بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 605

  • البداية
  • السابق
  • 605 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 110264 / تحميل: 5675
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

« و خفضوا أجنحتهم للمؤمنين » و الأصل فيه قوله تعالى : و اخفض جناحك لمن اتّبعك من المؤمنين ١ . و يعبّر في الفارسية عن خفض الجناح بقولهم : « شكسته بالي » .

« و كانوا أقواما مستضعفين » الجملة حال عن المؤمنين ، أي : مع كون المؤمنين قوما مستضعفين خفضوا الجناح لهم ، و كان شرفاء الكفّار يسمّون أولئك المؤمنين بالأنبياء : أراذلهم ، و كانوا متأذين من تقريب الأنبياء لهم ،

و يطلبون منهم طردهم حتّى قال لهم نوح ، كما حكى اللّه تعالى عنه : . . . و ما أنا بطارد الّذين آمنوا إنّهم ملاقوا ربّهم و لكنّي أراكم قوما تجهلون . و يا قوم من ينصرني من اللّه إن طردتهم أفلا تذكّرون . و لا أقول لكم عندي خزائن اللّه و لا أعلم الغيب و لا أقول إنّي ملك و لا أقول للّذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم اللّه خيرا اللّه أعلم بما في أنفسهم إنّي إذن لمن الظالمين ٢ ، و قال تعالى لنبيّنا عليه السّلام : و لا تطرد الّذين يدعون ربّهم بالغداة و العشيّ يريدون وجهه ما عليكم من حسابهم من شي‏ء و ما من حسابك عليهم من شي‏ء فتطردهم فتكون من الظالمين . و كذلك فتنّا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ اللّه عليهم من بيننا أليس اللّه بأعلم بالشّاكرين ٣ .

و في ( أسباب نزول الواحدي ) عن خباب بن الأرت قال : فينا نزلت ( آية و لا تطرد ) كنّا ضعفاء عند النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم بالغداة و العشيّ فعلّمنا القرآن و الخير ،

و كان يخوّفنا بالجنّة و النار و ما ينفعنا و الموت و البعث ، فجاء الأقرع بن حابس التميمي و عيينة بن حصن الفزاري ، فقالا : إنّا من أشراف قومنا ، و إنّا

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الشعراء : ٢١٥ .

( ٢ ) هود : ٢٩ ٣١ .

( ٣ ) الأنعام : ٥٢ ٥٣ .

٦١

نكره أن يرونا معهم فاطردهم إذا جالسناك . قال : نعم . قالوا : لا نرضى حتّى نكتب بيننا كتابا . فأتى بأديم و دواة ، فنزلت هؤلاء الآيات ١ .

عن عكرمة : جاء عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و مطعم بن عدي و الحرث بن نوفل ، في أشراف بني عبد مناف من أهل الكوفة إلى أبي طالب ،

فقالوا : لو أنّ ابن أخيك يطرد عنه موالينا و عبيدنا و عسفاءنا كان أعظم في صدورنا ، و أطوع له عندنا ، و أدنى لاتّباعنا إيّاه و تصديقنا له . فأتى أبو طالب عمّ النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم فحدّثه بالّذي كلّموه . فقال عمر بن الخطّاب : لو فعلت ذلك حتّى ننظر ما الّذي يريدون ، و إلآم يصيرون من قولهم . فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ،

فلمّا نزلت أقبل عمر بن الخطاب يعتذر من مقالته ٢ .

و فيه أيضا في قوله تعالى : و إذا جاءك الّذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم . . . ٣ . قال عكرمة : نزلت في الّذين نهى اللّه عزّ و جلّ نبيّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم عن طردهم ، فكان إذا رآهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم بدأهم بالسّلام ، و قال : الحمد للّه الّذي جعل في أمّتي من أمرني أن أبدأهم بالسّلام ٤ .

« و قد » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( قد ) بدون عاطف ، كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطيّة ) ٥ .

« اختبرهم اللّه » أي : امتحنهم .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه الواحدي في أسباب النزول : ١٤٥ ، و ابن أبي شيبة و أبو يعلى و أبو نعيم في الحلية ، و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عنهم الدرّ المنثور ٣ : ١٣ ، و ابن راهويه ، و البزار في مسنديهما عنهما الكاف الشاف ٢ : ٢٧ عن خباب .

( ٢ ) أخرجه الواحدي في أسباب النزول : ١٤٦ ، و ابن جرير و ابن المنذر عنهما الدرّ المنثور ٣ : ١٣.

( ٣ ) الأنعام : ٥٤ .

( ٤ ) أسباب النزول للواحدي : ١٤٧ .

( ٥ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٣٣ ، لكن توجد ( الواو ) في شرح ابن ميثم ٤ : ٢٦٥ .

٦٢

« بالمخمصة » أي : المجاعة ، و في ( الكافي ) عن الصادق عليه السّلام : دفن ما بين الرّكن اليماني و الحجر الأسود سبعون نبيّا ، أماتهم اللّه جوعا و ضرّا ١ .

« و ابتلاهم بالمجهدة » أي : المشقّة .

« و امتحنهم بالمخاوف » جمع المخوف ، و قال الّذين كفروا لرسلهم لنخرجنّكم من أرضنا أو لتعودنّ في ملّتنا . . . ٢ ، و ما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يستهزئون ٣ .

« و محّصهم » أي : ابتلاهم .

« بالمكاره » جمع المكروه ، قال تعالى : . . . و همّت كلّ أمّة برسولهم ليأخذوه و جادلوا بالباطل ليدحضوا به الحقّ فأخذتهم فكيف كان عقاب ٤ .

« فلا تعتبروا الرضا و السخط » أي : لا تجعلوا معيار رضا اللّه و غضبه .

« بالمال و الولد » فتحكموا بأنّ من كان ذا مال و ولد فإلهه راض عنه ، و من لم يكن فإلهه ساخط عليه .

« جهلا » مفعول له لقوله : « فلا تعتبروا » .

« بمواقع » أي : مواضع .

« الفتنة و الاختبار » أي : الامتحان ، قال تعالى : إنّما أموالكم و أولادكم فتنة . . . ٥ .

« في مواضع الغنى و الاقتدار » هكذا في ( المصرية ) ٦ ، و الصواب :

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي للكليني ٤ : ٢١٤ ح ١٠ .

( ٢ ) إبراهيم : ١٣ .

( ٣ ) الحجر : ١١ .

( ٤ ) غافر : ٥ .

( ٥ ) التغابن : ١٥ .

( ٦ ) في شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٣٣ « الاقتار » ، و شرح ابن ميثم ٤ : ٢٦٥ « الاقتدار » .

٦٣
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

( و الاقتار ) أي : الفقر .

« و قد » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( فقد ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطّية ) ١ .

« قال سبحانه : أيحسبون أنّ ما نمدّهم به من مال و بنين . نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون » و الآية في سورة المؤمنين ، كما أنّ طول العمر ،

و حصول الحوائج أيضا ليسا بدليلين على حسن صاحبهما ، قال تعالى : و لا يحسبنّ الّذين كفروا أنّما نملي لهم خير لأنفسهم إنّما نملي لهم ليزدادوا إثما و لهم عذاب مهين ٢ ، و قال عزّ و جلّ : فلمّا نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كلّ شي‏ء حتّى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ٣ .

« فإنّ اللّه سبحانه يختبر » أي : يمتحن .

« عباده المستكبرين في أنفسهم » أي : عند أنفسهم ، و إن لم يكونوا كبيرين في ميزان الإنسانية .

« بأوليائه المستضعفين في أعينهم » و إن كانوا قويّين من حيث الدّيانة ،

قال تعالى : و كذلك فتنّا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ اللّه عليهم من بيننا أليس اللّه بأعلم بالشّاكرين ٤ .

قال القمّي في ( تفسيره ) : كان بالمدينة قوم فقراء مؤمنون يسمّون أصحاب الصفّة ، و كان النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم أمرهم أن يكونوا في صفّة يأوون إليها ،

و كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم يتعاهدم بنفسه ، و ربما حمل إليهم ما يأكلون ، و كانوا يختلفون إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم فيقرّبهم و يقعد معهم و يؤنسهم ، و كان إذا جاء

ـــــــــــــــــ

( ١ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٣٣ ، لكن في شرح ابن ميثم ٤ : ٢٦٥ « و قد » أيضا .

( ٢ ) آل عمران : ١٧٨ .

( ٣ ) الأنعام : ٤٤ .

( ٤ ) الأنعام : ٥٣ .

٦٤

الأغنياء و المترفون من أصحابه أنكروا عليه ذلك ، و يقولون له : اطردهم عنك .

فجاء يوما رجل من الأنصار إلى النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم ، و عنده رجل من أصحاب الصفّة قد لزق بالنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم ، و النبيّ يحدّثه ، فقعد الأنصاري بالبعد منهما . فقال له النبيّ صلى اللّه عليه و آله : تقدّم . فلم يفعل ، فقال له النبيّ صلى اللّه عليه و آله : لعلّك خفت أن يلزق فقره بك . . . ١ و فيه : أنّه كان ابن أمّ مكتوم مؤذّن النبي صلى اللّه عليه و آله و كان أعمى ، فجاء إليه و عنده أصحابه ، و عثمان عنده ، فقدّمه النبيّ صلى اللّه عليه و آله على عثمان ، فعبس عثمان وجهه ، و تولّى عنه فأنزل اللّه تعالى : عبس و تولّى . ان جاءه الأعمى ٢ .

و عن ( تفسير العياشي ) عن الأصبغ بن نباتة قال : بينما عليّ عليه السّلام يخطب يوم الجمعة على المنبر ، فجاء الأشعث بن قيس يتخطى رقاب الناس ، فقال : يا أمير المؤمنين : حالت هؤلاء بيني و بين وجهك . قال : فقال علي عليه السّلام : ما لي و ما للضياطرة ، أطرد قوما غدوا أوّل النهار يطلبون رزق اللّه ، و آخر النهار ذكروا اللّه ، أفأطردهم فأكون من الظالمين ٣ ؟

« و لقد دخل موسى بن عمران و معه أخوه هارون عليهما السلام على فرعون » ( في تفسير القمي ) عن محمّد بن مسلم قلت لأبي جعفر عليه السّلام : كان هارون أخا موسى لأبيه و أمّه ؟ قال : نعم ، أما تسمع اللّه تعالى يقول : . . يابن أدم لا تأخذ بلحيتي و لا برأسي . . . ٤ . فقلت : فأيّهما كان أكبر سنّا ؟ قال : هارون . قلت :

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تفسير القمي ١ : ٢٠٢ .

