقرة : ٣٠ .

( ٤ ) الكافي للكليني ١ : ١٧٧ ح ٤ ، و كمال الدين للصدوق : ٢٢١ ح ٥ ، و : ٢٣٢ ح ٣٦ .

( ٥ ) كمال الدين للصدوق : ٤ ، و الكافي للكليني ١ : ١٧٧ ح ٤ .

٥٢٣

بلعنه ، فيصير بعد ساعة وليّ اللّه لهم عدوّ اللّه و عدوّ اللّه حجّة اللّه . و قصة الخوارج مع أصحاب المهلّب بعد قتل ابن الزّبير و استيلاء عبد الملك على العراق في ذلك معروفة بعد ذكر قتل هولاكو في سنة ( ٦٥٦ ) للمستعصم آخر العبّاسيين في العراق : « ثمّ دخلت سنة سبع و خمسين بعد ستّمائة و الدّنيا بلا خليفة » ١ . و قال بعد ذكر نصبهم بمصر خليفة في سنة ( ٦٥٩ ) : « و كان مدّة انقطاع الخلافة ثلاث سنين و نصفا » ٢ .

قلت : و لم يبق حتّى يرى انقطاع خلافتهم إلى الأبد .

و فيه أيضا في عنوان ( في مدّة الخلافة في الاسلام ) بعد نقل خبر جابر بن سمرة عن النّبيّ صلى اللّه عليه و آله : لا يزال هذا الأمر عزيزا ينصرون على من ناواهم عليه اثني عشر خليفة كلّهم من قريش أخرجه الشيخان و غيرهما و له طرق و ألفاظ إلى أن قال : قال القاضي عياض : لعلّ المراد بالاثني عشر في هذه الأحاديث و ما شابهها : أنّهم يكونون في مدّة عزّة الخلافة ، و قوّة الإسلام ،

و استقامة أموره ، و الاجتماع على من يقوم بالخلافة ، و قد وجد هذا في من اجتمع عليه النّاس إلى أن اضطرب أمر بني أميّة و وقعت بينهم الفتنة زمن الوليد بن يزيد ، فاتّصلت بينهم إلى أن قامت الدولة العباسية فاستأصلوا أمرهم .

ثمّ قال : قال شيخ الاسلام ابن حجر في شرح البخاري : كلام القاضي عياض أحسن ما قيل في الحديث و أرجحه لتأييده بقوله في بعض طرق الحديث الصحيحة : « كلّهم يجتمع عليه الناس » . و إيضاح ذلك أنّ المراد بالاجتماع : انقيادهم لبيعته ، و الّذي وقع أنّ الناس اجتمعوا على أبي بكر ثمّ

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٧٥ .

( ٢ ) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٧٦ .

٥٢٤

عمر ثمّ عثمان ثمّ عليّ ، إلى أنّ وقع أمر الحكمين في صفّين فتسمّى معاوية يومئذ بالخلافة ، ثمّ اجتمع الناس على معاوية عند صلح الحسن ، ثمّ اجتمعوا على ولده يزيد ، و لم ينتظر للحسين أمر بل قتل قبل ذلك ، ثمّ لمّا مات يزيد وقع الاختلاف إلى أن اجتمعوا على عبد الملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير ، ثمّ اجتمعوا على أولاده الأربعة : الوليد ثمّ سليمان ثمّ يزيد ثمّ هشام ، و تخلّل بين سليمان و يزيد ، عمر بن عبد العزيز . فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين و الثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، اجتمع النّاس عليه لمّا مات عمّه هشام ، فولّي نحو أربع سنين ، ثمّ قاموا عليه فقتلوه ، و انتشرت الفتن و تغيّرت الأحوال من يومئذ . و لم يتّفق أن يجتمع النّاس على خليفة بعد ذلك ، لأنّ يزيد بن الوليد الّذي قام على ابن عمّه الوليد بن يزيد لم تطل مدّته ، بل ثار عليه قبل أن يموت ابن عمّ أبيه مروان بن محمّد بن مروان ، و لمّا مات يزيد ولّي أخوه إبراهيم فقتله مروان ، ثمّ ثار على مروان بنو العبّاس إلى أن قتل ، ثمّ كان أوّل خلفاء بني العبّاس السفاح ، و لم تطل مدّته مع كثرة من ثار عليه ، ثمّ ولي أخوه المنصور فطالت مدّته لكن خرج عنهم المغرب الأقصى باستيلاء المروانيّين على الأندلس ، و استمرّت في أيديهم متغلّبين عليها إلى أن تسمّوا بالخلافة بعد ذلك ، و انفرط الأمر إلى أن لم يبق من الخلافة إلاّ الاسم في البلاد ، بعد أن كان يخطب للخليفة في جميع الأقطار من الأرض شرقا و غربا و يمينا و شمالا ممّا غلب عليه المسلمون ، و لا يتولّي أحد في بلد من البلاد كلّها الإمارة على شي‏ء منها إلاّ بأمر الخليفة . و من انفراط الأمر أنّه كان في المائة الخامسة بالأندلس و حدها ستّة أننفس كلّهم يتسمّى بالخلافة ، و معهم صاحب مصر العبيدي ،

و العبّاسي ببغداد خارجا عمّن كان يدّعي الخلافة في أقطار الأرض من العلوية و الخوارج إلى أن قال : و قيل : إنّ المراد وجود اثني عشر خليفة في جميع مدّة الإسلام إلى يوم القيامة يعملون بالحقّ و إن لم تتوال أيّامهم ، و يؤيّد

٥٢٥

هذا ما أخرجه مسدّد في مسنده الكبير عن أبي ، الخلد أنّه قال : « لا تهلك هذه الامّة حتّى يكون منها اثنا عشر خليفة كلّهم يعمل بالهدى و دين الحقّ ، منهم رجلان من أهل بيت محمّد صلى اللّه عليه و آله » و على هذا فالمراد بقوله : « ثمّ يكون الهرج » أي : الفتن المؤذنة بقيام الساعة من خروج الدّجّال و ما بعده .

