بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٣
0%
مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 446
مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 446
و بقتل الوليد الّذي جعله خاتمة الاثني عشر لم تقم القيامة ، و لم تسخ الأرض بأهلها ، فهل تنطبق هذا الأخبار الّتي من صحاحهم عند من لم يكن مكابرا إلاّ على الأئمّة الاثني عشر ، الّذين أوّلهم أمير المؤمنين عليه السّلام و آخرهم المهدي الّذي تواتر عن النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله من الخاصّة و العامّة أنّه الّذي يملأ الأرض قسطا و عدلا ١ و بعده تقوم السّاعة ؟
و بالجملة ، إنّ أمير المؤمنين و الحسن و الحسين عليهم السّلام دلّ على مقامهم غير نصوص النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و تصريحاته فيهم المتواترة آيات الكتاب :
آية المباهلة ٢ ، و آية التّطهير ٣ ، و آية القربى ٤ ، و التّسعة الباقية إلى المهدي عليه السّلام دلّ على مقامهم السّنّة المقطوعة من قول النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله : « إنّي تارك فيكم الثّقلين : كتاب اللَّه و عترتي ، و لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » ٥ .
و قوله صلّى اللَّه عليه و آله : « مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ، و من تخلّف عنها غرق » ٦ . إلى غير ذلك ممّا فيهم عليهما السّلام عموما ، و في المهدي خصوصا . . . فمن شاء فليؤمن ، و من شاء فليكفر . . . ٧ ، . . . ليهلك من هلك عن بيّنة ، و يحيا من
ــــــــــــــــ
( ١ ) المشهور في ذلك حديث ابن مسعود أخرجه جمع كثير ، منهم أبو داود في سننه ٤ : ١٠٦ ح ٤٢٨٢ ، و ابن ماجه في سننه ٢ : ١٣٦٦ ح ٤٠٨٢ ، و الطبري بأربع طرق في دلائل الإمامة : ٢٣٥ ، ٢٢٥ و الطوسي في الغيبة : ١١٢ ، و الكنجي في البيان : ٩٣ ، ١٠٦ و في الباب عن عليّ عليه السّلام و ابن سعيد و حذيفة و جابر و أبي هريرة و عبد الرحمن و ابن عباس و قرة المزني و ابن عمرو و ابن امامة و تميم الداري و العباس و ثوبان و الحسن عليه السّلام و ام سلمة و عوف بن مالك و حامل الصدفي .
( ٢ ) آل عمران : ٦١ .
( ٣ ) الأحزاب : ٣٣ .
( ٤ ) الشورى : ٢٣ .
( ٥ ) هذا حديث الثقلين مرّ تخريجه في شرح فقرة « اليهم يفيء الغالي » في العنوان ٤ من هذا الفصل .
( ٦ ) هذا حديث السفينة مرّ تخريجه في أوائل العنوان ٥ من هذا الفصل .
( ٧ ) الكهف : ٢٩ .
حيّ عن بيّنه . . . ١ .
و أيضا العلّة الّتي دلّت على الاحتياج بالأنبياء خلافا لقول البراهمة ٢ تدلّ على الاحتياج بأئمّة بعد خاتم النّبيّين ، بأئمّة يكونون مثله في العلم و العصمة ، و ليس ذلك إلاّ ما قالت به الإمامية .
٩
من الخطبة ( ١٤٥ ) وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَعْرِفُوا اَلرُّشْدَ حَتَّى تَعْرِفُوا اَلَّذِي تَرَكَهُ وَ لَنْ تَأْخُذُوا بِمِيثَاقِ اَلْكِتَابِ حَتَّى تَعْرِفُوا اَلَّذِي نَقَضَهُ وَ لَنْ تَمَسَّكُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِفُوا اَلَّذِي نَبَذَهُ فَالْتَمِسُوا ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ فَإِنَّهُمْ عَيْشُ اَلْعِلْمِ وَ مَوْتُ اَلْجَهْلِ يُخْبِرُكُمْ حُكْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ وَ صَمْتُهُمْ عَنْ مَنْطِقِهِمْ وَ ظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ لاَ يُخَالِفُونَ اَلدِّينَ وَ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَهُوَ بَيْنَهُمْ شَاهِدٌ صَادِقٌ وَ صَامِتٌ نَاطِقٌ أقول : رواه الكليني في ( روضته ) إلى قوله « نبذه » ، و زاد بعده : « و لن تتلوا الكتاب حقّ تلاوته حتّى تعرفوا الّذي حرّفه ، و لن تعرفوا الضّلالة حتّى تعرفوا الهدى ، و لن تعرفوا التّقوى حتّى تعرفوا الّذي تعدّي ، فإذا عرفتم ذلك ، عرفتم البدع و التكلّف ، و رأيتهم الفرية على اللَّه و على رسوله ، و التّحريف لكتابه ،
و رأيتم كيف هدى اللَّه من هدى ، فلا يجهلنّكم الّذين لا يعلمون ، إنّ علم القرآن ليس يعلم ما هو إلاّ من ذاق طعمه ، فعلّم بالعلم جهله ، و بصّر به عماه ، و سمّع به صممه ، و أدرك به ما قد فات ، و حيي به بعد إذ مات ، و أثبت عند اللَّه عزّ ذكره الحسنات و محابه السيّئات ، و أدرك به رضوانا من اللَّه تبارك و تعالى فاطلبوا
ــــــــــــــــ
( ١ ) الأنفال : ٤٢ .
( ٢ ) مرّ نقل قول البراهمة و نقضه في عنوان [ ١ ] من الفصل الخامس .
ذلك من عند أهله و خاصّته ، فإنّهم خاصّة نور يستضاء به ، و أئمّة يقتدى بهم ،
و هم عيش العلم » . إلى آخر ما في المتن .
و زاد بعده : « فهم من شأنهم شهداء بالحقّ ، و مخبر صادق لا يخالفون الحق و لا يختلفون فيه ، قد خلت لهم من اللَّه سابقة ، و مضى فيهم من اللَّه عزّ و جلّ حكم صادق و في ذلك ذكرى للذّاكرين ، فاعقلوا الحقّ إذا سمعتموه عقل رعاية ، و لا تعقلوه عقل رواية ، فإنّ رواة الكتاب كثير ، و رعاته قليل و اللَّه المستعان » ١ .
« و اعلموا أنّكم لن تعرفوا الرّشد حتّى تعرفوا الّذي تركه إلى حتّى تعرفوا الّذي نبذه » قال ابن أبي الحديد و تبعه الخوئي : هذا الكلام كلّه تنبيه على وجوب البراءة من أهل الضّلال . . . ٢ .
