• البداية
  • السابق
  • 605 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 105961 / تحميل: 4948
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء 2

مؤلف:
العربية

و قالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين . فأرسلنا عليهم الطوفان و الجراد و القمل و الضفادع و الدّم آيات مفصّلات فاستكبروا و كانوا قوما مجرمين . و لمّا وقع عليهم الرّجز قالوا يا موسى ادع لنا ربّك بما عهد عندك لئن كشفت عنّا الرّجز لنؤمننّ لك و لنرسلنّ معك بني إسرائيل .

فلمّا كشفنا عنهم الرّجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون . فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليّم بأنّهم كذّبوا بآياتنا و كانوا عنها غافلين . و أورثنا القوم الّذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض و مغاربها التي باركنا فيها و تمّت كلمة ربّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا و دمّرنا ما كان يصنع فرعون و قومه و ما كانوا يعرشون ١ .

« و في دون » أي : أقلّ .

« ما استقبلتم من عتب » أي : العتاب .

« و ما استدبرتم » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( و استدبرتم ) كما في ( ابن ميثم و الخطّية ) ٢ .

« من خطب » أي : الامور العظيمة .

« معتبر » مبتدأ لقوله : « و في دون » . يقال لك : في هذا الأمر عبرة و معتبر .

و مراده عليه السّلام أنّ في الأقلّ ممّا استقبلهم هو عليه السّلام و زوجته سيّدة النساء صلوات اللّه عليها و باقي بني هاشم ، من العبّاس و الفضل بن عبّاس و غيرهما ، و شيعته من سلمان و أبي ذر و المقداد و عمّار و حذيفة و نظرائهم من عتابهم في ما فعلوا ، من تقديم الثلاثة عليه عليه السّلام و تركهم لمن هو بمنزلة نفس الرّسول صلى اللّه عليه و آله في العصمة و الطهارة و العلم بالكتاب و السنّة كما هو حقّه و الإرشاد إلى

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الأعراف : ١٢٧ ١٣٧ .

( ٢ ) لفظ شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٣٣ ، و شرح ابن ميثم ٢ : ٣٠٥ مثل المصرية أيضا .

٥٤١

أحكام الشريعة كما شرعها النّبيّ صلى اللّه عليه و آله من اللّه تعالى ، و رفعهم للأجانب الّذين بالضدّ من ذلك ، و ممّا استدبرهم من مفاسد تقديم أولئك ، لا سيّما في أيّام ثالثهم ما يوجب عبرتهم و اعترافهم بخطئهم و رجوعهم عن عملهم .

« و ما كلّ ذي قلب بلبيب » صاحب لبّ يميّز بين القشر و اللبّ ، و لذا قال تعالى : . . . قل هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون إنّما يتذكّر أولو الألباب ١ .

« و لا كلّ ذي سمع بسميع » يعمل بما سمع ، قال تعالى : و منهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصمّ و لو كانوا لا يعقلون ٢ ، أم تحسب أنّ أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلاّ كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا ٣ .

« و لا كلّ ناظر » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( و لا كلّ ذي ناظر ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطّية ) ٤ .

« ببصير » يفرّق بين الحقائق و غيرها ، قال تعالى : . . . فإنّها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصّدور ٥ . و مراده عليه السّلام أنّه و إن كان في دون ما استقبلوه و ما استدبروه ما يوجب اعتبارهم و فهمهم خطأهم ، في تركهم أهل بيت نبيّهم صلى اللّه عليه و آله إلاّ أنّه لمّا كان أكثر النّاس لا يعقلون و لا يميّزون بين الحقّ و الباطل كما قال تعالى : و لئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض ليقولنّ اللّه قال الحمد للّه بل أكثر هم لا يعلمون ٦ ، و قال عزّ و جلّ في موضع :

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الزمر : ٩ .

( ٢ ) يونس : ٤٢ .

( ٣ ) الفرقان : ٤٤ .

( ٤ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٣٣ ، لكن في شرح ابن ميثم ٢ : ٣٠٥ « لا كل ناظر » أيضا .

( ٥ ) الحج : ٤٦ .

( ٦ ) لقمان : ٢٥ .

٥٤٢
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

و لكنّ أكثرهم لا يعلمون ١ ، و في آخر : . . . و هم لا يشعرون ٢ بقي أكثرهم في تيههم و لم يهتدوا لسبيلهم ، و إنّما رجع إليه عليه السّلام جمع معدود .

قال الكشي : قال الفضل بن شاذان : إنّ من السابقين الّذين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه السّلام أبا الهيثم بن التيهان ، و أبا أيّوب ، و خزيمة بن ثابت ( أي : ذو الشهادتين ) و جابر بن عبد اللّه ، و زيد بن أرقم ، و أبا سعيد الخدري ، و سهل بن حنيف ، و البراء بن مالك ، و عثمان بن حنيف ، و عبادة بن الصامت . ثمّ ممّن دونهم قيس بن سعد بن عبادة ، و عدي بن حاتم ، و عمرو بن الحمق ، و عمران بن الحصين ، و بريدة الأسلمي ، و بشر كثير ٣ .

« فيا عجبا و ما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها لا يقتصون » قال الجوهري : قصّ أثره : أي تتبّعه ٤ .

قال تعالى : . . . فارتدّا على آثارهما قصصا ٥ . و كذلك : ( اقتص أثره ،

و تقصص أثره ) .

« أثر نبيّ و لا يقتدون بعمل وصيّ » بل يتّبعون أهواءهم و آراءهم ، روى الأصبغ عنه عليه السّلام قال : ما بال أقوام غيّروا سنّة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و عدلوا عن وصيّة ، لا يتخوّفون أن ينزل بهم العذاب ؟ ثمّ تلا هذه الاية : ألم تر إلى الذين بدّلوا نعمة اللّه كفرا و أحلّوا قومهم دار البوار . . . ٦ . ثمّ قال عليه السّلام : نحن النّعمة التي أنعم اللّه بها على عباده ، و بنا يفوز من فاز يوم القيامة ٧ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الأنعام : ٣٧ .

( ٢ ) الزخرف : ٦٦ .

( ٣ ) معرفة الرجال للكشي اختياره : ٣٨ ح ٧٨ .

( ٤ ) صحاح اللغة للجوهري ٣ : ١٠٥١ مادة ( قصّ ) .

( ٥ ) الكهف : ٦٤ .

( ٦ ) إبراهيم : ٢٨ .

