بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٣

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة0%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 446

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف:

الصفحات: 446
المشاهدات: 42663
تحميل: 4634


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 446 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42663 / تحميل: 4634
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء 3

مؤلف:
العربية

و معرفته بدرجة دهائه ، ليصير سببا لغلبته على أهل البيت ، و قد صار الأمر كما دبّر و لم يولّه بلدة ، بل إقليما مثل الشّام حتّى يمكنه المقاومة في مقابل أمير المؤمنين عليه السّلام ، مع كون الحجاز و العراق تحت يده ، و قد صرّح بذلك يوم الشّورى ، فألقى الاختلاف بين الستّة ، و دبّر حرمان أمير المؤمنين عليه السّلام بحكميّة ابن عوف صهر عثمان و قال : إن اختلفتم يغلبكم معاوية . فهل غلبة معاوية إلاّ منه ؟ و هل بغي على أهل البيت عليه السّلام أعظم ممّا فعل ؟

« و أدخلنا و أخرجهم » روى الخطيب في محمّد بن سليمان بن حبيب عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي جعفر عن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص قال : إنّ عليّا عليه السّلام أتى النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و عنده ناس ، فلمّا دخل عليّ خرجوا ، ثمّ إنّهم قالوا : و اللَّه ما أخرجنا النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله فلم خرجنا ؟ فرجعوا فدخلوا على النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله فقال النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله : إنّي و اللَّه ما اخرجتكم و أدخلته ، و لكنّ اللَّه هو أدخله و أخرجكم . رواه بأسانيد ١ .

و روى أحمد بن حنبل في فضائله عن زيد بن أرقم قال : كان لنفر من الصّحابة أبواب شارعة في المسجد ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله : سدّوا هذه الأبواب إلاّ باب عليّ بن أبي طالب . فتكلّم النّاس في ذلك ، فقام النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله فحمد اللَّه و أثنى عليه ، ثمّ قال : ما سدّدت شيئا و لا فتحته و لكنّي امرت بشي‏ء فاتّبعته ٢ .

و روى التّرمذي في ( صحيحه ) عن جابر قال : دعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله عليّا يوم الطّائف ، فانتجاه طويلا فقال النّاس : لقد طالت نجواه مع ابن عمّه . فبلغ ذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله ، فقال : ما انتجيته و لكنّ اللَّه انتجاه ٣ .

ــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ٥ : ٢٩٤ .

( ٢ ) رواه عنه سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص : ٤١ .

( ٣ ) سنن الترمذي ٥ : ٦٣٩ ح ٣٧٢٦ و رواه عنه سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص : ٤٢ .

٤١

نقلهما سبط ابن الجوزي في كتابه .

« بنا » لا بغيرنا .

« يستعطى الهدى » إلى الحقّ ، و قد قال تعالى : . . . أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع أمّن لا يهدّي إلاّ أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ١ .

« و يستجلى العمى » عن الباطل ، و قول عمر : « معضلة ليس لها أبو الحسن » ٢ صار كالمثل .

« إنّ الأئمّة من قريش » حسبما استفاض عنه صلّى اللَّه عليه و آله من طريق الخاصّة و العامّة .

« غرسوا في هذا البطن من هاشم » أي : الطّالبيين منهم دون باقي بطون هاشم من العباسيّين و غيرهم ، و في الإثني عشر من بطن الطالبيّين دون غيرهم من الجعفريّين العقيليّين و غيرهما ، روى محمّد بن بابويه في ( إكماله ) عن الأسواري قال : كان ليحيى بن خالد مجلس بداره يحضره المتكلّمون من كل فرقة يوم الأحد ، فيتناظرون في أديانهم فيحتجّ بعضهم على بعض ، فبلغ ذلك الرّشيد فقال له : ما هذا المجلس الّذي بلغني عنك في منزلك يحضره المتكلّمون ؟ قال : ما شي‏ء ممّا رفعني به أمير المؤمنين عليه السّلام أحسن موقعا عندي من هذا المجلس الّذي يحضره كلّ قوم مع اختلاف مذاهبهم ، فيحتجّ بعضهم على بعض ، و يعرف المحق من بينهم ، و يبيّن لنا فساد كلّ مذهب من مذاهبهم . فقال له الرّشيد : احبّ أن أحضر هذا المجلس ، و أسمع كلامهم على أن لا يعلموا بحضوري ، فيحتشموا و لا يظهروا مذاهبهم . قال : ذلك إلى أمير

ــــــــــــــــ

( ١ ) يونس : ٣٥ .

( ٢ ) انساب الأشراف للبلاذري ٢ : ٩٩ ١٠٠ ح ٢٩ ، ٣٠ ، و غيره مرّ تخريجه في شرح فقرة « و الفضائل الجمة » من خطبة الرضي .

٤٢

المؤمنين إن شاء و متى شاء . قال : فضع يدك على رأسي على ألاّ تعلمهم بحضوري . ففعل ذلك و بلغ الخبر المعتزلة فتشاوروا بينهم و عزموا على ألاّ يكلّموا هشام بن الحكم إلاّ في الإمامة ، لعلمهم بمذهب الرّشيد و إنكاره على من قال بالإمامة ، فحضروا و حضر هشام و حضر عبد اللَّه بن يزيد الأباضي و كان من أصدق النّاس لهشام فدخل هشام و سلّم على عبد اللَّه من بينهم ،

فقال يحيى لعبد اللَّه : كلّم هشاما في ما اختلفتم فيه من الإمامة . فقال هشام : أيّها الوزير ليس لهؤلاء علينا جواب و لا مسألة ، إنّ هؤلاء قوم كانوا مجتمعين معنا على إمامة رجل ، ثم فارقونا بلا علم و لا معرفة ، فلا حين كانوا معنا عرفوا الحقّ ، و لا حين فارقونا علموا علام فارقونا . فقال بنان و كان من الحروريّة :

أخبرني عن أصحاب عليّ حين حكّموا الحكمين كانوا مؤمنين أم كافرين ؟

قال هشام : كانوا ثلاثة أصناف : صنف مؤمنون ، و صنف مشركون ، و صنف ضالّون ، فأمّا المؤمنون فمن قال مثل قولي : إنّ عليّا عليه السّلام إمام من عند اللَّه عزّ و جلّ و معاوية لا يصلح لها ، فآمنوا بما قال اللَّه تعالى في عليّ عليه السّلام و أقرّوا به .