قلت : إنّ وجوب متابعة الرّشد و الهدى ، و لزوم مجانبة الضّلالة و الرّدى أمر عقلي لا يحتاج إلى التّنبيه عليه و لا الإشارة إليه ، بل ذكره سمج ركيك ،
نظير أن يقال : الحسن حسن ، و القبيح قبيح . لكونه توضيحا للواضح ، و كلّ عاقل يريد الهداية إلى سلوك الطّريق ، و يكره الضّلال عن المقصد ، إلاّ أنّ المهمّ تشخيصهما ، و كلّ يدّعي الهداية ، و يأنف أن يقال له : أنت على الغواية ، و لذا قال تعالى على لسان رسوله للكفّار : . . . و إنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ٣ . و الضالّ المضلّ يرى نفسه مهتديا هاديا ، قال تعالى حكاية عن فرعون إنّه قال لقومه : . . . ما اريكم إلاّ ما أرى و ما أهديكم إلاّ سبيل الرّشاد ٤ .
ــــــــــــــــ
( ١ ) الكافي للكليني ٨ : ٣٨٦ ح ٥٨٦ .
( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٤٠٩ ، و شرح الخوئي ٤ : ١٣٩ .
( ٣ ) سبأ : ٢٤ .
( ٤ ) غافر : ٢٩ .
و إنما غرضه عليه السّلام بالفقرات الثّلاث أنّ المتقدّمين عليه كانوا تاركي الرّشد و ناقضي الميثاق ، و نابذي الكتاب ، و حيث لم يعرفوهم بذلك لم يعرفوا الرّشد ، و لم يأخذوا بالميثاق ، و لم يمسكوا به ، و ما داموا كذلك لا ينتظر منهم عرفان الرّشد ، و الأخذ بالميثاق و التّمسّك بالكتاب .
« فالتمسوا ذلك من عند أهله » ذلك : إشارة إلى حصر ما هو علم القرآن في من ذاق طعمه ، مع ما عطف عليه في خبر الكليني الّذي اسقطه المصنّف ،
و المراد : أنّهم عليهم السّلام أهل خبرة هذه الامور بما ذكر لهم بعد من كونهم « عيش العلم » إلى آخر الكلام .
« فإنّهم عيش العلم و موت الجهل » قال ابن قتيبة في ( عيونه ) : إنّ هشام بن عبد الملك قال لزيد بن عليّ بن الحسين : ما فعل أخوك البقرة ؟ فقال له : سمّاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله باقرا ، و أنت تسميّه بقرة لقد اختلفتما إذن ١ .
و قال الجاحظ في ( بيانه ) : جمع محمّد بن عليّ بن الحسين ( الباقر عليه السّلام ) صلاح شأن الدّنيا بحذافيرها في كلمتين ، فقال : « إصلاح شأن جميع التعايش و التّعاشر ملء مكيال ، ثلثاه فطنة و ثلثه تغافل » ٢ .
« يخبركم حكمهم عن علمهم » روى محمّد بن يعقوب عن خلف بن حمّاد : أنّ رجلا منهم تزوّج جارية لم تطمث ، فلمّا افتضها سال الدّم لا ينقطع نحوا من عشرة ، فأروها القوابل ، فقال بعض : هذا من دم الحيض . و قال بعض : من دم العذرة . فسألوا أبا حنيفة و غيره ، فقالوا : هذا شيء قد اشكل و الصّلاة فريضة واجبة ، فلتتوضأ و لتصلّ ، و ليمسك عنها زوجها حتّى ترى البياض ، فإن كان دم الحيض لم تضرّها الصّلاة ، و إن كان دم العذرة قد أدّت الفريضة إلى أن
ــــــــــــــــ
( ١ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ١ : ٢١٢ .
( ٢ ) البيان و التبيين للجاحظ ١ : ١٠٧ .
قال : قال له موسى بن جعفر عليه السّلام : تستدخل القطنة ، ثمّ تدعها مليّا ثمّ تخرجها إخراجا رفيقا ، فان كان الدّم مطوّقا في القطنة فهو من العذرة ، و إن كان مستنقعا في القطنة فهو من الحيض . قال خلف : فاستخفّني الفرح فبكيت ،
و قلت : جعلت فداك من يحسن هذا غيرك ؟ فرفع يده إلى السّماء ، و قال : إنّي و اللَّه ما اخبرك إلاّ عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله عن جبرئيل عليه السّلام عن اللَّه عزّ و جلّ ١ .
« و صمتهم عن منطقهم » أتى قوم الباقر عليه السّلام ، فوافقوا صبيّا له مريضا فرأوا منه اهتماما و غما ، و جعل لا يقرّ ، فقالوا : و اللَّه لئن أصابه شيء إنّا لنتخوّف أن نرى منه ما نكره ، فما لبثوا أن سمعوا الصّياح عليه ، فإذا هو قد خرج عليهم منبسط الوجه في غير الحالة الّتي كان عليها ، فقالوا له : جعلنا اللَّه فداك لقد كنّا نخاف ممّا نرى منك أن لو وقع أن نرى منك ما يغمّنا . فقال عليه السّلام لهم : إنّا لنحبّ أن نعافى في من نحبّ ، فإذا جاء أمر اللَّه سلّمنا في ما أحبّ ٢ .
و نظيره ورد من الصّادق في موت إسماعيل ٣ .
« و ظاهرهم عن باطنهم » ، و حيث إنّهم عليهم السّلام لم يكونوا متصنّعين ، و لا مستعملين للسّياسة الدّنيويّة يفهم كلّ عاقل أنّ باطنهم موافق لظاهرهم ، و قد أخبر عزّ و جلّ عن بواطنهم في قوله جلّ ثناؤه و يطعمون الطّعام على حبّه مسكينا و يتيما و أسيرا . إنّما نطعمكم لوجه اللَّه لا نريد منكم جزاء و لا شكورا . إنّا نخاف من ربّنا يوما عبوسا قمطريرا ٤ .
« لا يخالفون الدّين » فقال النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله في المتواتر عنه فيهم عليهم السّلام : إنّهم لن
ــــــــــــــــ
( ١ ) الكافي للكليني ٣ : ٩٢ ح ١ .
( ٢ ) أخرجه الكليني في الكافي ٣ : ٢٢٦ ح ١٤ .