( ٧ ) الكافي للكليني ١ : ٢١٧ ح ١ .

٥٤٣

و روى أبو هارون عن أبي عقيل قال : كنّا عند أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فقال : لتفترقنّ هذه الأمّة على ثلاث و سبعين فرقة ، و الّذي نفسي بيده ، إنّ الفرق كلّها ضالّة إلاّ من اتّبعني و كان من شيعتي ١ .

و عن الصادق عليه السّلام قال لأحد أصحابه : أتدري لم أمرتم بالأخذ بخلاف ما تقول العامّة ؟ قال : لا . قال : إنى عليّا عليه السّلام لم يكن يدين اللّه بدين إلاّ خالف عليه الأمّة إلى غيره إرادة لابطال أمره ، و كانوا يسألون أمير المؤمنين عليه السّلام عن الشي‏ء الذي لا يعلمونه ، فإذا أفتاهم جعلوا له ضدّا من عند أنفسهم ليلبسوا على النّاس ٢ .

و عن الكاظم عليه السّلام قال : ما رأيت الناس أخذوا عن الحسن و الحسين عليهما السّلام إلاّ الصلاة بعد العصر و بعد الغلاة في طواف الفريضة ٣ .

و عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة قال ابن عبّاس : و ايم اللّه ، أن لو قدّم من قدّم اللّه ، و أخّر من أخّر اللّه ما عالت فريضة ٤ .

و عن سعيد بن أبي الخضيب البجلي : كنت مع ابن أبي ليلى مزامله حتّى جئنا إلى المدينة ، فبينا نحن في مسجد الرسول صلى اللّه عليه و آله إذ دخل جعفر بن محمّد ،

فقلت لابن أبي ليلى : أما تقوم بنا إليه ؟ فقال : و ما نصنع عنده ؟ قلت : نسائله و نحدّثه . فقال : نعم . فقمنا إليه فسألني عن نفسي و أهلي ، ثمّ قال : من هذا معك ؟

فقلت : ابن أبي ليلى قاضي المسلمين . فقال له : تأخذ مال هذا فتعطيه هذا ،

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الأمالي للمفيد : ٢١٢ ح ٣ المجلس ٢٤ ، و الغارات للثقفي ٢ : ٥٨٥ ، و يأتي تخريجه من طرق أخرى في العنوان ١٧ من هذا الفصل .

( ٢ ) علل الشرائع للصدوق : ٥٣١ ح ١ .

( ٣ ) الكافي للكليني ٤ : ٤٢٤ ح ٥ ، و التهذيب للطوسي ٥ : ١٤٢ ح ١٤٤ ، و الاستبصار ٢ : ٢٣٦ ح ٣ .

( ٤ ) الكافي للكليني ٧ : ٧٩ ح ٣ ، و الفقيه للصدوق ٤ : ١٨٧ ح ٣ ، و علل الشرائع : ٥٦٨ ح ٤ ، و التهذيب للطوسي ٩ : ٢٤٨ ح ٦ ، و الفرائض لأبي الشيخ ، و سنن البيهقي عنهما منتخب كنز العمال ٤ : ٢٠٧ ضمن حديث طويل .

٥٤٤

و تقتل ، و تفرّق بين المرء و زوجه ، لا تخاف في ذلك أحدا ؟ قال : نعم . قال : فبأيّ شي‏ء تقضي ؟ قال : بما بلغني عن النّبيّ صلى اللّه عليه و آله و عن عليّ ، و عن أبي بكر و عمر .

قال : فبلغك عن النّبي صلى اللّه عليه و آله أنّه قال : إنّ أقضاكم عليّ ؟ قال : نعم . قال : فكيف تقضي بغير قضاء علي ، و قد بلغك هذا ؟ فما تقول إذا جي‏ء بأرض من فضة و سماء من فضّة ، ثمّ أخذ النّبي صلى اللّه عليه و آله بيدك فأوقفك بين يدي ربّك فقال : يا رب إنّ هذا قضى بغير ما قضيت . قال : فاصفرّ وجه ابن أبي ليلى حتّى عاد مثل الزّعفران ، ثمّ قال لي : التمس لنفسك زميلا ، و اللّه لا أكلّمك من رأسي كلمة أبدا ١ .

و ورد أنّ سفيان الثوري مع قرشي مكّي ذهبا إلى الصادق عليه السّلام فوجداه ركب دابّته ، فقال سفيان : يا أبا عبد اللّه حدّثنا بحديث خطبة النّبيّ صلى اللّه عليه و آله في مسجد الخيف . قال : دعني حتّى أذهب في حاجتي ، فإنّي قد ركبت ، فإذا جئت حدّثتك . فقال : أسألك بقرابتك من النّبي صلى اللّه عليه و آله لما حدّثتني . فنزل ، فقال سفيان :

مرلي بدواة و قرطاس حتى أثبته . فدعا به ، ثمّ قال : اكتب :

بسم اللّه الرحمن الرحيم .

خطبة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في مسجد الخيف .

نضّر اللّه عبدا سمع مقالتي فوعاها ، و بلّغها من لم تبلغه . يا أيّها الناس ليبلّغ الشاهد الغائب ، فربّ حامل فقه ليس بفقيه ، و ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه . ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب امرى‏ء مسلم : إخلاص العمل للّه ، و النصيحة لأئمّة المسلمين ، و اللزوم لجماعتهم ، فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم المؤمنون إخوة تتكافا دماؤهم ، و هم يد على من سواهم ، و يسعى بذمّتهم أدناهم .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الاحتجاج للطبرسي : ٣٥٣ .

٥٤٥

فكتبه سفيان و عرضه على أبي عبد اللّه عليه السّلام . قال القرشي : فركب أبو عبد اللّه ، و جئت أنا و سفيان ، فلمّا كنّا في بعض الطريق قال لي سفيان : كما أنت حتّى أنظر في هذا الحديث ، فقلت له : قد و اللّه ألزم أبو عبد اللّه رقبتك شيئا لا يذهب أبدا . فقال : و أيّ شي‏ء ذلك ؟ فقلت له : ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب امرى‏ء مسلم . . . « إخلاص العمل للّه » قد عرفناه ، « و النصيحة لأئمّة المسلمين » من هؤلاء الأئمّة الذين يجب علينا نصيحتهم ؟ معاوية بن أبي سفيان و يزيد بن معاوية و مروان بن الحكم ؟ و قوله « و اللزوم لجماعتهم » . فأي الجماعة ؟

مرجى‏ء يقول : من لم يصلّ ، و لم يصمّ ، و لم يغتسل من جنابة ، و هدم الكعبة و نكح أمّه فهو على إيمان جبرئيل و ميكائيل ، أو قدريّ يقول : لا يكون ما شاء اللّه تعالى و يكون ما شاء إبليس ، أو حروري يتبرأ من علي بن أبي طالب و يشهد عليه بالكفر ، أو جهمي يقول : إنّما هي معرفة اللّه وحده ليس الإيمان شي‏ء غيرها ؟ قال سفيان : و يحك ، فأيّ شي‏ء يقولون ؟ قلت : يقولون : إنّ عليّ ابن أبي طالب و اللّه الإمام الذي يجب علينا نصيحته ، و يقولون : « و لزوم جماعتهم » أهل بيته . قال : فأخذ سفيان الكتاب فخرقه . قال : لا تخبر به أحدا ١ .

و عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي : كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام بمكّة إذ دخل عليه أناس من المعتزلة فيهم عمرو بن عبيد ، و واصل بن عطاء ، و حفص ابن سالم مولى ابن هبيرة ، و ناس من رؤسائهم ، و ذلك حدثان قتل الوليد و اختلاف أهل الشام بينهم ، فتكلّموا و أكثروا و خبطوا فأطالوا ، فقال أبو عبد اللّه : قد أكثرتم عليّ فأسندوا أمركم إلى رجل منكم يتكلّم بحجّتكم و يوجز .

فأسندوا أمرهم إلى عمرو بن عبيد ، فتكلّم فأبلغ و أطال ، فكان في ما قال : إنّ

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي للكليني ١ : ٤٠٣ ح ٢ ، و أخرج الخطبة بلا ذكر قصّة الكليني في الكافي ١ : ٤٠٣ ح ١ ، و القمي في تفسيره ٢ : ٤٤٧ ، و الصدوق في الخصال : ١٤٩ ح ١٨٢ باب الثلاثة ، و المفيد في أماليه : ١٨٦ ح ١٣ المجلس ٢٣ .

٥٤٦

أهل الشام قتلوا خليفتهم ، و ضرب اللّه بعضهم ببعض ، و شتّت أمرهم ، فنظرنا فوجدنا رجلاله دين و عقل و مروّة و موضع و معدن للخلافة ، و هو محمّد بن عبد اللّه بن الحسن ، فأردنا أن نجتمع عليه فنبايعه ثمّ نظهر معه ، فمن كان بايعنا فهو منّا و كنّا معه ، و من اعتزلنا كففنا عنه ، و من نصب لنا جاهدناه ،

و نصبنا له على بغيه ، و ردّه إلى الحقّ و أهله ، و قد أحببنا أن نعرض ذلك عليك فتدخل معنا ، فإنّه لا غنى بنا عن مثلك لموضعك و كثرة شيعتك .

قال : فلمّا فرغ عمرو قال أبو عبد اللّه لهم : أكلّكم على مثل ما قال عمرو ؟

قالوا : نعم . فحمد اللّه تعالى و أثنى عليه ، و صلّي على النّبيّ صلى اللّه عليه و آله ثمّ قال : إنّما نسخط إذا عصي اللّه ، فأمّا إذا أطيع رضينا . أخبرني يا عمرو لو أنّ هذه الأمّة قلّدتك أمرها ، و ولّتكه بغير قتال و لا مؤونة ، و قيل لك : ولّها من شئت فمن كنت تولّيها ؟ قال : كنت أجعلها شورى بين المسلمين . قال : بين كلّهم ؟ قال : نعم . قال :

بين فقهائهم و خيارهم ؟ قال : نعم . قال : قريش و غيرهم ؟ قال : نعم . قال :

و العرب و العجم ؟ قال : نعم . قال : اخبرني يا عمرو أتتولّى أبا بكر و عمر أم تتبرأ منهما ؟ قال : أتولاّهما . قال : فقد خالفتهما ، فإن كنت تتبرّأ منهما فإنّه يجوز لك الخلاف عليهما ، و إن كنت تتولاّهما فقد خالفتهما ، قد عمد عمر إلى أبي بكر فبايعه ، و لم يشاور فيه أحدا ، ثمّ ردّها أبو بكر عليه و لم يشاور فيه أحدا ، ثمّ جعلها عمر شورى بين ستّة و أخرج منها جميع المهاجرين و الأنصار غير أولئك الستّة من قريش ، و أوصى فيهم شيئا لا أراك ترضى به أنت و لا أصحابك ، إذ جعلتها شورى بين جميع المسلمين . قال : و ما صنع ؟ قال : أمر صهيبا أن يصلّي بالنّاس ثلاثة أيّام ، و ان يشاور أولئك الستّة ليس معهم أحد إلاّ ابن عمر يشاورونه ، و ليس له من الأمر شي‏ء ، و أوصى من بحضرته من المهاجرين و الأنصار: إن مضت ثلاثة أيّام قبل أن يبايعوا رجلا منهم أن يضربوا أعناق أولئك الستّة جميعا ، فإن اجتمع أربعة قبل أن تمضي ثلاثة أيّام

٥٤٧

و خالف اثنان أن يضربوا أعناق الاثنين . أفترضون بهذا أنتم في ما تجعلون من الشورى في جماعة المسلمين ؟ قالوا : لا .

ثمّ قال : يا عمرو دع ذا . أرأيت لو بايعت صاحبك الّذي تدعوني إلى بيعته ، ثمّ اجتمعت لكم الامّة فلم يختلف عليكم رجلان ، فأفضيتم إلى المشركين الذين لا يسلمون و لا يؤدّون الجزية ، أكان عندكم و عند صاحبكم من العلم ما تسيرون فيه بسيرة النّبيّ صلى اللّه عليه و آله في المشركين في حروبه ؟ قال :

نعم . قال : فتصنع ماذا ؟ قال : ندعوهم إلى الاسلام ، فإن أبوا دعوناهم إلى الجزية . قال : و إن كانوا مجوسا ليسوا بأهل كتاب ؟ قال : سواء . قال : و إن كانوا مشركي العرب و عبدة الأوثان ؟ قال : سواء .

قال : أخبرني عن القرآن هل تقرؤه ؟ قال : نعم . قال : اقرأ قاتلوا الّذين لا يؤمنون باللّه و لا باليوم الآخر و لا يحرّمون ما حرّم اللّه و رسوله و لا يدينون دين الحقّ من الذين أوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون ١ ، فاستثناء اللّه تعالى و اشتراطه من الذين أوتوا الكتاب ، فهم و الذين لم يؤتوا الكتاب سواء ؟ قال : نعم . قال : عمّن أخذت ذا . قال : سمعت النّاس يقولون .

