عقائد الإمامية

عقائد الإمامية33%

عقائد الإمامية مؤلف:
الناشر: محمّد رضا المظفر
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 176

عقائد الإمامية
  • البداية
  • السابق
  • 176 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 50489 / تحميل: 5551
الحجم الحجم الحجم
عقائد الإمامية

عقائد الإمامية

مؤلف:
الناشر: محمّد رضا المظفر
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

١٠ - عقيدتنا في القضاء والقدر

ذهب قوم - وهم المجبرة(١) - الى انه تعالى هو القاعل لافعال المخلوقين ، فيكون قد اجبر الناس على فعل المعاصي ، وهو مع ذلك يعذبهم عليها ، واجبرهم على فعل الطاعات ومع ذلك يثيبهم عليها ؛ لانهم يقلون : ان افعالهم في الحقيقة افعاله ، وانما تنسب اليه الطبيعة بين الاشياء ، وانه تعالى هو السبب الحقيقي لا سبب سواه.

وقد انكروا السببية الطبيعية بين الاشياء ؛ اذ ظنوا ان ذلك هو مقتضى كونه تعالى هو الخالق الذي لا شريك له.

ومن يقول بهذه المقالة فقد نسب الظلم اليه ، تعالى عن ذلك.

وذهب قوم آخرون - وهم المفوضة(٢) - الى انه تعالى فوض الافعال

____________________

(١)ومنهم الاشاعرة الذين ذهبوا الى انكار السببية ، وانحصار السبب في الله تعالى ،وقالوا : ان النار - مثلا - لا تحرق شيئا بل عادة الله جرت على احراق الثوب المماس بها مثلا من دون مدخلية للنار في الاحراق وبذلك فقد ذهبوا الى ان افعال العباد مخلوقة له تعالى من دون دخل للعباد فيها ، أي أن العبد لا أثر له في ايجاد الفعل راجع : بداية المعارف الالهية : ١/١٥٩ وما بعدها.

ولا يخفى على من تتبع كتب الامامية انهم يبطلون الجبر خلافا للاشاعرة ، كما يبطلون التفويض خلافا للمعتزلة ، فقد روي عن الامام ابي الحسن علي بن محمد الهاديعليه‌السلام انه سئل عن افعال العباد فقيل له : هل هي مخلوقة لله تعالى ؟ فقالعليه‌السلام : (لو كان خالقا لها لما تبرأ منها وقد قال سبحانه( إن الله بريء من المشركين ورسوله ) [ التوبة ٩: ٣] ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم وانما تبرأ من شركهم وقبائحهم).

لاحظ : تصحيح الاعتقاد من مصنفات الشيخ المفيد : ٥/٤٣ ، بحار الانوار: ٥/٢٠.

(٢) وهم الذين نفوا حقيقة الجبر ، وأكثرهم المعتزلة ممن قالوا أن الفعل مفوض الينا ، ولا مدخلية

=

٤١

إلى المخلوقين، ورفع قدرته وقضاءه وتقديره عنها، باعتبار أنّ نسبة الأفعال إليه تعالى تستلزم نسبة النقص إليه، وأنّ للموجودات أسبابها الخاصة، وإن انتهت كلُّها إلى مسبِّب الأسباب والسبب الأول، وهو الله تعالى.

ومن يقول بهذه المقالة فقد أخرج الله تعالى من سلطانه(١) ، وأشرك

____________________

=

فيه لا رادته وإذنه تعالى، والذي أوجب هذا الزعم الفاسد هو الاحتراز عن نسبة المعاصي والفكر والقبائح إليه تعالى. والتفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال والاباحة لهم مع ما شاؤوا من الاعمال وهذا قول الزنادقة وأصحاب الاباحات.

راجع: تصحيح الاعتقاد من مصنفات الشيخ المفيد: ٥/ ٤٧، بداية المعارف الإلهية: ١/ ١٦٦.

(١) ومن المستحسن أن نذكر في هذا الصدد ما رواه الاَصبغ بن نباته في حديث طويل: «إنّ شيخاً قام إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام في منصرفه عن صفين فقال: أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله وقدره؟ فقال: والذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، ما وطأنا موطئاً، ولا هبطنا وادياً إلاّ بقضاء الله وقدره، فقال الشيخ: عند الله تعالى احتسب عنائي؛ ما أرى لي من الأجر شيئاً. فقال لهعليه‌السلام : مه! أيّها الشيخ! لقد عظّم الله أجركم في مسيركم وانتم سائرون. وفي منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين. فقال الشيخ: فكيف والقضاء والقدر ساقانا؟ فقالعليه‌السلام : ويحك لعلك ظننت قضاءاً لازماً وقدراً حتماً؟ لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، والوعد والوعيد، والامر والنهي، ولم تأت لائمة من الله لمذنب ولا محمدة لمحسن ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء، ولا المسيء أولى بالذم من المحسن. تلك مقالة عبدة الأوثان، وجنود الشيطان، وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب. وهم قدرية هذه الامة ومجوسها؛ إنّ الله تعالى أمر تخييراً ونهى تحذيراً، وكلّف يسيراً. لم يعص مغلوباً، ولم يطع مكرهاً، ولم يرسل الرسل عبثاً، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً( ذَلِكَ ظَنُّ الّذينَ كَفروُا فَوَيلٌ للّذينَ كفَرُوا مِنَ النَّارِ ) [سورة ص ٣٨: ٢٧]. فقال الشيخ: وما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلاّ بهما؟ فقالعليه‌السلام : هو الأمر من الله تعالى والحكم، وتلى قوله تعالى:( وَقَضَى ربُّكَ الاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إيّاهُ ) [الاسراء ١٧: ٢٣] فنهض الشيخ مسروراً وهو يقول:

أنت الامام الذي نرجوا بطاعته

يوم النشور من الرحمن رضوانا

=

٤٢

غيره معه في الخلق.

واعتقادنا في ذلك تبع لما جاء عن أئمتنا الأطهارعليهم‌السلام من الأَمر بين الأمرين، والطريق الوسط بين القولين، الذي كان يعجز عن فهمه أمثال أولئك المجادلين من أهل الكلام، ففرَّط منهم قوم وأفرط آخرون، ولم يكتشفه العلم والفلسفة إلاّ بعد عدة قرون(١) .