( ٣ ) أخرجه الصدوق في كمال الدين : ٦٥٧ ح ٢ ، و يأتي متن الحديث في العنوان ٢٢ من هذا الفصل .
( ٤ ) الإنسان : ٨ ١٠ .
يفترقوا عن كتابه تعالى حتّى يردا عليه الحوض ١ .
و قال في أمير المؤمنين عليه السّلام في المتواتر أيضا : إنّه مع الحقّ ، و الحقّ معه يدور حيثما دار ٢ .
« و لا يختلفون فيه » ، حيث إنّهم عليهم السّلام يقولون ما يقولون عن النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله عن جبرئيل عليه السّلام عن اللَّه عزّ و جلّ ، فكيف يحصل بينهم اختلاف ؟ و إنّما يحصل الإختلاف بين الّذين يقولون بآرائهم ، و لقد أجاد من قال :
إذا شئت أن ترضى لنفسك مذهبا
و تعلم أنّ النّاس في نقل أخبار
فدع عنك قول الشّافعيّ و أحمد
و مالك و المروي عن كعب أحبار
و وال اناسا قولهم و حديثهم
روى جدّنا عن جبرئيل عن الباري
و أمّا اختلاف الأخبار المرويّة عنهم حتّى صنّف محمّد بن الحسن الطّوسي فيها كتابا سمّاه الاستبصار في ما اختلف من الأخبار ٣ فمن قبل الرّواة أو لصدورها تقيّة ، أو للافتراء عليهم عليهم السّلام و نحوها .
« فهو بينهم شاهد صادق ، و صامت ناطق » ، ظاهر السّياق رجوع الضمير في الكلام إلى الدّين ، و يمكن رجوعه إلى القرآن لاتّحادهما في الخارج ، قال السّروي : إنّهم عليهم السّلام خصّوا بالعلوم ، لأنّهم لم يدخلوا مكتبا و لا تعلّموا من معلّم ، و لا تلمّذوا لفقيه و لا تلقّنوا من راو ، و قد ظهرت في فرق العالمين منهم العلوم ، و لم يعرف إلاّ منهم لأنّهم أخذوا عن النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ، و كذلك كان حال جدّهم عليه و عليهم السّلام حين علم منشأه بين قريش لم يدخل مكتبا و لا
ــــــــــــــــ
( ١ ) النظر إلى حديث الثقلين الّذي مرّ تخريجه في شرح فقرة « إليهم يفيء الغالي » في العنوان ٤ من هذا الفصل .
( ٢ ) أخرج هذا المعنى الترمذي في سننه ٥ : ٦٣٣ ح ٣٧١٤ ، و غيره في ذيل حديث مرّ تخريجه في أواخر العنوان ٥ من هذا الفصل .
( ٣ ) هو رابع الكتب الأربعة في حديث الإمامية ، طبع لمرّات عديدة ، و طبعته بطهران بتحقيق حسن الموسوي الفرسان في دار الكتب الإسلامية في أربع مجلدات .
قرأ على معلّم ، و لا استفاد من حبر ، و أتى النّاس بالقرآن العظيم بما فيه من أسرار الأنبياء و أخبار المتقدّمين ، فعلم العقلاء أنّ ذلك من عند اللَّه تعالى ،
و ليس من تلقاء نفسه ، فأولاده قوم بنور الخلافة يشرقون ، و بلسان النّبوّة ينطقون ، و قد جمعوا ما رووا عنهم ، و سمّوا ذلك بالاصول ، سبعمائة أصل و يزيد على ذلك و يتضمّن علوم الدّين ، و الآداب و الحكم و المواعظ و غير ذلك إلى أن قال فإذا ثبت علوم هؤلاء الّتي لم يأخذوها عن رجال العامّة ، و لا رئي أحد منهم يختلف إلى متقدّم من أهل العلم ، و أنّ كثيرا من فتاويهم يخالف ما عليه العامّة ، و لم يدّع مدّع قطّ أنّهم اختلفوا إلى أحد من مخالفيهم ليتعلّموا منه ،
و الموافق لهم معلوم حاجته إليهم ، دلّ ذلك على أنّ اللَّه تعالى أفردهم ليكشف عن استحقاقهم الإمامة ، و أنّهم أحقّ بالتّقدّم لحاجة النّاس إليهم ، و غنائهم عنهم ، و جروا في ذلك مجرى الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله حين أغناه اللَّه بما علموا عنه من أخبار سوالف الامم . . . ١ قال الصّوري :
آل النّبيّ هم النّبيّ و إنّما
بالوحي فرّق بينهم فتفرّقوا
أبت الإمامة أن تليق بغيرهم
إنّ الرّسالة بالإمامة أليق
١٠
من الخطبة ( ٢٣٧ ) و من خطبة له عليه السّلام يذكر فيها آل محمّد صلّى اللَّه عليه و آله :
هُمْ عَيْشُ اَلْعِلْمِ وَ مَوْتُ اَلْجَهْلِ يُخْبِرُكُمْ حِلْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ وَ ظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ وَ صَمْتُهُمْ عَنْ حِكَمِ مَنْطِقِهِمْ لاَ يُخَالِفُونَ اَلْحَقَّ وَ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ هُمْ دَعَائِمُ اَلْإِسْلاَمِ وَ وَلاَئِجُ اَلاِعْتِصَامِ بِهِمْ عَادَ اَلْحَقُّ فِي نِصَابِهِ وَ اِنْزَاحَ اَلْبَاطِلُ عَنْ مُقَامِهِ وَ اِنْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ مَنْبِتِهِ عَقَلُوا
ــــــــــــــــ
( ١ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٥٤ .
اَلدِّينَ عَقْلَ وِعَايَةٍ وَ رِعَايَةٍ لاَ عَقْلَ سَمَاعٍ وَ رِوَايَةٍ فَإِنَّ رُوَاةَ اَلْعِلْمِ كَثِيرٌ وَ رُعَاتَهُ قَلِيلٌ من الحكمة ( ٩٨ ) و قال عليه السّلام :
اِعْقِلُوا اَلْخَبَرَ إِذَا سَمِعْتُمُوهُ عَقْلَ رِعَايَةٍ لاَ عَقْلَ رِوَايَةٍ فَإِنَّ رُوَاةَ اَلْعِلْمِ كَثِيرٌ وَ رُعَاتَهُ قَلِيلٌ أقول : الأصل في الأوّل ، و في سابقه واحد كما لا يخفى ، إلاّ أنّ المصنّف ذهل لكثرة الفصل بينهما في النّقل إلاّ أن قوله : « هم دعائم الإسلام إلى و انقطع لسانه عن منبته » رواية أخرى و كلام زائد ، و كذلك الثّاني جزء السّابق على ما مرّ ثمة من رواية ( الرّوضة ) .