و أمّا المشركون فقوم قالوا : عليّ إمام و معاوية يصلح لها ، فأشركوا و أدخلوا معاوية مع عليّ عليه السّلام . و أمّا الضّالّون فقوم خرجوا من الحميّة و العصبيّة للعشائر و القبائل ، و لم يعرفوا شيئا من هذا و هم جهّال . قال : فأصحاب معاوية ما كانوا ؟ قال : كانوا ثلاثة أصناف : صنف كافرون ، و صنف مشركون ،

و صنف ضالّون . أمّا الكافرون فالّذين قالوا : إنّ معاوية إمام و عليّ لا يصلح لها ، فكفروا من جهتين إذ جحدوا إماما من اللَّه عزّ و جلّ و نصبوا إماما ليس من اللَّه . و أمّا المشركون فقوم قالوا : معاوية إمام و عليّ يصلح لها ، فأشركوا معاوية مع عليّ عليه السّلام . و أمّا الضّالّون فعلى سبيل اولئك خرجوا بالحميّة و العصبيّة للقبائل و العشائر . فانقطع بنان عند ذلك .

فقال ضرار : و أنا أسألك يا هشام في هذا . قال : أخطأت . قال : و لم ؟ قال :

٤٣

لأنّكم كلّكم مجتمعون على دفع إمامة صاحبي ، و قد سألني هذا عن مسألة ،

و ليس لكم أن تثنوا عليّ بالمسألة ، حتّى أسألك يا ضرار عن مذهبك في هذا الباب . فقال : سل . فقال : أتقول إنّ اللَّه عزّ و جلّ عدل لا يجور ؟ قال : نعم . قال : فلو كلّف اللَّه المقعد المشي إلى المساجد و الجهاد ، و كلّف الأعمى قراءة المصاحف و الكتب أتراه كان عادلا أم جائرا ؟ قال : ما كان ليفعل ذلك . قال هشام : قد علمت أنّ اللَّه لا يفعل ذلك ، و لكن ذلك على سبيل الجدال و الخصومة ، و لو فعل ذلك أليس كان في فعله جائرا إذ كلّفه تكليفا لا يكون له السّبيل إلى إقامته و أدائه ؟

قال : لو فعل ذلك كان جائرا .

قال : فأخبرني عن اللَّه عزّ و جلّ كلّف العباد دينا واحدا لا اختلاف فيه لا يقبل منهم إلاّ أن يأتوا به كما كلّفهم ؟ قال : بلى . قال : فجعل لهم دليلا على وجود ذلك الدّين ، أو كلّفهم ما لا دليل لهم على وجوده ، فيكون بمنزلة من كلّف الأعمى قراءة الكتب ، و المقعد المشي إلى المساجد و الجهاد ؟ فسكت ضرار ساعة ثمّ قال : لا بدّ من دليل و ليس بصاحبك . فتبسّم هشام و قال : تشيع شطرك ، و صرت إلى الحقّ ضرورة و لا خلاف بيني و بينك إلاّ في التّسمية .

قال ضرار : فإنّي ارجع عليك القول في هذا . قال : هات . قال ضرار : كيف تعقد الإمامة ؟ قال هشام : كما عقد اللَّه النّبوّة . قال : فهو إذن نبيّ ؟ قال : لا ، لأنّ النّبوّة يعقدها أهل السّماء ، و الإمامة يعقدها أهل الأرض ، فعقد النّبوّة بالملائكة ، و عقد الإمامة بالنّبيّ ، و العقدان جميعا بأمر اللَّه جلّ جلاله . قال : فما الدّليل على ذلك ؟ قال هشام : الاضطرار في هذا . قال ضرار : و كيف ذلك ؟ قال هشام : لا يخلو الكلام في هذا من أحد ثلاثة وجوه ، إمّا أن يكون اللَّه عزّ و جلّ رفع التّكليف عن الخلق بعد الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله فلم يكلّفهم و لم يأمرهم و لم ينههم ،

فصاروا بمنزلة السّباع و البهائم ، الّتي لا تكليف عليها أفتقول هذا يا ضرار : إنّ التّكليف عن النّاس مرفوع بعد الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله ؟ قال : لا أقول هذا . قال هشام :

٤٤

فالوجه الثّاني ينبغي أن يكون النّاس المكلّفون قد استحالوا بعد الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله علماء في مثل حدّ الرّسول في العلم ، حتّى لا يحتاج أحد إلى أحد ، فيكونوا كلّهم قد استغنوا بأنفسهم و أصابوا الحقّ الّذي لا اختلاف فيه ، أفتقول هذا : إنّ النّاس استحالوا علماء حتّى صاروا في مثل حدّ الرّسول في العلم بالدّين ، حتّى لا يحتاج أحد إلى أحد ، مستغنين بأنفسهم عن غيرهم في إصابة الحقّ ؟ قال : لا أقول هذا و لكنّهم يحتاجون إلى غيرهم . قال : فبقي الوجه الثّالث ، و هو أنّه لا بدّ لهم من عالم يقيمه الرّسول لهم لا يسهو و لا يغلط و لا يحيف ، معصوم من الذّنوب مبرّأ من الخطايا يحتاج النّاس إليه و لا يحتاج إلى أحد . قال : فما الدّليل عليه ؟

قال هشام : ثمان دلالات : أربع في نعت نسبه ، و أربع في نعت نفسه ، فأمّا الأربع الّتي في نعت نسبه : فإنّه يكون معروف الجنس ، معروف القبيلة ،