وليس من الغريب ممَّن لم يطّلع على حكمة الأَئمّةعليهم‌السلام وأقوالهم أن يحسب أنّ هذا القول - وهو الأمر بين الاَمرين - من مكتشفات بعض فلاسفة الغرب المتأخرين، وقد سبقه إليه أئمتنا قبل عشرة قرون.

فقد قال إمامنا الصادقعليه‌السلام لبيان الطريق الوسط كلمته المشهورة: «لا جبر ولا تفويض،ولكن أمر بين أمرين»(٢) .

____________________

=

أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً

جزاك ربّك عنّا منه إحساناً

شرح نهج البلاغة: ١٨/٢٢٧.

وأسند ابن عساكر هذا الحديث عن ابن عباس في تاريخ دمشق: ٣/٢٣١، وذكره الشيخ الصدوق في التوحيد: ٣٨٠، تجريد الاعتقاد بتحقيق محمد جواد الحسيني الجلالي: ٢٠٠، عقائد الاسلام من القرآن الكريم: ٤٥٥.

(١) قال الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد: ٤٧(والواسطة بين هذين القولين - أي الجبر والتفويض - أنّ الله تعالى أقدر الخلق على أفعالهم، ومكّنهم من أعمالهم، وحدّ لهم الحدود في ذلك، ورسم لهم الرسوم، ونهاهم عن القبائح بالزجر والتخويف والوعد والوعيد، فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبراً لهم عليها، ولم يفوّض إليهم الأعمال لمنعهم من أكثرها، ووضع الحدود لهم فيها، وأمرهم بحسنها، ونهاهم عن قبيحها، فهذا هو الفصل بين الجبر والتفويض) مصنّفات الشيخ المفيد المجلد الخامس.

(٢) الكافي: ١/١٦٠ ح١٣، الاحتجاج: ٢/٤٩٠، التوحيد: ٣٦٢، الاعتقادات للشيخ

=

٤٣

ما أجلَّ هذا المغزى، وما أدقّ معناه، وخلاصته: إنّ أفعالنا من جهة هي أفعالنا حقيقة ونحن اسبابها الطبيعية، وهي تحت قدرتنا واختيارنا، ومن جهة أخرى هي مقدورة لله تعالى، وداخلة في سلطانه؛ لاَنّه هو مفيض الوجود ومعطيه، فلم يجبرنا على افعالنا حتى يكون قد ظلمنا في عقابنا على المعاصي؛ لاَنّ لنا القدرة والاختيار فيما نفعل، ولم يفوِّض إلينا خلق أفعالنا حتى يكون قد أخرجها عن سلطانه، بل له الخلق والحكم والأمر، وهو قادر على كل شيء ومحيط بالعباد(١) .

وعلى كل حال، فعقيدتنا : أنّ القضاء والقدر سر من أسرار الله تعالى، فمن استطاع أن يفهمه على الوجه اللائق بلا إفراط ولا تفريط فذاك، وإلاّ فلا يجب عليه أن يتكلّف فهمه والتدقيق فيه؛ لئلاّ يضل وتفسد عليه عقيدته؛ لاَنّه من دقائق الأمور، بل من أدق مباحث الفلسفة التي لا يدركها إلاّ الأوحدي من الناس، ولذا زلّت به أقدام كثير من المتكلّمين(٢) .

____________________

=

الصدوق: ١٠، تصحيح الاعتقاد من مصنفات الشيخ المفيد: ٥/٤٦.

(١) سأل أبو حنيفة الامام أبا الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام عن أفعال العباد، ممن هي؟ فقال لهعليه‌السلام : «إنّ أفعال العباد لا تخلو من ثلاثة منازل؛ إمّا أن تكون من الله تعالى خاصّة، أو من الله ومن العبد على وجه الاشتراك فيها، أو من العبد خاصّة. فلو كانت من الله تعالى خاصة لكان أولى بالحمد على حسنها والذم على قبحها ولم يتعلق بغيره حمد ولا لوم فيها. ولو كانت من الله ومن العبد لكان الحمد لهما معاً فيها والذم عليهما جميعاً فيها، وإذا بطل هذان الوجهان ثبت انها من الخلق، فان عاقبهم الله تعالى على جنايتهم بها فله ذلك، وإن عفا عنهم فهو أهل التقوى وأهل المغفرة».

تصحيح الاعتقاد من مصنفات الشيخ المفيد: ٥/٤٤.

(٢) لخّص الشيخ المظفر في محاضراته الفلسفية هذه الفكرة الدقيقة بقوله: (كلّ من المجبّرة والمفوّضة نظروا إلى جهة وغفلوا عن الجهة الاخرى، ولكن الانسان يجب أن يكون ذا عينين

=

٤٤

فالتكليف به تكليف بما هو فوق مستوى مقدور الرجل العادي، ويكفي أن يعتقد به الانسان على الاجمال اتّباعاً لقول الأئمة الأطهارعليهم‌السلام من أنّه أمر بين الأمرين؛ ليس فيه جبر ولا تفويض.

وليس هو من الاصول الاعتقادية حتى يجب تحصيل الاعتقاد به على كل حال على نحو التفصيل والتدقيق.

____________________

=

لا ذا عين واحدة، فمن نظر بعين واحدة كان أعور، ينظر إلى إفاضة الوجود من جهة واحده فيتصور أنّ الناس مجبورون، وينظر من الجهة الاخرى وهو أنّ الناس يعملون اعمالهم باختيارهم فيتخيل أنّهم مفوضون، ولكن لو انقطع فيض الله تعالى عني لحظة واحدة لانعدمت وانعدمت أفعالي وأنا أسبح في سلطانه وعظمته.

معنى الجبر: أنّ فاعل ما منه الوجود هو فاعل ما به الوجود، وهو الله تعالى، ومعنى التفويض: أنّ العبد هو فاعل ما به الوجود وما منه الوجود، ولكن القوم لم يلتفتوا إلى هذه النكتة، وهي أنّ العبد فاعل ما به الوجود، والله تعالى فاعل ما منه الوجود، فمن ناحية فاعل ما به الوجود لا جبر، ومن ناحية فاعل ما منه الوجود لا تفويض، فيصحّ في العقل ما جاء في الاثر عن أهل البيتعليهم‌السلام : «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين»).

الفلسفة الاسلامية: ٨٤.

