بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٣
0%
مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 446
مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 446
القاضي و أجلسه مجلسه ، و قال : أنت المفيد حقّا . فانقبض فرق المخالفين و همهموا ، فقال القاضي : هذا الرّجل أسكتني ، فإن كان عندكم جواب فقولوا حتّى أجلس في مجلسي الأوّل ، فسكتوا و تفرّقوا ، فوصل خبر المناظرة إلى عضد الدّولة فأحضر المفيد ، و سأله عمّا جرى ، فأخبره فأكرمه غاية الاكرام ١ .
قلت : يقال للرّمّاني : نعم ، خبر الغار دراية ، لكنّه دراية عار و شنار ، حيث أوجب حزنه سلب الرّاحة عن النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله حتّى نهاه النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ، و خص اللَّه تعالى إنزال السّكينة بنبيّه صلّى اللَّه عليه و آله ، و أخرج صاحبه إشعارا بعدم إيمانه ، حيث إنّه تعالى في آيات اخر أشرك المؤمنين مع نبيّه صلّى اللَّه عليه و آله في إنزال السّكينة عليهم .
و أمّا كون خبر الغدير رواية فيقال له و للقاضي : أهل العالم حتّى غير الملّيين المتواتر عندهم دراية ، و أيّ تواتر فوق هذا الخبر ؟ و قد صنّف في طرقه مجلّدات ضخام و رواه الخصم . و يقال للقاضي : كون خلافة أبي بكر دراية بمعنى : تصديه للأمر أمر لا ينكره أحد ، إلاّ أنّ الكلام في حقّه و باطله ،
و خلافة حصلت بإرادة إحراق جمع ، قال تعالى فيهم : . . . فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم . . . ٢ . لو لم يسلّموا الأمر إليهم معلوم حالها ، إلاّ أنّ إخواننا مثلهم مثل من سأل فقيها : هل تصير امّ الزّوجة زوجة ؟ فقال : لا . قال : نحن فعلناها فصارت . جعلوه خليفة لكن مع تلك الشّنائع و الفظائع .
و أمّا توبة طلحة و الزّبير ، فطلحة لعمر اللَّه كان إلى إزهاق روحه مجدّا في قتال أمير المؤمنين عليه السّلام ، بل مريدا لقتله لو يسّر له ، و الزّبير و إن ترك القتال
ــــــــــــــــ
( ١ ) نقله النوري في خاتمة المستدرك : ٥٢٠ .
( ٢ ) آل عمران : ٦١ .
لما ذكّره أمير المؤمنين عليه السّلام قول النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله في عمله ، لكنّه لو كان تاب كان الواجب عليه أن يلحق به عليه السّلام و يقاتل معه عليه السّلام ، كما كان الحرّ لمّا تاب من خروجه على الحسين عليه السّلام ، ترك عسكر ابن سعد و لحق به عليه السّلام ، و قاتل معه حتّى قتل . ثمّ ما يقولون في امّهم ، فإنّها أيّ وقت تابت ؟ فكما أنّها لمّا سمعت ببيعة النّاس مع أمير المؤمنين عليه السّلام قالت : ليت السّماء أطبقت على الأرض . و لم يبايع النّاس عليّا و سجدت شكرا لمّا بلغها قتل أمير المؤمنين عليه السّلام و قالت :
فالقت عصاها و استقرّ بها النّوى
كما قرّ عينا بالإياب المسافر
و رحّب بابن ملجم قاتله .
و لعلّهم يقولون : تابت يوم أمرت برمي جنازة سيّد شباب أهل الجنّة الحسن عليه السّلام لئلاّ يدفنوه عند جدّه ؟ قوله عليه السّلام على المتن الأخير : « اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية فإنّ رواة العلم كثير و رعاته قليل » قد عرفت في العنوان السابق أنّ رواية الكليني جعلت هذا الكلام مع اختلاف يسير ، ففي ذاك : « اعقلوا الحقّ » جزء الكلام السّابق هنا على قوله : « هم دعائم الإسلام » ، و أمّا جعل المصنّف قوله : « عقلوا الدّين . . . » . . . جزأه ، فلعلّه في رواية أخرى ، ثمّ بعد اتّحاد مفاده لا يحتاج إلى تكرار شرحه .
١٢
من الخطبة ( ٢٠٥ ) و من كلام له عليه السّلام في بعض أيام صفّين و قد رأى الحسن عليه السّلام يتسرّع إلى الحرب :
اِمْلِكُوا عَنِّي هَذَا اَلْغُلاَمَ لاَ يَهُدَّنِي فَإِنَّنِي أَنْفَسُ بِهَذَيْنِ يَعْنِي ؟ اَلْحَسَنَ ؟ وَ ؟ اَلْحُسَيْنَ ع ؟ عَلَى اَلْمَوْتِ لِئَلاَّ يَنْقَطِعَ بِهِمَا نَسْلُ ؟ رَسُولِ اَللَّهِ ص ؟ وَ قَوله عليه السلام امْلكوا عَنّى هَذَا الغُلاَمَ من أَعْلَى الْكَلاَم وَ أَفْصَحه أقول : رواه سبط ابن الجوزي في ( تذكرته ) عن ابن عبّاس قال : كان عليّ عليه السّلام يخاف انقطاع النّسل ، فقال يوم صفّين و قد رأى الحسن و الحسين عليهما السّلام يتسارعان إلى القتال ، و قيل : إنّما رأى الحسين عليه السّلام لا غير ،
ــــــــــــــــ
( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٤ : ٤٩٠ ، شرح الحكمة ٤٥٣ .
فقال : املكوا عنّي هذا الغلام لا يهدّني ، فإنّي أنفس به على الموت . . . ١ .