و قال السيوطي بعد نقل كلامه : و على هذا فقد وجد من الاثني عشر خليفة : الخلفاء الأربعة و الحسن و معاوية و ابن الزبير و عمر بن عبد العزيز ،

هؤلاء ثمانية ، و يحتمل أن يضمّ إليهم المهتدي من العباسيين ، لأنّه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أميّة ، و كذلك ( الظاهر ) لما أوتيه من العدل و بقي الاثنان المنتظران ، أحدهما المهدي لأنّه من آل بيت محمّد صلى اللّه عليه و آله ١ .

قلت : كذب شيخ إسلامهم في كون أمير المؤمنين عليه السّلام ممّن اجتمع عليه الناس كيزيد ، فكيف و خالفه أمّ مؤمنيهم و حواريهم و صاحبه و ابن عمرو و سعد و المغيرة و سعيد بن العاص و جمع آخر ، و سمّوا أيّامه عليه السّلام أيّام فتنة ؟

و أغرب صاحب الكتاب في جعل معاوية و ابن الزّبير من الّذين يعملون بالهدى و دين الحقّ ، فمحاربتهما و سبّهما لأمير المؤمنين عليه السّلام هل هو من الهدى و دين الحقّ ؟ و لعمر اللّه دين الدّهريّة و الوثنيّة أقرب إلى العقول من دين إخواننا السّنة .

« إمّا ظاهرا مشهورا » كأمير المؤمنين عليه السّلام و أبنائه العشرة من الحسن السبط إلى الحسن العسكري صلوات اللّه عليهم ، و ورد أنّ رجلا من أهل الشام ورد على جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام فقال : إنّي صاحب كلام وفقه و فرائض ، و قد جئتك لمناظرة أصحابك . فقال عليه السّلام له : كلامك من كلام النّبيّ صلى اللّه عليه و آله أو من عندك ؟ فقال : بعضه من كلامه و بعضه من عندي . فقال عليه السّلام :

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ١٠ ١٢ .

٥٢٦

فأنت إذن شريك النّبيّ صلى اللّه عليه و آله ؟ قال : لا . قال : فسمعت الوحي عن اللّه تعالى ؟ قال :

لا . قال : فتجب طاعتك كالنّبيّ صلى اللّه عليه و آله ؟ قال : لا . فقال : هذا خصم نفسه قبل أن يتكلّم . ثمّ أمره عليه السّلام أوّلا بالكلام مع حمران بن أعين و مؤمن الطاق و هشام بن سالم و قيس الماصر من أصحابه ، فكلّموه فغلبوا عليه . ثم قال عليه السّلام له : كلّم هذا الغلام مشيرا إلى هشام بن الحكم و كان أوّل ما اختطّت لحيته . فقال الشامي : سلني يا غلام في إمامة هذا يعني الصادق عليه السّلام فغضب هشام حتّى ارتعد . فقال له : أخبرني يا هذا أربّك أنظر لخلقه أم هم لأنفسهم ؟ فقال الشامي :

بل ربّهم أنظر لهم . قال هشام : ففعل الربّ بنظره لخلقه في دينهم ماذا ؟ قال :

كلّفهم ، و أقام لهم حجّة و دليلا على ما كلّفهم ، و أزاح في ذلك عللهم . فقال هشام :

فما هذا الدّليل الذي نصبه لهم ؟ قال الشامي : هو النّبيّ صلى اللّه عليه و آله . قال هشام : فبعده من ؟ قال الشّامي : الكتاب و السنّة . قال هشام : فهل نفعنا اليوم الكتاب و السنّة في ما اختلفنا فيه حتّى يرفع عنّا الاختلاف و يمكّننا من الاتّفاق ؟ قال : نعم . قال هشام : فلم اختلفنا نحن ، و أنت جئتنا من الشام و خالفتا و تزعم أنّ الرّأي طريق الدّين ، و أنت مقرّ بأنّ الرّأي لا يجمع على القول الواحد المختلفين . فسكت الشامي كالمفكّر ، فقال له الصادق عليه السّلام : مالك لا تتكلّم ؟ قال : إن قلت : إنّا ما اختلفنا كابرت ، و إن قلت : إنّ الكتاب و السنّة يرفعان عنّا الاختلاف أبطلت ، لأنّهما يحتملان الوجوه ، و إن قلت : قد اختلفنا و كلّ واحد منّا يدّعي الحق ، فلم ينفعنا إذن الكتاب و السّنّة ، و لكن لي عليه مثل ذلك . فقال عليه السّلام : سله تجده مليّا .

فقال لهشام : من أنظر للخلق ربّهم أم أنفسهم ؟ فقال : بل ربّهم . فقال : فهل أقام لهم من يجمع كلمتهم ، و يرفع اختلافهم ، و يبيّن لهم حقّهم من باطلهم ؟ قال :

نعم . قال : من هو ؟ قال : أما في ابتداء الشريعة فالنّبيّ صلى اللّه عليه و آله ، و أمّا بعده فغيره .