معروف البيت ، و أن يكون من صاحب الملّة و الدّعوة إليه إشارة ، فلم ير جنس من هذا الخلق أشهر من جنس العرب ، الّذين منهم صاحب الملّة و الدّعوة ، الّذي ينادى باسمه في كل يوم خمس مرّات على الصّوامع : « أشهد ألاّ إله إلاّ اللَّه و أنّ محمّدا رسول اللَّه » فتصل دعوته إلى كلّ برّ و فاجر ، عالم و جاهل مقرّ و منكر في شرق الأرض و غربها ، و لو جاز أن تكون الحجّة من اللَّه على هذا الخلق في غير هذا الجنس لأتى على الطّالب المرتاد دهر من عصره لا يجده ، و لجاز أن يطلبه في أجناس من هذا الخلق من العجم و غيرهم ، و لكان من حيث أراد اللَّه عزّ و جلّ أن يكون صلاح يكون فساد ، و لا يجوز هذا في حكمة اللَّه تعالى و عدله ، أن يفرض على النّاس فريضة لا توجد ، فلمّا لم يجز ذلك لم يجز أن يكون إلاّ في هذا الجنس لاتّصاله بصاحب الملّة و الدّعوة ، فلم يجز أن يكون من هذا الجنس إلاّ في هذه القبيلة ، لقرب نسبها من صاحب الملّة و هي قريش ،

و لمّا لم يجز أن يكون من هذا الجنس إلاّ في هذه القبيلة ، لم يجز أن يكون من

٤٥

هذه القبيلة إلاّ في هذا البيت لقرب نسبه من صاحب الملّة و الدّعوة ، و لمّا كثر أهل هذا البيت ، و تشاجروا في الإمامة ، لعلوها و شرفها ادّعاها كلّ واحد منهم ،

فلم يجز إلاّ أن يكون من صاحب الملّة و الدعوة إشارة إليه بعينه و اسمه و نسبه ، كيلا يطمع فيها غيره .

و أمّا الأربع الّتي في نعت نفسه : فأن يكون أعلم النّاس كلّهم بفرائض اللَّه و سننه و أحكامه ، حتّى لا يخفى عليه منها دقيق و لا جليل ، و أن يكون معصوما من الذّنوب كلّها ، و أن يكون أشجع النّاس ، و أن يكون أسخى النّاس .

فقال عبد اللَّه بن يزيد الأباضي : من أين قلت : إنّه أعلم النّاس ؟

قال : لأنّه إن لم يكن عالما بجميع حدود اللَّه و أحكامه و شرائعه و سننه ،

لم يؤمن عليه أن يقلّب الحدود ، فمن وجب عليه القطع حدّه ، و من وجب عليه الحدّ قطعه ، فلا يقيم للَّه حدّا على ما أمر به ، فيكون من حيث أراد اللَّه صلاحا يقع فساد .

قال : فمن أين قلت : إنّه معصوم من الذّنوب ؟

قال : لأنّه إن لم يكن معصوما من الذّنوب دخل في الخطأ ، فلا يؤمن أن يكتم على نفسه ، و يكتم على حميمه و قريبه ، و لا يحتجّ اللَّه بمثل هذا على خلقه .

قال : فمن أين قلت : إنّه أشجع النّاس ؟

قال : لأنّه فئة للمسلمين يرجعون إليه في الحروب ، و قد قال عزّ و جلّ :

و من يولّهم يومئذ دبره إلاّ متحرّفا لقتال أو متحيّزا إلى فئة فقد باء بغضب من اللَّه . . . ١ فإن لم يكن شجاعا ، فرّ فيبوأ بغضب من اللَّه عزّ و جلّ حجّة اللَّه على خلقه .

قال : فمن أين قلت : إنّه أسخى النّاس ؟

ــــــــــــــــ

( ١ ) الأنفال : ١٦ .

٤٦

قال : لأنّه خازن المسلمين فإن لم يكن سخيّا ، تاقت نفسه إلى أموالهم فأخذها فكان خائنا ، و لا يجوز أن يحتجّ اللَّه على خلقه بخائن .

فعند ذلك قال ضرار : فمن هذا بهذه الصّفة في هذا الوقت ؟ فقال : صاحب القصر أمير المؤمنين و كان هارون قد سمع الكلام كلّه فقال عند ذلك :

أعطانا و اللَّه من جراب الثّورة ، و يحك يا جعفر و كان جعفر بن يحيى جالسا معه في السّتر من يعني بهذا ؟ فقال : يعني به موسى بن جعفر . قال : ما عنى به غيره . ثمّ عضّ على شفتيه و قال : مثل هذا حيّ و يبقى لي ملكي ساعة واحدة .

فو اللَّه للسان هذا أبلغ في قلوب النّاس من مائة ألف سيف . و علم يحيى أنّ هشاما قد أتى فدخل السّتر ، فقال : يا عبّاسي ويحك من هذا الرّجل ؟ فقال :

حسبك تكفى تكفى .

ثمّ خرج إلى هشام فغمزه ، فعلم هشام أنّه قد اتي ، فقام يريهم أنّه يبول أو يقضي حاجة ، فلبس نعليه و انسلّ ، و مرّ ببيته و أمرهم بالتّواري ، و هرب و مرّ من فوره نحو الكوفة ، و نزل على بشير النّبال و كان من حملة الحديث من أصحاب أبي عبد اللَّه عليه السّلام فأخبره الخبر ، ثمّ اعتل علّة شديدة ، فقال له البشير : آتيك بطبيب قال : لا أنا ميّت . فلمّا حضره الموت قال لبشير : إذا فرغت من جهازي فاحملني في جوف اللّيل ، وضعني بالكناسة و اكتب رقعة و قل : هذا هشام بن الحكم الّذي يطلبه الخليفة مات حتف أنفه . و كان هارون قد بعث إلى إخوانه و أصحابه فأخذ الخلق به ، فلمّا أصبح أهل الكوفة رأوه ، و حضر القاضي و صاحب المعونة و العامل و المعدّلون بالكوفة ، و كتب إلى الرّشيد بذلك فقال : الحمد للَّه الّذي كفانا أمره و خلّى عمّن كان أخذ به ١ .

« لا تصلح على سواهم ، و لا تصلح الولاة من غيرهم » ظهر لك من البرهان

ــــــــــــــــ

( ١ ) كمال الدين للصدوق : ٣٦٢ .