و في ( الطبري ) في رجوع أمير المؤمنين عليه السّلام عن صفّين قال : فلقيه عبد اللَّه بن وديعة الأنصاري ، فدنا منه و سلّم عليه و سايره ، فقال له : ما سمعت النّاس يقولون في أمرنا ؟ قال : منهم المعجب به ، و منهم الكاره له ، كما قال عزّ و جلّ : . . . و لا يزالون مختلفين . إلاّ من رحم ربّك . . . ٢ . فقال له عليه السّلام : فما قول ذوي الرّأي فيه ؟ قال : أمّا قولهم فيه فيقولون : إنّ عليّا كان له جمع عظيم ففرّقه ، و كان له حصن حصين فهدمه ، فحتى متى يبني ما هدم ؟ و حتى متى يجمع ما فرّق ؟ فلو أنّه كان مضى بمن أطاعه إذ عصاه من عصاه ، فقاتل حتّى يظفر أو يهلك ، إذن كان ذلك الحزم . فقال عليّ عليه السّلام : أنا هدمت أم هم هدموا ؟ أنا فرّقت أم هم فرّقوا ؟ أمّا قولهم : « إنّه لو كان مضى بمن أطاعه ، إذ عصاه من عصاه ، فقاتل حتّى يظفر أو يهلك ، إذن كان ذلك الحزم » فو اللَّه ما غبي عن رأيي ذلك ، و إن كنت لسخيّا بنفسي عن الدّنيا ، طيّب النفس بالموت ، و لقد هممت بالإقدام على القوم ، فنظرت إلى هذين قد ابتدراني يعني : الحسن و الحسين عليهما السّلام و نظرت إلى هذين قد استقدماني يعني : عبد اللَّه بن جعفر و محمّد بن عليّ فعلمت أنّ هذين إن هلكا انقطع نسل محمّد صلّى اللَّه عليه و آله من هذه الامّة ، فكرهت ذلك و أشفقت على هذين أن يهلكا ، و قد علمت أن لو لا مكاني لم يستقدما يعني محمّد بن علي و عبد اللَّه بن جعفر و ايم اللَّه لئن لقيتهم بعد يومي هذا لألقينّهم و ليسوا معي في عسكر و لا دار ٣ .
و رواه ( صفّين نصر بن مزاحم ) مفسرا كلامه عليه السّلام بالحسنين عليهما السّلام
ــــــــــــــــ
( ١ ) تذكرة الخواص : ٣٢٤ .
( ٢ ) هود : ١١٨ ١١٩ .
( ٣ ) تاريخ الطبري ٤ : ٤٤ سنة ٣٧ .
فقط ، ففيه : لقد هممت بالإقدام ، فنظرت إلى هذين قد استقدماني ، فعلمت أنّ هذين ان هلكا انقطع نسل محمّد صلّى اللَّه عليه و آله من هذه الامّة ، فكرهت ذلك و أشفقت على هذين أن يهلكا ، و قد علمت أن لو لا مكاني لم يستقدما يعني : محمّد بن عليّ و عبد اللَّه بن جعفر و ايم اللَّه لئن لقيتهم بعد يومي هذا ، لألقينّهم و ليس هما معي في عسكر و لا دار ١ .
قول المصنف : « و من كلام له عليه السّلام » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب أنّه :
( و قال عليه السّلام ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطّية ) ٢ ، فنقلهم هو الصحيح ، و ان كان مقتضى القاعدة أن يقول : « و من كلام له عليه السّلام » بعد كونه في الباب الأوّل ، ففيه يقول في عناوينه إمّا : « و من خطبة له عليه السّلام » و إمّا : « و من كلام له عليه السّلام » ، و أمّا : « و قال عليه السّلام » ، فتعبيره في الثالث ، مع أنّ المناسب كان نقله في الثّالث ، لكونه كلاما قصيرا يدخل في موضوعه ، دون الأوّل الّذي مبناه على الخطب و الكلم الطوال .
« في بعض أيّام صفّين » ليس هذا الكلام كلّه في نسخة ابن ميثم ٣ .
« و قد رأى الحسن عليه السّلام يتسّرع إلى الحرب » كلمة ( ابنه ) انّما في ( ابن أبي الحديد ) دون ( ابن ميثم و الخطّيّة ) ٤ .
روى الطبري في ( ذيله ) : عن عبد اللَّه بن شداد بن الهاد عن أبيه قال : خرج علينا النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و هو حامل أحد ابني ابنته الحسن أو الحسين عليهما السّلام ، فتقدّم فوضعه عند قدمه اليمنى ، و سجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله بين ظهراني صلاته سجدة أطالها . قال أبي : فرفعت رأسي من بين النّاس فإذا النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ساجد و إذا الغلام
ــــــــــــــــ
( ١ ) وقعة صفين لابن مزاحم : ٥٣٠ .
( ٢ ) كذا في شرح ابن ميثم ٤ : ١٤ ، لكن لفظ شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٩ مثل المصرية .
( ٣ ) يوجد هذا الكلام في شرح ابن ميثم ٤ : ١٤ أيضا .
( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٩ و شرح ابن ميثم ٤ : ١٤ .
على ظهره ، فعدت فسجدت ، فلمّا انصرف النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله قال النّاس : يا رسول اللَّه لقد سجدت في صلاتك هذه سجدة ما كنت تسجدها ، أفشيء امرت به أو كان يوحى إليك ؟ قال : كلّ ذلك لم يكن ، و لكن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أعجله حتّى يقضي حاجته ١ .
و في ( نسب قريش مصعب الزبيري ) : ولد الحسن عليه السّلام في سنة ثلاث ،
في النصف من شهر رمضان ، و سمّاه النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله حسنا ، و كان يشبّه بالنّبيّ ،
و ذكر لي عن عبد اللَّه البهي مولى آل الزبير قال : تذاكرنا من أشبه النّاس بالنّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ؟ فدخل علينا عبد اللَّه بن الزبير . فقال : أنا احدّثكم بأشبه أهله به و أحبّهم إليه : الحسن ، رأيته يجيء و هو ساجد فيركب رقبته أو قال : ظهره فما ينزّل حتّى يكون هو الّذي ينزل ، و لقد رأيته و هو راكع فيفرج بين رجليه ،
حتّى يخرج من الجانب الآخر ، و قال : إنّه ريحانتي من الدّنيا ، و إنّ ابني هذا السيّد ، و عسى أن يصلح اللَّه به فئتين من المسلمين ، و قال : اللّهمّ إنّي احبّه و احبّ من يحبّه ٢ .
و فيه : و ذكر عن علي بن زيد بن جدعان التّيمي ، قال : حجّ الحسن عليه السّلام خمس عشرة مرّة ، و خرج من ماله للَّه مرّتين ، و قاسم اللَّه ثلاث مرّات ، حتّى أن كان ليعطي نعلا و يمسك نعلا ، و يعطي خفّا و يمسك خفّا ٣ .
و روى الخطيب في ( سعيد الحصري ) : أنّ أبا هريرة لقي الحسن عليه السّلام فقال له : أرني الموضع الّذي قبّله النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله . فرفع الحسن ثوبه فقبّل سرّته ٤ .
و في ( مروج المسعودي ) : كان عليّ عليه السّلام اعتلّ ، فأمر ابنه الحسن عليه السّلام أن
ــــــــــــــــ
( ١ ) منتخب ذيل المذيل للطبري : ٦٣ ، و مرّ تخريجه في العنوان ٢ من الفصل الثالث .
( ٢ ) نسب قريش للزبيري : ٢٣ و النقل بتصرف .