« هم عيش العلم » قال تعالى في شأنهم : بل هو آيات بيّنات في صدور الّذين اوتوا العلم . . . ١ .
قال الباقر عليه السّلام : ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره و باطنه غير الأوصياء ٢ .
و قال عليه السّلام : ما ينقم النّاس منّا ؟ فو اللَّه إنّا لشجرة النّبوّة ، و موضع الرّسالة ، و مختلف الملائكة ، و بيت الرّحمة ، و معدن العلم ٣ .
و قال الصّادق عليه السّلام : في دارنا مهبط جبرائيل ، و نحن خزّان علم اللَّه تعالى ٤ .
ــــــــــــــــ
( ١ ) العنكبوت : ٤٩ .
( ٢ ) الكافي للكليني ١ : ٢٢٨ ح ٢ ، و البصائر للصفار : ٢١٣ ح ١ ، ٤ بطريقين .
( ٣ ) البصائر للصفار : ٧٧ ح ٥ عن الباقر عليه السّلام و أخرجه هو في المصدر : ٧٦ ، ٧٨ ح ٢ ، ٩ ، و الكافي للكليني ١ : ٢٢١ ح ١ عن السجاد عليه السّلام .
( ٤ ) أخرجه الصدوق في أماليه : ٢٥٢ ح ١٥ المجلس ٥٠ ضمن حديث .
« و موت الجهل » قال الباقر عليه السّلام لسلمة بن كهيل ، و الحكم بن عتيبة : شرّقا و غرّبا فلا تجدان علما صحيحا إلاّ شيئا خرج من عندنا أهل البيت ١ .
و في الخبر : أنّ الحسين عليه السّلام قال في الثّعلبية لكوفي : لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبرئيل عليه السّلام من دارنا ، و نزوله بالوحي على جدّي . يا أخا أهل الكوفة ، أفمستقى النّاس للعلم من عندنا فعلموا و جهلنا ؟ هذا ما لا يكون ٢ .
و دخل عبّاد بن كثير عابد البصرة ، و ابن شريح فقيه مكّة ، على الصّادق عليه السّلام ، و عنده ميمون القدّاح مولى أبيه ، فسأله عبّاد عن مسألة فأجابه ،
فازورّ ، فقال عليه السّلام له : « إنّ نخلة مريم عليها السّلام كانت عجوة ، و نزلت من السّماء فما نبت من أصلها كان عجوة ، و ما كان من لقاط فهو لون » فخرجا مع ميمون فقال عبّاد لابن شريح : ما المثل الّذي ضربه لي ؟ قال له : سل هذا الغلام يعني ميمونا فإنّه منهم . فقال له ميمون : ضرب لك مثل نفسه ، فأخبرك أنّه من ولد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و علمه عندهم ، فما جاء من عندهم فهو صواب ، و ما جاء من عند غيرهم فهو لقاط ٣ .
« يخبركم حلمهم عن علمهم » في ( ذيل الطّبري ) : كان هشام بن إسماعيل يؤذي عليّ بن الحسين عليهما السّلام و أهل بيته ، يخطب بذلك على المنبر و ينال من عليّ عليه السّلام ، فلمّا ولّي الوليد بن عبد الملك عزله و أمر به أن يوقف للنّاس و كان يقول : لا و اللَّه ما كان أحد من النّاس أهمّ إليّ من عليّ بن الحسين ، كنت أقول :
رجل صالح يسمع قوله ، فوقف للنّاس ، فجمع علي بن الحسين عليهما السّلام ولده و خاصّته و نهاههم عن التعرّض له ، و غدا عليّ بن الحسين عليه السّلام مارّا لحاجة ،
ــــــــــــــــ
( ١ ) الكافي للكليني ١ : ٣٩٩ ح ٣ ، و البصائر للصفار : ٣٠ ح ٤ ، و الكشي في معرفة الرجال اختياره : ٢٠٩ ح ٣٦٩ .
( ٢ ) الكافي للكليني ١ : ٣٩٨ ح ٢ ، و الصفار في البصائر : ٣١ ح ١ ضمن حديث .
( ٣ ) الكافي للكليني ١ : ٤٠٠ ح ٦ .
فما عرض له فناداه هشام بن إسماعيل : اللَّه أعلم حيث يجعل رسالته ١ .
و في ( مقاتل أبي الفرج ) : أنّ رجلا من آل عمر كان يشتمّ عليّا عليه السّلام إذا رأى موسى بن جعفر و يؤذيه إذا لقيه ، فقال له بعض مواليه : دعنا نقتله . فقال :
لا . ثمّ مضى راكبا حتّى قصده في مزرعة له فتوطأ بحماره ، فصاح : لا تدس زرعنا . فلم يصغ إليه ، و أقبل حتّى نزل عنده و جعل يضاحكه ، و قال له : كم غرمت على زرعك هذا ؟ قال : مائة دينار . قال : فكم ترجو أن تربح ؟ قال : لا أدري . قال : سألتك كم ترجو ؟ قال : مائة اخرى . فأخرج ثلاثمائة دينار فوهبها له ، فقام فقبّل رأسه ، فلمّا كان موسى بعد ذلك يدخل المسجد وثب العمري فسلّم عليه و جعل يقول : اللَّه أعلم حيث يجعل رسالته ٢ فوثب أصحابه عليه و قالوا : ما هذا ؟ فشاتمهم ٣ . و للحسن عليه السّلام نظير ذلك مع شامي ٤ .
« و صمتهم عن حكم منطقهم » في خبر ( الصّحيفة ) : قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام : يا متوكّل كيف قال لك يحيى بن زيد : إنّ عمّي محمّد بن عليّ و ابنه جعفرا دعيا النّاس إلى الحياة ، و نحن دعوناهم إلى الموت ؟ قلت : نعم أصلحك اللَّه ، قال ذلك .
فقال : رحم اللَّه يحيى ، إن أبي حدّثني عن أبيه عن جدّه عن عليّ عليه السّلام أنّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله أخذته نعسة و هو على منبره ، فرأى في منامه رجالا ينزون على منبره نزو القردة ، يردّون النّاس على أعقابهم القهقرى ، فاستوى النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله جالسا و الحزن يعرف في وجهه ، فأتاه جبرئيل عليه السّلام بهذه الآية و ما جعلنا الرّؤيا الّتي أريناك إلاّ فتنة للنّاس و الشّجرة الملعونة في القرآن و نخوّفهم فما
ــــــــــــــــ
( ١ ) أخرجه الطبري في ذيل المذيل منتخبه : ١٢٠ ، و الآية ١٢٤ من سورة الأنعام .