قال : فدع ذا . فإنّ هم أبوا الجزية فقاتلتهم فظفرت عليهم ، كيف تصنع بالغنيمة ؟ قال : أخرج الخمس ، و أقسم أربعة أخماس بين من قاتل عليه . قال :

فأخبرني عن الخمس من تعطيه ؟ فقرأ و اعلموا انّما غنمتم من شي‏ء فإنّ للّه خمسه و للرّسول و لذي القربي و اليتامى و المساكين و ابن السبيل . . . ٢ . قال :

الّذي للرسول من تعطيه ؟ و من ذو القربى ؟ قال : قد اختلف فيه الفقهاء ، فقال

ـــــــــــــــــ

( ١ ) التوبة : ٢٩ .

( ٢ ) الأنفال : ٤١ .

٥٤٨

بعضهم : قرابة النّبيّ صلى اللّه عليه و آله و أهل بيته ، و قال بعضهم : الخليفة . و قال بعضهم :

قرابة الذين قاتلوا عليه من المسلمين . قال : فأيّ ذلك تقول أنت ؟ قال : لا أدري .

قال : فأراك لا تدري ، فدع ذا . أرأيت الأربعة الأخماس تقسمها بين جميع من قاتل عليها ؟ قال : نعم . قال : فقد خالفت النّبيّ صلى اللّه عليه و آله في سيرته ، بيني و بينك فقهاء المدينة و مشيختهم ، فسلهم فإنّهم لا يختلفون في أنّ النّبيّ صلى اللّه عليه و آله إنّما صالح الأعراب على أن يدعهم و لا يهاجروا على أن دهمه من عدوّهم أن يستفزّهم فيقاتل بهم ، و ليس لهم في الغنيمة نصيب ، و أنت تقول : بين جميعهم . فقد خالفت النّبي صلى اللّه عليه و آله في كلّ ما قلت في سيرته من المشركين .

و مع هذا ما تقول في الصدقات ؟ فقرأ : إنّما الصّدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها . . . ١ إلى آخر الآية . قال : فكيف تقسّمها ؟ قال :

أقسّمها على ثمانية أجزاء ، فأعطي كلّ جزء من الثمانية جزءا . قال : و إن كان صنف منهم عشرة آلاف ، و صنف رجلا أو رجلين أو ثلاثة ، جعلت لهذا الواحد ما جعلت للعشرة آلاف ؟ قال : نعم . قال : و تجمع صدقات أهل الحضر و أهل البوادي فتجعلهم فيها سواء ؟ قال : نعم . قال : فقد خالفت النّبيّ صلى اللّه عليه و آله في سيرته ،

فكان يقسّم صدقة أهل البوادي ، في أهل البوادي ، و صدقة أهل الحضر في أهل الحضر ، و لا يقسّمه بينهم بالسّوية ، و إنّما يقسّمه على قدر ما يحضره منهم .

فإن كان في نفسك شي‏ء فالق فقهاء المدينة فإنّهم لا يختلفون في أنّ النّبي صلى اللّه عليه و آله كان كذا يفعل.

ثمّ أقبل عليه السّلام على عمرو فقال له : اتّق اللّه يا عمرو ، و أنتم أيّها الرّهط فاتّقوا اللّه ، فإنّ أبي حدّثني و كان خير أهل الأرض و أعلمهم بكتاب اللّه و سنّة نبيّه صلى اللّه عليه و آله أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال : من ضرب النّاس بسيفه ، و دعاهم إلى نفسه ،

ـــــــــــــــــ

( ١ ) التوبة : ٦٠ .

٥٤٩

و في المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلّف ١ .

و روى الخطيب في ليث بن الفرج عن النّبيّ صلى اللّه عليه و آله قال : ليضربنّ النّاس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة . . . ٢ و مراده صلى اللّه عليه و آله بعالم المدينة الأئمّة من أهل بيته ، و الدّليل عليه قوله صلى اللّه عليه و آله : « عالم المدينة » دون علماء المدينة ، و في كلّ زمان لم يكن أكثر من إمام .

و شاهد عدم اقتفائهم أثر النبي كما ذكره عليه السّلام ما قالوه في أبي الغادية الجهني قاتل عمّار ، قال ابن عبد البرّ في ( استيعابه ) : سمع من النّبيّ صلى اللّه عليه و آله قوله :

لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض . و كان محبّا في عثمان ،

و هو قاتل عمّار بن ياسر . و كان إذا استأذن على معاوية و غيره يقول : قاتل عمّار بالباب و كان يصف قتله له إذا سئل عنه لا يباليه ، و في قصّته عجب عند أهل العلم ، روى عن النّبي صلى اللّه عليه و آله ما ذكرنا أنّه سمعه منه ، ثمّ قتل عمّارا ٣ .

قلت : و أعجب من أمر أبي الغادية أمر جميع هؤلاء المدّعين للدّين ،

و العلم و اليقين ، يجمعون بين القول بجلالة عمّار ، و ولاية عثمان ، فالرّجل و إن اتّبع هواه إلاّ أنّه حمله محبّته لعثمان على ترك قول النّبيّ صلى اللّه عليه و آله سلما من الجمع من التّضاد و القول بالمحال .

و كذلك من قدّم منهم فعل عمر على قول النّبيّ صلى اللّه عليه و آله ، فرأى رجل منهم معاوية على منبر النّبي صلى اللّه عليه و آله يخطب فسلّ سيفه و ذهب إليه ليقتله ، فقيل له : لم ؟

قال : لأنّي سمعت النّبي صلى اللّه عليه و آله يقول : « إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه » ٤ .

فقالوا له : أتدري من ولاّه ؟ قال : لا . قالوا : عمر . قال : سمعا و طاعة لعمر .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي للكليني ٥ : ٢٣ ح ١ ، و الاحتجاج للطبرسي : ٣٦٢ .

( ٢ ) تاريخ بغداد للخطيب ١٣ : ١٦ .

( ٣ ) الاستيعاب ٤ : ١٥١ .

( ٤ ) حديث النّبي صلى اللّه عليه و آله أورده من عدّة طرق الفيروز آبادي في السبعة من السلف : ١٩٩ ٢٠١ .