٤٧

الّذي ذكره هشام أنّ وجوب كون الإمام من بيت هاشم بيت النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله أمر عقلي لا يجوز تخلّفه ، و يعاضده الدّليل النّقلي القطعي ، قوله تعالى : إنّما وليّكم اللَّه و رسوله و الّذين آمنوا . . . ١ .

و قول رسوله صلّى اللَّه عليه و آله في المتواتر : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » ٢ .

و منه يظهر لك ما في قول ابن أبي الحديد هنا : « إن قلت : إنّك شرحت هذا الكتاب على قواعد المعتزله و اصولهم فما قولك في هذا الكلام و هو تصريح بأنّ الإمامة لا تصلح من قريش إلاّ في بني هاشم خاصّة ، و ليس ذلك بمذهب المعتزلة لا متقدميهم و لا متأخريهم قلت : هذا الموضع مشكل ولي فيه نظر ،

و إن صحّ أن عليّا عليه السّلام قاله قلت : كما قال لأنّه ثبت عندي أنّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله قال : ( إنّه مع الحقّ و أنّ الحقّ يدور معه حيثما دار ) ٣ . و يمكن أن يتأوّل على مذهب المعتزلة ، فيحمل على أنّ المراد به كمال الإمامة كما في قوله صلّى اللَّه عليه و آله : ( لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد ) ٤ على نفي الكمال لا على نفي الصّحة » ٥ .

قلت : هذا التّأويل منه كتأويل بعض المتكلّمين كما في ( مختلف ابن قتيبة ) النّهي عن الخمر في القرآن على جهة التّأديب ، كما في قوله تعالى :

و لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك و لا تبسطها كلّ البسط . . . ٦ و في قوله تعالى : . . . و اهجروهنّ في المضاجع و اضربوهنّ . . . ٧ و ذهب إلى عدم

ــــــــــــــــ

( ١ ) المائدة : ٥٥ .

( ٢ ) هذا حديث الغدير مرّ تخريجه في شرح فقرة « و لهم خصائص » في العنوان ٤ من هذا الفصل .

( ٣ ) سنن الترمذي ٥ : ٦٣٣ ح ٣٧١٤ و غيره مرّ تخريجه في أواخر العنوان ٥ من هذا الفصل .

( ٤ ) أخرجه الدار قطني في سننه عنه الجامع الصغير ٢ : ٢٠٣ مسندا ، و المرتضى في الذريعة ١ : ٣٥٤ ، و الطوسي في التهذيب ١ : ٩٢ ح ٣ مجردا و روي أيضا عن عليّ عليه السّلام .

( ٥ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٤٠٢ .

( ٦ ) الاسراء : ٢٩ .

( ٧ ) النساء : ٣٤ .

٤٨
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثالث الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

حرمة الخمر ١ .

و كتأويل بعضهم العدد في قوله تعالى : . . . فانكحوا ما طاب لكم من النّساء مثنى و ثلاث و رباع . . . ٢ على الجمع فجوّز نكاح تسع من الحرائر ،

و استشهد على تأويله بأنّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله مات عن تسع ، و أنكر الخصوصيّة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ٣ .

و كتأويل حرمة لحم الخنزير في قوله تعالى : حرّمت عليكم الميتة و الدّم و لحم الخنزير . . . ٤ على حلّية شحمه و جلده ٥ ، مع كون ما قاله في ما مرّ خلاف ضرورة الإسلام .

و كتأويل قوله تعالى في نبيّه صلّى اللَّه عليه و آله : . . . و خاتم النّبيّين . . . ٦ على كون النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله زينة لهم كالخاتم لصاحبه ، فقال بعدم خاتميّة النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ، و كما نقل عن بعض الغلاة و الإسماعيلية القول بنبوّة أنبياء بعد النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ، مع أنّه تواتر عن النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله أنّه قال : « لا نبيّ بعدي » ٧ فكما أنّ الآيات المتقدمّة لا تجوّز التأويل كذلك قوله عليه السّلام : « أين الذين زعموا أنّهم الرّاسخون في العلم دوننا كذبا و بغيا علينا ، أن رفعنا اللَّه و وضعهم ، و أعطانا و حرمهم و أدخلنا و أخرجهم ؟ بنا يستعطى الهدى و يستجلى العمى » قبل هذا الكلام أي :

قوله عليه السّلام « غرسوا في هذا البطن من هاشم لا تصلح على سواهم و لا تصلح

ــــــــــــــــ

( ١ ) نقلها ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث : ٦٠ ٦١ ، و النقل بالمعنى .

( ٢ ) النساء : ٣ .

( ٣ ) نقلها ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث : ٦٠ ٦١ ، و النقل بالمعنى .

( ٤ ) المائدة : ٣ .

( ٥ ) نقلها ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث : ٦٠ ٦١ ، و النقل بالمعنى .

( ٦ ) الأحزاب : ٤٠ .

( ٧ ) هذا ذيل حديث المنزلة مرّ تخريجه في أوائل العنوان ٧ من هذا الفصل .

٤٩

الولاة من غيرهم » .

و لو فتح باب مثل تأويله لصحّ تأويل تلك المتنبّية عدم منافاة قول خاتم الأنبياء لنبوّتها بأنّه إنّما قال : « لا نبيّ بعدي » و لم يقل : « لا نبيّة بعدي » .

و سأل هشام بن الحكم أيضا جماعة من المتكلّمين فقال : أخبروني حين بعث اللَّه محمّدا صلّى اللَّه عليه و آله بعثه بنعمة تامّة أو بنعمة ناقصة ؟ قالوا : بنعمة تامّة .

قال : فأيّما أتمّ أن يكون في أهل بيت واحد نبوّة و خلافة أو تكون نبوّة بلا خلافة ؟ قالوا : بل تكون نبوّة و خلافة . قال : فلما ذا جعلتموها في غيرها ؟ فإذا صارت في بني هاشم ضربتم وجوههم بالسّيف ؟ فافحموا ١ .