( ٢ ) رواه القمي في تفسيره ٢ : ٤٠٤ ، و روى نحوه المرتضى في تنزيه الأنبياء : ١١٩ ، و الطوسي في التبيان ١٠ : ٢٦٩ ،

لكن عبارة المرتضى « رجل من الأصحاب » ، و الطوسي « رجل من بني أميّة » ، و الروايات الثلاث مجردة من السند ، و الآيتان ( ١ ٢ ) من سورة عبس .

( ٣ ) تفسير العياشي ١ : ٣٦٠ ح ٢٦ ، و في الأصل « حالت الحمد بيني » .

( ٤ ) طه : ٩٤ .

٦٥

فكان الوحي ينزل عليهما جميعا . قال : الوحي ينزل على موسى ، و موسى يوحيه إلى هارون . فقلت له : اخبرني عن الأحكام و القضاء ، و الأمر و النهي ،

أكان ذلك إليهما ؟ قال : كان موسى الّذي يناجي ربّه ، و هارون يكتب العلم ،

و يقضي بين بني إسرائيل ، و يخلفه إذا غاب من قومه للمناجاة . قلت : فأيّهما مات قبل صاحبه ؟ قال : مات هارون قبل موسى عليهما السّلام ، و ماتا جميعا في التيه .

قلت : فكان لموسى عليه السّلام ولد ؟ قال : لا ، كان الولد لهارون ، و الذريّة له . . . ١ و فيه أيضا عن الصادق عليه السّلام : لمّا بعث اللّه تعالى موسى إلى فرعون ، أتى بابه فاستأذن عليه ، فلم يؤذن له ، فضرب بعصاه الباب ، فاصطكّت الأبواب ففتحت ، ثمّ دخل على فرعون ، فأخبره أنّه رسول ربّ العالمين و سأله أن يرسل معه بني إسرائيل ٢ .

« و عليهما مدارع الصوف » في ( الكافي ) عن الحسين بن كثير الخزّاز : رأيت أبا عبد اللّه عليه السّلام ، و عليه قميص غليظ خشن تحت ثيابه ، و فوقها جبّة صوف ،

و فوقها قميص غليظ ، فمسستها ، فقلت : جعلت فداك ، إنّ الناس يكرهون لباس الصوف . فقال : كلاّ ، كان أبي محمّد بن علي عليه السّلام يلبسها ، و كان عليّ بن الحسين عليه السّلام يلبسها ، و كانوا يلبسون أغلظ ثيابهم إذا قاموا إلى الصلاة ،

و نحن نفعل ذلك ٣ .

« و بأيديهما العصيّ » في ( غيبة النعماني ) عن الصادق عليه السّلام : عصا موسى عليه السّلام قضيب آس من غرس الجنّة ، أتاه بها جبرائيل لمّا توجّه تلقاء مدين ، و هي و تابوت آدم في بحيرة طبرية ، و لن يبليا ، و لن يتغيّرا حتّى

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تفسير القمي ٢ : ١٣٦ ، و في بعض النسخ : « كان موسى الذي يناجي ربّه و يكتب العلم و يقضي بين بني إسرائيل ، و هارون يخلفه إذا غاب » .

( ٢ ) تفسير القمي ٢ : ١١٨ .

( ٣ ) الكافي للكليني ٦ : ٤٥٠ ح ٤ ، و قريبا منه روى الراوندي في الدعوات عنه البحار ٤٦ : ١٠٨ ح ١٠٤ .

٦٦

يخرجهما القائم عليه السّلام إذا قام ١ .

و في ( المناقب ) و سأل ابن الكوا أمير المؤمنين عليه السّلام عن شي‏ء شرب و هو حيّ ، و أكل و هو ميّت ؟ فقال عليه السّلام : ذلك عصا موسى شربت و هي في شجرتها غضّة ، و أكلت لمّا التقفت حبال السحرة و عصيّهم ٢ .

و في ( الخصال ) : عنه عليه السّلام : سأله الشامي عن ستّة لم يركضوا في رحم .

فقال عليه السّلام : آدم و حواء و كبش إبراهيم عليه السّلام ، و عصا موسى عليه السّلام ، و ناقة صالح ،

و الخفاش الّذي عمله عيسى بن مريم عليه السّلام ، فطار بإذن اللّه ٣ .

« فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه و دوام عزّه » اذهبا إلى فرعون إنّه طغى .

فقولا له قولا ليّنا لعلّه يتذكّر أو يخشى ٤ .

« فقال : ألا تعجبون من هذين » قالوا الإشارة في مثله للتحقير .

« يشرطان لي دوام العزّ و بقاء الملك و هما بما ترون من حال الفقر و الذلّ » ثمّ أرسلنا موسى و أخاه هارون بآياتنا و سلطان مبين . إلى فرعون و ملئه فاستكبروا و كانوا قوما عالين . فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا و قومهما لنا عابدون . فكذّبوهما فكانوا من المهلكين ٥ .

« فهلاّ ألقي عليهما أساور » في ( الصحاح ) : السوار : سوار المرأة ، و الجمع :

أسورة ، و جمع الجمع : أساورة ، و قرى‏ء فلو لا ألقي عليه أساورة من ذهب . . . ٦ و قد يكون جمع أساور كقوله تعالى : . . . يحلّون فيها من أساور

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الغيبة للنعماني : ١٥٧ .

( ٢ ) المناقب لابن شهر آشوب ٢ : ٣٨٣ .

( ٣ ) الخصال للصدوق : ٣٢٢ ح ٨ .

( ٤ ) طه : ٤٣ ٤٤ .

( ٥ ) المؤمنون : ٤٥ ٤٨ .

( ٦ ) الزخرف : ٥٣ .

٦٧

من ذهب ١ و قال أبو عمرو بن العلاء : واحدها إسوار ٢ .

« من ذهب إعظاما للذهب و جمعه » و ورد أنّ أوّل ما ضربت السكّة على الذهب قبّله الشّيطان ، و قال : كم أضلّ بك ٣ .

« و احتقارا للصوف و لبسه » قال ابن أبي الحديد في الخبر : إنّ أوّل لباس لبسه آدم لمّا هبط إلى الأرض صوف كبش قيّضه اللّه له ، و أمره أن يذبحه ،

فيأكل لحمه و يلبس صوفه ، و لأنّه أهبط عريانا من الجنّة فذبحه ، و غزلت حواء صوفه ، فلبس آدم منه ثوبا ، و ألبس حواء ثوبا آخر ، فلذلك صار شعار الأولياء ،

و انتسبت إليه الصوفية ٤ .

قلت : أمّا ما قاله من انتساب الصوفية إليه ، فقد قيل بالفارسية :

نقد صوفى نه همه صافى و بيغش باشد

اى بسا خرقه كه مستوجب آتش باشد

« و لو أراد اللّه سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان » الذهبان : جمع الذهب ، و نقل الكلام « و لو أراد سبحانه . . . » ( حجّ الكافي ) في باب ابتلاء الخلق بالكعبة مع اختلاف يسير قائلا : و روي أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال في خطبة له : و لو أراد اللّه جلّ ثناؤه بأنبيائه . . . ٥ « و معادن العقيان » قيل : العقيان هو ذهب ينبت ، و لا يحصل من الحجارة .

« و مغارس الجنان » قيل : إنّه إشارة إلى ما اقترحه الكفّار في نبيّنا صلى اللّه عليه و آله

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكهف : ٣١ .

( ٢ ) صحاح اللغة ٢ : ٦٩٠ مادة ( سور ) .

( ٣ ) أخرج هذا المعنى الصدوق في أماليه : ١٦٨ ح ١٤ المجلس ٣٦ ، و رواه الفتال في الروضة ٢ : ٤٢٨ .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٣٤ .

( ٥ ) الكافي للكليني ٤ : ١٩٨ ح ٢ .

٦٨

بقولهم : أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنّة يأكل منّها . . . ١ .

« و أن يحشر معهم طير السماء ، و وحوش الأرض » و في اقتراح الكفّار بدله . . . لو لا أنزل عليه ملك . . . ٢ .

« لفعل » لقدرته على كلّ شي‏ء ، لكنّه تعالى لا يفعل ما ليس بحكمة ، و لو أتّبع الحقّ أهواءهم لفسدت السماوات و الأرض . . . ٣ . كما أنّ السّلاطين لا يفعلون إلاّ ما تقتضيه السياسة لا ما تهواه السوقة ، و قد أشار عليه السّلام إلى مفاسد فتح ما ذكر لهم ، و حشر ما سطر معهم بقوله :

« و لو فعل لسقط البلاء » اللام فيه للعهد الذكرى ، أي : بالبلاء و الابتلاء المفهوم من قوله عليه السّلام قبل « فإنّ اللّه سبحانه يختبر عباده المستكبرين . . . » .

« و بطل الجزاء » اللام فيه للعهد الذهني ، أي : الجزاء المعهود في الشرائع للمطيعين و العاصين .

« و اضمحلّت الأنباء » و في ( الكافي ) : « و اضمحل الابتلاء » ٤ .

قال ابن أبي الحديد : الأنباء جمع نبأ ، و هو الخبر ، أي : لسقط الوعد و الوعيد و بطلان ٥ .

قلت : و يحتمل أن يكون الإنباء بكسر الهمزة : مصدر أنبأ ، و المراد إرسال الأنبياء بكون الصّواب ما في ( الكافي ) بلفظ : و اضمحلّ .

« و لما » بتخفيف الميم ، و لأنّه لام الابتداء و ما النافية .

« وجب للقابلين » أي : قابلي نبوّة الأنبياء .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الفرقان : ٨ .

( ٢ ) الأنعام : ٨ .

( ٣ ) المؤمنون : ٧١ .

( ٤ ) الكافي ٤ : ١٩٨ ح ٢ ، و في بعض النسخ « الأنباء » .

( ٥ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٣٤ .

٦٩

« أجور المبتلين » بفتح اللام : جمع المبتلى ، أي : الممتحنين .

« و لا استحق المؤمنون ثواب المحسنين » و في ( الكافي ) : و لا لحق المؤمنين ثواب المحسنين ١ . و إنّما كانوا غير مستحقين لثواب لأنّهم في إيمانهم ما فعلوا شيئا ، فالمنافقون أيضا يؤمنون بنبيّ كذلك .

« و لا لزمت الأسماء معانيها » و في ( الكافي ) هكذا : و لا لزمت الأسماء أهاليها على معنى مبين ، و لذلك لو أنزل اللّه من السماء آية فظلّت أعناقهم لها خاضعين ٢ ، و لو فعل لسقط البلوى عن النّاس أجمعين ٣ .