( ٣ ) نسب قريش للزبيري : ٢٤ .
( ٤ ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ٩ : ٩٥ .
يصلّي بالنّاس يوم الجمعة ، فصعد المنبر فحمد اللَّه و أثنى عليه ، ثمّ قال : إنّ اللَّه لم يبعث نبيّا إلاّ اختار له نقيبا و رهطا و بيتا ، فو الّذي بعث محمّدا صلّى اللَّه عليه و آله بالحقّ نبيّا لا ينتقص من حقّنا أهل البيت أحد إلاّ نقصه اللَّه من عمله مثله ، و لا تكون علينا دولة إلاّ و تكون لنا العاقبة و لتعلمنّ نبأه بعد حين ١ .
و في ( العقد ) : قال معاوية يوما لجلسائه : من أكرم النّاس أبا و امّا و جدّا و جدّة و عمّا و عمّة و خالا و خالة ؟ فقالوا : أمير المؤمنين أعلم . فأخذ بيد الحسن بن علي عليه السّلام و قال : هذا أبوه عليّ بن أبي طالب ، و امّه فاطمة ابنة محمّد ، و جدّه النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و جدّته خديجة ، و عمّه جعفر ، و عمّته امّ هاني بنت أبي طالب ، و خاله القاسم بن محمّد ، و خالته زينب بنت محمّد صلّى اللَّه عليه و آله ٢ .
و روى أبو الفرج في ( مقاتله ) بأسانيد : أنّ الحسنّ عليه السّلام خطب بعد دفن أبيه فقال : لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأوّلون بعمل إلى أن قال ثمّ قال : أيّها النّاس من عرفني فقد عرفني ، و من لم يعرفني فأنا الحسن بن محمّد صلّى اللَّه عليه و آله ، أنا ابن البشير ، أنا ابن النذير ، أنا ابن الدّاعي إلى اللَّه عزّ و جلّ بإذنه ،
و أنا ابن السّراج المنير ، و أنا من أهل البيت الّذين أذهب اللَّه عنهم الرّجس و طهّرهم تطهيرا ، و الّذين افترض اللَّه مودّتهم في كتابه . . . ٣ .
و في ( الطبري ) : بايع النّاس الحسن عليه السّلام بالخلافة ، ثمّ خرج بالنّاس حتّى نزل المدائن ، و بعث قيس بن سعد على مقدّمته في اثني عشر ألفا ، و أقبل معاوية في أهل الشّام حتّى نزل مسكن ، فبينا الحسن عليه السّلام في المدائن إذ نادى مناد في العسكر : ألا إنّ قيس بن سعد قد قتل ، فانفروا . فنفروا و نهبوا سرادق
ــــــــــــــــ
( ١ ) مروج الذهب ٢ : ٤٣١ ، و الآية ٨٨ من سورة ص .
( ٢ ) العقد الفريد لابن عبد ربه ٥ : ٣١٣ و فيه « هالة » بدل « ام هاني » .
( ٣ ) مقاتل الطالبيين : ٣٣ .
الحسن عليه السّلام حتّى نازعوه بساطا كان تحته ، و خرج الحسن عليه السّلام حتّى نزل المقصورة البيضاء بالمدائن ، و كان عمّ المختار بن أبي عبيد عاملا على المدائن ، و كان اسمه سعد بن مسعود ، فقال له المختار و هو غلام شاب : هل لك في الغنى و الشرف ؟ قال : و ما ذاك ؟ قال : توثق الحسن و تستأمن به إلى معاوية . فقال له سعد : عليك لعنة اللَّه أثب على ابن بنت النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله فأوثقه ؟ بئس الرجل أنت . فلمّا رأى الحسن عليه السّلام تفرّق الأمر عنه بعث إلى معاوية يطلب الصلح إلى أن قال فقام الحسن عليه السّلام في أهل العراق فقال : يا أهل العراق إنّه سخا بنفسي عنكم ثلاث : قتلكم أبي ، و طعنكم إيّاي ، و انتها بكم متاعي . فلمّا قدم الكوفة و برأ من جراحته خرج إلى مسجد الكوفة فقال : يا أهل الكوفة اتقوا اللَّه في جيرانكم و ضيفانكم ، و في أهل بيت نبيّكم صلّى اللَّه عليه و آله الّذين أذهب اللَّه عنهم الرجس أهل البيت و طهّرهم تطهيرا . فجعل الناس يبكون ، ثمّ تحمّل عليه السّلام إلى المدينة ١ .
و قال أبو الفرج أيضا : و قيل : إنّ أوّل من بايعه قيس بن سعد ، قال له :
ابسط يدك ابايعك على كتاب اللَّه و سنّة نبيّه و قتال المحلّين . فقال له الحسن عليه السّلام : بل على كتاب اللَّه و سنّة نبيّه صلّى اللَّه عليه و آله ، فإنّ ذلك يأتي من وراء كلّ شرط . فبايعه و سكت ، و بايعه النّاس ٢ .
و روى أبو الفرج بأسانيد عن سفيان بن أبي ليلى قال : أتيت الحسن عليه السّلام حين بايع معاوية ، فوجدته بفناء داره و عنده رهط ، فقلت : السّلام عليك يا مذلّ المؤمنين . فقال : عليك السّلام يا سفيان ، انزل . فنزلت فعقلت راحلتي ، ثمّ أتيته ،
فجلست إليه ، فقال : كيف قلت يا سفيان ؟ فقلت : السّلام عليك يا مذلّ رقاب
ــــــــــــــــ
( ١ ) تاريخ الطبري ٤ : ١٢١ سنة ٤٠ و ٤ : ١٢٦ سنة ٤١ متفرّقا .
( ٢ ) تاريخ الطبري ٤ : ١٢١ سنة ٤٠ ، و أمّا قول الشارح : « قال أبو الفرج أيضا » فهو من سهو قلمه الشريف .