٤٥

١١ - عقيدتنا في البداء

البداء في الانسان: أن يبدو له رأي في الشيء لم يكن له ذلك الرأي سابقاً، بأن يتبدَّل عزمه في العمل الذي كان يريد أن يصنعه؛ إذ يحدث عنده ما يغيِّر رأيه وعلمه به، فيبدو له تركه بعد أن كان يريد فعله، وذلك عن جهل بالمصالح، وندامة على ما سبق منه.

والبداء بهذا المعنى يستحيل على الله تعالى. لاَنّه من الجهل والنقص، وذلك محال عليه تعالى، ولا تقول به الامامية.

قال الصادقعليه‌السلام : «مَن زعم أنّ الله تعالى بدا له في شيء بداء ندامة فهو عندنا كافر بالله العظيم»(١) .

وقال أيضاً: «من زعم أن الله بدا له في شيء ولم يعلمه أمس فأبرأ منه»(٢) .

غير أنّه وردت عن أئمتنا الأطهارعليهم‌السلام روايات توهم القول بصحة البداء بالمعنى المتقدِّم، كما ورد عن الصادقعليه‌السلام : «ما بدا لله في شيء كما بدا له في اسماعيل ابني»(٣) ولذلك نَسبَ بعض المؤلّفين

____________________

(١) إكمال الدين: ٦٩.

(٢) المصدر السابق: ٧٠.

(٣) التوحيد: ٣٣٦ ح١٠، إكمال الدين: ٦٩، تصحيح الاعتقاد من مصنّفات الشيخ المفيد: ٥/٦٦. وقد أوضح الشيخ المفيد معنى الحديث بقوله: (أراد بهعليه‌السلام ما ظهر من الله تعالى فيه من دفاع القتل عنه، وقد كان مخوفاً عليه من ذلك مظنوناً به، فلطف له في دفعه عنه.

وقد جاء الخبر بذلك عن الصادقعليه‌السلام ، فروي عنه أنّه قال: «كان القتل قد كتب على اسماعيل مرّتين فسألت الله في دفعه عنه فدفعه»، وقد يكون الشيء مكتوباً بشرط فيتغيّر

=

٤٦

في الفرق الاسلامية إلى الطائفة الامامية القول بالبداء طعناً في المذهب وطريق آل البيت، وجعلوا ذلك من جملة التشنيعات على الشيعة.

والصحيح في ذلك أن نقول كما قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:( يَمْحوُا اللهُ ما يَشَآءُ وَيُثبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ ) (١) .

ومعنى ذلك: أنّه تعالى قد يُظهر شيئاً على لسان نبيِّه أو وليِّه، أو في ظاهر الحال لمصلحة تقتضي ذلك الاِظهار، ثم يمحوه فيكون غير ما قد ظهر أولاً، مع سبق علمه تعالى بذلك، كما في قصة اسماعيل لما رأى ابوه إبراهيم أنّه يذبحه(٢) .

فيكون معنى قول الامامعليه‌السلام : أنّه ما ظهر لله سبحانه أمر في شيء كما ظهر له في اسماعيل ولده؛ إذ اخترمه قبله ليعلم الناس أنّه ليس بإمام، وقد كان ظاهر الحال أنّه الاِمام بعده؛ لاَنّه أكبر ولده(٣) .

____________________

الحال فيه).

(١) الرعد ١٣: ٣٩.

(٢) قال تعالى:( فَلمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعيَ قالَ يبنَيَّ إنّي أرَى في المَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرُ مَاذا تَرىَ قال يا أَبَتِ افْعَل مَا تُؤمَرُ سَتَجدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرينَ * فَلَمّا أَسْلَما وَتَلّهُ لِلجبيِن* وَنادَيْناهُ أَنْ يا إبراهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤيا إِنّا كذلِكَ نَجْزِي المُحسِنينَ * إنّ هَذا لَهُوَ البل-وءُ المُبيِنُ * وَفَدَيْنهُ بِذِبْحٍ عَظيمٍ ) الصافات ٣٧: ١٠٢ - ١٠٧.

(٣) ونجد أنّ مجموعة من الشيعة - وعلى الرغم ممّا فعله الامام الصادقعليه‌السلام ، وما قاله في وفاة وتجهيز وتكفين ولده اسماعيل - قالوا بإمامة اسماعيل بعد أبيه الامام الصادقعليه‌السلام ، وهؤلاء هم الذين يدعون ب- «الاسماعيلية»، وهم يفترقون عن الشيعة الامامية بقولهم: إنّ الامامة بعد الامام الصادقعليه‌السلام انتقلت الى ولده الاكبر اسماععيل ويزعمون ان الامام الصادقعليه‌السلام نص عليه في حياته. وقد اختلفوا في اسماعيل، فمنهم من قال بموته في حياة أبيه - وهو الثابت والمتواتر تأريخياً كما يشير إليه المصنّف هنا - وهؤلاء قالوا بأنّ الامامة تبقى في ذريته، وأولهم محمد بن اسماعيل وقسم منهم يقول بأنّه

=

٤٧

وقريب من البداء في هذا المعنى نسخ أحكام الشرائع السابقة بشريعة نبيِّناصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل نسخ بعض الأحكام التي جاء بها نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

____________________

=

- أي اسماعيل - لم يمت وإنّما أظهر أبوهعليه‌السلام موته تقيّةً من العباسيين، وأشهد على موته وتجهيزه عامل المنصور بالمدينة محمد بن سليمان، وهؤلاء بين من وقف على محمد بن إسماعيل ولم يتجاوزه إلى غيره - وهم المسمّون بالواقفة - ، وبين من تعدّى عن محمد بن إسماعيل وجعل الامامة في سبعة سبعة؛ بين ظاهر ومستور كأيّام الاسبوع وعدد السموات والاَرضين والاَفلاك، وانّ أول سبعة ظاهرين يبدأون من الامام عليعليه‌السلام وينتهون باسماعيل، وأوّل سبعة مستورين يبدأون بمحمد بن اسماعيل، ثمّ ولده جعفر المصدّق، ثمّ ولده محمد الحبيب، ثم عبدالله المهدي الذي ظهر في شمال افريقيه ومن ولده تكونت الدولة الفاطمية.

راجع، فرق الشيعة: ٦٧، الفصول المختارة من العيون والمحاسن: ٣٠٨، الشيعة بين الاَشاعرة والمعتزلة: ٧٨، تاريخ المذاهب الاسلامية: ٥٤، الملل والنحل للشهرستاني: ١/١٤٩، الفرق بين الفرق: ٦٢.