قال ابن ميثم : روي بنصب الأسماء ، و في نسخة الرضي رحمه اللّه برفع الأسماء ، و المعنى : أنّه لم تكن المعاني لازمة للأسماء في من سمّي بها ، مثلا من سمّي مؤمنا لا يكون معنى الايمان الحقّ لازما لاسمه فيه ، إذ كان إيمانه بلسانه فقط عن رغبة أو رهبة ٤ .

و قال ابن أبي الحديد : أي من سمّي مؤمنا ليس بمؤمن إيمانا من فعله ،

بل يكون ملجأ إلى الإيمان بما يشاهده من الآيات العظيمة ٥ .

و ما ذكره ابن أبي الحديد أقرب ، و يشهد له زيادة ( الكافي ) المتقدمة ،

فيكون المراد أنّه لو كان الأمر كذلك لصار الناس جميعهم في الدّنيا مؤمنين كأهل الآخرة ، حيث يرون آيات اللّه عيانا ، فلا يكون لهم مجال للانكار ، كما لا يكون لأحد مع وجود الشمس مجال لإنكار النهار .

« و لكنّ اللّه سبحانه جعل رسله أولي قوّة في عزائمهم » و كون أولي العزم

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي ٤ : ١٩٨ ح ٢ .

( ٢ ) الشعراء : ٤ .

( ٣ ) الكافي ٤ : ١٩٨ ح ٢ .

( ٤ ) شرح ابن ميثم ٤ : ٢٧٥ و نقل بتصرف .

( ٥ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٣٤ و النقل بالمعنى .

٧٠

من الرّسل منحصرا بخمسة : نوح ، و إبراهيم ، و موسى ، و عيسى ، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و عليهم لا ينافي كلامه عليه السّلام في كون كلّهم أولى قوّة في عزائمهم ، لأنّ جميعهم كانوا أولي عزم في دعوة الناس إلى ربّهم ، و أولئك كانوا أولي عزم خاص في ذلك ، بحيث كانت أوقاتهم مستغرقة في الدعوة .

قال نوح : . . . ربّ إنّي دعوت قومي ليلا و نهارا ١ .

و روى ( الكافي ) عن الصّادق عليه السّلام : أنّهم صاروا أولي العزم لأنّ نوحا بعث بكتاب و شريعته ، و كلّ من جاء بعد نوح أخذ بكتاب نوح و شريعته و منهاجه ، حتّى جاء إبراهيم عليه السّلام بالصحف و بعزيمة ترك كتاب نوح لا كفرا به ، فكلّ نبيّ جاء بعد إبراهيم عليه السّلام أخذ بشريعته إبراهيم و منهاجه و بالصحف ،

حتّى جاء موسى عليه السّلام بالتّوارة و شريعته و منهاجه و بعزيمة ترك الصحف ،

و كلّ نبيّ جاء بعد موسى عليه السّلام أخذ بالتوراة و شريعته و منهاجه ، حتّى جاء المسيح عليه السّلام بالانجيل و بعزيمة ترك شريعة موسى و منهاجه ، فكلّ نبيّ جاء بعد المسيح عليه السّلام أخذ بشريعته و منهاجه ، حتّى جاء محمّد صلى اللّه عليه و آله فجاء بالقرآن و بشريعته و منهاجه ، فحلاله حلال إلى يوم القيامة ، و حرامه حرام إلى يوم القيامة ، فهؤلاء أولو العزم من الرّسل ٢ .

و في ( تفسير القمي ) : معنى أولي العزم أنّهم سبقوا الأنبياء إلى الإقرار باللّه ، و الإقرار بكلّ نبيّ كان قبلهم و بعدهم ، و عزموا على الصبر على التكذيب و الأذى ٣ .

و توهم الخوئي المنافاة بين كلامه عليه السّلام و كون أولي العزم خمسة ،

ـــــــــــــــــ

( ١ ) نوح : ٥ .

( ٢ ) الكافي للكليني ٢ : ١٧ ح ٢ ، و البرقي في المحاسن : ٢٦٩ ح ٣٥٨ عن الصادق عليه السّلام و قريبا منه أخرجه الصدوق في عيون الأخبار ٢ : ٧٩ ح ١٣ ، و علل الشرائع : ١٢٢ ح ٢ عن الرضا عليه السّلام .

( ٣ ) تفسير القمي ٢ : ٣٠٠ .

٧١

فقال : قال بعض المفسّرين في قوله تعالى : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرّسل . . . ١ : إنّ ( من ) للتبيين لا للتبعيض ، و إن كلّ الرسل أولو العزم ٢ .

و هو كما ترى كخرق الإجماع ، و كيف كان فيشهد لقوله عليه السّلام من كون جميعهم أولي قوّة في عزائمهم أنّ يوسف عليه السّلام في السّجن كان يدعو الناس إليه تعالى ، فقال لصاحبي سجنه : . . . أ أرباب متفرّقون خير أم اللّه الواحد القهّار . ما تعبدون من دونه إلاّ أسماء سمّيتموها أنتم و آباؤكم ما أنزل اللّه بها من سلطان . . . ٣ . و أنّ يعقوب عليه السّلام حتّى في احتضاره كان يدعو إليه تعالى ،

قال سبحانه : أم كنتم شهداء إذا حضرت يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك و إله آبائك إبراهيم و إسماعيل و إسحاق إلها واحدا و نحن له مسلمون ٤ .

« و ضعفة في ما ترى الأعين من حالاتهم » قال تعالى حكاية عن قوم شعيب له : . . . ما نفقه كثيرا ممّا تقول و إنّا لنراك فينا ضعيفا . . . ٥ .

« مع قناعة تملأ القلوب و العيون غنى » أصل الغنى غنى القلب و العين ،

و ليس غناهما إلاّ بالقناعة ، و أمّا الحريص فقلبه و عينه مشحونان من الفقر ،

و إن كان ذا ثروة و وفرة ، قال سليمان عليه السّلام لرسل بلقيس ملكة اليمن : . . . بل أنتم بهديّتكم تفرحون ٦ .

و لمّا قالت قريش للنبيّ صلى اللّه عليه و آله : دع دعوتك نغنيك و نملّك علينا . قال لهم :

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الأحقاف : ٣٥ .

( ٢ ) شرح الخوئي ٥ : ٢٦١ ، و الظاهر أن مراده ببعض المفسرين : الطبرسي في مجمع البيان ٩ : ٩٤ .

( ٣ ) يوسف : ٣٩ ٤٠ .

( ٤ ) البقرة : ١٣٣ .

( ٥ ) هود : ٩١ .

( ٦ ) النمل : ٣٦ .

٧٢

لو كنتم تقدرون على أن تجعلوا الشّمس في يميني ، و القمر في شمالي ما تركت طريقتي ١ .

هذا ، و في ( تفسير القمي ) في غزوة الخندق : فبينا المهاجرون و الأنصار يحفرون إذ عرض لهم جبل لم تعمل المعاول فيه ، فبعثوا جابر بن عبد اللّه الأنصاري إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله يعلمه بذلك ، قال جابر : فجئت إلى المسجد و النبيّ صلى اللّه عليه و آله مستلق على قفاه ، و رداؤه تحت رأسه ، و قد شدّ على بطنه حجرا . . .

فعلمت أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله مقو أي : جائع لما رأيت على بطنه الحجر . فقلت : يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله هل لك في الغذاء . قال : ما عندك يا جابر ؟ فقلت : عناق و صاع من شعير . فقال : تقدم و أصلح ما عندك . قال : فجئت إلى أهلي فأمرتها فطحنت الشعير ، و ذبحت العنز و سلختها ، و أمرتها أن تختبز و تطبخ و تشوي ، فلمّا فرغت من ذلك جئت إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله فقلت : بأبي أنت و أمّي يا رسول اللّه قد فرغنا فاحضر مع من أحببت . فقام إلى شفير الخندق ثمّ قال : معاشر المهاجرين و الأنصار ، أجيبوا جابرا . قال جابر : و كان في الخندق سبعمائة رجل ، فخرجوا كلّهم ثمّ لم يمرّ بأحد من المهاجرين و الأنصار إلاّ قال : أجيبوا جابرا . قال جابر : فتقدّمت و قلت لأهلي : و اللّه قد أتاك النبي صلى اللّه عليه و آله بما لا قبل لك به .

فقالت : أعلمته أنت بما عندنا ؟ قال : نعم . قالت : هو أعلم بما أتي .

قال جابر : فدخل النبي صلى اللّه عليه و آله فنظر في القدر ، ثمّ قال : اغرفي و أبقي . ثمّ نظر في التنور ، ثمّ قال : اخرجي و أبقي . ثمّ دعا بصحنة فثرد فيها و غرف . فقال :

يا جابر أدخل عليّ عشرة . فأدخلت عشرة . فأكلوا حتّى نهلوا ، و ما يرى في القصعة إلاّ آثار أصابعهم . . . قال جابر : فقلت : يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله كم للشاة من ذراع قال : ذراعان . فقلت : و الّذي بعثك بالحقّ نبيّا لقد أتيتك بثلاثة . فقال : أما لو

ـــــــــــــــــ

( ١ ) نقله ابن هشام في السيرة ١ : ٢٤٠ ، و الطبري في تاريخه ٢ : ٦٧ ، و ابن شهر آشوب في المناقب ١ : ٥٨ .

٧٣

سكّت يا جابر لأكل النّاس كلّهم من الذراع . قال جابر : فأقبلت أدخل عشرة عشرة ، فدخلوا يأكلون حتّى أكلوا كلّهم ، و بقي و اللّه لنا من ذلك الطعام ما عشنا به أيّاما ١ .

« و خصاصة » أي : فقر .

« تملأ الأبصار » برؤيتها .

« و الأسماع » بسماعها .

« أذى » ورثى قلبه لهم .

« و لو كانت الأنبياء أهل قوّة لا ترام » من رام يروم ، أي : طلب .

« و عزّة لا تضام » من الضّيم بمعنى : الاستذلال .

« و ملك تمتدّ نحوه أعناق الرّجال » كناية عن الرغبة الشديدة ، فمن اشتاق إلى شي‏ء شديدا يمدّ عنقه نحوه ليراه كاملا .

« و تشدّ إليه عقد الرّحال » الرحل للبعير كالسرج للدابّة ، و هو أيضا كناية عن غاية الشوق ، حتّى يحمل صاحبه على الشخوص نحو المطلوب إلى مسافة بعيدة .

« لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار » و في ( الكافي ) « في الاختبار » ٢ و هو الأصح كما لا يخفى .

« و أبعد لهم في الاستكبار » و قالوا لو لا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ٣ . و كانوا يقولون : كيف نتّبع يتيم أبي طالب .

« و لآمنوا عن رهبة قاهرة لهم » كإيمان أبي سفيان و معاوية ، و كثير من

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تفسير القمّي ٢ : ١٧٨ .

( ٢ ) الكافي ٤ : ١٩٩ ح ٢ .

( ٣ ) الزخرف : ٣١ .

٧٤

أهل مكّة بعد فتح النبي صلى اللّه عليه و آله لها ، فآمنوا ظاهرا ليحقنوا به دماءهم ، و قال عليه السّلام في معاوية و أصحابه : ما أسلموا ، و لكن استسلموا و أسرّوا الكفر ، فلمّا و جدوا أعوانا عليه أظهروه ١ .

« أو رغبة مائلة بهم » روى الطبري عن هشام عن عوانة عن لبطة بن الفرزدق عن أبيه و ذكر لقاءه الحسين عليه السّلام في الحرم لمّا أراد الكوفة خارجا من مكّة ، و سؤاله عن أشياء من نذور و مناسك قال الفرزدق : ثمّ مضيت فإذا بفسطاط مضروب في الحرم ، و هيئته حسنة ، فأتيته فإذا هو لعبد اللّه بن عمرو بن العاص ، فسألني ، فأخبرته بلقاء الحسين بن علي عليهما السّلام ، فقال لي : و يلك فهلاّ أتّبعته ، فو اللّه ليملكنّ و لا يجوز السلاح فيه ، و لا في أصحابه قال : فهممت و اللّه أن ألحق به ، و وقع في قلبي مقالته ، ثمّ ذكرت الأنبياء و قتلهم ، فصدّني ذلك عن اللّحاق بهم ٢ .

قلت : كان عبد اللّه بن عمرو سمع من أخبار الملاحم شيئا ، و الظاهر أنّه سمع أنّ الحسين عليه السّلام و أصحابه لا يجدون ألم السّلاح ، كما ورد في خبر آخر ،

لشدّة شوقهم ، فوهم و بدّله بعدم جواز السلاح و أثره فيهم .

و روى الطبري أيضا عن أبي مخنف ، عن أبي عليّ الأنصاري ، عن بكر بن مصعب المزني ، قال : كان الحسين عليه السّلام لا يمرّ أهل ماء إلاّ اتّبعوه ، حتّى انتهى إلى زبالة سقط إليه مقتل أخيه من الرضاعة ، فأخرج للناس كتابا فقرأ عليهم : « أمّا بعد فإنّه قد أتانا خبر فظيع : قتل مسلم بن عقيل ، و هانى‏ء بن عروة ، و عبد اللّه بن بقطر ، و قد خذلتنا شيعتنا . فمن أحبّ منكم الانصراف ، فلينصرف ليس عليه منّا ذمام » فتفرّق النّاس عنه تفرّقا ، فأخذوا يمينا و شمالا حتّى بقي

ـــــــــــــــــ

( ١ ) نهج البلاغة للشريف الرضي ٣ : ١٦ الكتاب ١٦ .

( ٢ ) تاريخ الطبري ٤ : ٢٩٠ سنة ٦٠ .

٧٥

في أصحابه الّذين جاؤوا معه من المدينة ، و إنّما فعل ذلك لأنّه ظنّ أنّما اتّبعه الأعراب ، لأنّهم ظنّوا أنّه يأتي بلدا قد استقامت له طاعة أهله ، فكره أن يسيروا معه إلاّ و هم يعلمون علام يقدمون ، و قد علم أنّهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلاّ من يريد مواساته و الموت معه ١ .

« فكانت النيّات مشتركة و الحسنات مقتسمة » قال ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخوئي ٢ : أي تكون النيّات حينئذ مشتركة بين تعالى و بين ما يأملونه من الشهوات و الحسنات ، و مقتسمة بينه تعالى ، و بين تلك الشهوات ، غير خالصة من هوى الأنفس .

قلت : بل المراد أنّ النيّات تصير حينئذ مشتركة بين الموحّد و الملحد ،

و الحسنات مقتسمة بين الصالح و الطالح .

« و لكنّ اللّه سبحانه أراد أن يكون الاتّباع لرسله » الظرف لغو ، و كذلك في الفقرات الأربع بعده .

« و التّصديق لكتبه » الصحف ، و التّوراة ، و الإنجيل ، و الزبور ، و القرآن .

« و الخشوع لوجهه » أي : لذاته .

« و الاستكانة » أي : الخضوع و المسكنة .

« لأمره » التكليفي .

« و الاستسلام » أي : الانقياد .

« لطاعته أمورا له » تعالى .

« خاصّة لا يشوبها » أي : لا يختلطها .

« من غيرها شائبة » و الأصل فيها قذر يشرب و يختلط بشي‏ء طيب ، قال

ـــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٤ : ٣٠٠ سنة ٦٠ و النقل بتقطيع .

( ٢ ) هذا المعنى قاله ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ٢٣٥ ، و ابن ميثم في شرحه ٤ : ٢٧٧ ، و الخوئي في شرحه ٥ : ٢٦١ .

٧٦

تعالى : . . . فمن كان يرجو لقاء ربّه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربّه أحدا ١ .

و عن النبي صلى اللّه عليه و آله : أنّ الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجا به ، فإذا صعد بحسناته يقول اللّه تعالى : اجعلوها في سجّين ، إنّه ليس إيّاي أراد بها ٢ .

و عن الصادق عليه السّلام قال اللّه عزّ و جلّ : أنا خير شريك ، من أشرك معي غيري في عمله لم أقبله إلاّ ما كان لي خالصا ٣ .

٧

من الخطبة ( ١٥٨ ) وَ إِنْ شِئْتُ ثَنَّيْتُ ؟ بِمُوسَى كَلِيمِ اَللَّهِ ص ؟ إِذْ يَقُولُ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ٢٨ : ٢٤ ٤ وَ اَللَّهِ مَا سَأَلَهُ إِلاَّ خُبْزاً يَأْكُلُهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ بَقْلَةَ اَلْأَرْضِ وَ لَقَدْ كَانَتْ خُضْرَةُ اَلْبَقْلِ تُرَى مِنْ شَفِيفِ صِفَاقِ بَطْنِهِ لِهُزَالِهِ وَ تَشَذُّبِ لَحْمِهِ . وَ إِنْ شِئْتُ ثَلَّثْتُ ؟ بِدَاوُدَ ص ؟ صَاحِبِ اَلْمَزَامِيرِ وَ قَارِئِ أَهْلِ اَلْجَنَّةِ فَلَقَدْ كَانَ يَعْمَلُ سَفَائِفَ اَلْخُوصِ بِيَدِهِ وَ يَقُولُ لِجُلَسَائِهِ أَيُّكُمْ يَكْفِينِي بَيْعَهَا وَ يَأْكُلُ قُرْصَ اَلشَّعِيرِ مِنْ ثَمَنِهَا وَ إِنْ شِئْتُ قُلْتُ فِي ؟ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ ع ؟ فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ اَلْحَجَرَ وَ يَلْبَسُ اَلْخَشِنَ وَ كَانَ إِدَامُهُ اَلْجُوعَ وَ سِرَاجُهُ بِاللَّيْلِ اَلْقَمَرَ وَ ظِلاَلُهُ فِي اَلشِّتَاءِ مَشَارِقَ اَلْأَرْضِ وَ مَغَارِبَهَا وَ فَاكِهَتُهُ وَ رَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكهف : ١١٠ .

( ٢ ) الكافي للكليني ٢ : ٢٩٤ ح ٧ ، و ابن الأشعث في الأشعثيات : ١٦٣ .

( ٣ ) الكافي للكليني ٢ : ٢٩٥ ح ٩ ، و الأهوازي في الزهد : ٦٣ ، و البرقي في المحاسن : ٢٥٢ ، و تفسير العياشي ٢ : ٣٥٣ ح ٩٤ ، و رواه الطبرسي في مشكاة الأنوار : ١١ ، و ابن فهد في عدّة الداعي و صاحب فقه الرضا فيه عنهما المستدرك ١ : ١٠ ح ٥ ، ٧ .

( ٤ ) القصص : ٢٤ .

٧٧

اَلْأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ وَ لاَ وَلَدٌ يَحْزُنُهُ وَ لاَ مَالٌ يَلْفِتُهُ وَ لاَ طَمَعٌ يُذِلُّهُ دَابَّتُهُ رِجْلاَهُ وَ خَادِمُهُ يَدَاهُ « و إن شئت ثنّيت » أي : جعلت دليلا ثانيا في ذمّ الدّنيا و عيبها ، و كثرة مخازيها و مساويها .

« بموسى كليم اللّه صلى اللّه عليه و آله » و الدّليل الأوّل : عمل الدّنيا مع نبيّنا صلى اللّه عليه و آله ، إذ قبضت عنه أطرافها ، و وطئت لغيره أكنافها ، كما يأتي في فصل النبوّة الخاصّة ، و كون موسى عليه السّلام كليم اللّه ممّا نطق به القرآن ، قال عزّ و جلّ . . . و كلّم اللّه موسى تكليما ١ ، و عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم : أنّ اللّه تعالى ناجى موسى بن عمران بمائة كلمة ، و أربعة و عشرين ألف كلمة ، في ثلاثه أيّام و لياليهنّ ، ما طعم فيها موسى و لا شرب فيها ، فلمّا انصرف إلى بني إسرائيل و سمع كلامهم مقتهم ، لما كان وقع في مسامعه من حلاوة كلام اللّه تعالى ٢ .

و روى ( العلل ) عن الصادق عليه السّلام : أوحى اللّه تعالى إلى موسى ، أتدري لم اصطفيتك لكلامي دون خلقي ؟ فقال موسى : لا ياربّ . فقال يا موسى : إنّي قلّبت عبادي ظهرا لبطن ، فلم أجد فيهم أحدا أذلّ لي منك نفسا . يا موسى إنّك إذا صلّيت وضعت خدّيك على التّراب ٣ . و كان موسى عليه السّلام إذا صلّى لم ينفتل حتّى يلصق خدّه الأيمن بالأرض و الأيسر ٤ .