المؤمنين . فقال : ما جرّ هذا منك إلينا ؟ فقلت : أنت و اللَّه بأبي و امي ، أذللت رقابنا حين أعطيت هذا الطاغية البيعة ، و سلّمت الأمر إلى اللّعين ابن اللّعين ابن آكلة الأكباد ، و معك مائة ألف كلّهم يموت دونك ، و قد جمع اللَّه لك أمر الناس . فقال :
يا سفيان إنّا أهل بيت إذا علمنا الحقّ تمسّكنا به ، و إنّي سمعت عليّا عليه السّلام يقول :
سمعت النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله يقول : لا تذهب الليالي و الأيّام حتّى يجتمع أمر هذه الامّة على رجل واسع السّرم ، ضخم البلعوم ، يأكل و لا يشبع ، و لا ينظر اللَّه إليه ، و لا يموت حتّى لا يكون له في السّماء عاذر ، و لا في الأرض ناصر ، و إنّه لمعاوية ،
و إنّي عرفت أنّ اللَّه بالغ أمره . قال : ثمّ أذّن المؤذّن ، فقمنا على حالب يحلب ناقته ،
فتناول الإناء فشرب قائما ثمّ سقاني ، فخرجنا نمشي إلى المسجد ، فقال لي : ما جاءنا بك يا سفيان ؟ قلت : حبّكم ، و الّذي بعث محمّدا بالهدى و دين الحق . قال :
فأبشر يا سفيان فإنّي سمعت عليّا عليه السّلام يقول : سمعت النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله يقول : يرد عليّ الحوض أهل بيتي ، و من أحبّهم من امتي كهاتين يعني السبّابتين و لو شئت لقلت هاتين يعني السّبّابة و الوسطى إحداهما تفضّل على الاخرى .
أبشر يا سفيان ، فإنّ الدّنيا تسع البرّ و الفاجر ، حتّى يبعث اللَّه إمام الحقّ من آل محمّد صلّى اللَّه عليه و آله ١ .
و روى ابن بابويه في ( إكماله ) مسندا عن أبي سعيد عقيصا ، قال : لمّا صالح الحسن بن عليّ عليه السّلام معاوية بن أبي سفيان دخل عليه النّاس ، فلامه بعضهم على بيعته . فقال عليه السّلام : و يحكم ما تدرون ما عملت ، و اللَّه الّذي عملت خير لشيعتي ممّا طلعت عليه الشّمس أو غربت ، ألا تعلمون أنّني إمامكم مفترض الطّاعة عليكم ، و أحد سيّدي شباب أهل الجنّة بنصّ من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله عليّ ؟ قالوا : بلى قال : أما علمتم أنّ الخضر لمّا خرق السفينة ، و أقام
ــــــــــــــــ
( ١ ) المقاتل لأبي الفرج : ٤٤ .
الجدار ، و قتل الغلام كان ذلك سخطا لموسى بن عمران عليه السّلام ، إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك ، و كان ذلك عند اللَّه حكمة و صوابا ؟ أما علمتم أنّه ما منّا إلاّ و يقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه ، إلاّ القائم الّذي يصلّي روح اللَّه عيسى بن مريم عليه السّلام خلفه ، فإنّ اللَّه عزّ و جلّ يخفي ولادته و يغيّب شخصه لئلاّ يكون لأحد في عنقه بيعة ، إذا خرج ذلك التاسع من ولد أخي الحسين عليه السّلام ؟ . . . ١ و روى المدائني : أنّ سفيان بن أبي ليلى لمّا قال للحسن عليه السّلام : السّلام عليك يا مذلّ المؤمنين ، قال له الحسن عليه السّلام : إنّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله رفع له ملك بني امّية فنظر إليهم يعلون منبره واحدا فواحدا ، فشقّ ذلك عليه فأنزل تعالى في ذلك قرآنا : . . . و ما جعلنا الرّؤيا التي أريناك إلاّ فتنة للناس و الشّجرة الملعونة في القرآن و نخوّفهم فما يزيدهم إلاّ طغيانا كبيرا ٢ و سمعت أبي عليه السّلام يقول :
سيلي أمر هذه الامّة رجل واسع البلعوم ، كبير البطن ، فسألته من هو ؟ فقال :
معاوية . و قال لي : إنّ القرآن قد نطق بملك بني امية و مدّتهم ، قال تعالى : ليلة القدر خير من ألف شهر ٣ ، قال أبي عليه السّلام : هذه ملك بني اميّة ٤ .
و قال أيضا : قال حجر بن عدي للحسن عليه السّلام لمّا صالح معاوية : لوددت أنّك متّ قبل هذا اليوم و لم يكن ما كان ، إنّا رجعنا راغمين بما كرهنا ، و رجعوا مسرورين بما أحبوا . فتغيّر وجه الحسن عليه السّلام ، و غمز الحسين عليه السّلام حجرا فسكت . فقال الحسن عليه السّلام : يا حجر ليس كلّ النّاس يحبّ ما تحبّ ، و لا رأيه رأيك ، و ما فعلت ما فعلت إلاّ إبقاء عليك ، و اللَّه كلّ يوم في شأن ٥ .
و روى أيضا : أنّ الحسن عليه السّلام قال لرجل لامه على بيعته : خشيت أن
ــــــــــــــــ
( ١ ) كمال الدين للصدوق ١ : ٣١٥ ح ٢ .
( ٢ ) الإسراء : ٦٠ .
( ٣ ) القدر : ٣ .
( ٤ ) نقلها عن المدائني ابن أبي الحديد في شرحه ٤ : ٦ ، ٧ ، شرح الكتاب ٣١ .
( ٥ ) نقلها عن المدائني ابن أبي الحديد في شرحه ٤ : ٦ ، ٧ ، شرح الكتاب ٣١ .
يأتي يوم القيامة سبعون ألفا أو ثمانون ألفا تشخب أوداجهم دما ، كلّهم يستعدي اللَّه فيم هريق دمه ١ ؟
و قال أيضا : إنّ عليّا عليه السّلام لمّا توفّي خرج ابن عبّاس فقال : إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام توفّي و قد ترك خلفا ، فإن أحببتم خرج إليكم ، و إن كرهتم فلا أحد على أحد . فبكى الناس ، و قالوا : بل يخرج إلينا . فخرج الحسن عليه السّلام ، فخطبهم فقال : أيّها الناس اتّقوا اللَّه فإنّا امراؤكم و أولياؤكم ، و إنّا أهل البيت الّذين قال اللَّه فينا : إنّما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا ٢ فبايعوه و كان خرج إليهم و عليه ثياب سود ، ثمّ وجّه عبد اللَّه بن عبّاس و معه قيس بن سعد مقدّمة له في اثني عشر ألفا إلى الشّام ، و خرج هو يريد المدائن ،
فطعن بساباط ، و انتهب متاعه ، و دخل المدائن ، و بلغ ذلك معاوية فأشاعه ،
و جعل أصحاب الحسن عليه السّلام الّذين وجّههم مع عبد اللَّه يتسلّلون إلى معاوية ،
الوجوه و أهل البيوتات ، فكتب عبد اللَّه بذلك إلى الحسن عليه السّلام ، فخطب النّاس و وبّخهم و قال : خالفتم أبي حتّى حكّم و هو كاره ، ثمّ دعاكم إلى قتال أهل الشام بعد التحكيم ، فأبيتم حتّى صار إلى كرامة اللَّه ، ثمّ بايعتموني على أن تسالموا من سالمني و تحاربوا من حاربني ، و قد أتاني أنّ أهل الشرف منكم قد أتوا معاوية و بايعوه ، فحسبي منكم لا تعرّوني من ديني و نفسي .