٥٥٠

و إذا كانوا لا يتّبعون أثر نبيّهم ، فلا غرو أن لا يقتدوا بعمل وصيّه و كونه عليه السّلام وصيّه صلى اللّه عليه و آله و أوّل مؤمن باللّه أمر متواتر ، و حاجّ به ابنه الحسين عليه السّلام يوم الطّف ففي ( الطبري ) قال الحسين عليه السّلام لهم : ألست ابن بنت نبيّكم و ابن وصيّه و ابن عمّه و أوّل المؤمنين باللّه و المصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربّه ؟ ١ .

و مع تواتره أنكرته أمّهم ، روى مسلم و البخاري أنّه ذكر عند عايشة أنّ النّبيّ صلى اللّه عليه و آله أوصى إلى عليّ ، قالت : و متى أوصى ، و من يقول ذلك ؟ قيل : إنّهم يقولون . قالت : من يقوله ؟ لقد دعا بطست ليبول ، و أنّه بين سحري و نحري فمات و ما شعرت ٢ .

فتراها تدّعي موت النّبيّ صلى اللّه عليه و آله مكشوف العورة حين البول لتنكر جعله له وصيّا و يقال لها : و قولك : « متى أوصى أنّه مات بين سحري و نحري » هل يلزم أن تكون الوصاية حين خروج الرّوح حتّى يستلزم ما ادّعيت عدم وصايته ؟ مع أنّ قولها بموت النّبيّ صلى اللّه عليه و آله بين سحرها و نحرها من أكاذيبها و بهتانها ، فكون رأسه صلى اللّه عليه و آله حين موته في حجر أمير المؤمنين عليه السّلام متواتر ٣ ،

و لقد صرّح ابن عبّاس بافتراء عايشة في ادّعائها ذلك ٤ .

و كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول : لو استطاعوا أن ينكروا قرابتي من النّبي صلى اللّه عليه و آله لأنكروها إلاّ أنّهم لا يستطيعون ذلك ٥ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٤ : ٣٢٢ سنة ٦١ ضمن خطبة .

( ٢ ) صحيح البخاري بطريقين ٢ : ١٢٥ و ٣ : ٩٥ ، و صحيح مسلم ٣ : ١٢٥٧ ح ١٩ ، و سنن النسائي ٦ : ٢٤٠ ، و مسند أحمد ٦ : ٣٢ ، و طبقات ابن سعد ٢ ق ٢ : ٤٩ بطريقين .

( ٣ ) مسند أحمد ٦ : ٣٠٠ و خصائص النسائي : ١٣٠ بطريقين ، و أخرجه ابن عساكر بثلاث طرق في ترجمة علي عليه السّلام ٣ : ١٨ ، ١٩ ح ١٠٣٨ ٤٠ ه ١ عن أمّ سلمة ، و روى أيضا عن عائشة و علي عليه السّلام و ابن عباس و غيرهم .

( ٤ ) الطبقات لابن سعد ٢ ق ٢ : ٥١ .

( ٥ ) أخرجه الكليني في الرسائل عنه كشف المحجّة : ١٨٠ ضمن كتاب طويل له عليه السّلام ، و النقل بتصرف .

٥٥١

و أقول : إنّهم و إن لم يستطيعوا أن ينكروا ذلك تصريحا إلاّ أنّهم عبّروا عنه عليه السّلام و عن عترته بما جعلوهم كالأجنبي عنه صلى اللّه عليه و آله ، فقال أبو حمزة الخارجي و الخوارج إحدى الفرق التاركة للوصيّ تبعا للأوّل و الثاني في ذمّ شيعته و شيعة عترته في خطبته : « قد قلّدوا أهل بيت من العرب و زعموا أنّ موالاتهم تغنيهم » .

« و لا يؤمنون بغيب » في ( تفسير القمي ) في قوله تعالى : . . . هدى للمتّقين . الّذين يؤمنون بالغيب . . . ١ أي : بالبعث و النشور و الوعد و الوعيد ٢ .

و روى يحيى بن أبي القاسم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : الغيب هو الحجّة الغائب ٣ .

و شاهد ذلك قوله تعالى : و يقولون لو لا أنزل عليه آية من ربّه فقل إنّما الغيب للّه فانتظروا إنّي معكم من المنتظرين ٤ .

« و لا يعفّون عن عيب » قال ابن أبي الحديد : روي « يعفون » من العفو ،

و « يعفّون » من العفّة ٥ .

قلت : الصواب الثاني ، فإنّ عدم العفو ترك فضل ، و هو عليه السّلام في مقام بيان أنّ كلّ عملهم رذل ، فلا بدّ أن يراد أنّهم لا يكفّون عن الفحص عن العيوب .

و روى محمّد بن يعقوب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : إنّ أبا بكر و عمر أتيا أمّ سلمة فقالا لها : إنّك قد كنت عند رجل قبل النّبي ، فكيف هو من ذلك في

ـــــــــــــــــ

( ١ ) البقرة : ٢ ٣ .

( ٢ ) تفسير القمي ١ : ٣٠ .

( ٣ ) كمال الدين للصدوق : ٣٤٠ ح ٢٠ في ذيل حديث .

( ٤ ) يونس : ٢٠ .

( ٥ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٣٣ .

٥٥٢

الخلوة ؟ فقالت : ما هو إلاّ كسائر الرّجال . ثمّ خرجا عنها ، فقامت إليه مبادرة فرقا أن ينزل أمر من السماء فأخبرته ، فغضب النّبيّ صلى اللّه عليه و آله حتّى تربّد وجهه و التوى عرق الغضب بين عينيه ، و خرج و هو يجرّ رداءه حتى صعد المنبر ،

و بادرت الأنصار بالسّلاح ، و أمر بخيلهم أن تحضر ، فحمد اللّه و أثنى عليه ، ثمّ قال : ما بال أقوام يتّبعون عيبي ؟ و اللّه لأكرمكم حسبا ، و أطهركم مولدا ، لا يسألني أحد منكم عن أبيه إلاّ أخبرته . فقال إليه رجل فقال : من أبي ؟ فقال : فلان الراعي . . . ١ .

« يعملون في الشّبهات » كما قال تعالى : . . . فأمّا الّذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله . . . ٢ .

« و يسيرون في الشّهوات » روى ( الكافي ) أنّه عليه السّلام قال : إنّ الناس آلوا بعد النّبيّ صلى اللّه عليه و آله إلى ثلاثة إلى أن قال : و جاهل مدّع للعلم لا علم له ، معجب بما عنده ، قد فتنته الدّنيا . . . ٣ .