(١) يذكر الامام الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء في هذا الصدد قوله: (البداء في عالم التكوين كالنسخ في عالم التشريع، فكما أنّ لنسخ الحكم وتبديله بحكم آخر مصالح وأسراراً بعضها غامض وبعضها ظاهر فكذلك في الاخفاء والابداء في عالم التكوين، على أنّ قسماً من البداء يكون من اطّلاع النفوس المتّصلة بالملأ الأعلى على الشيء وعدم اطّلاعها على شرطه أو مانعه. مثلاً اطّلع عيسىعليه‌السلام أنّ العروس يموت ليلة زفافه، ولكن لم يطّلع على أنّ ذلك مشروط بعدم صدقة أهله، فاتفق أنّ أمه تصدّقت عنه، وكان عيسىعليه‌السلام أخبر بموته ليلة عرسه فلم يمت وسئل عن ذلك فقال: «لعلّكم تصدّقتم عنه والصدقة قد تدفع البلاء المبرم» وهكذا نظائرها... ولولا البداء لم يكن وجه للصدقة، ولا للدعاء، ولا للشفاعة، ولا لبكاء الأنبياء والأولياء وشدّة خوفهم وحذرهم من الله مع أنّهم لم يخالفوه طرفة عين، إنّما خوفهم من ذلك العلم المصون المخزون الذي لم يطّلع عليه أحد).

أصل الشيعة وأصولها: ٣١٤.

٤٨

١٢ - عقيدتنا في أحكام الدين

نعتقد: أنّه تعالى جعل أحكامه - من الواجبات والمحرَّمات وغيرهما - طبقاً لمصالح العباد في نفس أفعالهم، فما فيه المصلحة الملزمة جعله واجباً، وما فيه المفسدة البالغة نهى عنه، وما فيه مصلحة راجحة ندبنا إليه...

وهكذا في باقي الأحكام، وهذا من عدله ولطفه بعباده.

ولا بدّ أن يكون له في كل واقعة حكم(١) ، ولا يخلو شيء من الأشياء من حكم واقعي لله فيه، وإن انسدَّ علينا طريق علمه.

ونقول أيضاً: إنّه من القبيح أن يأمر بما فيه المفسدة، أو ينهى عمّا فيه المصلحة.

غير أنّ بعض الفِرق من المسلمين يقولون: إنّ القبيح ما نهى الله تعالى عنه، والحسن ما أمر به، فليس في نفس الاَفعال مصالح أو مفاسد ذاتية، ولا حسن أو قبح ذاتيان(٢) ، وهذا قول مخالف للضرورة العقلية.

كما أنّهم جوَّزوا أن يفعل الله تعالى القبيح فيأمر بما فيه المفسدة، وينهى عما فيه المصلحة. وقد تقدَّم أنّ هذا القول فيه مجازفة عظيمة ، وذلك

____________________

(١) قال تعالى:( مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيءٍ ) الانعام ٦: ٣٨. وورد في الحديث: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب الله» الكافي: ١/٧٨ ح٦. وورد أيضاً. «ما من حادثة إلاّ ولله فيها حكم» البحار: ٩٣/٩١.

(٢) قالت الاَشاعرة: إنّ الحسن والقبح شرعيان، ولا يقضي العقل بحسن شيء منها ولا بقبحه، بل القاضي بذلك هو الشرع، فما حسّنه فهو حسن وما قبّحه فهو قبيح.

لاحظ: نهج الحق: ٨٣، الملل والنحل: ١/٨٩، شرح التجريد للقوشجي: ٣٧٥.

٤٩

لاستلزامه نسبة الجهل أو العجز إليه سبحانه، تعالى علواً كبيراً.

والخلاصة: أنّ الصحيح في الاعتقاد أن نقول: إنّه تعالى لا مصلحة له ولا منفعة في تكليفنا بالواجبات ونهينا عن فعل ما حرَّمه، بل المصلحة والمنفعة ترجع لنا في جميع التكاليف، ولا معنى لنفي المصالح والمفاسد في الأفعال المأمور بها والمنهي عنها؛ فإنّه تعالى لا يأمر عبثاً ولا ينهى جزافاً، وهو الغني عن عباده.

٥٠

الفصل الثاني

النبوّة

عقيدتنا في النبوّة

النبوّة لطف

عقيدتنا في معجزة الأنبياء

عقيدتنا في عصمة الأنبياء

عقيدتنا في صفات النبي

عقيدتنا في الأنبياء وكتبهم

عقيدتنا في الاِسلام

عقيدتنا في مشرّع الاِسلام

عقيدتنا في القرآن الكريم

طريقة إثبات الاِسلام والشرائع السابقة

٥١

١٣ - عقيدتنا في النبوّة

نعتقد: أنّ النبوّة وظيفة إلهية، وسفارة ربّانية، يجعلها الله تعالى لمن ينتجبه ويختاره من عباده الصالحين وأوليائه الكاملين في إنسانيّتهم، فيرسلهم إلى سائر الناس لغاية إرشادهم إلى ما فيه منافعهم ومصالحهم في الدنيا والآخرة، ولغرض تنزيههم وتزكيتهم من درن مساوئ الأخلاق ومفاسد العادات، وتعليمهم الحكمة والمعرفة، وبيان طرق السعادة والخير؛ لتبلغ الانسانية كمالها اللائق بها، فترتفع إلى درجاتها الرفيعة في الدارين دار الدنيا ودار الآخرة.

ونعتقد: أنّ قاعدة اللطف - على ما سيأتي معناها - توجب أن يبعث الخالق - اللطيف بعباده - رسله لهداية البشر، وأداء الرسالة الاصلاحية، وليكونوا سفراء الله وخلفاءه.

كما نعتقد: أنّه تعالى لم يجعل للناس حق تعيين النبي أو ترشيحه أو انتخابه، وليس لهم الخيرة في ذلك، بل أمر كلّ ذلك بيده تعالى؛ لاَنّه( أَعلمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسَالَتهُ ) (١) .

وليس لهم أن يتحكَّموا فيمن يرسله هادياً ومبشِّراً ونذيراً، ولا أن يتحكَّموا فيما جاء به من أحكام وسنن وشريعة(٢) .

____________________

(١) الاَنعام ٦: ١٢٤.