و روى محمّد بن محمّد بن النّعمان عن المرزباني عن محمّد بن العبّاس عن محمّد بن يزيد النّحوي عن ابن عائشة : أنّ ذا الشّهادتين قال :

ما كنت أحسب هذا الأمر منصرفا

عن هاشم ثمّ منها عن أبي حسن

أ ليس أوّل من صلّى بقبلتهم

و أعرف النّاس بالآثار و السّنن

و آخر النّاس عهدا بالنّبيّ و من

جبريل عون له في الغسل و الكفن

من فيه فيه ما فيه لا يمترون به

و ليس في القوم ما فيه من الحسن

ماذا الّذي ردّكم عنه فنعلمه

ها إنّ بيعتكم من أغبن الغبن ٢

و قال حسان :

و ما زال في الإسلام من آل هاشم

دعائم صدق لا ترام و مفخر

هم جبل الإسلام و النّاس حولهم

رضام إلى طود يطول و يقهر

و قال كعب الأنصاري :

قوم بهم عصم الإله عباده

و عليهم نزل الكتاب المنزل

ــــــــــــــــ

( ١ ) المناقب لأبن شهر آشوب ١ : ٢٧٦ .

( ٢ ) الارشاد للمفيد : ٢٢ .

٥٠

و روى الخطيب في هاشم بن مسرور المؤدب عن أبي صالح في قوله تعالى : الّذين إن مكّنّاهم في الأرش أقاموا الصّلاة و آتوا الزكوة و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر . . . ١ قال : هم بنو هاشم . ثم قلت : من مضى منهم أم من بقي ؟ قال : من مضى منهم و من بقي ٢ .

و روى ابن عبد ربّه في ( عقده ) في وفود قريش على سيف بن ذي يزن : أنّ سيفا قال لعبد المطّلب : إذا ولد مولود بتهامة ، بين كتفيه شامة ، كانت له الإمامة ، إلى يوم القيامة ٣ .

و قال الكميت مشيرا إلى النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله :

يقولون لم يورث و لو لا تراثه

لما شاركت فيه بكيل و أرحب

و لا انتشلت عضوين منها يحابر

و كان لعبد القيس عضو مورّب

فإن هي لم تصلح لحيّ سواهم

إذن فذوو القربى أحقّ و أقرب

فيالك أمر قد اشتت جمعه

و دنيا أرى أسبابها تتقضّب

تبدّلت الأشرار بعد خيارها

و جدّ بها من امّة هي تلعب

و روى المسعودي في ( مروجه ) : أنّه لمّا ورد صعصعة على معاوية من قبل أمير المؤمنين عليه السّلام و سأله عن قومه ، و أجابه ، قال له معاوية : و يحك يابن صوحان فما ترك لهذا الحيّ من قريش مجدا و لا فخرا ؟ قال : بلى و اللَّه يابن أبي سفيان تركت لهم ما لا يصلح إلاّ بهم ، و لهم تركت الأبيض ، و الأحمر و الأصفر و الأشقر ، و السّرير ، و المنبر ، و الملك إلى المحشر ، و أنّى لا يكون ذلك كذلك و هم منار اللَّه في الأرض و نجومه في السّماء . ففرح معاوية و ظنّ أنّ كلامه

ــــــــــــــــ

( ١ ) الحج : ٤١ .

( ٢ ) تاريخ بغداد للخطيب ١٤ : ٦٩ .

( ٣ ) العقد الفريد لأبن عبد ربه ١ : ٢٤٣ .

٥١

يشتمل على قريش كلّها . فقال : صدقت يابن صوحان إنّ ذلك لكذلك . فعرف صعصعة ما أراد . فقال : ليس لك و لا لقومك في ذلك إصدار و لا إيراد ، بعدتم عن أنف المرعى ، و علوتم عن عذب الماء . قال : فلم ذلك ؟ و يلك يابن صوحان ؟

قال : الويل لأهل النّار ذلك لبني هاشم . . . ١ .

و روى أبو هلال العسكري في ( أوائله ) : أنّ أبا الهيثم بن التيهان قام خطيبا بين يدي أمير المؤمنين عليه السّلام ، فقال : إنّ حسد قريش إيّاك على وجهين :

أمّا خيارهم فتمنوا أن يكونوا مثلك منافسة في البلاء ، و ارتفاع الدّرجة ، و أمّا شرارهم فحسدوا حسدا أثقل القلوب ، و أحبط الأعمال ، و ذلك أنّهم رأوا عليك نعمة قدّمها إليك الحظّ و أخّرهم عنها الحرمان ، فلم يرضوا أن يلحقوا حتّى طلبوا أن يسبقوك ، فبعدت و اللَّه عليهم الغاية ، و قطعت المضمار . فلمّا تقدّمتهم بالسّبق و عجزوا عن اللحاق ، بلغوا منك ما رأيت ، و كنت و اللَّه أحق قريش بشكر قريش ، نصرت نبيّهم حيّا و قضيت عنه الحقوق ميّتا ، و اللَّه ، بغيهم إلاّ على أنفسهم ، و لا نكثوا إلاّ بيعة اللَّه يد اللَّه فوق أيديهم . . . ٢ .

و روى نصر بن مزاحم في ( صفيّنه ) عنه عليه السّلام في كتابه إلى معاوية :

و أعلم أنّ هذا الأمر لو كان إلى الناس أو بأيديهم لحسدونا و لا متنّوا به علينا ،

و لكنّه قضاء ممّن امتنّ به علينا على لسان نبيّه الصادق المصدّق ، لا أفلح من شكّ بعد العرفان و البيّنة . . . ٣ .

و هو صريح في مذهب الإماميّة من كون الإمامة من قبله تعالى بوساطة نبيّه صلّى اللَّه عليه و آله لا باختيار الامّة ، كما عليه المتسمّون بالسّنّة .

ــــــــــــــــ

( ١ ) مروج الذهب ٣ : ٤٠ .

( ٢ ) الفتن من البحار للمجلسي : ١٥٣ عن اوائل أبي هلال العسكري ، و الآية ١٠ من سورة الفتح .

( ٣ ) وقعة صفين لابن مزاحم : ١٠٩ .