فقال الشامي : من غيره القائم مقامه في حجّته ؟ قال هشام : في وقتنا هذا أم قبله ؟ قال الشامي : بل في وقتنا هذا . قال هشام : هذا الجالس و أشار إلى

٥٢٧
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

الصادق عليه السّلام الّذي تشدّ إليه الرحال ، و يخبرنا بأخبار السماء وراثة عن أب عن جدّ . فقال : و كيف لي بعلم ذلك ؟ قال : سله عمّا بدا لك . قال : قطعت عذري ،

فعليّ السؤال . فقال له الصادق عليه السّلام : أنا أكفيك المسألة يا شامي ، أخبرك عن سيرك و سفرك خرجت يوم كذا ، و كان في طريقك كذا ، و مررت على كذا ، و مرّ بك كذا . فأقبل الشامي يقول كلّما وصف له شيئا من أمره : صدقت و اللّه . ثمّ قال الشامي : أسلمت للّه السّاعة . فقال الصادق عليه السّلام : بل آمنت باللّه الساعة ، إنّ الاسلام قبل الايمان و عليه يتوارثون و يتناكحون ، و على الايمان يثابون . قال الشامي : صدقت ، فأنّا الساعة أشهد ألا إله إلاّ اللّه و أنّ محمّدا صلى اللّه عليه و آله رسوله و أنّك وصيّ الأوصياء ١ .

« أو خائفا مغمورا » كالقائم المنتظر عليه السّلام ، قال الصادق عليه السّلام كما في خبر إسحاق بن عمّار للقائم غيبتان : إحداهما قصيرة ، و الاخرى طويلة ، و الغيبة الاولى لا يعلم بمكانه فيها إلاّ خاصّة شيعته ، و الاخرى لا يعلم بمكانه فيها إلاّ خاصّة مواليه ٢ .

و قال عليه السّلام أيضا لسدير الصيرفي : إنّ في صاحب هذا الأمر شبها من يوسف . فقال سدير : كأنّك تذكر حياته و غيبته ؟ فقال عليه السّلام : و ما تنكر من ذلك ؟

هذه الامّة أشباه الخنازير . إنّ إخوة يوسف عليه السّلام كانوا أسباطا أولاد الأنبياء ،

تاجروا يوسف و بايعوه و خاطبوه و هم إخوته و هو أخوهم ، فلم يعرفوه حتّى قال : . . . أنا يوسف و هذا أخي . . . ٣ فما تنكر هذه الأمّة الملعونة أن يفعل اللّه تعالى بحجّته في وقت من الأوقات كما فعل بيوسف . إنّ يوسف كان إليه ملك

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الاحتجاج للطبرسي : ٣٦٤ .

( ٢ ) الكافي للكليني ١ : ٣٤٠ ح ١٩ ، و الغيبة للنعماني : ١١٣ بطريقين .

( ٣ ) يوسف : ٩٠ .

٥٢٨

مصر ، و كان بينه و بين والده مسيرة ثمانية عشر يوما ، فلو أراد أن يعلمه لقدر على ذلك ، لقد سار يعقوب و ولده عند البشارة تسعة أيّام من بدوهم إلى مصر ،

فما تنكر هذه الأمّة أنّ يفعل اللّه تعالى بحجّته كما فعل بيوسف ، أن يمشي في أسواقهم و يطأ بسطهم حتّى يأذن اللّه تعالى في ذلك له كما أذن ليوسف قالوا أإنّك لأنت يوسف قال أنا يوسف ١ .

و لما أنشد دعبل الخزاعي أبا الحسن الرضا قصيدته التي أوّلها :

مدارس آيات خلت من تلاوة

إلى أن انتهى إلى قوله :

خروج إمام لا محالة خارج

يقوم على اسم اللّه و البركات

يميّز فينا كلّ حقّ و باطل

و يجزي على النّعماء و النّقمات

بكى الرّضا عليه السّلام بكاء شديدا ، ثمّ رفع رأسه إليه ، و قال له : يا خزاعي نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين ، فهل تدري من هذا الإمام و متى يقوم ؟

فقال : لا يا مولاي ، إلاّ أنّي سمعت بخروج إمام منكم يطهّر الأرض من الفساد ،

و يملؤها عدلا . فقال عليه السّلام : يا دعبل الإمام بعدي محمّد ابني ، و بعد محمّد ابنه علي ، و بعد عليّ ابنه الحسن ، و بعد الحسن ، و بعد الحسن ابنه الحجّة القائم المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره ، لو لم يبق من الدّنيا إلاّ يوم واحد لطوّل اللّه تعالى ذلك اليوم حتّى يخرج فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا ٢ .

و عن أبي خالد الكابلي قال : دخلت على سيّدي عليّ بن الحسين عليه السّلام إلى أن قال : قلت له : روي لنا عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّ الأرض لا تخلو من

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي للكليني ١ : ٣٣٦ ح ٤ ، و كمال الدين للصدوق : ٣٤١ ح ٢١ و علل الشرائع : ٢٤٤ ح ٣ ، و الغيبة للنعماني : ١٠٨ ، ١٠٩ ، و الآية ٩٠ من سورة يوسف .

( ٢ ) كمال الدين للصدوق : ٣٧٢ ح ٦ ، و عيون الأخبار ٢ : ٢٦٩ ح ٣٥ ، و كفاية الأثر للخراز : ٢٧١ .