و أرسل عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب و امّه بنت أبي سفيان إلى معاوية يسأله المسالمة ، و اشترط عليه العمل بكتاب اللَّه و سنّة نبيّه ، و أن لا يبايع لأحد من بعده ، و أن يكون الأمر شورى ، و أن
ــــــــــــــــ
( ١ ) نقلها عن المدائني ابن أبي الحديد في شرحه ٤ : ٦ ، ٧ ، شرح الكتاب ٣١ .
( ٢ ) الأحزاب : ٣٣ .
يكون النّاس أجمعون آمنين ١ .
و في ( مروج المسعودي ) : و من خطب الحسن عليه السّلام في أيّامه في بعض مقاماته : نحن حزب اللَّه المفلحون ، و عترة رسوله الأقربون ، و أهل بيته الطّاهرون الطّيّبون ، و أحد الثّقلين اللذين خلّفهما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله ، و الثّاني كتاب اللَّه فيه تفصيل كلّ شيء ، لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ٢ و المعوّل عليه في كلّ شيء ، لا يخطئنا تأويله ، بل نتيقّن حقائقه ، فأطيعونا فإنّا طاعتنا مفروضة ، إذ كانت بطاعة اللَّه و الرّسول و اولي الأمر مقرونة فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى اللَّه و الرسول ٣ ، و لو ردّوه إلى الرّسول و إلى اولي الأمر منهم لعلمه الّذين يستنبطونه منهم ٤ و احذّركم الإصغاء لهتاف الشّيطان إنّه لكم عدوّ مبين ٥ ، فتكونون كأوليائه الّذين قال لهم : لا غالب لكم اليوم من النّاس و إنّي جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه ، و قال إنّي بريء منكم إنّي أرى ما لا ترون ٦ . فتلقون للرماح أزرا و للسيوف جزرا ،
و للعمد خطأ ، و للسهام غرضا ، ثمّ . . . لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا . . . ٧ .
و روى أبو الفرج عن الشّعبي قال : خطب معاوية بعد ما بويع له فقال : ما اختلفت امّة بعد نبيّها إلاّ ظهر أهل باطلها على أهل حقّها . ثمّ إنّه انتبه فندم .
ــــــــــــــــ
( ١ ) نقله عن المدائني ابن أبي الحديد في شرحه ٤ : ٨ ، شرح الكتاب ٣١ .
( ٢ ) فصلت : ٤٢ .
( ٣ ) النساء : ٥٩ .
( ٤ ) النساء : ٨٣ .
( ٥ ) الأنعام : ١٤٢ .
( ٦ ) الأنفال : ٤٨ .
( ٧ ) مروج الذهب للمسعودي ٢ : ٤٣١ ، و الآية ١٥٨ من سورة الأنعام .
فقال : إلاّ هذه الامّة ، فإنّها و إنّها ١ .
و عن أبي إسحاق قال : سمعت معاوية بالنّخيلة يقول : ألا إنّ كلّ شيء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين ، لا أفي به . فقال : و كان و اللَّه غدّارا ٢ .
و عن سعيد بن سويد قال : صلّى بنا معاوية بالنّخيلة الجمعة في الصحن ، ثم خطبنا ، فقال : إنّي و اللَّه ما قاتلتكم لتصلّوا و لا لتصوموا و لا لتحجّوا و لا لتزكّوا ، إنّكم لتفعلون ذلك ، و انّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم ، و قد أعطاني اللَّه ذلك و أنتم كارهون . قال شريك في حديثه : هذا هو التهتّك ٣ .
و عن حبيب بن أبي ثابت قال : لمّا بويع معاوية خطب فذكر عليّا عليه السّلام فنال منه ، و نال من الحسن عليه السّلام ، فقام الحسين عليه السّلام ليرد عليه فأخذ الحسن عليه السّلام بيده فأجلسه ، ثمّ قال : أيّها الذاكر عليّا أنا الحسن و أبي عليّ ، و أنت معاوية و أبوك صخر ( أبو سفيان ) ، و امّي فاطمة ، و امّك هند ، و جدّي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله ، و جدّك حرب ، و جدّتي خديجة ، و جدّتك قتيلة ، فلعن اللَّه أخملنا ذكرا ،
و ألأمنا حسبا ، و شرّنا قدما ، و أقدمنا كفرا و نفاقا . فقال طوائف من أهل المسجد : آمين ٤ .
و روى المدائني : أنّ معاوية سأل الحسن عليه السّلام بعد الصّلح أن يخطب النّاس فامتنع ، فناشده أن يفعل ، فوضع له كرسي فجلس عليه ، ثمّ قال :
الحمد للَّه الّذي توحّد في ملكه و تفرّد في ربوبيّته ، يؤتي الملك من يشاء ، و ينزعه عمّن يشاء ، و الحمد للَّه الّذي أكرم بنا مؤمنكم ، و أخرج من الشّرك أوّلكم ، و حقن دماء آخركم ، فبلاؤنا عندكم قديما و حديثا أحسن البلاء ، إن شكرتم أو كفرتم أيّها النّاس إنّ ربّ عليّ كان أعلم به حين
ــــــــــــــــ
( ١ ) المقاتل لأبي الفرج : ٤٥ .
( ٢ ) المقاتل لأبي الفرج : ٤٥ .
( ٣ ) المقاتل لأبي الفرج : ٤٥ .
( ٤ ) المقاتل لأبي الفرج : ٤٦ .