٥٢

و في ( تاريخ اليعقوبي ) : أنّه بلغ عثمان أنّ أباذر وقف بباب المسجد ،

فقال : أيّها الناس من عرفني فقد عرفني ، و من لم يعرفني فأنا أبوذر الغفاري ،

أنا جندب بن جنادة الرّبذي إنّ اللَّه اصطفى آدم و نوحا و آل إبراهيم ، و آل عمران على العالمين . ذريّة بعضها من بعض و اللَّه سميع عليهم ١ محمّد الصّفوة من نوح فالأوّل إبراهيم ، و السّلالة من إسماعيل و العترة الهادية من محمّد صلّى اللَّه عليه و آله ، إنّه شرف شريفهم ، و استحقّوا الفضل في قوم هم فينا كالسّماء المرفوعة ، أو كالكعبة المستورة ، أو كالقبلة المنصوبة ، أو كالشّمس الضاحية ، أو كالقمر السّاري ، أو كالنّجوم الهادية ، أو كالشّجرة الزّيتونة ،

أضاء زيتها ، و بورك زبدها ، و محمّد صلّى اللَّه عليه و آله وارث علم آدم ، و ما فضّل به النّبيّون ، و عليّ بن أبي طالب وصيّ محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و وارث علمه . أيّتها الامّة المتحيّرة بعد نبيّها أما لو قدّمتم من قدّم اللَّه ، و أخّرتم من أخّر اللَّه ، و أقررتم الولاية و الوراثة في أهل بيت نبيّكم ، لأكلتم من فوق رؤوسكم ، و من تحت أقدامكم و لما عال ولي اللَّه ، و لما طاش سهم من فرائض اللَّه ، و لا اختلف اثنان في حكم اللَّه إلاّ وجدتم علم ذلك عندهم من كتاب اللَّه و سنّة نبيّه ، فأمّا إذا فعلتم ما فعلتم ، فذوقوا و بال أمركم . . . و سيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون . . . ٢ .

و لمّا افتخر ابن المعتز بالعبّاسيّين على الطّالبيّين بقصيدته الّتي أوّلها :

أبى اللَّه إلاّ ما ترون فما لكم

غضابى على الأقدار يا آل طالب

أجابه أبو القاسم التنوخي :

ــــــــــــــــ

( ١ ) آل عمران : ٣٣ ٣٤ .

( ٢ ) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧١ ، و الآية ٢٢٧ من سورة الشعراء .

٥٣

من ابن رسول اللَّه و ابن وصيّه

إلى مدغل في عقدة الدّين ناصب

نشا بين طنبور و دفّ و مزهر

و في حجر شاد أو على صدر ضارب

و من ظهر سكران إلى بطن قينة

على شبه في ملكها و شوائب

إلى أن قال :

و نحن الألى لا يسرح الذّم بيننا

و لا تدّرى أعراضنا بالمعاتب

إذا ما انتدوا كانوا شموس نديّهم

و إن ركبوا كانوا بدور الرّكائب

و إن عبسوا يوم الوغى ضحك الرّدى

و إن ضحكوا بكّوا عيون النّوائب

و ما للغواني و الوغي فتعوّذوا

بقرع المثاني من قراع الكتائب

و يوم حنين قلت حزنا فخاره

و لو كان يدري عده في المثالب

أبوه مناد و الوصيّ مضارب

فقل في مناد صيّت و مضارب

و جئتم مع الأولاد تبغون إرثه

فأبعد محجوب بحاجب حاجب

و قلتم نهضنا ثائرين شعارنا

بثارات زيد الخير عند التّجارب

٥٤

فهلاّ بإبراهيم كان شعاركم

فترجع دعواكم بعلّة خائب

و معنى البيت الأخير أنّكم غلبتم على بني اميّة بادعائكم أخذ ثار أهل بيت النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و لو كنتم ادعيّتم أنّكم تطلبون ثار عمّكم إبراهيم بن محمّد بن عليّ بن عبد اللَّه بن عبّاس الّذي أمر بخنقه مروان بن محمّد المرواني لما أعانكم أحد .

هذا ، و أمّا خبر أنّ [ الأئمّة من قريش ] بلفظ العام فأصله أيضا متواتر ،

كتخصيصه بذاك البطن من هاشم ، و لمّا ادّعت الأنصار الأمر يوم السّقيفة ،

قال عمرو بن العاص دفعا لهم : إن كان سمعوا قول النّبيّ : « الأئمّة من قريش » ثم ادّعوها لقد هلكوا و أهلكوا ، و إن كانوا لم يسمعوها فما هم كالمهاجرين .

و قال النّعمان بن عجلان الأنصاري دفاعا عن الأنصار : إن كان النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله قال : « الأئمّة من قريش » فقد قال : « لو سلك النّاس شعبا و سلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار » ، و اللَّه ما أخرجناكم من الأمر إذ قلنا :

منّا أمير و منكم أمير .

و مع تواتر الخبر به قال عمر بعد أن طعن في معاذ بن جبل الأنصاري : لو كان معاذ حيّا لاستخلفته . و قال في سالم مولى أبي حذيفة : لو كان سالم حيّا لاستخلفته .

قال صاحب ( الاستيعاب ) في عنوان سالم بعد النّقل عن عمر قوله : لو كان سالم حيّا ما جعلتها شورى : و هذا عندي على أنّ عمر كان يصدر في الخلافة عن رأيه ١ .

قلت : ردّه قول النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله في ما مرّ ليس بمستنكر بعد قوله في

ــــــــــــــــ

( ١ ) الاستيعاب لابن عبد البر ٢ : ٧١ و الرواية مشهورة .

٥٥

النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله لمّا قال : « ايتوني بدواة و كتف أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعدي » :

دعوا الرّجل إنّه ليهجر ١ .

ثمّ كما تواتر أصله كذلك تواتر عنه صلّى اللَّه عليه و آله تعيينه لأئمّة قريش في اثني عشر فروى مسلم في ( صحيحه ) عن جابر بن سمرة قال : دخلت مع أبي على النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ، فسمعته يقول : إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة ، ثمّ تكلّم بكلام خفي عليّ ، فقلت لأبي : ما قال ؟ قال : كلّهم من قريش ٢ .

و روى أيضا مسندا : أنّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله قال عشية جمعة رجم الأسلمي : لا يزال الدّين قائما حتّى تقوم السّاعة أو يكون عليكم إثنا عشر خليفة كلّهم من قريش ٣ .