٥٢٩

حجّة للّه جلّ و عزّ على عباده . فمن الحجة و الإمام بعدك ؟ فقال : ابني محمّد ،

و اسمه في التوراة باقر ، إنّه يبقر العلم بقرا ، هو الحجّة و الإمام بعدي ، و من بعد محمّد ابنه جعفر ، و اسمه عند أهل السماء الصادق . فقلت له : يا سيدي فكيف صار اسمه الصادق و كلّكم صادقون ؟ قال : فإنّ الخامس من ولده الّذي اسمه جعفر يدّعي الإمامة اجتراء على اللّه و كذبا عليه ، فهو عنه اللّه جعفر الكذاب المغتري على اللّه المدعي لما ليس له بأهل ، المخالف لأبيه و الحاسد لأخيه ، ذاك الذي يكشف سرّ اللّه عند غيبة وليّ اللّه . ثمّ بكى عليه السّلام بكاء شديدا ، و ثمّ قال : كأنّي بجعفر الكذّاب و قد حمل طاغية زمانه على تفتيش أمر ولي اللّه ، و المغيّب في حفظ اللّه ، و على التوكيل بحرم أخيه ، جهلا منه بولادته و حرصا على قتله إن ظفر به ، طمعا في ميراث أبيه حتّى يأخذه بغير حقّه . . . ١ .

و في ( حلية أبي نعيم ) في محمّد بن الحنفيّة مسندا عنه عن أبيه عليه السّلام عن النّبيّ صلى اللّه عليه و آله قال : المهدي منّا أهل البيت ، يصلحه اللّه تعالى في ليلة أو قال في يومين ٢ .

و روى ( الحلية ) أيضا عن عمرو بن ثابت قال : قال محمّد بن الحنفيّة :

ترون أمرنا لهو أبين من هذه الشمس ، فلا تعجلوا و لا تقتلوا أنفسكم ٣ .

و روى ( الحلية ) في محمّد بن عليّ الباقر مسندا عنه عليه السّلام قال : إنّ اللّه تعالى يلقي في قلوب شيعتنا الرّعب ، فإذا قام قائمنا و ظهر مهدينا كان الرّجل أجرأ من ليث ، و أمضى من سنان ٤ .

و في ( مقاتل أبي الفرج ) في عنوان الحسن بن عليّ عليه السّلام روى بأسانيد

ـــــــــــــــــ

( ١ ) كمال الدين للصدوق : ٣١٩ ح ٢ بطريقين ، و الاحتجاج للطبرسي : ٣١٧ و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) حلية الأولياء لأبي نعيم ٣ : ١٧٧ .

( ٣ ) حلية الأولياء لأبي نعيم ٣ : ١٧٥ .

( ٤ ) حلية الأولياء لأبي نعيم ٣ : ١٨٤ .

٥٣٠

عنه عليه السّلام عن أبيه عن النّبيّ صلى اللّه عليه و آله قال : إنّ الدّنيا تسع البرّ و الفاجر حتّى يبعث اللّه امام الحقّ من آل محمّد صلى اللّه عليه و آله ١ .

و ممّا يدل على أنّ مراده عليه السّلام بالخائف المغمور : القائم المنتظر صلوات اللّه عليه شهرة ذلك من أيّام الصحابة و التابعين ، قال الجاحظ في ( بيانه ) : كتب مسلمة بن عبد الملك إلى يزيد بن المهلّب ( لمّا خرج على يزيد بن عبد الملك ) :

« إنّك و اللّه ما أنت بصاحب هذا الأمر ، صاحب هذا الأمر مغمور موتور ، و أنت مشهور غير موتور » ٢ .

و المغمور : المخفي في الجمع ، من قولهم : دخلت في غمار النّاس . أي :

كثرتهم و زحمتهم ، و هو في مقابل المشهور كما يفهم من كلام مسلمة .

« لئلاّ تبطل حجج اللّه و بيّناته » و في روايتي الكليني المتقدّمتين : « كيلا تبطل حججك و لا يضلّ أولياؤك بعد إذ هديتهم » ٣ .

« و كم ذا و أين أولئك » و في رواية ( العقد ) : « و كم رأينا » ٤ . و في روايتي الكليني المتقدّمتين « بل أين هم و كم هم » ٥ . و كيف كان فروى ( الكافي ) عن الأصبغ قال : أتيت أمير المؤمنين عليه السّلام فوجدته متفكّرا ينكت في الأرض ، فقلت :

يا أمير المؤمنين مالي أراك متفكّرا تنكت في الأرض ، أرغبة منك فيها ؟ فقال : لا و اللّه ما رغبت فيها ، و لا في الدّنيا يوما قطّ ، و لكنّي فكّرت في مولود يكون من ظهر الحادي عشر من ولدي ، هو المهدي الّذي يملأ الأرض عدلا و قسطا كما ملئت جورا و ظلما ، تكون له غيبة و حيرة يضلّ فيها أقوام و يهتدي فيها

ـــــــــــــــــ

( ١ ) المقاتل لأبي الفرج : ٤٤ ضمن حديث .

( ٢ ) البيان و التبيين للجاحظ ٢ : ٢٦٨ .

( ٣ ) الكافي ١ : ٣٣٥ ، ٣٣٩ و لفظ الثانية « حجّتك » .

( ٤ ) لفظ العقد الفريد ٢ : ٦٩ مثل المصرية أيضا إلاّ أن « أولئك » لم يتكرّر فيه .

( ٥ ) الكافي للكليني ١ : ٣٣٥ ، ٣٣٩ و لفظ الاولى « أين هم و كم » .

٥٣١

آخرون إلى أن قال : و أنّى لك بهذا الأمر يا أصبغ ؟ أولئك خيار هذه الأمّة مع خيار أبرار هذه العترة ١ .