( ٢ ) الأنعام : ١٢٤ .
( ٣ ) المقاتل لأبي الفرج : ٣٣٢ .
( ٤ ) الكامل للمبرد ٤ : ١٠٥ و المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ١٩ .
يزيدهم إلاّ طغيانا كبيرا ١ يعني بني أميّة .
قال : يا جبرئيل أعلى عهدي يكونون ؟ قال : لا ، و لكن يدور رحى الإسلام من مهاجرك ، فتلبث بذلك عشرا ، ثمّ يدور رحى الإسلام على رأس خمسة و ثلاثين من مهاجرك فتلبث بذلك خمسا ، ثمّ لا بدّ من رحى ضلالة هي قائمة على قطبها ، ثمّ ملك الفراعنة ، و أنزل تعالى في ذلك : إنّا أنزلناه في ليلة القدر .
و ما أدراك ما ليلة القدر . ليلة القدر خير من ألف شهر ٢ أي : يملكها بنو أميّة ليس فيها ليلة القدر . فأطلع اللَّه نبيّه صلّى اللَّه عليه و آله أنّ بني اميّة يملكون سلطان هذه الامّة و ملكها طول هذه المدّة ، فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها حتى يأذن اللَّه بزوال ملكهم ، و هم في ذلك يستشعرون عداوتنا إلى أن قال : قال عليه السّلام : ما خرج و لا يخرج منّا أهل البيت إلى قيام قائمنا عليه السّلام أحد ليدفع ظلما أو ينعش حقّا إلاّ اصطلمته البليّة ، و كان قيامه زيادة في مكروهنا و مكروه شيعتنا . . . ٣ .
و قال أبو زبيد الطّائي :
صمت عظام الحلوم أن سكتوا
من غير عيّ بهم و لا خرس
« لا يخالفون الحقّ » لعصمتهم من اللَّه تعالى فلا يتّبعون أهواءهم .
« و لا يختلفون فيه » لانكشاف الحقّ عندهم ، و الحقّ واحد ، قال الباقر عليه السّلام في قوله تعالى : . . . و لا يزالون مختلفين . إلاّ من رحم ربّك . . . ٤ : يعني بمن رحم آل محمّد و أتباعهم ، فإنّهم لا يختلفون في الدّين ٥ .
و قال الصّادق عليه السّلام : حديثي حديث أبي ، و حديث أبي حديث جدّي ،
ــــــــــــــــ
( ١ ) الإسراء : ٦٠ .
( ٢ ) القدر : ١ ٣ .
( ٣ ) الصحيفة السجادية : ١٤ ، المقدمة .
( ٤ ) هود : ١١٨ ١١٩ .
( ٥ ) تفسير القمي ١ : ٣٣٨ ، و أخرج معناه الكليني في الكافي ١ : ٤٢٩ ح ٨٣ و النقل بتصرف .
و حديث جدّي حديث الحسين ، و حديث الحسين حديث الحسن ، و حديث الحسن حديث أمير المؤمنين عليه السّلام ، و حديث أمير المؤمنين عليه السّلام حديث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله ، و حديث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله قول اللَّه تعالى ١ .
و قالوا عليهم السّلام : يجوز أن يسند ما قاله أحدنا إلى جميعنا ، و ما قاله آخرنا إلى أوّلنا ٢ .
و قلنا : في ما مرّ وجه اختلاف كتب حديث شيعتهم . و نزيد هنا أنّ العمدة فيه أمران :
أحدهما دسّ الكذابين موضوعاتهم في أخبارهم ، كان المغيرة بن سعيد يدسّ في أحاديث الباقر عليه السّلام ، و أبو الخطّاب في أحاديث الصّادق عليه السّلام .
قيل ليونس بن عبد الرّحمن : ما أشدّك في الحديث و أكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا ، فما الّذي يحملك على ردّ الأحاديث ؟ فقال : حدّثني هشام بن الحكم أنّه سمع الصّادق عليه السّلام يقول : لا تقبلوا علينا حديثا إلاّ ما وافق القرآن و السّنّة أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدّمة ، فإنّ المغيرة بن سعيد لعنه اللَّه دسّ في كتب أصحاب أبي عليه السّلام أحاديث لم يحدّث بها أبي ، فاتّقوا اللَّه و لا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا تعالى و سنّة نبيّنا صلّى اللَّه عليه و آله ، فإنّا إذا حدّثنا قلنا : قال اللَّه عزّ و جلّ ، و قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله ٣ . و كان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي ، فيدفعونها إلى المغيرة ، فكان يدسّ فيها الكفر و الزّندقة و يسندها إلى أبي ، ثمّ يدفعها إلى أصحابه ، فيأمرهم أن يبثّوها
ــــــــــــــــ
( ١ ) الكافي للكليني ١ : ٥٣ ح ١٤ .
( ٢ ) هذا المعنى أخرجه المفيد في أماليه : ٤٢ ح ١٠ المجلس ٥ عن الباقر عليه السّلام ، و الاجازات لابن طاووس عنه البحار ٢ : ١٦١ ح ١٦ عن الصادق عليه السّلام .
( ٣ ) معرفة الرجال للكشي ، اختياره : ٢٢٤ ، ٢٢٥ ، ٢٢٨ ، ٢٢٤ ح ٤٠١ ، ٤٠٢ ، ٤٠٧ على الترتيب .
في الشيعة ١ .
و قال عليه السّلام أيضا : كان المغيرة يكذب على أبي . و قال : إنّ أبي حدّثه : أنّ نساء آل محمّد إذا حضن قضين الصّلاة ، كذب و اللَّه عليه لعنة اللَّه ما كان من ذلك شيء و لا حدّثه أبي .
و أمّا أبو الخطّاب فكذب عليّ و قال : إنّي أمرته أن لا يصلّي هو و أصحابه المغرب حتّى يروا كوكب كذا يقال له : القنداني و اللَّه إنّ ذلك لكوكب ما أعرفه ٢ .