قبضه اليه ، و لقد اختصّه بفضل لم تعتدوا بمثله ، و لم تجدوا مثل سابقته ،
فهيهات هيهات ، طالما قلّبتم له الامور حتّى أعلاه اللَّه عليكم ، و هو صاحبكم و عدوّكم في بدر و أخواتها ، جرّعكم رنقا ، و سقاكم علقا ، و أذلّ رقابكم ،
و أشرقكم بريقكم ، فلستم بملومين على بغضه ، و ايم اللَّه لا ترى امّة محمّد صلّى اللَّه عليه و آله خفضا ما كانت سادتهم و قادتهم بني امّية ، و لقد وجّه اللَّه إليكم فتنة لن تصدروا عنها حتّى تهلكوا ، لطاعتكم طواغيتكم و انضوائكم إلى شياطينكم ، فعند اللَّه أحتسب ما مضى ، و ما ينتظر من سوء دعتكم ، و حيف حكمكم . ثمّ قال : يا أهل الكوفة لقد فارقكم بالأمس سهم من مرامي اللَّه ،
صائل على أعداء اللَّه ، نكال على فجّار قريش ، لم يزل آخذا بحناجرها ، جاثما على أنفاسها ، ليس بالملومة في أمر اللَّه ، و لا بالسّروقة لمال اللَّه ، و لا بالفروقة في حرب أعداء اللَّه ، أعطى الكتاب خواتمه و عزائمه ، دعا فأجابه ، و قاده فاتّبعه ،
لا تأخذه في اللَّه لومة لائم ، فصلوات اللَّه عليه و رحمته . قال : ثم نزل ، فقال معاوية : أخطأ عجل أو كاد ، و أصاب متثبت أو كاد ، ماذا أردت من خطبة الحسن ١ ؟
و روى عن أبي الطفيل قال : قال الحسن عليه السّلام لمعاوية بن خديج : أنت الشاتم عليّا عليه السّلام عند ابن آكلة الأكباد ؟ أما و اللَّه لئن وردت الحوض ، و لن ترده لترينّه مشمّرا عن ساقيه ، حاسرا عن ذراعيه ، يذود عنه المنافقين ٢ .
و عن الأسود بن قيس العبدي قال : قال الحسن عليه السّلام لحبيب بن مسلمة :
ربّ مسير لك في غير طاعة اللَّه . فقال : أمّا مسيري إلى أبيك فليس من ذلك . قال :
بلى و اللَّه ، و لكنّك أطعت معاوية على دنيا قليلة زائلة ، فلئن قام بك في دنياك لقد قعد بك في آخرتك ، و لو كنت إذا فعلت شرّا قلت خيرا ، كان ذلك كما قال
ــــــــــــــــ
( ١ ) نقله عن المدائني ابن أبي الحديد في شرحه ٤ : ١٠ ، ٧ شرح الكتاب ٣١ .
( ٢ ) نقله عن المدائني ابن أبي الحديد في شرحه ٤ : ١٠ ، ٧ شرح الكتاب ٣١ .
عزّ و جلّ : خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا ١ و لكنّك كما قال سبحانه : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ٢ .
و روى الزّبير بن بكار في ( مفاخراته ) : أنّه اجتمع عند معاوية عمرو بن العاص ، و الوليد بن عقبة ، و عتبة بن أبي سفيان ، و قد كان بلغهم عن الحسن عليه السّلام قوارص ، و بلغه عنه مثل ذلك ، فقالوا لمعاوية : إنّ الحسن قد أحيا أباه ذكره ، و قال فصدّق ، و أمر فاطيع ، و خفقت النّعال خلفه ، و أنّ ذلك لرافعه إلى ما هو أعظم ، و لا يزال يبلغنا عنه ما يسوؤنا .
قال معاوية : ما تريدون ؟ قالوا : ابعث إليه فأحضره ، لنسبّه و نسبّ أباه و نعيّره و نوبّخه ، و نخبره أنّ أباه قتل عثمان ، و نقرّره بذلك ، و لا يستطيع أن يغيّر علينا شيئا من ذلك . قال : إن بعثت إليه لأنصفنه منكم . فقال عمرو بن العاص : أتخشى أن يأتي باطله على حقّنا أو يربو قوله على قولنا ؟ قال : أمّا إنّي إن بعثت إليه لآمرنه أن يتكلّم بلسانه كلّه . قالوا : مره . قال : أمّا إذا عصيتموني و بعثتم إليه ، و أبيتم إلاّ ذلك فلا تمرّضوا له في القول ، و اعلموا أنّهم أهل بيت لا يعيبهم العائب ، و لا يلصق بهم العار ، و لكن اقذفوه بحجره ، و قولوا له : إنّ أباك قتل عثمان ، و كره خلافة الخلفاء قبله .
فبعث معاوية إليه . فقال لرسوله : من عنده ؟ فسمّاهم ، فقال الحسن عليه السّلام :
ما لهم خرّ عليهم السّقف من فوقهم و أتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ؟ ثمّ قال : يا جارية أبلغيني ثيابي ، اللّهمّ إنّي أعوذ بك من شرورهم ، و أدرأ بك في نحورهم ، و أستعين بك عليهم ، فاكفنيهم كيف شئت ، و أنّى شئت بحول منك و قوّة ، يا أرحم الراحمين .
ــــــــــــــــ
( ١ ) التوبة : ١٠٢ .
( ٢ ) نقله عن المدائني ابن أبي الحديد في شرحه ٤ : ٧ ، شرح الكتاب ٣١ و الآية ١٤ من سورة المطففين .
قال : فلمّا دخل على معاوية أعظمه و أجلسه إلى جانبه و قد ارتاد القوم ،
و خطروا خطران الفحول بغيا في أنفسهم و علوّا ، ثم قال : يا أبا محمّد إنّ هؤلاء بعثوا إليك و عصوني . فقال : سبحان اللَّه ، الدّار دارك و الإذن فيها إليك ، و اللَّه لئن كنت أجبتهم إلى ما أرادوا في أنفسهم إنّي لأستحيي لك من الفحش ، و إن كانوا غلبوك على رأيك إنّي لأستحيي لك من الضّعف ، فأيّهما تقرّ و أيّهما تنكر ؟ أما أني لو علمت بمكانهم جئت بمثلهم من بني عبد المطلب ، و ما لي أن أكون متوحّشا منك و لا منهم ، إنّ وليي اللَّه و هو يتولّى الصالحين ١ .
فقال معاوية : إنّي كرهت أن أدعوك و لكن حملوني على ذلك مع كراهتي له ، و أنّ لك منهم النّصف و منهم ، و إنّما دعوناك لنقرّرك أنّ عثمان قتل مظلوما ،
و أنّ أباك قتله ، فاستمع منهم ثمّ أجبهم ، و لا تمنعك وحدتك و اجتماعهم أن تتكلّم بكلّ لسانك .