« إذ يقول : ربّ إنّي لما أنزلت إليّ من خير فقير » الآية في سورة القصص ، و قبلها : و لمّا ورد ماء مدين وجد عليه أمّة من النّاس يسقون

ـــــــــــــــــ

( ١ ) النساء : ١٦٤ .

( ٢ ) الخصال للصدوق : ٦٤١ ح ٢٠ باب ( الأنف ) .

( ٣ ) علل الشرائع للصدوق : ٥٦ ح ١ ، و الكافي للكليني ٢ : ١٢٣ ح ٧ ، و أبو علي الطوسي في أماليه ١ : ١٦٦ ، و رواه الراوندي في قصص الأنبياء عنه البحار ١٣ : ٨ ح ٨ ، و الطبرسي في مشكاة الأنوار : ٢٢٧ .

( ٤ ) علل الشرائع للصدوق : ٥٧ ح ٢ ، في ذيل الحديث .

٧٨
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

و وجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتّى يصدر الرّعاء و أبونا شيخ كبير . فسقى لهما ثمّ تولّى إلى الظلّ فقال . . . ١.

« و اللّه ما سأله إلاّ خبزا يأكله » في ( الكافي ) عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله : الخبز مبارك ،

أرسل اللّه تعالى له السماء مدرارا ، و له أنبت اللّه المرعى ، و به صلّيتم ، و به صمتم ، و به حججتم بيت ربّكم ٢ .

و عنه صلى اللّه عليه و آله : أكرموا الخبز ، فانّه قد عمل فيه ما بين العرش إلى الأرض و ما فيها كثير من خلقه ٣ .

و في ( العيون ) عن الرضا عليه السّلام : أنّ سلمان دعا أباذر إلى منزله فقدّم إليه رغيفين ، فأخذ أبوذر الرغيفين فقلّبهما ، فقال سلمان : يا أباذر لأي شي‏ء تقلّب هذين الرّغيفين ؟ قال : خفت أن لا يكونا نضيجين ، فغضب سلمان من ذلك غضبا شديدا ، ثمّ قال : ما أجرأك حيث تقلّب هذين الرغيفين ، فو اللّه لقد عمل في هذا الخبز الماء الّذي تحت العرش ، و عملت فيه الملائكة حتّى ألقوه إلى الرّيح ،

و عملت فيه الريح حتّى ألقته إلى السحاب ، و عمل فيه السحاب حتّى أمطره إلى الأرض ، و عمل فيه الرّعد و البرق و الملائكة حتّى وضعوه مواضعه ، و عملت فيه الأرض و الخشب و الحديد و البهائم و النار و الحطب و الملح ، و ما لا أحصيه أكثر ، فكيف لك أن تقوم بهذا الشكر ؟ فقال أبو ذر : إلى اللّه أتوب و أستغفر إليه ممّا أحدثت ٤ .

« لأنّه كان يأكل بقلة الأرض ، و لقد كانت خضرة البقل ترى » البقلة .

« من شفيف » من شف عليه ثوبه ، إذا رقّ حتّى يرى ما خلفه .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) القصص : ٢٣ ٢٤ .

( ٢ ) الكافي للكليني ٦ : ٣٠٣ ح ٦ ، و المحاسن للبرقي : ٥٨٥ ح ٨٢ .

( ٣ ) الكافي للكليني ٦ : ٣٠٢ ح ٢ ، و المحاسن للبرقي : ٥٨٥ ح ٨١ ، و مكارم الأخلاق للطبرسي : ١٥٤ .

( ٤ ) عيون الأخبار للصدوق ٢ : ٥٢ ح ٢٠٣ ، و أمالي الصدوق : ٣٥٩ ح ٦ المجلس ( ٦٨ ) .

٧٩

« صفاق » أي : الجلد الأسفل الذي تحت الجلد الذي عليه الشعر .

« بطنه لهزاله » الهزال مقابل السمين .

« و تشذّب لحمه » أي : تفرّقه .

« و إن شئت ثلّثت » أي : جعلت دليلا ثالثا لك في نقص الدّنيا .

« بداود صلى اللّه عليه و آله صاحب المزامير » جمع المزمار ، قيل : قيل له صاحب المزامير ، لأنّه كان كأنّ في حلقه مزامير من حسن صوته .

« و قارى أهل الجنّة » قال تعالى : . . . و آتينا داود زبورا ١ ، . . . و اذكر عبدنا داود ذا الأيد إنّه أوّاب . إنّا سخّرنا الجبال معه يسبّحن بالعشيّ و الإشراق . و الطير محشورة كلّ له أوّاب . و شددنا ملكه و آتيناه الحكمة و فصل الخطاب ٢ ، و لقد آتينا داود منّا فضلا يا جبال أوّبي معه و الطير و ألنّا له الحديد . أن اعمل سابغات و قدّر في السرد . . . ٣ .

« فلقد كان يعمل سفائف » أي : نسائج .

« الخوص » أي : ورق النخل .

« بيده و يقول لجلسائه أيّكم يكفيني بيعها » و روى الطبري في ( ذيله ) أنّه كان عطاء سلمان خمسة آلاف ، و كان على ثلاثين ألفا من الناس يحطب في عباءة يفترش نصفها ، و يلبس نصفها ، و كان إذا خرج عطاؤه أمضاه و يأكل من سفيف يده ٤ .

و روى ( الاستيعاب ) أنّ قوما دخلوا على سلمان و هو أمير على المدائن ،

و هو يعمل الخوص ، فقيل له : تعمل هذا و أنت أمير يجري عليك رزق ؟ فقال : إنّي

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الإسراء : ٥٥ .

( ٢ ) ص : ١٧ ٢٠ .

( ٣ ) سبأ : ١٠ ١١ .

( ٤ ) منتخب ذيل المذيل للطبري : ٣٣ .

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

أمّا الآية التالية فتوضح ما أجملته الآية السابقة وتؤكّده بالقول :( الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ ) .

وأمّا الآية الثّالثة ـ من الآيات محل البحث ـ فتقول : إنّ الله أنعم على المؤمنين والمهاجرون والمجاهدين في سبيله ثلاث مواهب هي :

1 ـ( يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ ) .

2 ـ( وَرِضْوانٍ ) .

23 ـ( وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ ) .

وتعقب الآية الأخيرة لمزيد التوكيد بالقول( خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

* * *

ملاحظتان

1 ـ تحريف التاريخ

كما قرأنا آنفا في شأن نزول الآيات محل البحث ، وطبقا لرواية وردت في كثير من كتب الآيات أهل السنة الشهيرة ، أنّها نزلت في عليعليه‌السلام وبيان فضائله ، على أنّ مفهوم الآيات عام واسع «وقد قلنا مرارا بأن أسباب النّزول لا تحدّد مفاهيم الآي».

إلّا أنّ بعض مفسّري أهل السنة لم يرغب في أن تثبت للإمام عليعليه‌السلام فضائل بارزة مع اعتقادهم بأنّه رابع خلفاء المسلمين! وكأنّهم خافوا إن أذعنوا لما يجدونه عند عليعليه‌السلام من الفضائل أن يقف الشيعة أمامهم متسائلين : لم قدّمتم على علي غيره؟

فلذلك أغمضوا النظر عن كثير من مناقبه وفضائله ، وسعوا جاهدين لأن

٥٦١

يقدحوا في سند الرواية التي تذكر فضل عليعليه‌السلام على غيره أو في دلالتها.

ويا للأسف ما زال هذا التعصب المقيت ممتدا إلى عصرنا الحاضر ، حتى أنّ بعض علمائهم المثقفين لم يسلموا من هذا الداء الوبيل والتعصب دون دليل!

ولا أنسى المحاورة التي جرت بيني وبين بعض علماء أهل السنة ، إذ أظهر كلاما عجيبا عند ذكرنا لمثل هذه الأحاديث ، فقال : في عقيدتي أنّ الشيعة يستطيعون أن يثبتوا جميع معتقدات مذهبهم «أصولها وفروعها» من مصادرنا وكتبنا ، لأنّ في كتبنا أحاديث كافية لصالح آراء الشيعة وصحة مذهبهم.

إلّا أنّه من أجل أن يريح نفسه من جميع هذه الكتب ، قال : أعتقد أن أسلافنا كانوا حسني الظن ، وقد أوردوا كل ما سمعوه في كتبهم ، فليس لنا أن نأخذ كل ما أوردوه ببساطة!! «طبعا كان حديثه يشمل الكتب الصحاح والمسانيد المعتبرة وما هو عندهم في المرتبة الأولى».

فقلت له : ليس هذا هو الأسلوب في التحقيق ، حيث يعتقد إنسان ما بمذهب معين ، لأنّ آباءه كانوا عليه وورثه عن سلفه ، فما وجده من حديث ينسجم ومذهبه قال : إنّه صحيح ، وما لم ينسجم حكم عليه بعدم الصحة ، لأنّ السلف الصالح كان حسن الظن ، حتى لو كان الحديث معتبرا.

فما أحسن أن نختار أسلوبا آخر للتحقيق بدل ذلك ، وهو أن نتجرّد من عقيدتنا الموروثة ثمّ ننتخب الأحاديث الصحيحة دون تعصب.

ونسأل الآن : لماذا سكتوا عن الأحاديث الشهيرة التي تذكر فضل علي وعلو مقامه ، بل نسوها وربّما طعنوا فيها ، فكأن مثل هذه الأحاديث لا وجود لها أصلا؟

ومع الالتفات إلى ما ذكرناه آنفا ، ننقل كلاما لصاحب تفسير «المنار» المعروف ، إذ أهمل شأن نزول الآيات محل البحث المذكور آنفا ، ونقل رواية لا تنطبق ومحتوى الآيات أصلا ، وينبغي أن نعدّها حديثا مخالفا للقرآن ، فقال عنها : إنّها معتبرة!

٥٦٢

وهي ما نقل عن النعمان بن بشير إذ يقول : كنت جالسا في عدة من أصحاب النّبي إلى جوار منبره ، فقال بعضهم : لا أرى عملا بعد الإسلام أفضل من سقاية الحاج وإروائهم ، وقال الآخر : إنّ عمارة المسجد الحرام أفضل من كل عمل ، فقال الثالث ، في سبيل الله أفضل ممّا قلتما.

فنهاهم عمر عن الكلام وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ـ وكان ذلك اليوم يوم الجمعة ـ ولكنّي سأسأل رسول الله بعد الفراغ من الصلاة ـ صلاة الجمعة ـ في ما اختلفتم فيه.

وبعد أن أتمّ صلاته جاء إلى رسول الله فسأله عن ذلك ، فنزلت الآيات محل البحث(1) .