« أولئك و اللّه الأقلّون عددا و الأعظمون قدرا » هكذا في ( الخطية ) ، و لكن في ( ابن أبي الحديد ) ٢ : « و الأعظمون عند اللّه قدرا » و مثله ( المصرية ) ، قال الرضا عليه السّلام : قال النّبيّ صلى اللّه عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السّلام : لا يحفظني فيك إلاّ الأتقياء الأبرار الأصفياء ، و ما هم في أمّتي إلاّ كالشعرة البيضاء في الثور الأسود في الليل الغابر ٣ .

« يحفظ اللّه بهم حججه و بيّناته » هكذا في ( المصرية ) ، و الثواب : ( بهم يحفظ اللّه حججه و بيّناته ) كما في ( ابن ميثم و الخطّية ) و كذا ( إبن أبي الحديد ) ٤ .

« حتّى يودعوها نظراءهم و يزرعوها في قلوب أشباههم » و في رواية الكليني الاولى المتقدّمة بدل الكلام : « المتّبعون لقادة الدّين الأئمّة الهادين الّذين يتأدّبون بآدابهم و ينهجون نهجهم » ٥ . لكن مقتضى المقام أنّ يكون ما في ( الكافي ) زائدا على نقل المصنّف لإتمامه ، و حينئذ فسقط من كلّ منهما إن صحّت النّسخ إحدى الجملتين .

و كيف كان فروى النعماني في ( غيبته ) عن عبد الملك بن أعين قال : قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام : إنّ احتمال أمرنا ليس معرفته و قبوله ، إنّ احتمال أمرنا هو صونه و ستره عمّن ليس من أهله فأقرئهم السّلام و رحمة اللّه يعني الشيعة

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي للكليني ١ : ٣٣٨ ح ٧ .

( ٢ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٤ : ٣١١ ، و شرح ابن ميثم ٥ : ٣٢٢ أيضا .

( ٣ ) عيون الأخبار للصدوق ٢ : ١٣٠ ح ١٧ .

( ٤ ) كذا في شرح ابن ميثم ٥ : ٣٢٢ ، لكن لفظ شرح ابن أبي الحديد ٤ : ٣١١ « يحفظ اللّه بهم » .

( ٥ ) الكافي ١ : ٣٥٥ .

٥٣٢

و قل : قال لكم : رحم اللّه عبدا استجرّ مودّة الناس إلى نفسه و إلينا ، بأن يظهر لهم ما يعرفون ، و يكفّ عنهم ما يكرهون ١ .

و في رواية الصفار في ( بصائره ) عن معمّر بن خلاّد قال : سمعت الرّضا عليه السّلام يقول : أسرّ اللّه سرّه إلى جبرئيل و أسرّه جبرئيل إلى محمّد صلى اللّه عليه و آله و أسرّه محمّد صلى اللّه عليه و آله إلى علي عليه السّلام و أسرّه علي عليه السّلام إلى من شاء واحدا بعد واحد صلوات اللّه عليهم ٢ .

« هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ، و باشروا روح اليقين » روى الصدوق في ( إكماله ) أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال لابنه الحسين عليه السّلام : التاسع من ولدك يا حسين هو القائم بالحقّ المظهر للدّين ، و الباسط للعدل . فقال الحسين عليه السّلام : يا أمير المؤمنين و إنّ ذلك لكائن ؟ فقال عليه السّلام : إي و الّذي بعث محمّدا صلى اللّه عليه و آله بالنبوّة و اصطفاه على جميع البرية ، و لكن بعد غيبة و حيرة ، فلا يثبت فيها على دينه إلاّ المخلصون المباشرون لروح اليقين ، الّذين أخذ اللّه تعالى ميثاقهم بولايتنا و كتب في قلوبهم الايمان و أيّدهم بروح منه ٣ .

« و استلانوا » أي : عدوا ليّنا .

« ما استوعره » أي : وجده و عرا غليظا .

« المترفون » الّذين أطغتهم النعمة .

« و أنسوا بما استوحش منه الجاهلون » قال الصادق عليه السّلام : أقرب ما يكون العباد من اللّه عزّ و جلّ و أرضى ما يكون عنهم إذا افتقدوا حجّة اللّه عزّ و جلّ فلم يظهر لهم و لم يعلموا بمكانه ، و هم في ذلك يعلمون أنّه لم تبطل حجّة اللّه ، و قد

ـــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه النعماني في الغيبة : ٢١ عن عبد الأعلى بن أعين و عبد الملك خطأ .

( ٢ ) هذا حديث أبي بصير عن الباقر عليه السّلام أخرجه الصفار في البصائر : ٣٩٧ ح ٤ ، و أمّا حديث معمّر بن خلاّد فأخصر من هذا و قد أخرجه في : ٣٩٧ ح ٣ .

( ٣ ) كمال الدين للصدوق : ٣٠٤ ح ١٦ .

٥٣٣

علم أنّ أولياءه لا يرتابون ، ولو علم أنّهم يرتابون ما غيّب عنهم حجّته طرفة عين ، و لا يكون ذلك إلاّ على رأس شرار النّاس ١ .

و قال السجاد عليه السّلام : تمتدّ الغيبة بولي اللّه إلى أن قال : إنّ أهل زمان غيبته القائلين بإمامته و المنتظرين لظهوره أفضل من أهل كلّ زمان ، لأنّ اللّه أعطاهم من العقول و الأفهام و المعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة ، و جعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله بالسيف ، أولئك المخلصون حقّا و شيعتنا صدقا ، و الدّعاة إلى دين اللّه تعالى سرّا و جهرا ٢ .