و قال أيضا يونس بن عبد الرّحمن : وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر عليه السّلام ، و وجدت أصحاب أبي عبد اللَّه عليه السّلام متوافرين فسمعت منهم و أخذت كتبهم ، فعرضتها من بعد على أبي الحسن الرّضا عليه السّلام ، فأنكر منها أحاديث كثيرة أن يكون من أحاديث أبي عبد اللَّه عليه السّلام ، و قال لي : إنّ أبا الخطّاب كذب على أبي عبد اللَّه عليه السّلام لعن اللَّه أبا الخطّاب ، و كذلك أصحاب أبي الخطّاب يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد اللَّه عليه السّلام ، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن فإنّا إن تحدّثنا ، حدّثنا بموافقة القرآن و موافقة السّنّة ، إنّا عن اللَّه و رسوله نحدّث و لا نقول : قال فلان و فلان ، فيتناقض كلامنا ، إنّ كلام آخرنا مثل كلام أوّلنا ، و كلام أوّلنا مصدّق لكلام آخرنا ، فإذا أتاكم من يحدّثكم بخلاف ذلك ، فردّوه عليه و قولوا : أنت أعلم و ما جئت به ، فإنّ مع كلّ قول منّا حقيقة و عليه نور ، فما لا حقيقة معه و لا نور عليه فذلك من قول الشّيطان ٣ .
ــــــــــــــــ
( ١ ) معرفة الرجال للكشي ، اختياره : ٢٢٤ ، ٢٢٥ ، ٢٢٨ ، ٢٢٤ ح ٤٠١ ، ٤٠٢ ، ٤٠٧ على الترتيب .
( ٢ ) معرفة الرجال للكشي ، اختياره : ٢٢٤ ، ٢٢٥ ، ٢٢٨ ، ٢٢٤ ح ٤٠١ ، ٤٠٢ ، ٤٠٧ ، ٤٠١ على الترتيب .
( ٣ ) المصدر نفسه .
و ثانيهما : أنّهم عليهم السّلام أجابوا في بعض المواضع تقيّة ، و لو كانوا لا يتّقون و لا يأمرون شيعتهم بالتّقيّة لما أبقت الأعداء منهم و من شيعتهم أثرا ،
قال زرارة : سألت أبا جعفر الباقر عليه السّلام عن مسألة فأجابني ، ثمّ جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ، ثمّ جاءه رجل آخر ( فسأله عنها ) ،
فأجابه بخلاف ما أجابني و أجاب صاحبي ، فلمّا خرج الرّجلان ، قلت : يابن رسول اللَّه رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كلّ واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه ؟ فقال : يا زرارة إنّ هذا خير لنا ، و أبقى لنا و لكم ، و لو اجتمعتم على أمر واحد لصدّقكم النّاس علينا ، و لكان أقلّ لبقائنا و لبقائكم . قال زرارة : ثمّ قلت لأبي عبد اللَّه الصّادق عليه السّلام : شيعتكم لو حملتموهم على الأسنّة أو على النّار لمضوا ، و هم يخرجون من عندكم مختلفين ، فأجابني بمثل جواب أبيه ١ .
و بالجملة ، اختلاف أحاديثهم عارضي ، و إلاّ فأصل أقوالهم واحد ، قال ابن الصّبّاغ المالكي في ( فصوله ) : قال بعض أهل العلم : علوم أهل البيت عليهم السّلام لا تتوقّف على التّكرار و الدّرس ، و لا يزيد يومهم فيها على ما كان في الأمس ،
لأنّهم المخاطبون في أسرارهم ، و المحدّثون في النّفس ، و سماء معارفهم بعيدة عن الإدراك و اللّمس ، و من أراد سترها كمن أراد ستر وجه الشّمس ،
و هذا ممّا يجب أن يكون ثابتا مقرّرا في النّفس ، فهم يرون عالم الغيب في عالم الشهادة ، و يقفون على حقائق المعارف في خلوات العبادة ، و تناجيهم ثواقب أفكارهم ، في أوقات أذكارهم ، بما تسنّموا به غارب الشّرف و السّيادة ،
و حصلوا بصدق توجيهم إلى جناب القدس ، فبلغوا به منتهى السّؤال و الإرادة ،
فهم كما في نفوس أوليائهم و محبيهم و زيادة ، فما تزيد معارفهم في زمان
ــــــــــــــــ
( ١ ) الكافي ١ : ٦٥ ح ٥ .
الشّيخوخة على معارفهم في زمن الولادة ١ .
« هم دعائم الاسلام » و الدّعائم : جمع الدّعامة عماد البيت ، و بني الإسلام على خمسة أشدّها ولايتهم عليه السّلام ٢ .
و قال النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله في المتّفق عليه : من مات و لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ٣ .
« و ولائج » جمع وليجة ، و وليجة الرّجل : خاصته و بطانته .
« الاعتصام » أي : التّمسك ، فإنّهم عليهم السّلام أحد الثّقلين اللّذين تركهما النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ، و قال : إن تمسّكتم بهما لن تضّلوا أبدا ٤ .
« بهم عاد الحقّ في نصابه » قال الجواهري : النّصاب و المنصب : الأصل ٥ .
ثمّ تقديم الظّرف للحصر ، فمفاده : أنّ بغير أهل البيت لا يمكن رجوع الحقّ في محلّه .
« و انزاح » أي : بعد .
« الباطل عن مقامه » و حيث إنّ ( و انزاح ) عطف على ( عاد ) يصير المعنى : أنّ بغيرهم لا يمكن اضمحلال الباطل .
« و انقطع لسانه عن منبته » و أصله و هو أيضا مفيد للحصر في أنّ عدم
ــــــــــــــــ
( ١ ) الفصول المهمّة لابن الصباغ : ١٧٣ .
( ٢ ) النظر إلى حديث « بني الاسلام على خمس على الصّلاة و الزّكاة و الصّوم و الحجّ و الولاية و لم يناد بشيء كما نودي بالولاية » أخرجه الكليني بأربع طرق في الكافي ٢ : ١٨ ، ٢١ ح ١ ، ٣ ، ٥ ، ٨ و غيره عن الباقر عليه السّلام و للحديث طرق و الفاظ غير ذلك .
( ٣ ) أخرجه باختلاف في الألفاظ جمع كثير منهم البخاري في صحيحه ٤ : ٢٣٤ و مسلم بطريقين في صحيحه ٣ : ١٤٧٧ ١٤٧٨ ح ٥٥ ٥٦ ، و غيرهما عن ابن عبّاس و أخرجه البرقي في المحاسن : ١٥٥ ح ٨٢ و غيره عن عليّ عليه السّلام و في الباب عن سلمان و أبي ذر و المقداد و جابر و ابن عمر و أبي هريرة و عامر بن ربيعة و غيرهم .