(٢) وقد قال الامام عليعليه‌السلام في خطبة له يصف فيها ابتداء خلق السماء والارض وخلق آدمعليه‌السلام ، ويذكر الانبياء وبعثتهم فيقول:

«واصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم لمّا بدّل أكثرُخلقه عهد الله إليهم فجهلوا حقّه، واتخذوا الانداد معه، واجتالتهم الشياطين

٥٢

____________________

=

عن معرفته، واقتطعتهم عن عبادته، فبعث إليهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم منسيّ نعمته، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة؛ من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع، ومعايش تحييهم، وآجال تفنيهم، وأوصاب تهرمهم، وأحداث تتابع عليهم، ولم يخل الله سبحانه خلقه من نبي مرسل، أو كتاب منزل، أو حجّة لازمة أو محجّة قائمة، رسل لا تقصر بهم قلّة عددهم ولا كثرة المكذبين لهم، من سابق سُمّي له مَن بعده، أو غابر عرّفه من قبله. على ذلك نسلت القرون، ومضت الدهور، وسلفت الآباء، وخلفت الأبناء، إلى أن بعث الله سبحانه محمّداً رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لاِنجاز عدتِه، وإتمام نبوّته، مأخوذاً على النبيين ميثاقه، مشهورة سماته، كريماً ميلاده، وأهل الأرض يومئذٍ مللّ متفرّقة، وأهواء منتشرة، وطرائق متشتتة؛ بين مشبّه لله بخلقه، أو ملحد في اسمه، أو مشير إلى غيره، فهداهم به من الضلالة، وأنقذهم بمكان من الجهالة...». راجع: نهج البلاغة: الخطبة: ١، وغيرها من الخطب أيضاً ففيها إشارات وذكر حول بعثة الأنبياءعليهم‌السلام .

٥٣

١٤ - النبوّة لطف

إنّ الانسان مخلوق غريب الأطوار، معقَّد التركيب في تكوينه وفي طبيعته وفي نفسيّته وفي عقله، بل في شخصية كلّ فرد من أفراده، وقد اجتمعت فيه نوازع الفساد من جهة، وبواعث الخير والصلاح من جهة أخرى(١) .

فمن جهة قد جُبل على العواطف والغرائز من حب النفس، والهوى، والاثرة، وإطاعة الشهوات، وفطر على حب التغلُّب، والاستطالة، والاستيلاء على ما سواه، والتكالب على الحياة الدنيا وزخارفها ومتاعها كما قال تعالى:( إنَّ الاِنسنَ لَفِي خُسْرٍ ) (٢) و( إنَّ الاِنسنَ لَيَطْغَى * أَنْ رآهُ استَغنَى ) (٣) و( إنَّ النَّفْس لاَمَّارَةٌ بالسُّوءِ ) (٤) إلى غير ذلك من الآيات المصرِّحة والمشيرة إلى ما جُبلت عليه النفس الاِنسانية من العواطف والشهوات.

ومن الجهة الثانية، خلق الله تعالى فيه عقلاً هادياً يرشده إلى الصلاح ومواطن الخير، وضميراً وازعاً يردعه عن المنكرات والظلم ويؤنبه على فعل ما هو قبيح ومذموم.

ولا يزال الخصام الداخلي في النفس الانسانية مستعراً بين العاطفة والعقل، فمن يتغلَّب عقله على عاطفته كان من الأعلين مقاماً، والراشدين

____________________

(١) فقد قال تعالى:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّيها* فَألْهَمهَا فُجُورَهَا وتَقْوَيها ) الشمس ٩١: ٧ - ٨.

(٢) العصر ١٠٣: ٢.

(٣) العلق ٩٦: ٦، ٧.

(٤) يوسف ١٢: ٥٣.

٥٤

في انسانيتهم، والكاملين في روحانيتهم، ومن تقهره عاطفته كان من الأخسرين منزلة، والمتردّين إنسانية، والمنحدرين إلى رتبة البهائم.

واشد هذين المتخاصمين مراساً على النفس هي العاطفة وجنودها، فلذلك تجد أكثر الناس منغمسين في الضلالة، ومبتعدين عن الهداية، بإطاعة الشهوات، وتلبية نداء العواطف( وَمَا أَكثَرُ النَّاسِ ولو حَرَصتَ بِمُؤمِنيِنَ ) (١) .

على أنّ الانسان لقصوره، وعدم اطّلاعه على جميع الحقائق، وأسرار الأشياء المحيطة به، والمنبثقة من نفسه، لا يستطيع أن يعرف بنفسه كل ما يضرّه وينفعه، ولا كل ما يسعده ويشقيه؛ لا فيما يتعلَّق بخاصّة نفسه، ولا فيما يتعلّق بالنوع الانساني ومجتمعه ومحيطه، بل لا يزال جاهلاً بنفسه، ويزيد جهلاً، أو ادراكاً لجهله بنفسه، كلّما تقدّم العلم عنده بالأشياء الطبيعية، والكائنات المادية.

وعلى هذا، فالانسان في أشدّ الحاجة ليبلغ درجات السعادة إلى من ينصب له الطريق اللاحب، والنهج الواضح إلى الرشاد واتّباع الهدى؛ لتقوى بذلك جنود العقل، حتى يتمكن من التغلب على خصمه اللَّدود اللجوج عندما يهيىء الانسان نفسه لدخول المعركة الفاصلة بين العقل والعاطفة.

وأكثر ما تشتد حاجته إلى من يأخذ بيده إلى الخير والصلاح عندما تخادعه العاطفة وتراوغه - وكثيراً ما تفعل - فتزيِّن له أعماله، وتحسّن لنفسه انحرافاتها؛ إذ تريه ما هو حسن قبيحاً، أو ما هو قبيح حسناً، وتلبس على العقل طريقه إلى الصلاح والسعادة والنعيم، في وقت ليس له تلك المعرفة التي تميّز له كلّ ما هو حسن ونافع، وكل ما هو قبيح وضار. وكل واحد منّا

____________________

(١) يوسف ١٢: ١٠٣.

٥٥

صريع لهذه المعركة من حيث يدري ولا يدري، إلاّ من عصمه الله.