فتكلّم عمرو بن العاص و ذكر عليّا فلم يترك شيئا يعيبه به إلاّ قاله ،
و قال : إنّه شتم أبا بكر و كره خلافته ، و امتنع من بيعته ، ثمّ بايعه مكرها ،
و شرك في دم عمر ، و قتل عثمان ظلما ، و ادّعى من الخلافة ما ليس له ، ثمّ ذكر الفتنة يعيّره بها ، و أضاف إليه مساويا ، و قال : إنّكم يا بني عبد المطّلب لم يكن اللَّه ليعطيكم الملك على قتلكم الخلفاء و استحلالكم ما حرّم اللَّه من الدّماء ،
و حرصكم على الملك ، و إتيانكم ما لا يحلّ ، ثمّ إنّك يا حسن تحدّث نفسك أنّ الخلافة صائرة إليك ، و ليس عندك عقل ذلك و لا لبّه ، كيف ترى اللَّه سلبك عقلك ،
و تركك أحمق قريش ، تسخر قريش منك و تهزؤك ، و ذلك لسوء عمل أبيك ،
و إنّما دعوناك لنسبّك و أباك ؟ فأمّا أبوك فقد تفرّد اللَّه به و كفانا أمره ، و أمّا أنت فإنّك في أيدينا نختار فيك الخصال ، و لو قتلناك ما كان علينا إثم من اللَّه ، و لا
ــــــــــــــــ
( ١ ) الأعراف : ١٩٦ .
عيب من النّاس ، فهل تستطيع أن تردّ علينا و تكذّبنا ؟ فإن كنت ترى أنّا كذبنا في شيء فأردده علينا في ما قلنا ، و إلاّ فاعلم أنّك و أباك ظالمان .
ثمّ تكلّم الوليد بن عقبة فقال : يا بني هاشم إنّكم كنتم أخوال عثمان ،
فنعم الولد كان لكم ، فعرف حقّكم ، و كنتم أصهاره ، فنعم الصهر كان لكم ،
يكرمكم ، فكنتم أوّل من حسده ، فقتله أبوك ظلما لا عذر له و لا حجّة ، فكيف ترون أنّ اللَّه طلب بدمه و أنزلكم منزلتكم ؟ و اللَّه إنّ بني امية كانوا خيرا لبني هاشم من بني هاشم لبني اميّة ، و إنّ معاوية خير لك من نفسك .
ثمّ تكلّم عتبة بن أبي سفيان ، فقال : يا حسن كان أبوك شرّ قريش لقريش ، أسفكه لدمائها ، أقطعه لأرحامها ، طويل السّيف و اللّسان ، يقتل الحيّ و يعيب الميّت ، و إنّك ممّن قتل عثمان ، و نحن قاتلوك به ، و أمّا رجاؤك الخلافة فلست في زندها قادحا ، و لا في ميزانها راجحا ، و إنّكم يا بني هاشم قتلتم عثمان ، و إنّ في الحقّ أن نقتلك و أخاك به ، فأمّا أبوك فقد كفانا اللَّه أمره و أقاد منه ، و أما أنت فو اللَّه ما علينا لو قتلناك بعثمان إثم و لا عدوان .
ثمّ تكلّم المغيرة بن شعبة فشتم عليّا عليه السّلام و قال : و اللَّه ما أعيبه في قضية يخون ، و لا في حكم يميل ، و لكنّه قتل عثمان .
ثمّ سكتوا فتكلّم الحسن عليه السّلام فحمد اللَّه و أثنى عليه ، و صلّى على رسوله ،
ثمّ قال : أمّا بعد يا معاوية فما هؤلاء شتموني و لكنّك شتمتني ، فحشا ألفته ،
و سوء رأي عرفت به ، و خلقا سيّئا ثبتّ عليه ، و بغيا علينا ، و عداوة منك لمحمّد صلّى اللَّه عليه و آله و أهله ، و لكن اسمع يا معاوية و اسمعوا ، فلأقولنّ فيك و فيهم دون ما فيكم ، انشدكم اللَّه أيّها الرّهط أتعلمون أنّ الذي شتمتموه منذ اليوم صلّى القبلتين ، و أنت يا معاوية بهما كافر تراهما ضلالة ، و تعبد اللاّت و العزّى غواية ؟ و انشدكم اللَّه هل تعلمون أنّه بايع البيعتين : بيعة الفتح و بيعة الرضوان ، و أنت يا معاوية بإحداهما كافر ، و بالاخرى ناكث ؟ و انشدكم اللَّه هل
تعلمون أنّه أوّل النّاس إيمانا ، و أنّك يا معاويه و أباك من المؤلّفة قلوبهم تسرّون الكفر ، و تظهرون الإسلام ، و تستمالون بالأموال ؟ و انشدكم اللَّه ألستم تعلمون أنّ عليّا عليه السّلام كان صاحب راية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله يوم بدر ، و أنّ راية المشركين كانت مع معاوية و أبيه ، ثمّ لقيكم يوم احد و يوم الأحزاب و معه راية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و معك يا معاوية و مع أبيك راية الشرك ، و في كلّ ذلك يفتح اللَّه له ، و يفلج حجّته ، و ينصر دعوته ، و يصدّق حديثه ، و رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله في تلك المواطن كلّها عنه راض ، و عليك و على أبيك ساخط ؟ و انشدك اللَّه يا معاوية أتذكر يوم جاء أبوك على جمل أحمر ، و أنت تسوقه و أخوك عتبة هذا يقوده ، فرآكم النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله فقال : اللّهمّ العن الرّاكب و القائد و السّائق ؟ أتنسى يا معاوية الشعر الذي كتبته إلى أبيك لمّا همّ أن يسلم تنهاه عن ذلك ؟ و هو :
يا صخر لا تسلمن يوما فتفضحنا
بعد الّذين ببدر أصبحوا مزقا
خالي و عمّي و عمّ الام ثالثهم
و حنظل الخير قد أهدى لنا الأرقا
لا تركنن إلى أمر تكلفنا
و الرّاقصات به في مكّة الخرقا
فالموت أهون من قول العداة لقد
حار ابن حرب عن العزّى إذن فرقا
و و اللَّه لما أخفيت من أمرك أكبر ممّا أبديت ، و انشدكم اللَّه أيّها الرهط ألستم تعلمون أنّ عليّا عليه السّلام حرّم على نفسه الشّهوات بين أصحاب النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ،
فأنزل تعالى فيه : يا أيها الّذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ اللَّه لكم . . . ١ ؟
و أنّ النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله بعث أكابر أصحابه إلى بني قريظة ، فنزلوا من حصنهم فهزموهم ، فبعث عليّا عليه السّلام بالرّاية ، فاستنزلهم على حكم اللَّه و حكم رسوله ،
و فعل في خيبر مثلها ؟
ثمّ قال : يا معاوية أظنّك لا تعلم أنّي أعلم ما دعا به عليك النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله لمّا
ــــــــــــــــ
( ١ ) المائدة : ٨٧ .