إلّا أنّ هذه الرّواية لا تنسجم والآيات محل البحث من عدّة جهات ، ونحن نعرف أن كلّ رواية مخالفة للقرآن ينبغي أن تطرح جانبا ويعرض عنها ؛ لأنّه :

أوّلا : لم يكن في الآيات محل البحث قياس ما بين الجهاد وسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ، بل القياس ما بين سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من جهة ، والإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد من جهة أخرى ، وهذا يدل على أن من كان يقوم بمثل السقاية والعمارة في زمان الجاهلية كان يقيس عمله بالإيمان والجهاد. فالقرآن يصرّح بأنّ سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام لا يستويان ـ كل منهما ـ مع الإيمان بالله والجهاد في سبيله وليس القياس بين الجهاد وعمران المسجد وسقاية الحاج (لاحظ بدقة).

ثانيا : إنّ جملة( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) تدل على أن أعمال الطائفة الأولى كانت معروفة بالظلم ، وإنما يفهم ذلك فيما لو كانت هذه الأعمال صادرة في حال الشرك ، لإنّ القرآن يقول( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (2) .

__________________

(1) تفسير المنار ، ج 10 ، ص 215.

(2) سورة لقمان : الآية 13.

٥٦٣

ولو كان القياس بين الإيمان وسقاية الحاج المقرونة بالإيمان والجهاد ، لكانت جملة( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) لغوا ـ والعياذ بالله ـ لأنّها حينئذ لا مفهوم لها هنا.

ثالثا : إنّ الآية الثّانية ـ محل البحث ـ التي تقول( الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً ) مفهومها أن أولئك أفضل وأعظم درجة ممن لم يؤمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا في سبيل الله ، وهذا المعنى لا ينسجم وكلام النعمان ـ آنف الذكر ـ لأنّ المتكلمين وفقا لحديثه كلهم مؤمنون ولعلهم أسهموا في الهجرة والجهاد.

رابعا : كان الكلام في الآيات المتقدمة عن إقدام المشركين على عمارة المساجد وعدم جواز ذلك :( ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ ) والآيات محل البحث تعقب على الموضوع ذاته ، ويدل هذا الأمر على أن موضوع الآيات هو عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج حال الشرك ، وهذا لا ينسجم ورواية النعمان.

والشيء الوحيد الذي يمكن أن يستدل عليه هو التعبير ب( أَعْظَمُ دَرَجَةً ) حيث يدل على أن الطرفين المقيسين كل منهما حسن بنفسه ، وإن كان أحدهما أعظم من الآخر.

إلّا أنّ الجواب على ذلك واضح ، لأنّ أفعل التفضيل غالبا تستعمل في الموازنة بين أمرين ، أحدهما واجد للفضيلة والآخر غير واجد ، كأن يقال مثلا : الوصول متأخرا خير من عدم الوصول ، فمفهوم هذا الكلام لا يعني أن عدم الوصول شيء حسن ، لكن الوصول بتأخير أحسن.

أو أننا نقرأ في القرآن( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) أي من الحرب [سورة النساء الآية 28] فهذا لا يعني أنّ الحرب شيء حسن.

أو نقرأ مثلا( وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ ) [سورة البقرة الآية 221] ترى

٥٦٤

هل المشرك حسن وفيه خير؟!

أو نقرأ في سورة التوبة ذاتها (الآية 108)( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ) أي أحق من مسجد ضرار الذي بناه المنافقون للعبادة ، مع أننا نعرف أن العبادة في مسجد ضرار ليست بحق أبدا ، فنظير هذه التعابير في القرآن واللغة العربية ، بل في سائر اللغات كثير.

من مجموع ما ذكرناه نستنتج أن رواية النعمان بن بشير لأنّها مخالفة لمحتوى القرآن ينبغي أن تطرح وتنبذ جانبا ، وأن نأخذ بما ينسجم وظاهر الآي ، وهو ما قدمناه بين يدي تفسير هذه الآيات ، على أنّه سبب لنزولها ، وأنّه لفضيلة كبرى لإمام الإسلام العظيم عليعليه‌السلام .

نسأل الله أن يثبت أقدامنا على متابعة الحق وأهله من الأئمّة الصالحين ، وأن يجنبنا التعصب ، ويفتح أبصارنا وأسماعنا وأفكارنا لقبول الحق.

2 ـ ما هو مقام الرضوان؟

يستفاد من الآيات ـ محل البحث ـ أنّ مقام الرضوان الذي هو من أعظم المواهب التي يهبها الله المؤمنين والمجاهدين في سبيله ، هو شيء غير الجنات والنعيم المقيم وغير رحمته الواسعة.

وسنتناول بيان هذا الموضوع ذيل الآية (72) من هذه السورة ، في تفسير جملة( وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ) إن شاء الله.

* * *

٥٦٥

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) )

التّفسير

كلّ شيء فداء للهدف :

إنّ آخر وسوسة أو ذريعة يمكن أن يتذرع بها جماعة من المسلمين للامتناع عن جهاد المشركين (وفعلا فقد تذرع بعضهم وفقا لما ورد في قسم من التفاسير) بأن من بين المشركين وعبدة الأوثان أقارب لهم ، فقد يسلم الأب ويبقى ولده في الشرك على حاله ، وقد يقع العكس إذ يخطو الابن نحو توحيد الله ويبقى أبوه مشركا ، وهذه الحالة ربّما كانت موجودة بين الأخ وأحيه ، والزوج

٥٦٦

وزوجه ، والفرد وعشيرته أو قبيلته ، وهكذا.

فإذا كان القرار أن يجاهد الجميع المشركين فلا بدّ أن يغمضوا أعينهم عن أرحامهم وأقاربهم وعشيرتهم إلخ. هذا كلّه من جهة.

ثمّ ومن جهة أخرى كانت رؤوس الأموال والقدرة التجارية بيد المشركين تقريبا ، ولهذا يسبب تردد المشركين إلى مكّة ازدهار التجارة.

ومن جهة ثالثة كان للمسلمين في مكّة بيوت عامرّة نسبيا ، فإذا قاتلوا المشركين فمن المحتمل أن يهدمها المشركون ، أو تفقد قيمتها إذا عطل المشركون مراسم الحاج ومناسكه بمكّة.

فالآيتان ـ محل البحث ـ ناظرتان إلى مثل هؤلاء الأشخاص ، وتردّان عليهم ببيان صريح ، فتقول الآية الأولى منهما :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ ) .

ثمّ تعقب ـ على وجه التأكيد ـ مضيفة :( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) .

وأي ظلم أسوأ من أن يظلم الإنسان نفسه بتعلقه بأعداء الحق والمشركين ، ويظلم مجتمعه ، ويظلم نبيّه أيضا؟!

أمّا الآية التالية فهي تتناول هذا الموضوع بنحو من التفصيل والتأكيد والتهديد والتقريع ، فتخاطب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعنف أولئك الذين لا يرغبون في جهاد المشركين لما ذكرناه آنفا ، فتقول( قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) .

ولما كان ترجيح مثل هذه الأمور على رضا الله والجهاد في سبيله ، يعدّ نوعا من العصيان والفسق البيّن ، وإن من تشبث قلبه بالدنيا وزخرفها وزبرجها غير جدير بهداية الله ، فإنّ الآية تعقب في الختام قائلة( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ

٥٦٧

الْفاسِقِينَ ) .

وقد جاء في تفسير علي بن إبراهيم القمي في شأن الآيتين ما يلي : «لما أذّن أمير المؤمنين أن لا يدخل المسجد الحرام مشرك بعد ذلك ، جزعت قريش جزعا شديدا ، وقالوا : ذهبت تجارتنا وضاعت علينا وخربت دورنا ، فأنزل الله في ذلك قل (يا محمّد) إلخ والآيتان ـ محل البحث ـ ترسمان خطوط الإيمان الأصيل وتميزانها عن الإيمان المبطن بالشرك والنفاق.

كما أنّهما تضعان حدا فاصلا بين المؤمنين الواقعيين وبين ضعاف الإيمان ، وتقول إحداهما بصراحة : إن كانت هذه الأمور الثمانية «في الحياة المادية» التي يتعلق أربعة منها بالأرحام والأقارب( آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ ) .

ويتعلق قسم منها بالمجتمع و «العشيرة».

والقسم السّادس يرتبط بالمال.

والسابع بالتجارة والاكتساب.

وأمّا الثامن ـ وهو الأخير ـ فيتعلق بالمساكن ذات الأناقة «ومساكن ترضونها».

فإذا كانت هذه الأمور الثمانية ـ المذكورة آنفا ـ أغلى وأعزّ وأحب عند الإنسان من الله ورسوله ، والجهاد في سبيله وامتثال أوامره ، حتى أن الإنسان لا يكون مستعدا بالتضحية بتلك الأمور الثمانية من أجل الله والرّسول والجهاد ، فيتّضح أن إيمانه الواقعي لم يكمل بعد!

فحقيقة الإيمان وروحه وجوهره ، كل ذلك يتجلّى بالتضحية بمثل هذه الأمور من دون تردد.

أضف إلى ذلك ، فإن من لم يكن مستعدا للتضحية بمثل تلك الأمور ، فقد ظلم

٥٦٨

نفسه ومجتمعه في الواقع ، كما أنّه سيقع في ما كان يخاف من الوقوع فيه لأنّ الأمّة التي تتلكأ في اللحظات الحساسة من تأريخها المصيري ، وفي المآزق الحاسمة ، فلا يضحي أبناؤها بمثل ذلك ، فستواجه الهزيمة عاجلا أو آجلا ، وسيتعرض كلّ ما تعلقت القلوب به فلم تجاهد من أجله الى خطر الضياع والتلف بيد الأعداء.

* * *

ملاحظات

1 ـ ما قرأناه في الآيتين ـ محل البحث ـ ليس مفهومه قطع علائق المحبة بالأرحام ، وإهمال رؤوس الأموال الاقتصادية ، والانسياق إلى تجاوز العواطف الإنسانية وإلغائها ، بل المراد من ذلك أنّه ينبغي أن لا ننحرف عند مفترق الطرق إلى الأموال والأزواج والأولاد والدور والمقام الدنيوي ، بحيث لا نطبّق في تلك الحالة حكم الله ، أو لا نرغب في الجهاد ، ويحول عشقنا المادي دون تحقيق الهدف المقدس.

لهذا يلزم على الإنسان إذا لم يكن على مفترق الطرق أن يرعى الجانبين «العلاقة بالله والعلاقة بالرحم».