ولأجل هذا يعسر على الانسان المتمدِّن المثقَّف - فضلاً عن الوحشي الجاهل - أن يصل بنفسه إلى جميع طرق الخير والصلاح، ومعرفة جميع ما ينفعه ويضرّه في دنياه وآخرته، فيما يتعلَّق بخاصة نفسه أو بمجتمعه ومحيطه، مهما تعاضد مع غيره من أبناء نوعه ممّن هو على شاكلته وتكاشف معهم، ومهما أقام بالاشتراك معهم المؤتمرات والمجالس والاستشارات.

فوجب أن يبعث الله تعالى في الناس رحمة لهم ولطفاً بهم( رَسُولاً مِنهُم يَتلوُا عَلَيهِم ءايتِه وَيُزكِّيهِم ويُعلّمُهُمُ الكِتبَ والحكمَةَ ) (١) وينذرهم عمّا فيه فسادهم، ويبشّرهم بما فيه صلاحهم وسعادتهم.

وإنّما كان اللطف من الله تعالى واجباً، فلأنّ اللطف بالعباد من كماله المطلق، وهو اللطيف بعباده الجواد الكريم، فإذا كان المحل قابلاً ومستعدّاً لفيض الجود واللطف، فإنّه تعالى لا بد أن يفيض لطفه؛ إذ لا بخل في ساحة رحمته، ولا نقص في جوده وكرمه.

وليس معنى الوجوب هنا أنّ أحداً يأمره بذلك فيجب عليه أن يطيع تعالى عن ذلك، بل معنى الوجوب في ذلك هو كمعنى الوجوب في قولك: إنّه واجب الوجود (أي اللزوم واستحالة الانفكاك).

____________________

(١) الجمعة ٦٢: ٢.

٥٦

١٥ - عقيدتنا في معجزة الأنبياء

نعتقد: أنّه تعالى إذ ينصّب لخلقه هادياً ورسولاً لا بدّ أن يعرِّفهم بشخصه، ويرشدهم إليه بالخصوص على وجه التعيين، وذلك منحصر بأن ينصب على رسالته دليلاً وحجّة يقيمها لهم(١) ؛ إتماماً للطف، واستكمالاً للرحمة.

وذلك الدليل لا بدّ أن يكون من نوع لا يصدر إلا من خالق الكائنات، ومدبر الموجودات - أي فوق مستوى مقدور البشر - فيجريه على يدي ذلك الرسول الهادي؛ ليكون معرِّفاً به، ومرشداً إليه، وذلك الدليل هو المسمى بالمعجز أو المعجزة؛ لاَنّه يكون على وجه يعجز البشر عن مجاراته والاِتيان بمثله.

وكما أنّه لا بد للنبي من معجزة يظهر بها للناس لاِقامة الحجة عليهم، فلا بد أن تكون تلك المعجزة ظاهرة الاِعجاز بين الناس على وجه يعجز عنها العلماء وأهل الفن في وقته، فضلاً عن غيرهم من سائر الناس، مع اقتران تلك المعجزة بدعوى النبوّة منه؛ لتكون دليلاً على مدَّعاه، وحجة بين يديه، فإذا عجز عنها أمثال أولئك عُلم أنّها فوق مقدور البشر، وخارقة للعادة، فيُعلم أنّ صاحبها فوق مستوى البشر، بما له من ذلك الاتصال الروحي بمدبِّر الكائنات.

وإذا تمَّ ذلك لشخص، من ظهورالمعجز الخارق للعادة، وادّعى - مع

____________________

(١) قال تعالى:( رُسلاً مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرِينَ لِئلا يَكُونَ للِنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةً بَعْدَ الرُّسُلِ وكَانَ اللهُ عَزِيزَاً حَكِيماً ) النساء ٤: ١٦٥.

٥٧

ذلك - النبوة والرسالة، يكون حينئذٍ موضعاً لتصديق الناس بدعواه، والايمان برسالته، والخضوع لقوله وأمره، فيؤمن به من يؤمن، ويكفر به من يكفر.

ولأجل هذا وجدنا أنّ معجزة كل نبي تناسب ما يشتهر في عصره من العلوم والفنون، فكانت معجزة موسىعليه‌السلام هي العصا التي تلقف السحر وما يأفكون؛ إذ كان السحر في عصره فنّاً شائعاً، فلما جاءَت العصا بطل ما كانوا يعملون، وعلموا أنّها فوق مقدروهم، وأعلى من فنّهم، وأنّها ممّا يعجز عن مثله البشر، ويتضاءل عندها الفن والعلم(١) .

وكذلك كانت معجزة عيسىعليه‌السلام ، وهي إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى؛ إذ جاءَت في وقت كان فن الطب هو السائد بين الناس، وفيه علماء وأطباء لهم المكانة العليا، فعجز علمهم عن مجاراة ما جاء به عيسىعليه‌السلام (٢) .

ومعجزة نبينا الخالدة هي القرآن الكريم، المعجز ببلاغته وفصاحته، في وقت كان فن البلاغة معروفاً. وكان البلغاء هم المقدَّمين عند الناس بحسن بيانهم وسموِّ فصاحتهم، فجاء القرآن كالصاعقة؛ أذلّهم وأدهشهم، وأفهمهم أنّهم لا قِبَل لهم به، فخنعوا له مهطعين عندما عجزوا عن مجاراته،

____________________

(١) قال تعالى:( وَأَوحَيْنا إلى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأفِكُونَ * فَوقَعَ الحَقُّ وبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلوُنَ * فَغُلِبوُا هُنَالِكَ وانْقَلَبوُا صَاغِريِنَ * وأُلقِيَ السَحَرَةُ سجدين ) الاعراف ٧: ١١٧ - ١٢٠.

(٢) قال تعالى:( وَرَسُولاً إلى بَنيِ إِسرءِيلَ أَنِّي قد جئتُكُم بِآيةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أنِّي أخَلُقُ لَكُمْ مِنَ الْطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَيْرِ فَأنفخُ فِيهِ فَيَكُونُ طيراً بإذنِ الله وأُبْريءُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ وأُحْيي الموتَى بإذْن الله وأُنَبِّئُكُمْ بما تأكلُونَ وما تَدَّخِرون في بيوتِكُمْ إنّ في ذلِكَ لآيةً لَكُمْ إنّ كُنتُمْ مُؤمِنينَ ) آل عمران ٣: ٤٩.

٥٨

وقصروا عن اللحاق بغبارة»(١) .