( ٤ ) انظر حديث الثقلين الّذي مرّ تخريجه في شرح فقرة « إليهم يفيء الغالي » في العنوان ٤ من هذا الفصل .
( ٥ ) صحاح اللغة للجوهري ١ : ٢٢٥ مادة ( نصب ) .
استطاعة الباطل للتّكلّم لا يحصل بغيرهم عليهم السّلام ، روى الشّيخ في أواخر ( غيبته ) عن أبي جعفر عليه السّلام قال : دولتنا آخر الدّول ، و لن يبقى أهل بيت لهم دولة إلاّ ملكوا قبلنا ، لئلاّ يقولوا إذا رأوا سيرتنا : إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء ،
و هو قول اللَّه عزّ و جلّ . . . و العاقبة للمتّقين ١ .
و نظير كلامه عليه السّلام قول النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله : « بنا يختم اللَّه الدّين كما بنا فتحه » ٢ .
و حينئذ فيمكن أن يقال : إنّ مراده عليه السّلام بقوله « بهم عاد الحق . . . و انقطع لسانه عن منبته » ليس أيّام تصدّيه للأمر ، لأنّه لم يحصل في قيامه عليه السّلام تلك الامور كاملة ، كيف و هو عليه السّلام في أيّامه لم يستطع تغيير بدع الأوّلين ، و كان معاوية في قباله ملجأ المنافقين ، و لم يطل الوقت حتّى صار الأمر مثل أيّام عثمان ، إلى بني اميّة اللاّعبين بالدين ، المعتقدين أنّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله كان في قيامه لاعبا بالملك بدون وحي و نبوّة ، بل أيّام قيام قائمهم عليه السّلام الّتي لا يبقى فيها في الشّرق و الغرب أثر من باطل .
« عقلوا الدّين عقل وعاية و رعاية » روى الحاكم في ( مستدركه ) ، و الكنجي الشّافعي في ( مناقبه ) مسندا عن بريدة الأسلمي عن النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله قال لعلي عليه السّلام :
إنّ اللَّه تعالى أمرني أن أدنيك و لا أقصيك ، و أن اعلّمك و أن تعى ، و حقّ على اللَّه تعالى أن تعى ، فنزل قوله تعالى : . . . و تعيها اذن واعية ٣ .
و فيهم عليه السّلام نزل قوله تعالى : . . . فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون ٤ ، و قوله تعالى : بل هو آيات بيّنات في صدور الّذين أوتوا
ــــــــــــــــ
( ١ ) الغيبة للطوسي : ٢٨٢ ، و الآية ٨٣ من سورة القصص .
( ٢ ) أمالي الطوسي ١ : ٢٠ المجلس ١ ، و الإمامة و التبصرة لابن بابويه : ٩٢ ح ٨١ ، كمال الدّين للصدوق : ٢٣٠ ح ٣١ .
( ٣ ) كفاية الطالب للكنجي : ٤٠ ، و الآية ١٢ من سورة الحاقة .
( ٤ ) الأنبياء : ٧ .
العلم . . . ١ ، و قوله تعالى : . . . و الرّاسخون في العلم . . . ٢ ، و قوله تعالى :
شهد اللَّه أنّه لا إله إلاّ هو و الملائكة و اولو العلم . . . ٣ .
« لا عقل سماع و رواية » كباقي النّاس ، و لمّا زوج المأمون ابنته من الجواد عليه السّلام قال له عليه السّلام يحيى بن أكثم في مجلس المأمون : يابن رسول اللَّه ما تقول في الخبر الّذي روى أنّه نزل جبرئيل على النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ، و قال له : سل أبا بكر ، هل هو عنّي راض ، فإنّي عنه راض ؟
فقال عليه السّلام : يجب أن نأخذه مثال الخبر الّذي قاله النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله في حجّة الوداع : قد كثرت عليّ الكذابة ، و ستكثر فمن كذب عليّ متعمّدا فليتبّوأ مقعده من النّار ، فإذا أتاكم الحديث فأعرضوه على كتاب اللَّه و سنّتي فما وافق كتاب اللَّه و سنّتي ، فخذوا به و ما خالف كتاب اللَّه و سنّتي فلا تأخذوا به ، قال عليه السّلام :
و ليس يوافق هذا الحديث كتاب اللَّه تعالى قال جلّ و علا : و لقد خلقنا الإنسان و نعلم ما توسوس به نفسه و نحن أقرب إليه من حبل الوريد ٤ ، فاللَّه تعالى خفي عليه رضاء أبي بكر من سخطه حتّى سأل عن مكنون سرّه ؟ هذا مستحيل في العقول .
قال يحيى : و قد روي : أنّ مثل أبي بكر و عمر في الأرض مثل جبرئيل و ميكائيل في السّماء .
فقال عليه السّلام : و هذا يجب أن ينظر فيه ، لأنّ جبرئيل و ميكائيل ملكان مقرّبان لم يعصيا اللَّه قطّ ، و لم يفارقا طاعته لحظة واحدة ، و هما قد أشركا باللَّه تعالى ،
و إن أسلما بعد الشّرك ، فكان أكثر أيّامهما الشّرك باللَّه ، فمحال أن يشبها بهما .
ــــــــــــــــ
( ١ ) العنكبوت : ٤٩ .
( ٢ ) آل عمران : ٧ .
( ٣ ) آل عمران : ١٨ .
( ٤ ) ق : ١٦ .
قال يحيى : و قد روي أيضا : أنّهما سيّدا كهول أهل الجنّة .
فقال عليه السّلام : و هذا الخبر أيضا محال ، لأنّ أهل الجنّة كلّهم يكونون شبّانا ،
و لا يكون فيهم كهل ، و هذا الخبر وضعه بنو أميّة ، لمضادّة الخبر الّذي قال النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله في الحسن و الحسين : إنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة .
قال يحيى : و روى أيضا : أنّ عمر سراج أهل الجنّة .
فقال عليه السّلام : هذا أيضا محال ، لأّنّ في الجنّة ملائكة اللَّه المقرّبين ،
و آدم عليه السّلام و محمّدا صلّى اللَّه عليه و آله و جميع الأنبياء و المرسلين ، فلا تضيء بأنوارهم حتّى تضيء بنور عمر ؟ قال يحيى : و قد روي : أنّ السّكينة تنطق على لسان عمر .
فقال عليه السّلام أبو بكر كان أفضل من عمر ، و قال على رأس المنبر : إنّ لي شيطانا يعتريني فإذا ملت فسدّدوني .