و قال تعالى : . . . أضاعوا الصّلاة و اتّبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّا ٤ .

« المعروف عندهم » و الصواب : ( فيهم ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) ٥ .

« ما عرفوا ، و المنكر عندهم ما أنكروا » عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال النّبي صلى اللّه عليه و آله :

كيف بكم إذا فسدت نساؤكم ، و فسق شبابكم ، و لم تأمروا بالمعروف ،

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي للكليني ٥ : ٥٦٥ ح ٤١ .

( ٢ ) آل عمران : ٧ .

( ٣ ) الكافي للكليني ١ : ٣٣ ح ١ .

( ٤ ) مريم : ٥٩ .

( ٥ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٣٣ ، لكن في شرح ابن ميثم ٢ : ٣٠٥ « عندهم » أيضا .

٥٥٣

و لم تنهوا عن المنكر ؟ فقيل له : و يكون ذلك يا رسول اللّه ؟ قال : نعم ، و شرّ من ذلك ، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر و نهيتم عن المعروف ؟ قيل : يا رسول اللّه و يكون ذلك ؟ قال : نعم ، و شرّ من ذلك ، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا و المنكر معروفا ؟ ١ .

« مفزعهم في المعضلات » أي : المشكلات .

« إلى أنفسهم ، و تعويلهم » أى : اعتمادهم .

« في المهمّات » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( في المبهمات ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطيّة ) ٢ .

« إلى آرائهم » الباطلة ، و نظرياتهم الخاطئة ، و مع أنّهم رأوا فاروقهم يقول مرارا : « معضلة و لا أبا حسن لها » ٣ . حتّى صار كالمثل السائر ، و أقرّ عند وفاته بأنّه عليه السّلام لو ولّيها ليحملنّهم علي المحجّة البيضاء ٤ ، يعرضون عنه و يجعلون أنفسهم في قباله ، بل يسعون في اضمحلال أمره .

« كأنّ كلّ امرى‏ء منهم إمام نفسه » كان عند أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد عليه السّلام جماعة فيهم هشام بن الحكم و هو شاب ، فقال عليه السّلام : ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد و كيف سألته ؟ قال : جعلت فداك ، إنّي أجلّك و لا يعمل لساني بين يديك . فقال عليه السّلام : إذا أمرتكم بشي‏ء فافعلوه . قال هشام : بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد و جلوسه في مسجد البصرة ، و عظم ذلك عليّ ، فخرجت إليه

ـــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه الحميري في قرب الاسناد : ٢٦ عن الصادق عن أبيه عن الباقر عليه السّلام عن النّبيّ صلى اللّه عليه و آله ، و أخرجه رزين في الجمع عنه جامع الاصول ١٠ : ٤١٢ ح ٧٤٨٥ عن عليّ عليه السّلام عن النّبي صلى اللّه عليه و آله .

( ٢ ) لفظ شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٣٣ و شرح ابن ميثم ٢ : ٣٠٥ مثل المصرية أيضا .

( ٣ ) هذا حديث مشهور أخرجه الخوارزمي في مناقبه : ٥١ ، و مقتل الحسين ١ : ٤٥ ، و جمع آخر بفرق بين الألفاظ مرّ تخريجه في شرح فقرة « و الفضائل الجمّة » من خطبة الرضي .

( ٤ ) رواه ابن عساكر بطريقين في ترجمة عليّ عليه السّلام ٣ : ١٠٦ ح ١١٣٦ ، ١١٣٧ و غيره بفرق بين الألفاظ .

٥٥٤

و دخلت البصرة في يوم الجمعة ، فإذا أنا بحلقة كبيرة ، و إذا أنا بعمرو بن عبيد عليه شملة سوداء متّزربها من صوف ، و شملة مرتديا بها ، و الناس يسألونه ،

فاستفرجت النّاس فأفرجوا لي ، ثمّ قعدت في آخر القوم على ركبتي ، ثمّ قلت :

أيّها العالم أنا رجل غريب أتأذن لي أسألك عن مسألة ؟ فقال : نعم . قلت : ألك عين ؟ قال : أي شي‏ء هذا من السؤال ؟ فقلت : هكذا مسألتي . فقال : يا بني سل ،

و إن كانت مسألتك حمقاء . فقلت : أجبني فيها . فقال لي : سل . فقلت : ألك عين ؟

قال : نعم . قلت : فما ترى بها ؟ قال : الألوان و الأشخاص . فقلت : ألك أنف ؟ قال :

نعم . قلت : فما تصنع بها ؟ قال : أشمّ بها الرائحة . قلت : ألك فم ؟ قال : نعم . قلت :

و ما تصنع به ؟ قال : أعرف به طعم الأشياء . قلت : ألك لسان ؟ قال : نعم . قلت : و ما تصنع به ؟ قال : أتكلّم به . قلت : ألك أذن ؟ قال : نعم . قلت : و ما تصنع بها ؟ قال :

أسمع بها الأصوات . قلت : ألك يد ؟ قال : نعم . قلت : و ما تصنع بها ؟ قال : أبطش بها . قلت : ألك قلب ؟ قال : نعم . قلت : و ما تصنع به ؟ قال : أميّز به كلّ ما ورد على هذه الجوارح . قلت : أفليس في هذه الجوارح غنى عن القلب ؟ قال : لا . قلت : و كيف ذلك ، و هي صحيحة سليمة ؟ قال : يا بني إنّ الجوارح إذا شكّكت في شي‏ء شمّمته أو رأته أو ذاقته أو سمعته أو لمسته ردّته إلى القلب فيصحّح اليقين ،

و يبطل الشك . فقلت : إنّما أقام اللّه القلب لشك الجوارح ؟ قال : نعم . قلت : فلا بدّ من القلب ، و إلاّ لم تستقم الجوارح ؟ قال : نعم . فقلت : يا أبا مروان إنّ اللّه تعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها إماما يصحّح الصحيح ، و ييقن ما شك فيه ،

و يترك هذا الخلق كلّهم في حيرتهم و شكّهم و اختلافهم لا يقيم لهم إماما يردّون إليه شكّهم و حيرتهم ؟ قال : فسكت و لم يقل شيئا . ثمّ التفت إليّ ، فقال :

أنت هشام ؟ قلت : لا . قال : أجالسته ؟ قلت : لا . قال : فمن أين أنت ؟ قلت : من الكوفة .

قال : فأنت إذن هو . ثمّ ضمّني إليه و أقعدني في مجلسه ، و ما نطق حتّى قمت .