ويدلّ على عجزهم أنّه تحدّاهم بإتيان عشر سور مثله فلم يقدروا(٢) ، ثمّ تحدّاهم أن يأتوا بسورة من مثله(٣) فنكصوا، ولمّا علمنا عجزهم عن مجاراته - مع تحدّيه لهم، وعلمنا لجوءهم إلى المقاومة بالسنان دون اللسان - علمنا أنّ القرآن من نوع المعجز، وقد جاء به محمد بن عبدالله مقروناً بدعوى الرسالة. فعلمنا أنّه رسول الله، جاء بالحق وصدق به،صلى‌الله‌عليه‌وآله .

____________________

(١) قال تعالى:( قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الاِنْسُ والجِنُّ عَلَى أَنْ يَأتُوا بِمِثْلِ هذا القُرءانَ لاَ يَأتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) الاسراء ١٧: ٨٨.

(٢)( أَمْ يَقُولُونَ افتريهُ قُلْ فَأتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صدِقِيْنَ ) هود ١١: ١٣.

(٣) قال تعالى أيضاً:( وَإنْ كُنْتُم في رَيْبٍ مِمَّا نزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وادعوا شهُدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُم صَدِقِينَ ) البقرة ٢: ٢٣.

وقال تعالى أيضاً :( أَمْ يَقُولُونَ افْتريهُ قُلْ فَأتُوا بِسُوَرَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ استَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَدقِينَ ) يونس ١٠: ٣٨.

٥٩

١٦ - عقيدتنا في عصمة الأنبياء

ونعتقد: أنّ الأنبياء معصومون قاطبة، وكذلك الأئمة عليهم جميعاً التحيات الزاكيات، وخالَفَنا في ذلك بعض المسلمين، فلم يوجبوا العصمة في الأنبياء ، فضلاً عن الأئمة.

والعصمة: هي التنزُّه عن الذنوب والمعاصي صغائرها وكبائرها، وعن الخطأ والنسيان(٢) ، وإن لم يمتنع عقلاً على النبي أن يصدر منه ذلك، بل

____________________

(١) انظر: شرح المقاصد: ٥/٥٠، الغنية في اصول الدين: ١٦١.

وذكر السيد المرتضى في تنزيه الانبياء ما نصه: (وجوّز أصحاب الحديث والحشوية على الأنبياء الكبائر قبل النبوّة، ومنهم من جوّزها في حال النبوّة سوى الكذب فيما يتعلّق بأداء الشريعة، ومنهم من جوّزها كذلك - في حال النبوّة - بشرط الاستسرار دون الاِعلان، ومنهم من جوّزها على الأحوال كلها. ومنعت المعتزلة من وقوع الكبائر والصغائر المستخفة من الانبياءعليهم‌السلام قبل النبوّة وفي حالها، وجوّزت في الحالين وقوع ما لا يستخف من الصغائر، ثم اختلفوا؛ فمنهم من جوّز على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الاِقدام على المعصية الصغيرة على سبيل العمد، ومنهم من منع ذلك وقال إنّهم لا يقدمون على الذنوب التي يعلمونها ذنوباً بل على سبيل التأويل، وحكي عن النظام وجعفر بن مبشر وجماعة ممّن تبعهما أنّ ذنوبهم لا تكون إلاّ على سبيل السهو والغفلة، وأنّهم مؤاخذون بذلك وإن كان موضوعاً عن أممهم بقوّة معرفتهم وعلوّ مرتبتهم). تنزيه الأنبياء: المقدمة.

(٢) معنى العصمة في أصل اللغة هي: ما اعتصم به الانسان من الشيء؛ كأنّه امتنع به عن الوقوع فيما يكره، وليس هو جنساً من أجناس الفعل، ومنه قولهم: إعتصم فلان بالجبل، إذا امتنع به، ومنه سميت العصم، وهي وعول الجبال؛ لامتناعها بها.

وقال في لسان العرب: (إنّ العصمة هي الحفظ، يقال: عصمته فانعصم،، واعتصمت بالله، إذا امتنعت بلطفه من المعصية).

والعصمة من الله تعالى هي: التوفيق الذي يسلم به الانسان ممّا يكره إذا أتى بالطاعة، وذلك مثل إعطائنا رجلاً غريقاً حبلاً ليتشبّث به فيسلم، وقد بيّن الله تعالى هذا المعنى في

=

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

لم يكن جيش فرعون مانعا من العذاب الإلهي ، ولم تكن سعة مملكتهم وأموالهم وثراؤهم سببا لرفع هذا العذاب ، ففي النهاية أغرقوا في أمواج النيل المتلاطمة إذ أنّهم كانوا يتباهون بالنيل ، فبماذا تفكرون لأنفسكم وأنتم أقل عدّة وعددا من فرعون وأتباعه وأضعف؟! وكيف تغترون بأموالكم وأعدادكم القليلة؟!

«الوبيل» : من (الوبل) ويراد به المطر الشديد والثقيل ، وكذا يطلق على كل ما هو شديد وثقيل بالخصوص في العقوبات ، والآية تشير إلى شدّة العذاب النازل كالمطر.

ثمّ وجه الحديث إلى كفّار عصر بنيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحذرهم بقوله :( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ) (١) (٢) .

بلى إنّ عذاب ذلك اليوم من الشدّة والثقيل بحيث يجعل الولدان شيبا ، وهذه كناية عن شدّة ذلك اليوم.

هذا بالنسبة لعذاب الآخرة ، وهناك من يقول : إنّ الإنسان يقع أحيانا في شدائد العذاب في الدنيا بحيث يشيب منها الرأس في لحظة واحدة.

على أي حال فإنّ الآية تشير إلى أنّكم على فرض أنّ العذاب الدنيوي لا ينزل عليكم كما حدث للفراعنة؟ فكيف بكم وعذاب يوم القيامة؟

في الآية الاخرى يبيّن وصفا أدقّ لذلك اليوم المهول فيضيف :( السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ) .

إنّ الكثير من الآيات الخاصّة بالقيامة وأشراط الساعة تتحدث عن

__________________

(١) يوما مفعول به لتتقون ، و «تتقون» ذلك اليوم يراد به تتقون عذاب ذلك اليوم ، وقيل (يوم) ظرف لـ (تتقون) أو مفعول به لـ (كفرتم) والاثنان بعيدان.

(٢) «شيب» جمع (أشيب) ويراد به المسن ، وهي من أصل مادة شيب ـ على وزن عيب ـ والمشيب يعني تغير لون الشعر إلى البياض.