قال يحيى : و روي : أنّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله قال : لو لم أبعث لبعث عمر .
فقال عليه السّلام : كتاب اللَّه أصدق من هذا الحديث يقول اللَّه تعالى : و إذ أخذنا من النبيّين ميثاقهم و منك و من نوح . . . ١ قد أخذ اللَّه ميثاق النبيّين ، فكيف يمكن أن يبدّل ميثاقه ؟ و كذلك الأنبياء لم يشركوا باللَّه طرفة عين ، فكيف يبعث من أشرك و كان أكثر أيّامه الشّرك باللَّه ؟ قال يحيى : و قد روي أيضا : أنّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله قال : ما احتبس عنّي الوحي قطّ إلاّ ظننته قد نزل على آل الخطاب .
فقال عليه السّلام : و هذا أيضا محال ، لأنّه لا يجوز أن يشكّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله في نبوّته ،
قال تعالى : اللَّه يصطفي من الملائكة رسلا و من النّاس . . . ٢ . فكيف يمكن أن
ــــــــــــــــ
( ١ ) الأحزاب : ٧ .
( ٢ ) الحج : ٧٥ .
ينتقل النّبوّة ممّن اصطفاه اللَّه تعالى إلى من أشرك به ؟
قال يحيى : و قد روي : أنّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله قال : لو نزل العذاب ، لما نجا منه إلاّ عمر بن الخطّاب .
فقال عليه السّلام : و هذا أيضا محال ، لأنّ اللَّه تعالى يقول : و ما كان اللَّه ليعذّبهم و أنت فيهم و ما كان اللَّه معذّبهم و هم يستغفرون ١ . فأخبر سبحانه : أنّه لا يعذّب أحدا ما دام فيهم النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و ما داموا يستغفرون اللَّه ٢ .
« فإنّ رواة العلم كثير و رعاته قليل » في الخبر : جاء رجل إلى النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله فقال : يا رسول اللَّه ما العلم ؟ قال صلّى اللَّه عليه و آله : الإنصات . قال : ثمّ مه ؟ قال : الاستماع .
قال : ثمّ مه ؟ قال : الحفظ . قال : ثمّ مه ؟ قال : العمل به . قال : ثمّ مه يا رسول اللَّه ؟
قال نشره ٣ .
و عن الصّادق عليه السّلام : إنّ رواة الكتاب كثير ، و إنّ رعاته قليل ، فكم من مستنصح للحديث مستغش للكتاب ، فالعلماء يحزنهم ترك الرّعاية ، و الجهّال يجزيهم حفظ الرّواية ، فراع يرعى حياته ، وراع يرعى هلكته ، فعند ذلك اختلف الرّاعيان ، و تغاير الفريقان ٤ .
و عنه عليه السّلام : خبر تدريه خير من ألف ترويه ٥ .
هذا ، و في ( مستطرفات السّرائر ) كان المفيد أيّام اشتغاله على أبي عبد اللَّه المعروف بالجعل في مجلس عليّ بن عيسى الرّماني ، فسأل الرّمّاني بصريّ عن يوم الغدير و الغار ، فقال الرّمّاني : خبر الغار دراية ، و خبر الغدير
ــــــــــــــــ
( ١ ) الأنفال : ٣٣ .
( ٢ ) الاحتجاج للطوسي : ٤٤٦ .
( ٣ ) الكافي للكليني ١ : ٤٨ ح ٤ .
( ٤ ) الكافي للكليني ١ : ٤٩ ح ٦ ، و رواه الصفواني في انس العالم عنه البحار ٢ : ٢٠٦ ح ٩٨ .
( ٥ ) رواه الصفواني في انس العالم عنه البحار ٢ : ٢٠٦ ح ٩٦ ، و معاني الأخبار للصدوق : ٢ ح ٣ .
رواية و الرّواية ما توجب ما توجبه الدّراية . ثمّ انصرف البصري ، فقال المفيد للرّمّاني : ما تقول في من قاتل الإمام العادل ؟ قال : كافر . ثمّ استدرك و قال :
فاسق . فقال له : ما تقول في أمير المؤمنين عليّ ؟ قال : إمام . قال : ما تقول في طلحة و الزّبير و يوم الجمل ؟ قال : تابا . قال : أمّا خبر الجمل فدراية ، و أمّا خبر التّوبة فرواية . فقال له : أو كنت حاضرا حين سألني البصري ؟ قال : نعم . فدخل الرّمّاني منزله ، و أخرج معه ورقة قد ألصقها ، و قال : أوصلها إلى شيخك أبي عبد اللَّه . فجاء بها إليه فقرأها ، و لم يزل يضحك هو و نفسه ، و قال : قد أخبرني بما جرى لك في مجلسه و لقبك المفيد ١ .
و قيل أيضا : بينما القاضي عبد الجبّار شيخ المعتزلة ذات يوم في بغداد ، و مجلسه مملو من علماء الفريقين ، إذ حضر المفيد و جلس في صفّ النّعال ، إذ قال للقاضي : إنّ لي سؤالا فإن أجزت بحضور هؤلاء الأئمّة . قال :
سل . قال : ما تقول في الخبر الّذي يرويه طائفة من الشّيعة : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » أهو مسلّم صحيح عن النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله يوم الغدير ؟ فقال : نعم خبر صحيح . فقال : ما المراد بلفظ المولى ؟ قال : هو بمعنى أولى . قال : فما هذا الخلاف و الخصومة بين الشّيعة و السّنّة ؟ قال : أيّها الأخ هذه رواية ، و خلافة أبي بكر دراية ، و العاقل لا يعادل الرّواية بالدّراية . فقال : ما تقول في قول النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السّلام : « حربك حربي و سلمك سلمي » ؟ قال : الحديث صحيح . فقال : ما تقول في أصحاب الجمل ؟ فقال : أيّها الأخ إنّهم تابوا . فقال :
أيّها القاضي الحرب دراية ، و التّوبة رواية ، و أنت قررّت في حديث الغدير أنّ الرّواية لا تعارض الدّراية فبهت القاضي و لم يحر جوابا ، و وضع رأسه ساعة ثمّ رفعه و قال : من أنت ؟ قال : محمّد بن محمّد بن النّعمان الحارثي . فقام
ــــــــــــــــ
( ١ ) مستطرفات السرائر لابن ادريس : ٤٩٣ ، و التنبيه للورام ٢ : ٣٠٢ ، و النقل بتصرف في اللفظ .