فضحك أبو عبد اللّه عليه السّلام و قال : من علّمك هذا ؟ فقال : شي‏ء جرى على لساني .

٥٥٥

فقال : هذا و اللّه مكتوب في صحف إبراهيم و موسى ١ .

و قال أبو الحسن الرّفا لابن رامين الفقيه : إنّ النبي صلى اللّه عليه و آله لمّا خرج من المدينة ما استخلف عليها أحدا ؟ قال : بلى ، استخلف عليّا . قال : و كيف لم يقل لأهل المدينة اختاروا فإنّكم لا تجتمعون على الضلال ؟ قال : خاف عليهم الخلف و الفتنة . قال : فلو وقع بينهم فساد لأصلحه عند عودته ؟ قال : هذا أوثق .

قال : أفاستخلف أحدا بعد موته ؟ قال : لا . قال : فموته أعظم من سفره ، فكيف أمن على الأمّة بعد موته ما خافه في سفره و هو حيّ عليهم ؟ فقطعه ٢ .

و سأل بعض الإمامية يحيى بن أكثم عن قول النّبيّ صلى اللّه عليه و آله حيث أخذ بيد علي عليه السّلام و أقامه للنّاس ، فقال : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » ٣ أبأمر من اللّه تعالى ذلك أم برأيه ؟ فسكت عنه ، فقيل له في ذلك ، فقال : إن قلت : برأيه نصبه للناس خالفت قوله تعالى : و ما ينطق عن الهوى ٤ و إن قلت : بأمر اللّه تعالى ثبتت إقامته . قال : فلم خالفوه و اتّخذوا وليّا غيره ٥ .

و قال أبو عليّ المحمودي لأبي الهذيل : أليس من دينك أنّ العصمة و التوفيق لا يكونان لك من اللّه إلاّ بعمل تستحقه به ؟ قال : نعم . قال : فقوله تعالى : . . . اليوم أكملت لكم دينكم . . . ٦ ؟ قال : قد أكمل لنا الدّين . فقال : ما تصنع بمسألة لا تجدها في الكتاب و السنّة ، و قول الصحابة ، و حيلة الفقهاء ؟

قال : هات . قال : خبّرني عن عشيرة كلّهم عنّين و قعوا في طهر واحد بامرأة

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي للكليني ١ : ١٦٩ ح ٣ و الاحتجاج للطبرسي : ٣٦٧ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٥٨ .

( ٣ ) هذا حديث الغدير ، يأتي تخريجه في شرح فقرة « و لهم خصائص » في العنوان ٤ من هذا الفصل.

( ٤ ) النجم : ٣ .

( ٥ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٥٢ ، و السائل هو حمران بن أعين .

( ٦ ) المائدة : ٣ .

٥٥٦

و هم مختلفو العنّة ، فمنهم من وصل إلى بعض حاجته ، و منهم من قارب بحسب الإمكان منه ، أفي خلق اللّه اليوم من يعرف حدّ اللّه في كلّ رجل منهم و مقدار ما ارتكب من الخطيئة فيقيم عليه الحدّ في الدّنيا و يطهّره منه في الآخرة ؟ فأفحم ١ .

« قد أخذ منها بعرى ثقات و أسباب محكمات » الأصل فيه قوله تعالى :

فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن باللّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها . . . ٢ .

٣

من الخطبة ( ١٢٩ ) وَ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اَلْوَالِي عَلَى اَلْفُرُوجِ وَ اَلدِّمَاءِ وَ اَلْمَغَانِمِ وَ اَلْأَحْكَامِ وَ إِمَامَةِ اَلْمُسْلِمِينَ اَلْبَخِيلُ فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ وَ لاَ اَلْجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ وَ لاَ اَلْجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ وَ لاَ اَلْحَائِفُ لِلدُّوَلِ فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ وَ لاَ اَلْمُرْتَشِي فِي اَلْحُكْمِ فَيَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ وَ يَقِفَ بِهَا دُونَ اَلْمَقَاطِعِ وَ لاَ اَلْمُعَطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ اَلْأُمَّةَ أقول : رواه ابن الجوزي في ( مناقبه ) و سمّاه الخطبة المنبريّة ، نقله البحار و في آخره : « و لا المعطّل للسّنن فيؤدّي ذلك إلى الفجور ، و لا الباغي فيدحض الحقّ ، و لا الفاسق فيشين الشّرع » ٣ . و كلامه عليه السّلام هذا دالّ على اشتراط العصمة في الإمام كما عليه الإماميّة ، قال المسعودي : قال أهل الإمامة : نعت الإمام في نفسه أن يكون معصوما من الذنوب ، لأنّه إن لم يكن

ـــــــــــــــــ

( ١ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٤٩ .

( ٢ ) البقرة : ٢٥٦ .

( ٣ ) بحار الأنوار للمجلسي ٧٧ : ٢٩٤ ح ٣ .

٥٥٧
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

معصوما لم يؤمن أن يدخل في ما يدخل فيه غيره من الذّنوب ، فيحتاج إلى أن يقام عليه الحدّ كما يقيمه هو على غيره ، فيحتاج الإمام إلى إمام إلى غير نهاية ،

و لم يؤمن عليه أيضا أن يكون في الباطن فاسقا فاجرا كافرا . و أن يكون أعلم الخليفة ، لأنّه إن لم يكن عالما لم يؤمن عليه أن يقلب شرائع اللّه و أحكامه ،

فيقطع من يجب عليه الحدّ و يحدّ من يجب عليه القطع ، و يضع الأحكام في غير المواضع التي وضعها اللّه تعالى . و أن يكون أشجع الخلق ، لأنّهم يرجعون إليه في الحرب ، فإن جبن و هرب يكون قد باء بغضب من اللّه . و أن يكون أسخى الخلق ، لأنّه خازن المسلمين و أمينهم ، فان لم يكن سخيا تاقت نفسه إلى أموالهم و شرهت إلى ما في أيديهم ، و في ذلك الوعيد الشديد بالنار . و ذكروا خصالا كثيرة ينال بها أعلى درجات الفضل لا يشاركه فيها أحد ، و أنّ ذلك كلّه وجد في عليّ بن أبي طالب و ولده ، في السّبق إلى الايمان و الهجرة و القرابة و الحكم بالعدل و الجهاد في سبيل اللّه و الورع و الزّهد ، و أنّ اللّه قد أخبر عن بواطنهم و موافقتها لظواهرهم بقوله عزّ و جلّ و وصفه لهم في ما صنعوه من الإطعام للمسكين و اليتيم و الأسير ، و إنّ ذلك لوجهه خالصا لا أنّهم أبدوه بألسنتهم فقط ، و أخبر عن أمرهم في المنقلب و حسن الموئل في المحشر ، ثمّ في إخباره عزّ و جلّ عمّا أذهب عنهم من الرّجس و فعل بهم من التطهير . . . ١ .