فنحن نقرأ في الآية (15) من سورة لقمان ، قوله تعالى في شأن الأبوين المشركين( وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ) .

2 ـ إنّ أحد تفاسير جملة( فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) ما أشرنا إليه آنفا ، وهو التهديد من قبل الله لأولئك الذين يقدّمون منافعهم المادية ويفضلونها على رضا الله ، ولما كان هذا التهديد مجملا كان أثره أشدّ وحشة وإشفاقا ، وهذا التعبير يشبه قول من يكلم صاحبه الذي دونه وتحت أمره ، فيقول له : إذا لم تفعل ما

٥٦٩

أمرتك ، فسأقوم بما ينبغي أيضا.

وهناك احتمال آخر لتفسير الجملة ـ محل البحث ـ وهو أنّ الله سبحانه يقول : إذا لم تكونوا مستعدين للتضحية ، فإنّ الله يفتح لنبيّه عن طريق آخر. وكيف شاء ، إذ ليس ذلك بعسير عليه. ونظير هذا المعنى ما جاء في الآية (54) من سورة المائدة ، إذ نقرأ فيها( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) .

الماضي والحاضر مرهونان بهذا الأمر :

3 ـ قد يتصور بعضهم بأنّ ما جاء في الآيتين يخص صدر الإسلام والتاريخ الماضي ، إلّا أنّ ذلك خطأ كبير ، فالآيتان تستوعبان حاضر المسلمين ومستقبلهم أيضا.

فإذا قدّر للمسلمين أن لا يضحوا بأموالهم وأنفسهم وأولادهم ودورهم إلخ في سبيل الله ، ولا يكون لهم إيمان متين ، ويفضلون الأمور المادية على رضا الله ، وتبقى قلوبهم متعلقة بالمال والأولاد وزبارج الدنيا ، فيكون مستقبلهم مظلما ، لا مستقبلهم فحسب ، بل حتى يومهم هذا ، ففي مثل هذا الحال سيحدق بهم الخطر وسيفقدون موروثهم الحضاري ، وتكون مصادر حياتهم بأيدي الأجانب ويفقدون معنى الحياة ، لأن الحياة هي حياة الإيمان والجهاد في ظل الإيمان.

فعلينا أن نغرس مدلول هاتين الآيتين في قلوب أطفال المسلمين وشبابهم ونجعله شعارا لنا ، ونحيي في نفوس المسلمين روح التضحية والجهاد ، ليحافظوا على ثقافتهم وموروثهم المعرفي.

* * *

٥٧٠

الآيات

( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) )

التّفسير

الكثرة وحدها لا تجدي نفعا :

في الآيات المتقدمة رأينا أنّ الله سبحانه يدعوا المسلمين إلى التضيحة والجهاد على جميع الصعد في سبيل الله وقلع جذور الشرك وعبادة الأوثان ، ويهدد بشدّة من يتقاعس منهم عن الجهاد والتضحية بسبب التعلق بالأزواج والأولاد والأرحام والعشيرة والمال والثروة.

أمّا الآيات محل البحث فتشير إلى مسألة مهمّة ، وهي أنّ على كل قائد أن ينّبه أتباعه في اللحظات الحساسة بأنّه إذا كان فيهم بعض الأشخاص من ضعاف

٥٧١

الايمان والذين يحجبهم التعلّق بالمال والولد والأزواج وما إلى ذلك عن الجهاد في سبيل الله ، فلا ينبغي أن يقلق المؤمنون المخلصون من هذا الأمر ، وعليهم أن يواصلوا طريقهم ، لأنّ الله لم يتخلّ عنهم يوم كانوا قلة ، كما هو الحال في معركة بدر ، ولا يوم كانوا كثرة ـ ملء العين (كما في معركة حنين) وقد أعجبتهم الكثرة فلم تغن عنهم شيئا ، لكن الله سبحانه أنزل جنودا لم تروها ، وعذب الذين كفروا ، فالله في الحالين ينصر المؤمنين ويرسل إليهم مدده لهذا فإن الآية الأولى من الآيات محل البحث تقول( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ) .

والمواطن جمع الموطن ، ومعناه المحل الذين يختاره الإنسان للسكن الدائم ، أو المؤّقت ، إلّا أن من معانيه أيضا ساحة الحرب والمعركة ، وذلك لأنّ المقاتلين يقيمون في مكان الحرب مدّة قصيرة أو طويلة أحيانا.

ثمّ تضيف الآية معقبة( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ) وكان جيش المسلمين يوم حنين زهاء اثني عشر ألفا ، وقال بعض المؤرخين : كانوا عشرة آلاف أو ثمانية آلاف ، غير أنّ الرّوايات المشهورة تؤيد ما ذكرناه آنفا ، إذ تقول : إنّهم كانوا اثني عشر ألفا ، وهذا الرقم لم يسبق له مثيل في الحروب الإسلامية قبل ذلك الحين ، حتى اغترّ بعض المسلمين وقالوا : «لن نغلب اليوم».

إلّا أنّه ـ كما سنبيّن الموضوع في الحديث على غزوة حنين ـ قد فرّ كثير من المسلمين ذلك اليوم ، لكونهم جديدي عهد بالإسلام ولم يتوغل الإيمان في قلوبهم فانكسر جيش المسلمين في البداية وكاد العدوّ أن يغلبهم لولا أن الله أنزل بلطفه مدده وجنوده فنجّاهم.

ويصور القرآن هذه الهزيمة بقوله( وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ) .

٥٧٢

وفي هذه اللحظات الحساسة حيث تفرق جيش الإسلام هنا وهناك ، ولم يبق مع النّبي إلّا القلة ، وكان النّبي مضطربا ومتألّما جدّا لهذه الحالة نزل التأييد الإلهي :( ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها ) .

وكما قلنا في حديثنا عن غزوة بدر في ذيل الآيات الخاصّة بها ، أن نزول هذه الجنود غير المرئية كان لشدّ أزر المسلمين وتقوية معنوياتهم ، وإيجاد روح الثبات والاستقامة في نفوسهم وقلوبهم ، ولا يعني ذلك اشتراك الملائكة والقوى الغيبية في المعركة(1) .

ويذكر القرآن النتيجة النهائية لمعركة حنين الحاسمة فيقول( وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ ) .

وكان هذا العذاب والجزاء أن قتل بعض الكافرين ، وأسر بعضهم ، وفرّ بعضهم إلى مناطق بعيدة عن متناول الجيش الاسلامي.

ومع هذا الحال فإنّ الله يفتح أبواب توبته للأسرى والفارين من الكفّار الذين يرغبون في قبول مبدأ الحق «الإسلام» لهذا فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محل البحث تقول :( ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وجملة «يتوب» التي وردت بصيغة الفعل المضارع ، والتي تدل على الاستمرار ، مفهومها أن أبواب التوبة والرجوع نحو الله مفتوحة دائما بوجه التائبين.

* * *

__________________

(1) لمزيد من الإيضاح يراجع تفسير الآيات 9 ـ 12 من هذا الجزء نفسه.

٥٧٣

ملاحظات

1 ـ غزوة حنين ذات العبرة

«حنين» منطقة قريبة من الطائف ، وبما أنّ الغزوة وقعت هناك فقد سميّت باسم المنطقة ذاتها ، وقد عبّر عنها في القرآن بـ «يوم حنين» ولها من الأسماء ـ غزوة أوطاس ، وغزوة هوازن أيضا.

أمّا تسميتها بأوطاس ، فلأن «أوطاس» أرض قريبة من مكان الغزوة ـ وأمّا تسميتها بهوازن ، فلأن إحدى القبائل التي شاركت في غزوة حنين تدعى بهوازن.

أمّا كيف حدثت هذه الغزوة ، فبناء على ما ذهب إليه ابن الأثير في الكامل ، أن هوازن لمّا علمت بفتح مكّة ، جمع القبيلة رئيسها مالك بن عوف وقال لمن حوله : من الممكن أن يغزونا محمّد بعد فتح مكّة ، فقالوا : من الأحسن أن نبدأه قبل أن يغزونا.

فلما بلغ ذلك النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر المسلمين أن يتوجهوا إلى أرض هوازن(1) .

وبالرغم من عدم الاختلاف بين المؤرخين في شأن هذه الغزوة والمسائل العامّة فيها ، إلّا أنّ في جزئياتها روايات متعددة لا يكاد بعضها ينسجم مع الآخر ، وما ننقله هنا فقد اقتضبناه عن مجمع البيان للعلامة الطبرسي ، بناء على روايته القائلة : إنّ رؤساء طائفة هوازن جاءوا إلى مالك بن عوف واجتمعوا عنده في أخريات شهر رمضان أو شوال في السنة الثامنة للهجرة ، وكانوا قد جاءوا بأموالهم وأبنائهم وأزواجهم لئلا يفكر أحدهم بالفرار حال المعركة ، وهكذا فقد وردوا منطقة أوطاس.

فعقد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لواءه ، وسلمّه عليّاعليه‌السلام وأمر حملة الرايات الذين ساهموا في فتح مكّة أن يتوجهوا براياتهم ذاتها مع علي بن أبي طالب إلى حنين ، واطّلع

__________________

(1) راجع الكامل لابن الأثير ، ج 2 ، ص 261 ، نقلنا القصة بشيء من الاختصار.

٥٧٤

النّبي أن صفوان بن أمية لديه دروع كثيرة ، فأرسل النّبي إليه أن أعرنا مائة درع ، فقال صفوان : أتريدونها عارية أم غصبا؟ فقال النّبي : بل عارية نضمنها ونعيدها سالمه إليك ، فأعطى صفوان النّبي مائة درع على أنّها عارية ، وتحرك مع النّبي بنفسه إلى حنين.

وكان ألفا شخص قد أسلم في فتح مكّة ، فأضيف عددهم إلى العشرة آلاف الذين ساهموا في فتح مكّة ، وصاروا حوالي اثني عشر ألفا ، وتحركوا نحو حنين.

فقال مالك بن عوف ـ وكان رجلا جريئا شهما ـ لقبيلته : اكسروا أغماد سيوفكم ، واختبئوا في كهوف الجبال والوديان وبين الأشجار ، واكمنوا لجيش الإسلام ، فإذا جاءوكم الغداة «عتمة» فاحملوا عليهم وأبيدوهم.

ثمّ أضاف مالك بن عوف قائلا : إن محمّدا لم يواجه حتى الآن رجال حرب شجعانا ، ليذوق مرارة الهزيمة!!