« و صحبوا الدّنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى » روى ( الكافي ) عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال : في الأنبياء و الأوصياء خمسة أرواح : روح القدس ، و روح الايمان ، و روح الحياة ، و روح القوّة ، و روح الشهوة ، فبروح القدس يا جابر عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى . ثمّ قال : يا جابر إنّ هذه الأربعة الأرواح يصيبها الحدثان إلاّ روح القدس ، فإنّها لا تلهو و لا تلعب ٣ .

« أولئك خلفاء اللّه في أرضه و الدّعاة إلى دينه » قال ابن بابويه في قوله تعالى : . . . إنّي جاعل في الأرض خليفة . . . ٤ : إنّ القضيّة في الخليفة باقية إلى يوم القيامة ، و من زعم أنّ الخليفة أراد به النّبوّة فقد أخطأ من وجه ، و ذلك أنّ اللّه تعالى وعد أن يستخلف من هذه الأمّة خلفاء راشدين ، كما قال تعالى :

و عد اللّه الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الّذين من قبلهم و ليمكنّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم و ليبدّلنّهم من

ـــــــــــــــــ

( ١ ) كمال الدين للصدوق : ٣٣٧ ، ٣٣٩ ح ١٠ ، ١٦ ، ١٧ بثلاث طرق ، و النقل بتقطيع .

( ٢ ) كمال الدين للصدوق : ٣١٩ ح ٢ ضمن حديث .

( ٣ ) الكافي للكليني ١ : ٢٧٢ ح ٢ .

( ٤ ) البقرة : ٣٠ .

٥٣٤

بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا . . . ١ و لو كانت قضية الخلافة قضية النبوّة أوجب حكم الآية أن يبعث اللّه عزّ و جلّ نبيّا بعد محمّد صلى اللّه عليه و آله ٢ .

و روى : أنّ أحمد بن إسحاق دخل على العسكري عليه السّلام يريد أن يسأله عن خلفه ، فقال عليه السّلام له مبتدئا : يا أحمد إنّ اللّه تعالى لم يخل الأرض منذ خلق آدم و لا يخليها إلى أن تقوم الساعة من حجّة على خلقه ، به يدفع البلاء عن أهل الأرض ، و به ينزّل الغيث ، و به يخرج بركات الأرض . . . ٣ .

« آه آه » قال الجوهري قولهم : أوه من كذا ، ساكنة الواو ، إنّما هو توجع ،

قال الشاعر :

فأوه لذاكر ما إذا ما ذكرتها

و من بعد أرض بيننا و سماء

و ربّما قلبوا الواو ألفا . فقالوا : آه من كذا ٤ .

« شوقا إلى رؤيتهم » لم ينحصر إظهار الاشتياق إليهم عليهم السّلام به عليه السّلام ، فقد أظهر جدّهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم أيضا الاشتياق إليهم ، حتّى إنّه أمر جابر الأنصاري بإبلاغه سلامه صلى اللّه عليه و آله إلى آخر من يدركه منهم ، ففي ( تذكرة سبط ابن الجوزي ) : ذكر المدائني عن جابر الأنصاري إنّه أتى أبا جعفر محمّد بن علي إلى الكتّاب و هو صغير ، فقال له : رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يسلّم عليك . فقيل لجابر :

و كيف هذا ؟ فقال : كنت جالسا عند النّبيّ صلى اللّه عليه و آله و الحسين عليه السّلام في حجره و هو يداعبه ، فقال : يا جابر يولد له مولود اسمه علي ، إذا كان يوم القيامة نادى مناد :

ليقم سيّد العابدين . فيقوم ولده ، ثمّ يولد له ولد اسمه محمّد فإن أدركته يا

ـــــــــــــــــ

( ١ ) النور : ٥٥ .

( ٢ ) كمال الدين للصدوق : ٥ .

( ٣ ) كمال الدين للصدوق : ٣٨٤ ح ١ .

( ٤ ) صحاح اللغة للجوهري ٦ : ٢٢٢٥ مادة ( اوه ) .

٥٣٥

جابر فأقرئه منّي السّلام ١ .

« انصرف إذا شئت » و في إسناد « إذا شئت فقم » و تعليق أمر الانصراف بمشيئة الطرف في مثله من جميل الخطاب ، و حسن الآداب ، و نظيره أنّ أبا العيناء و كان أعمى قال : ما رأيت أقوم على أدب من ابن أبي داود ، و ذلك أني ما خرجت من عنده قطّ فقال : يا غلام خذ بيده ، بل كان يقول : يا غلام اخرج معه .

و ممّا يناسب المقام في قوله عليه السّلام : « انصرف » ما في ( بيان الجاحظ ) : أنّ رجلا من العسكر عدا بين يدي المأمون ، فقال له بعض من يسير بقربه : يقول لك الخليفة : اركب . فقال المأمون : لا يقال لمثل هذا اركب . إنّما يقال لمثل هذا :

انصرف ٢ .