و روى أبو داود و البزّار عن النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله قال : لا يزال أمر امّتي قائما حتّى يمضي اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش . و زاد الأوّل فلمّا رجع إلى منزله أتته قريش ، فقالوا : ثمّ يكون ماذا ؟ قال : ثمّ يكون الهرج ٤ .

و رواه أحمد بن الحسن القطّان شيخ من أصحاب حديثهم بأربعة عشر طريقا ، و عبد اللَّه بن محمّد الصّائغ منهم بطريقين .

و نقل طرقهما محمّد بن بابويه في ( خصاله ) ٥ ، و روى أيضا أحمد بن حنبل في ( مسنده ) أنّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله قال : بعدي اثنا عشر خليفة عدد نقباء بني

ــــــــــــــــ

( ١ ) صحيح البخاري ١ : ٣٢ ، و ٤ : ٧ ، ٢٧١ و غيره ، مرّ تخريجه في أواخر العنوان ٣ من هذا الفصل .

( ٢ ) صحيح مسلم ٣ : ١٤٥٢ ، ١٤٥٣ ح ٥ ، ٦ ، ٩ .

( ٣ ) صحيح مسلم ٣ : ١٤٥٣ ح ١٠ .

( ٤ ) سنن أبي داود ٤ : ١٠٦ ح ٤٢٧٩ ٤٢٨١ ، و مسند البزّار عنه تاريخ الخلفاء للسيوطي : ١٠ و النقل بتصرف .

( ٥ ) أخرجه الصدوق عن طريق أحمد بن الحسن بأربعة عشر طريقا في الخصال : ٤٦٩ ٤٧٢ ح ١٢ ، ٢٥ و عن طريق عبد اللَّه بن محمّد بطريقين في الخصال : ٤٧٥ ح ٣٦ ، ٣٧ .

٥٦

إسرائيل و زاد في خبر و حواري عيسى عليه السّلام ١ .

و لا تنطبق تلك الأخبار إلاّ على مذهب الإماميّة القائلين بالأئمّة الاثني عشر ، و أمّا أهل السّنّة فإن اقتصروا على الأربعة ، يقعوا في الكسر ، و إن تعدّوا إلى جميع من تصدى للأمر ، يقعوا في الكثرة ، و إن انتخبوا كما فعل القاضي عياض و ابن حجر ، خالفوا العقل و النّقل الكتاب و السّنّة و البرهان و العيان .

قال السّيوطي في ( تاريخ خلفائه ) : قال ابن حجر في ( شرح البخاري ) :

« كلام القاضي عياض أحسن ما قيل في الحديث و أرجحه أي حديث كون الأئمّة اثنى عشر من قريش لتأييده بقول في بعض طرق الحديث الصّحيحة :

« كلّهم يجتمع عليه النّاس » و إيضاح ذلك أنّ المراد بالاجتماع انقيادهم لبيعته ،

و الّذي وقع أنّ النّاس اجتمعوا على أبي بكر ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ عليّ ، إلى أن وقع أمر الحكمين في صفّين ، فتسمّى معاوية يومئذ بالخلافة ، ثم اجتمع النّاس على معاوية عند صلح الحسن ، ثمّ اجتمعوا على ولده يزيد ، و لم ينتظم للحسين أمر بل قتل قبل ذلك ، ثمّ لمّا مات يزيد وقع الاختلاف ، إلى أن اجتمعوا على عبد الملك بن مروان بعد قتل ابن الزّبير ، ثمّ اجتمعوا على أولاده الأربعة الوليد ثمّ سليمان ثمّ يزيد ثمّ هشام ، و تخلّل بين سليمان و يزيد عمر بن عبد العزيز ، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الرّاشدين ، و الثّاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، اجتمع النّاس عليه لمّا مات عمّه هشام ، فولّي نحو أربع سنين ، ثمّ قاموا عليه فقتلوه و انتشرت الفتن و تغيّرت الأحوال من يومئذ ، و لم يتفّق أن يجتمع النّاس على خليفة بعد ذلك ، لأنّ يزيد بن الوليد الّذي قام على ابن عمّه الوليد بن يزيد لم تطل مدّته ، بل ثار عليه قبل أن يموت ابن عم أبيه مروان بن محمّد بن مروان .

ــــــــــــــــ

( ١ ) مسند أحمد ١ : ٣٩٨ ، ٤٠٦ ، و النقل بتصرف و لم يوجد في الروايتين زيادة .

٥٧

و لمّا مات يزيد ولّى أخوه إبراهيم فقتله مروان ، ثمّ ثار على مروان بنو العبّاس إلى أن قتل ، ثمّ كان أوّل خلفاء بني العبّاس السفّاح ، و لم تطل مدّته مع كثرة من ثار عليه ، ثمّ ولّى أخوه المنصور فطالت مدّته ، لكن خرج عنهم المغرب الأقصى باستيلاء المروانيّين على الأندلس ، و استمرّت في أيديهم متغلّبين عليها ، إلى أن تسمّوا بالخلافة بعد ذلك ، و انفرط الأمر إلى أن لم يبق من الخلافة إلاّ الاسم في البلاد ، بعد أن كان في أيّام بني عبد الملك بن مروان يخطب للخليفة في جميع الأقطار من الأرض ، شرقا و غربا و يمينا و شمالا ممّا غلب عليه المسلمون ، و لا يتولّى أحد في بلد من البلاد كلّها الإمارة على شي‏ء منها إلاّ بأمر الخليفة ، و من انفراط الأمر أنّه كان في المائة الخامسة بالأندلس و حدها ستّة أنفس كلّهم يتسمّى بالخلافة ، و منهم صاحب مصر العبيدي و العبّاسي ببغداد ، خارجا عمّن كان يدّعي الخلافة في أقطار الأرض من العلويّة و الخوارج ١ .