و قال هشام بن الحكم لمحمّد بن أبي عمير لمّا سأله عن وجه اشتراط عصمة الإمام : إنّ جميع الذنوب لها أربعة أوجه لا خامس لها : الحرص و الحسد و الغضب و الشهوة ، فهذه منفيّة عنه لا يجوز أن يكون حريصا على هذه الدّنيا و هي تحت خاتمه ، لأنّه خازن المسلمين ، فعلى ماذا يحرص ؟ و لا يجوز أن يكون حسودا ، لأنّ الإنسان إنّما يحسد من فوقه ، و ليس فوقه أحد ،

ـــــــــــــــــ

( ١ ) مروج الذهب للمسعودى ٣ : ٢٢٤ .

٥٥٨

فكيف يحسد من هو دونه ؟ و لا يجوز أن يغضب لشي‏ء من أمور الدّنيا إلاّ أن يكون غضبه للّه عزّ و جلّ ، فإنّ اللّه تعالى قد فرض عليه إقامة الحدود و أن لا تأخذه في اللّه لومة لائم ، و لا رأفة في دينه حتّى يقيم حدود اللّه تعالى . و لا يجوز أن يتّبع الشهوات و يؤثر الدّنيا على الآخرة ، لأنّ اللّه عزّ و جلّ حبّب إليه الآخرة كما حبّب إلينا الدّنيا ، فهو ينظر إلى الآخرة كما ننظر إلى الدّنيا ، فهل رأيت أحدا ترك وجها حسنا لوجه قبيح ، و طعاما طيّبا لطعام مرّ ، و ثوبا ليّنا لثوب خشن ،

و نعمة دائمة باقية لدنيا زائلة فانية ؟ ١ « و قد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج و الدّماء و المغانم و الأحكام و إمامة المسلمين البخيل » إنّما قال عليه السّلام : قد علمتم أنّه لا ينبغي ما ذكر مع كون أكثر أصحابه غير مستبصر ، و غير متعبّد بطريقته و طريقة أهل بيته ،

من كون الإمام كالنّبيّ ، إحالة لهم على الفطرة التي فطر الناس عليها ، فقد كانوا قد يقرّون بمقتضى الفطرة اضطرارا ، ففي ( الأغاني ) عن حبيب المهلّبي عن عمر بن شبّة عن خلاّد الأرقط قال : كان الشّراة و المسلمون يتوافقون و يتساءلون بينهم عن أمر الدين و غير ذلك على أمان و سكون ، فتواقف يوما عبيدة بن هلال اليشكري و أبو حزابة التّميمي و هما في الحرب ، فقال عبيدة : يا أبا حزابة إنّي سائلك عن أشياء ، أفتصدّقني في الجواب عنها ؟ قال : نعم ، إن تضمّنت لي مثل ذلك . قال : قد فعلت . قال : سل عمّا بدا لك . قال : ما تقول في أئمّتكم ؟ قال : يبيحون الدّم الحرام و الفرج الحرام . قال : فكيف فعلهم في المال ؟

قال : يجبونه من غير حلّه و ينفقونه في غير حقّه . قال : فكيف فعلهم في اليتيم ؟

قال : يظلمونه ماله و ينيكون أمّه . قال : و يلك يا أبا حزابة ، أفمثل هؤلاء تتّبع ؟

ـــــــــــــــــ

( ١ ) رواه الصدوق في الخصال : ٢١٥ ح ٣٦ باب الأربعة ، و معاني الأخبار : ١٣٣ ح ٣ ، و علل الشرائع : ٢٠٤ ح ٢ و الأمالي : ٥٠٥ ح ٥ المجلس ٩٢ .

٥٥٩

قال : قد أجبت ، فاسمع سؤالي و دع عنك عتابي على رأيي . قال : قل . قال : أيّ الخمر أطيب ، خمر السّهل أم الجبل ؟ قال : ويلك أ تسأل مثلي عن هذا ؟ قال :

أوجبت على نفسك أن تجيب . . . ١ .

و قال المبرّد في ( كامله ) بعد ذكر قتال المهلّب للخوارج من قبل ابن الزّبير و قتل عبد الملك لمصعب بن الزبير : ثمّ أتى الخوارج خبر قتله بمسكن ،

و لم يأتى المهلّب و أصحابه ، فتوافقوا يوما على الخندق ، فناداهم الخوارج ما تقولون في مصعب ؟ قالوا : إمام هدى . قالوا : فما تقولون في عبد الملك ؟ قالوا :

ضالّ مضلّ . فلمّا كان بعد يومين أتى المهلّب قتل مصعب ، و أنّ أهل الشام اجتمعوا على عبد الملك ، و ورد عليه كتاب عبد الملك بولايته ، فلمّا توافقوا ناداهم الخوارج ما تقولون في مصعب ؟ قالوا : لا نخبركم . قالوا : فما تقولون في عبد الملك ؟ قالوا : إمام هدى . قالوا : يا أعداء اللّه ، بالأمس ضالّ مضلّ و اليوم مام هدى يا عبيد الدّنيا عليكم لعنة اللّه . . . ٢ .

فيقال للخوارج : إنّ ما فعله أصحاب المهلّب و إن كان خلاف الفطرة التي فطر النّاس عليها إلاّ أنّه لازم تولّيكم صدّيقكم و فاروقكم ، فأنتم السفهاء حيث تجمعون بين ولايتهما و إنكار مثل ذلك .

و في ( كامل المبرّد ) كتب نافع إلى عبد اللّه بن الزّبير يدعوه إلى أمره : أمّا بعد ، فإنّي أحذّرك من اللّه يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تودّ لو أنّ بينها و بينه أمدا بعيدا و يحذّركم اللّه نفسه . . . ٣ .

إلى أن قال : و قد حضرت عثمان يوم قتل ، فلعمري لئن كان قتل مظلوما فقد

ـــــــــــــــــ

( ١ ) لم أجده في الأغاني .

( ٢ ) الكامل للمبرد ٨ : ٥٢ .

( ٣ ) آل عمران : ٣٠ .

٥٦٠