أراد أن يكتب كتابا إلى بني خزيمة ، فبعث إليك و نهمك إلى أن تموت ؟ و أنتم أيّها الرّهط نشدتكم اللَّه ألا تعلمون أنّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله لعن أبا سفيان في سبعة مواطن لا تستطيعون ردّها :
أوّلها : يوم لقي النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله خارجا من مكّة إلى الطّائف ، يدعو ثقيفا إلى الدّين ، فوقع فيه و سبّه و سفّهه و شتمه و كذّبه و توعّده و همّ أن يبطش به ،
فلعنه اللَّه و رسوله و صرف عنه .
و الثانية : يوم العير ، إذ عرض لها النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و هي جائية من الشّام ،
فطردها أبو سفيان و ساحل بها ، فلم يظفر المسلمون بها ، فلعنه النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و دعا عليه ، فكانت وقعة بدر لأجلها .
و الثّالثة : يوم احد ، وقف أبو سفيان تحت الجبل و النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله في أعلاه ،
و هو ينادي : « أعل هبل » مرارا فلعنه النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله عشر مرّات ، و لعنه المسلمون .
و الرّابعة : يوم جاء بالأحزاب و غطفان و اليهود ، فلعنه النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و ابتهل .
و الخامسة : يوم جاء أبو سفيان في قريش ، فصدّوا النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله عن المسجد الحرام . . . و الهدي معكوفا أن يبلغ محلّه . . . ١ ، و ذلك يوم الحديبيّة ،
فلعن النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله أبا سفيان ، و لعن القادة و الأتباع ، و قال : ملعونون كلّهم و ليس فيهم من يؤمن . فقيل : يا رسول اللَّه أفما ترجو الإسلام لأحد منهم ، فكيف باللّعنة ؟ فقال : لا تصيب اللعنة أحدا من الأتباع ، و أمّا القادة فلا يفلح منهم أحد .
و السادسة : يوم الجمل الأحمر .
و السابعة : يوم وقفوا للنّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله في العقبة ، ليستنفروا ناقته ، و كانوا اثني عشر رجلا ، منهم : أبو سفيان . فهذا لك يا معاوية .
ــــــــــــــــ
( ١ ) الفتح : ٢٥ .
و أمّا أنت يابن العاص فإنّ أمرك شبرك ، و ضعتك امّك مجهولا من عهر و سفاح ، فتحاكم فيك أربعة من قريش ، فغلب عليك جزارها ألأمها حسبا ،
و أخسّهم منصبا ، ثمّ قام أبوك فقال : أنا شانىء محمّد الأبتر ، فأنزل عزّ و جلّ فيه ما أنزل ، و قاتلت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله في جميع المشاهد و هجوته ، و آذيته بمكّة و كدته كيدك كلّه ، و كنت من أشدّ النّاس عداوة له ، و تكذيبا ، ثمّ خرجت مع أصحاب السّفينة تريد النّجاشي ، لتأتي بجعفر و أصحابه إلى أهل مكّة ، فلمّا أخطاك ما رجوت ، و رجعك اللَّه خائبا ، و أكذبك واشيا جعلت حدّك على صاحبك عمارة بن الوليد ، فوشيت به إلى النجاشي حسدا لما ارتكب من حليلتك ، ففضحك اللَّه و فضح صاحبك ، فإنّك عدوّ بني هاشم في الجاهليّة و الإسلام ، ثمّ إنّك تعلم و كلّ هؤلاء الرّهط يعلمون أنّك هجوت النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله بسبعين بيتا من الشّعر ، فقال : اللّهمّ إنّي لا أقول الشّعر ، و لا ينبغي لي ، اللّهمّ العنه بكلّ حرف ألف لعنة . فعليك إذن من اللَّه ما لا يحصى من اللعن ، و أمّا ما ذكرت من أمر عثمان فأنت شغرت عليه الدّنيا ، ثمّ لحقت بفلسطين ، فلمّا أتاك قتله قلت : أنا أبو عبد اللَّه إذا نكأت قرحة أدميتها ، ما نصرت عثمان حيّا و لا غضبت له مقتولا . ويحك يابن العاص ألست القائل في بني هاشم لمّا خرجت من مكّة إلى النجاشي :
تقول ابنتي أين هذا الرّحيل
و ما السّتر منّي بمستنكر
فقلت ذريني فإنّي امرؤ
اريد النّجاشي في جعفر
لأكويه عنده كيّة
اقيم بها نخوة الأصغر
و شانىء أحمد من بينهم
و أقولهم فيه بالمنكر
و أجري إلى عتبة ١ جاهدا
و لو كان كالذّهب الأحمر
ــــــــــــــــ
( ١ ) قلت : و مراده بعتبة النّجاشي .
و لا أنثني عن بني هاشم
و ما اسطعت في الغيب و المحضر
فإن قبل العتب منّي له
و إلاّ لويت له مشفري
فهذا جوابك يا عمرو ، هل سمعته ؟
و أمّا أنت يا وليد ، فو اللَّه ما ألومك على بغض عليّ عليه السّلام و قد جلدك في الخمر ثمانين ، و قتل أباك بين يدي النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله صبرا ، و أنت الّذي سمّاه اللَّه الفاسق ، و سمّى عليّا عليه السّلام المؤمن حيث تفاخرتما ، فقلت له : اسكت يا عليّ ، فأنا أشجع منك جنانا ، و أطول منك لسانا . فقال لك عليّ عليه السّلام : اسكت يا وليد فأنا مؤمن و أنت فاسق . فأنزل تعالى في موافقة قوله عليه السّلام : أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ١ . ثمّ أنزل فيك على موافقة قوله عليه السّلام أيضا : إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا ٢ و يحك يا وليد مهما نسيت فلا تنس قول الشاعر فيك و فيه :
أنزل اللَّه و الكتاب عزيز
في عليّ و في الوليد قرآنا
فتبّوى الوليد إذ ذاك فسقا
و عليّ مبوّأ إيمانا
ليس من كان مؤمنا عمرك اللّه
كمن كان فاسقا خوّانا
سوف يدعى الوليد بعد قليل
و عليّ إلى الحساب عيانا
فعليّ يجزى بذاك جنانا
و وليد يجزى بذاك هوانا
و ما أنت و قريش ؟ إنّما أنت علج من أهل صفورية ، و اقسم باللَّه لأنت أكبر في الميلاد ، و أسنّ عمّن تدعى إليه .
قال : و أما أنت يا عتبة ، فو اللَّه ما أنت بحصيف فاجيبك ، و لا عاقل فاحاورك ، و اعاتبك ، و ما عندك خير يرجى و لا شرّ يتّقى ، و ما عقلك و عقل أمتك
ــــــــــــــــ
( ١ ) السجدة : ١٨ .
( ٢ ) الحجرات : ٦ .