فلما صلّى النّبي صلاة الغداة «الصبح» بأصحابه أمر أن ينزلوا إلى حنين ، ففوجئوا بهجوم هوازن عليهم من كل جانب وصوب ، وأصبح المسلمون مرمى لسهامهم ، ففرّت طائفة من المقاتلين جديدي الإسلام (بمكّة) من مقدمة الجيش ، فكان أن ذهل المسلمون واضطروا وفرّ الكثير منهم.

فخلّى الله بين جيش المسلمين وجيش العدو ، وترك الجيشين على حالهما ، ولم يحم المسلمين لغرورهم ـ مؤقتا ـ حتى ظهرت آثار الهزيمة فيهم.

إلّا أنّ عليّا حامل لواء النّبي بقي يقاتل في عدّة قليلة معه ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في (قلب) الجيش وحوله بنو هاشم ، وفيهم عمه العباس ، وكانوا لا يتجاوزون تسعة أشخاص عاشرهم أيمن ابن أم أيمن.

فمرّت مقدمة الجيش في فرارها من المعركة على النّبي فأمر النّبي عمّه العباس ـ وكان جهير الصوت ـ أن يصعد على تل قريب وينادي فورا : يا معشر المهاجرين والأنصار ، يا أصحاب سورة البقرة ، يا أهل بيعة الشجرة ، إلى أين

٥٧٥

تفرّون؟ هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فلمّا سمع المسلمون صوت العباس رجعوا وقالوا : لبيّك لبيّك ، ولا سيما الأنصار إذ عادوا مسرعين وحملوا على العدوّ من كل جانب حملة شديدة ، وتقدّموا بأذن الله ونصره ، بحيث تفرقت هوازن شذر مذر مذعورة ، والمسلمون ما زالوا يحملون عليها. فقتل حوالي مائة شخص من هوازن ، وغنم المسلمون أموالهم كما أسروا عدّة منهم(1) .

ونقرأ في نهاية هذه الحادثة التأريخية أن ممثلي هوازن جاءوا النّبي وأعلنوا إسلامهم ، وأبدى لهم النّبي صفحه وحبّه ، كما أسلم مالك بن عوف رئيس القبيلة ، فردّ النّبي عليه أموال قبيلته وأسراه ، وصيره رئيس المسلمين في قبيلته أيضا.

والحقيقة أنّ السبب المهم في هزيمة المسلمين بادئ الأمر ـ بالإضافة إلى غرورهم لكثرتهم ـ هو وجود ألفي شخص ممن أسلم حديثا وكان فيهم جماعة من المنافقين طبعا ، وآخرون كانوا قد جاءوا مع النّبي لأخذ الغنائم ، وجماعة منهم كانوا بلا هدف ، فأثر فرار هؤلاء في بقية الجيش.

أمّا السرّ في انتصارهم النهائي فهو وقوف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليعليه‌السلام وجماعة قليلة من الأصحاب ، وتذكرهم عهودهم السابقة وإيمانهم بالله والركون إلى لطفه الخاص ونصره.

2 ـ من هم الفارّين

ممّا لا شك فيه أنّ الأكثرية الساحقة فرّب بادئ الأمر من ساحة المعركة ، وما تبقى منهم كانوا عشرة فحسب ، وقيل أربعة عشر شخصا ، وأقصى ما أوصل عددهم المؤرخون لم يتجاوزوا مائة شخص.

ولما كانت الرّوايات المشهورة تصّرح بأن من بين الفارين الخلفاء الثلاثة ،

__________________

(1) مجمع البيان ، ج 5 ، ص 17 ـ 19.

٥٧٦

فإنّ بعض المفسّرين سعى لأن يعدّ هذا الفرار أمرا طبيعيا.

يقول صاحب تفسير المنار ما ملخصه : لما رشق العدوّ المسلمين بسهامه ، كان جماعة قد التحقوا بالمسلمين من مكّة ، وفيهم المنافقون وضعاف الإيمان والطامعون «للغنائم» ففرّ هؤلاء جميعا وتقهقروا إلى الخلف ، فاضطرب باقي الجيش طبعا ، وحسب العادة ـ لا خوفا ـ فقد فرّوا أيضا ، وهذا أمر طبيعي عند فرار طائفة فإنّه يتزلزل الباقي منهم فيفر أيضا ـ ففرارهم لا يعني ترك النّبي وعدم نصرته أو تسليمه بيد عدوه ، حتى يستحقوا غضبالله!!(1)

ونحن لا نعلّق على هذا الكلام ، لكن نتركه للقراء ليحكموا فيه حكمهم.

كما ينبغي أن نذكر هذه المسألة وهي أنّ «صحيح البخاري» حين يتكلم عن الهزيمة وفرار المسلمين ينقل ما يلي :

فإذا عمر بن الخطاب في الناس ، وقلت : (الراوي) : ما شأن الناس؟ قال : أمر الله ، ثمّ تراجع الناس إلى رسول الله(2) .

غير أننا تجرّدنا من الأحكام المسبقة ، والتفتنا إلى القرآن الكريم ، وجدناه لا يذم جماعة بعينها ، بل يذم جميع الفارين.

ولا ندري ما الفرق بين قوله تعالى( ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ) حيث قرأنا هذه العبارة في الآيات محل البحث ، وبين عبارة أخرى وردت في الآية (16) من سورة الأنفال إذ تقول( وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ) ؟!

فبناء على ذلك لو ضممنا الآيتين بعضهما إلى بعض لعرفنا أنّ المسلمين ارتكبوا خطأ كبيرا يومئذ إلّا القليل منهم ، غاية ما في الأمر أنّهم تابوا بعدئذ ورجعوا.

__________________

(1) راجع تفسير المنار ، وإقرار التفصيل فيه ، ج 1 ، الصفحات 262 و 263 و 265.

(2) المصدر السابق.

٥٧٧

3 ـ الإيمان والسكينة

السكينة في الأصل مأخوذة من السكون ، وتعني نوعا من الهدوء أو الاطمئنان الذي يبعد كل نوع من أنواع الشك والخوف والقلق والاستيحاش عن الإنسان ، ويجعله راسخ القدم بوجه الحوادث الصعبة والملتوية. والسكينة لها علاقة قربى بالإيمان ، أي أنّ السكينة وليدة الإيمان ، فالمؤمنون حين يتذكرون قدرة الله التي لا غاية لها ، ويتصورون لطفه ورحمته يملأ قلوبهم موج الأمل ويغمرهم الرجاء.

وما نراه من تفسير السكينة بالإيمان في بعض الرّوايات(1) ، أو بنسيم الجنّة متمثلا في صورة إنسان(2) كل ذلك ناظر إلى هذا المعنى.

ونقرأ في القرآن في الآية (4) من سورة الفتح قوله تعالى :( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) .

وعلى كل حال فهذه الحالة نفسية خارقة للعادة ، وموهبة إلهية بحيث يستطيع الإنسان أن يهضم الحوادث الصعبة ، وأن يحس في نفسه عالما من الدعة والاطمئنان برغم كلّ ما يراه.

وممّا يسترعي النظر أن القرآن ـ في الآيات محل البحث ـ لا يقول : ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعليكم ، مع أنّ جميع الجمل في الآية تحتوي على ضمير الخطاب (كم) ، بل تقول الآية( عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) وهي إشارة إلى أن المنافقين وأهل الدنيا والذين كانوا مع النّبي في المعركة لم ينالوا سهما من السكينة والاطمئنان ، بل كانت السكينة من نصيب المؤمنين فحسب.

ونقرأ في بعض الرّوايات أن نسيم الجنّة هذا كان مع أنبياء الله ورسله(3) ،

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 114.

(2) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 201.

(3) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 112.

٥٧٨

فلذلك كانوا ـ في الحوادث الصعبة التي يفقد فيها كل إنسان توازنه إزاءها ـ أصحاب عزم راسخ وسكينة واطمئنان ، وإرادة حديدية لا تقبل التزلزل.

وكان نزول السكينة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معركة حنين ـ كما ذكرنا آنفا ـ لرفع الاضطراب الناشئ من فرار أصحابه من المعركة ، وإلّا فهو كالجبل الشامخ الركين ، وكذلك ابن عمّه عليعليه‌السلام وقلة من أصحابه (المسلمين).

4 ـ في الآيات محل البحث إشارة إلى أنّ الله نصر المسلمين في مواطن كثيرة!

هناك كلام كثير بين المؤرخين حول عدد مغازي النّبي وحروبه ، التي أسهم فيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شخصيّا ، وقاتل الأعداء ، أو حضرها دون أن يقاتل بنفسه ، أو الحروب التي وقف فيها المسلمون بوجه أعدائهم ولم يكن الرّسول حاضرا في المعركة.

إلّا أنّه يستفاد من بعض الرّوايات التي وصلتنا عن طرق أهل البيتعليهم‌السلام أنّها تبلغ الثمانين غزوة.

وقد ورد في كتاب (الكافي) أن أحد خلفاء بني العباس كان قد نذر مالا كثيرا إن هو عوفي من مرضه «ويقال أنّه قد سمّ» ، فلما عوفي جمع الفقهاء الذين كانوا عنده ، فسألهم عن المال الذي يجب أداؤه لإيفاء نذره ، فلم يعرفوا للمسألة جوابا. وأخيرا سأل الخليفة العباسي الإمام التاسع محمّد بن علي الجوادعليه‌السلام فقال : «الكثير ثمانون».

فلمّا سألوه عن دليله في ذلك استشهد الإمام بالآية( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ) ثمّ قال : عددنا حروب النّبي التي انتصر فيها المسلمون على أعدائهم فكانت ثمانين(1) .

5 ـ إن ما ينبغي على المسلمين أن يعتبروا به ويلزمهم أن يأخذوا منه درسا

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 197.

٥٧٩

بليغا ، هو أن ينظروا إلى الحوادث التي هي على شاكلة حادثة حنين ، فلا يغتروا بكثرة العدد أو العدد ، فالكثرة وحدها لا تغني شيئا ، بل المهم في الأمر وجود المؤمنين الراسخين في الإيمان ، ذوي الإرادة والتصميم ، حتى لو كانوا قلة.

كما أنّ طائفة قليلة استطاعت أن تغير هزيمة حنين إلى انتصار على العدو وكانت الكثيرة بادئ الأمر سبب الهزيمة ، لأنّها لم تنصهر بالإيمان تماما.

فالمهم أن يتوفر في مثل هذه الحوادث أناس مؤمنون ذوو استقامة وتضحية ، لتكون قلوبهم مركزا للسكينة الإلهية ، وليكونوا كالجبال الراسخة بوجه الأعاصير المدمرة.

* * *

٥٨٠

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605