قلت : فيه أوّلا : إنّه على ما أسّسه يكون أمير المؤمنين عليه السّلام أيضا خارجا ،

لأنّه لم يجتمع عليه النّاس ، فلم يبايعه سعد أحد عشرتهم و أحد ستّة شوراهم ،

و لم يبايعه ابن عمر ابن فاروقهم و النّاظر على شوراهم ، و محمّد بن مسلمة أحد أجلّة الصّحابة عندهم ، و ادّعى طلحة و الزّبير أنّهما بايعاه جبرا فخرجا عليه ، و لم يبايعه جلّ قريش بل كلّهم ، و إنّما بايعه نفر منهم كانوا في عداد بني هاشم ، كمحمّد بن أبي بكر التيميّ ربيبه عليه السّلام و جعدة بن هبيرة المخزومي ابن أخته ، و لم يبايعه معاوية و أهل الشّام ، و كانوا قريبا من نصف المسلمين .

و ثانيا : كيف يكون مثل معاوية خليفة النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ؟ و قد قاتل أمير

ــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ١١ ١٢ ، مرّ نقله أيضا في العنوان ١ من هذا الفصل .

٥٨

المؤمنين عليه السّلام الّذي بمنزلة نفس النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله بنصّ القرآن ١ و حربه حرب النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله بنصّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله في المتواتر عنه ٢ و أمر اللّعين بسبّه عليه السّلام ، و سنّه و كانت باقية مدّة بقاء الشّجرة الملعونة في القرآن ، و قتل سيّد شباب أهل الجنّة الحسن بن عليّ عليهما السّلام و قتل آلافا من عباد اللَّه الصالحين ، كحجر بن عدي ، و عمرو بن الحمق ، و نظرائهما ، و قد لعنه النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله في غير موطن ،

و أظهر كفره للمغيرة ، و تأسّف على عدم قدرته على محو اسم النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ،

و مثل ابنه يزيد الّذي ينكت بقضيبه على ثنايا سيّد شباب أهل الجنّة ، و يقول :

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء و لا وحي نزل

و سبى بنات النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و فعل ما فعل بأهل المدينة ، و بمسجد النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و بالكعبة ؟ و مثل الوليد بن يزيد ؟ الّذي رمى القرآن بالنّشاب لمّا استفتحه و جاء و خاب كلّ جبّار عنيد ٣ و قال :

أ توعدنى بجبّار عنيد

فها أنا ذاك جبّار عنيد

إذا ما جئت ربّك يوم حشر

فقل يا رب مزّقني الوليد

و مثل عبد الملك و بنيه الّذين شوّهت شنائعهم وجوه صفحات التّاريخ ؟

و مثل عثمان الّذي أحدث أحداثا ألجأ الصّحابة من المهاجرين و في رأسهم عمّار المجمع على جلاله ، و الأنصار و صلحاء التّابعين على قتله ؟ كما أنّ الوليد الّذي جعله خاتمة الإثني عشر فعل من الأفعال الشّنيعة حتّى و طى‏ء محارمه ، بل إخوته ، ما ألجأ بني أميّة أنفسهم مع عتوهم إلى قتله .

و لهذه المفاسد التجأ بعضهم إلى انتخاب العدول من الخلفاء ، و إن لم

ــــــــــــــــ

( ١ ) النظر إلى قوله تعالى : انفسنا و انفسكم آل عمران : ٦١ كما روى في شأن نزوله .

( ٢ ) هذا المعنى جاء ضمن أحاديث أخرجه الخوارزمي في مناقبه : ٧٥ ، و الخزاز في كفاية الأثر : ١٥٧ عن عليّ عليه السّلام و في الباب من ابن عباس و جابر و أخرج جمع كثير حديث « انا حرب لمن حاربتم » .

( ٣ ) إبراهيم : ١٥ .

٥٩

يكونوا على الولاء ، قال فصيح الدين البياضي منهم : قد أشكل مضمون الحديث الصّحيح الّذي رواه مسلم ، و هو قول النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله : إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم إثنا عشر خليفة كلّهم من قريش . و في رواية : لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة كلّهم من قريش .

قال في ( شرح المشارق ) : يريد بهذا الأمر الخلافة ، و أمّا العدد ، فقيل :

ينبغي أن يحمل على العادلين منهم ، فإنّهم إذا كانوا على منهاج الرّسول و طريقته يكونون خلفاءه ، و إلاّ فلا ، و لا يلزم أن يكونوا على الولاء ١ .

هذا ما قالوه و لكن لا مقنع فيه ، و هو أيضا تأويل باطل لتنافيه مع قول النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله : « لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة كلّهم من قريش » ٢ ،

و لذا اعترف الفصيح بأنّه لا مقنع فيه .

و ثالثا : إنّه لم اقتصر ممّا في الأخبار على خبر « كلّهم يجتمع النّاس عليه » ، مع أنّ في ( صحيح أبي داود ) عنه صلّى اللَّه عليه و آله : « لا يزال الدّين ظاهرا حتّى تقوم السّاعة ، و يكون عليهم إثنا عشر خليفة ، كلّهم من قريش » ٣ .

و في ( صحيح مسلم ) « لا يزال الدّين قائما حتّى تقوم السّاعة ، أو يكون عليكم اثني عشر خليفة كلّهم من قريش » ٤ . و في ( إبانة ابن بطة العكبري ) قال النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله : لا يزال هذا الدّين قائما إلى اثني عشر أميرا من قريش فإذا مضوا ساخت الأرض بأهلها » ٥ .

ــــــــــــــــ

( ١ ) لم اظفر بمرجع نقله ، لكن هذا المعنى جاء في كلام كثير من شارحي الحديث مثل ، النوري و غيره.

( ٢ ) هذا حديث جابر بن سمرة أخرجه جمع كثير ، منهم البخاري في صحيحه ٤ : ٢٤٨ ، و الترمذي في سننه ٤ : ٥٠١ ح ٢٢٢٣ ، مرّ بعض طرقه آنفا .

( ٣ ) أخرجه أبو داود في سننه ٤ : ١٠٦ ح ٤٢٧٩ ٤٢٨١ ، و النقل بتصرف .

( ٤ ) أخرجه مسلم في صحيحه ٣ : ١٤٥٣ ح ١٠ .

( ٥ ) أخرجه ابن بطة في الإبانة عنه مناقب ابن شهر آشوب ١ : ٢٩٠ .

٦٠