٢

الخطبة ( ٨٦ ) و من خطبة له عليه السّلام :

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَللَّهَ لَمْ يَقْصِمْ جَبَّارِي دَهْرٍ قَطُّ إِلاَّ بَعْدَ تَمْهِيلٍ وَ رَخَاءٍ وَ لَمْ يَجْبُرْ عَظْمَ أَحَدٍ مِنَ اَلْأُمَمِ إِلاَّ بَعْدَ أَزْلٍ وَ بَلاَءٍ وَ فِي دُونِ مَا اِسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ عَتْبٍ وَ مَا اِسْتَدْبَرْتُمْ مِنْ خَطْبٍ مُعْتَبَرٌ وَ مَا كُلُّ ذِي قَلْبٍ بِلَبِيبٍ وَ لاَ كُلُّ ذِي سَمْعٍ بِسَمِيعٍ وَ لاَ كُلُّ نَاظِرٍ بِبَصِيرٍ فَيَا عَجَباً وَ مَا لِيَ لاَ أَعْجَبُ مِنْ خَطَإِ هَذِهِ اَلْفِرَقِ عَلَى اِخْتِلاَفِ حُجَجِهَا فِي دِينِهَا لاَ يَقْتَصُّونَ أَثَرَ نَبِيٍّ وَ لاَ يَقْتَدُونَ بِعَمَلِ وَصِيٍّ وَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِغَيْبٍ وَ لاَ يَعِفُّونَ عَنْ عَيْبٍ يَعْمَلُونَ فِي اَلشُّبُهَاتِ وَ يَسِيرُونَ فِي

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي : ٣٣٧ .

( ٢ ) البيان و التبيين للجاحظ ٢ : ٢٨٥ .

٥٣٦

اَلشَّهَوَاتِ اَلْمَعْرُوفُ فِيهِمْ مَا عَرَفُوا وَ اَلْمُنْكَرُ عِنْدَهُمْ مَا أَنْكَرُوا .

مَفْزَعُهُمْ فِي اَلْمُعْضِلاَتِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَ تَعْوِيلُهُمْ فِي اَلْمُهِمَّاتِ عَلَى آرَائِهِمْ كَأَنَّ كُلَّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ إِمَامُ نَفْسِهِ قَدْ أَخَذَ مِنْهَا فِيمَا يَرَى بِعُرًى ثِقَاتٍ وَ أَسْبَابٍ مُحْكَمَاتٍ أقول : رواه الكليني في ( روضته ) مسندا عن الصادق عليه السّلام قال : خطب أمير المؤمنين عليه السّلام بالمدينة ، فحمد اللّه و أثنى عليه ، و صلّى على النّبيّ صلى اللّه عليه و آله ثمّ قال : أمّا بعد ، فانّ اللّه تعالى لم يقصم جبّاري دهر إلاّ من بعد تمهيل و رخاء ، و لم يجبر كسر عظم من الأمم إلاّ بعد أزل و بلاء . أيّها الناس في دون ما استقبلتم من عطب و استدبرتم من خطب معتبر ، و ما كلّ ذي قلب بلبيب ، و لا كلّ ذي سمع بسميع ، و لا كلّ ذي ناظر عين ببصير . عباد اللّه أحسنوا في ما يعنيكم النّظر فيه ، ثمّ انظروا إلى عرصات من قد أقاده اللّه بعمله ، كانوا على سنّة من آل فرعون أهل جنّات و عيون . و زروع و مقام كريم ١ ، ثمّ انظروا بما ختم اللّه لهم بعد النّضرة و السرور و الأمر و النّهي ، و لمن صبر منكم العاقبة في الجنان و اللّه مخلّدون ، و للّه عاقبة الأمور . فيا عجبا و مالي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها ، لا يقتفون أثر نبيّ ، و لا يقتدون بعمل وصيّ ، و لا يؤمنون بغيب ، و لا يعفّون عن عيب . المعروف فيهم ما عرفوا ،

و المنكر عندهم ما أنكروا ، و كلّ امرى‏ء منهم إمام نفسه ، أخذ منها في ما يرى بعرى وثيقات ، و أسباب محكمات ، فلا يزالون بجور ، و لن يزدادوا إلاّ خطا ، لا ينالون تقرّبا ، و لن يزدادوا إلاّ من بعدا من اللّه عزّ و جلّ . أنس بعضهم ببعض ،

و تصديق بعضهم لبعض . كلّ ذلك و حشة ممّا ورث النّبيّ الاميّ صلى اللّه عليه و آله و نفورا ممّا أدّى إليهم من أخبار فاطر السّماوات و الأرض . أهل حسرات ، و كهوف

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الدخان : ٢٥ ٢٦ .

٥٣٧

شبهات ، و أهل عشوات ، و ضلالة و ريبة . من و كله اللّه إلى نفسه و رأيه فهو مأمون عند من يجهله ، غير المتّهم عند من لا يعرفه . فما أشبه هؤلاء بأنعام قد غاب عنها رعاؤها . . . ١ .

و رواه المفيد في ( إرشاده ) عن مسعدة بن صدقة عن الصادق عليه السّلام قال :

قال أمير المؤمنين عليه السّلام : أمّا بعد ، فإنّ اللّه تعالى لم يقصم جبّارا قطّ إلاّ بعد تمهيل و رخاء ، و لم يجبر كسر عظم أحد من الامم إلاّ بعد أزل و بلاء . أيّها الناس و في دون ما استقبلتم من خطب و استدبرتم من عصر معتبر ، و ما كلّ ذي قلب بلبيب ، و لا كلّ ذي سمع بسميع ، و لا كلّ ذي ناظر عين ببصير ، ألا فأحسنوا النظر عباد اللّه في ما يعنيكم ، ثمّ انظروا إلى عرصات من أباده اللّه بعمله ،

كانوا على سنّة من آل فرعون أهل جنّات و عيون . و زروع و مقام كريم .

فها هي عرصة المتوسّمين ، و إنّها لبسبيل مقيم ٢ ، تنذر من نابها من الثّبور بعد النّضرة و السرور ، و مقيل من الأمن و الحبور ، و لمن صبر منكم العاقبة ، و للّه عاقبة الأمور . فواها لأهل العقول ، كيف أقاموا بمدرجة السّيول ،

و استضافوا غير مأمون رئيسا لهذه الأمّة الجائرة في قصدها الراغبة عن رشدها ؟ لا يقتفون أثر نبي ، و لا يقتدون بعمل وصيّ ، و لا يؤمنون بغيب ، و لا يرعوون من عيب . كيف ، و مفزعهم في المبهمات إلى قلوبهم ، و كلّ امرى‏ء منهم إمام نفسه ، أخذ منها في ما يرى بعرى ثقات . لا يألون قصدا ، و لن يزدادوا إلاّ بعدا ، لشدّة انس بعضهم ببعض ، و تصديق بعضهم بعضا حيادا كلّ ذلك عمّا ورث الرّسول ، و نفورا عمّا أدّى إليه من فاطر السماوات و الأرضين العليم الخبير . فهم أهل عشوات كهوف شبهات ، قادة حيرة و ريبة . من و كل إلى

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي للكليني ٨ : ٦٣ ح ٢٢ كتاب الروضة .

( ٢ ) الحجر : ٧٦ .

٥٣٨

نفسه فاغرورق في الأضاليل . هذا و قد ضمن اللّه قصد السبيل . . . ليهلك من هلك عن بيّنة و يحيا من حيّ عن بيّنة و إنّ اللّه لسميع عليهم ١ . فيا ما أشبهها أمّة صدّت عن ولادتها و رغبت عن رعاتها . . . ٢ .

و نقل الخوئي أيضا الأوّل و أشار إلى الثاني ٣ .

« امّا بعد ، فإنّ اللّه » هكذا في ( المصرية ) و زاد ( ابن ميثم و الخطّية ) ٤ سبحانه .

« لم يقصم » قال الجوهري : قصمت الشي‏ء قصما : إذا كسرته حتّى يبين ٥ .

« جبّاري دهر قطّ إلاّ بعد تميل » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( تمهيل ) كما في ( إبن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطّية ) و يصدّقه الرّوضة و الإرشاد ٦ .

« و رخاء » و هو ضدّ الشدّة ، و عدم قصمه تعالى للجبّارين إلاّ بعد تمهيل و رخاء هو سنّته عزّ و جلّ ، قال تعالى : فلما نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كلّ شي‏ء حتّى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ٧ .

و بتمهيله جلّ و علا يغترّ الجبّارون و يزيدون جبّاريتهم ، و في ( أغاني أبي الفرج ) قال أبو عبيدة : حدّثني أبو الهذيل العلاّف قال : صعد خالد القسري

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الأنفال : ٤٢ .

( ٢ ) الإرشاد للمفيد : ١٥٥ .

( ٣ ) شرح الخوئي ٣ : ٦١ .

( ٤ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٣٣ ، و الكافي ٨ : ٦٤ ، و الإرشاد : ١٥٥ ، لكن لفظ شرح ابن ميثم ٢ : ٣٠٥ « فإن اللّه » و « تميل » أيضا .

( ٥ ) صحاح اللغة للجوهري ٥ : ٢٠١٣ مادة ( قصم ) .

( ٦ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٣٣ ، و الكافي ٨ : ٦٤ ، و الإرشاد : ١٥٥ ، لكن لفظ شرح ابن ميثم ٢ : ٣٠٥ « فإن اللّه » و « تميل » أيضا .

( ٧ ) الأنعام : ٤٤ .

٥٣٩

المنبر ، فقال : إلى كم يغلب باطلنا حقّكم ؟ أما آن لربّكم أن يغضب لكم ؟ و كان زنديقا أمّه نصرانية ، فكان يولّي النصارى و المجوس على المسلمين ،

و يأمرهم بامتهانهم و ضربهم ، و كان أهل الذمّة يشترون الجواري المسلمات و يطؤهنّ ، فيطلق لهم ذلك ، و لا يغيّر عليهم ١ .

« و لم يجبر » الجبر : إصلاح العظم المكسور ، و يعبّر عنه في الفارسيّة بقولهم : ( شكست و بست ) .

« عظم أحد من الامم إلاّ بعد أزل » أي : ضيق .

« و بلاء » فكما لم يهلك الجبّارين إلاّ بعد مدّة طويلة لم يقوّ المقهورين إلاّ بعد شدّة عريضة ، ما قال عليه السّلام ذلك أي : عدم قصم الجبّارين ، و عدم إغاثة المقهورين إلاّ بعد مدّة ، تمثيلا لحاله عليه السّلام و حال المتقدّمين عليه سنّة اللّه في الّذين خلوا من قبل و لن تجد لسنّة اللّه تبديلا ٢ .

و يشهد لكلامه عليه السّلام في الجبّارين و المستضعفين قوله تعالى في فرعون و أصحابه و موسى و قومه : و قال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى و قومه ليفسدوا في الأرض و يذرك و آلهتك قال سنقتّل أبناءهم و نستحيي نساءهم و إنّا فوقهم قاهرون . قال موسى لقومه استعينوا باللّه و اصبروا إنّ الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتّقين . قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا و من بعد ما جئتنا قال عسى ربّكم أن يهلك عدوّكم و يستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون . و لقد أخذنا آل فرعون بالسّنين و نقص من الثمرات لعلّهم يذّكّرون . فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه و إن تصبهم سيّئة يطّيّروا بموسى و من معه ألا إنّما طائرهم عند اللّه و لكنّ أكثرهم لا يعلمون .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الأغاني لأبي الفرج ٢٢ : ١٦ .

( ٢ ) الأحزاب : ٦٢ .

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605