١٤١

انفجارات عظيمة وزلازل شديدة ومتغيرات سريعة ، والآية أعلاه تشير إلى جانب منها.

فما حيلة الإنسان الضعيف العاجز عند ما يرى تفطر السموات بعظمتها لشدّة ذلك اليوم؟!(١)

وفي النّهاية يشير القرآن إلى جميع التحذيرات والإنذارات السابقة فيقول تعالى :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ) .

إنّكم مخيرون في اختيار السبيل ، فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلا ، ولا فضيلة في اتّخاذ الطريق إلى الله بالإجبار والإكراه ، بل الفضيلة أن يختار الإنسان السبيل بنفسه وبمحض إرادته.

والخلاصة أنّ الله تعالى هدى الإنسان إلى النجدين ، وجعلهما واضحين كالشمس المضيئة في وضح النهار ، وترك الإختيار للإنسان نفسه حتى يدخل في طاعته سبحانه بمحض إرادته ، وقد احتملت احتمالات متعددة في سبب الإشارة إلى التذكرة ، فقد قيل أنّها إشارة إلى المواعظ التي وردت في الآيات السابقة ، وقيل هي إشارة إلى السورة بكاملها ، أو إشارة إلى القرآن المجيد.

ولعلها إشارة إلى إقامة الصلاة وقيام الليل كما جاء في الآيات من السورة ، والمخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والآية تدل على توسعة الخطاب وتعميمه لسائر المسلمين ، ولهذا فإنّ المراد من «السبيل» في الآية هو صلاة الليل ، والتي تعتبر سبيل خاصّ ومهمّة تهدي إلى الله تعالى ، كما ذكرت في الآية (٢٦) من سورة الدهر بعد أن أشير إلى صلاة الليل بقوله تعالى :( وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ) .

ويقول بعد فاصلة قصيرة :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً )

__________________

(١) «المنفطر» : من الانفطار بمعنى الإنشقاق ، والضمير (به) يعود لليوم ، والمعنى السماء منشقة بسبب ذلك اليوم والسماء جائزة للوجهين أي أنّه تذكر وتؤنث.

١٤٢

وهي بعينها الآية التي نحن بصدد البحث فيها(١) .

وبالطبع هذا التّفسير مناسب ، والأنسب منه أن تكون الآية ذات مفهوم أوسع حيث تستوعب هذه السورة جميع مناهج صنع الإنسان وتربيته كما أشرنا إلى ذلك سابقا.

* * *

ملاحظة

المراحل الأربع للعذاب الإلهي

الآيات السابقة تهدد المكذبين المغرورين بأربعة أنواع من العذاب الأليم : النكال ، الجحيم ، الطعام ذو الغصّة ، والعذاب الأليم ، هذه العقوبات في الحقيقة هي تقع في مقابل أحوالهم في هذه الحياة الدنيا.

فمن جهة كانوا يتمتعون بالحرية المطلقة.

الحياة المرفهة ثانيا.

لما لهم من الأطعمة السائغة من جهة ثالثة.

والجهة الرابعة لما لهم من وسائل الراحة ، وهكذا سوف يجزون بهذه العقوبات لما قابلوا هذه النعم بالظلم وسلب الحقوق والكبر والغرور والغفلة عن الله تعالى.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٤٧.

١٤٣

الآية

( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠) )

التّفسير

فاقرؤوا ما تيسر من القرآن :

هذه الآية هي من أطول آيات هذه السورة وتشتمل على مسائل كثيرة ، وهي مكملة لمحتوى الآيات السابقة ، وهناك أقوال كثيرة للمفسّرين حول ما إذا كانت

١٤٤

هذه الآية ناسخة لحكم صدر السورة أم لا ، وكذلك في مكّيتها أو مدنيتها ، ويتّضح لنا جواب هذه الأسئلة بعد تفسير الآية.

فيقول تعالى :( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ) (١) .

الآية تشير إلى نفس الحكم الذي أمر به الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدر السورة من قيام الليل والصلاة فيه ، وما أضيف في هذه الآية هو اشتراك المؤمنين في العبادة مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بصيغة حكم استحبابي أو باحتمال حكم وجوبي لأنّ ظروف صدر الإسلام كانت تتجاوب مع بناء ذواتهم والاستعداد للتبليغ والدفاع عنه بالدروس العقائدية المقتبسة من القرآن المجيد ، وكذا بالعمل والأخلاق وقيام الليل ، ولكن يستفاد من بعض الرّوايات أنّ المؤمنين كانوا قد وقعوا في إشكالات ضبط الوقت للمدة المذكورة (الثلث والنصف والثلثين) ولذا كانوا يحتاطون في ذلك ، وكان ذلك يستدعي استيقاظهم طول الليل والقيام حتى تتورم أقدامهم ، ولذا بني هذا الحكم على التخفيف ، فقال :( عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) .

«لن تحصوه» : من (الإحصاء) وهو عد الشيء ، أي علم أنّكم لا تستطيعون إحصاء مقدار الليل الذي أمرتم بقيامه والإحاطة بالمقادير الثلاثة.

وقال البعض : إنّ معنى الآية أنّكم لا تتمكنون من المداومة على هذا العمل طيلة أيّام السنة ، ولا يتيسر لعامّة المكلّفين إحصاء ذلك لاختلاف الليالي طولا وقصرا ، مع وجود الوسائل التي توقظ الإنسان.

والمراد بـ( فَتابَ عَلَيْكُمْ ) خفف عليكم التكاليف ، وليس التوبة من الذنب ، ويحتمل أنّه في حال رفع الحكم الوجوبي لا يوجد ذنب من الأساس ، والنتيجة

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أنّ (نصفه) و (ثلثه) معطوف على أدنى وليس على (ثلثي الليل) فيكون المعنى أنّه يعلم أنّك تقوم بعض الليالي أدنى من ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه ،. كذا الالتفات إلى أن أدنى تقال لما يقرب من الشيء ، وهنا إشارة إلى الزمن التقريبي.

١٤٥

تكون مثل المغفرة الإلهية.

وأمّا عن معنى الآية :( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) فقد قيل في تفسيرها أقوال ، فقال بعضهم : إنّها تعني صلاة الليل التي تتخللها قراءة الآيات القرآنية ، وقال الآخرون : إنّ المراد منها قراءة القرآن ، وإن لم تكن في أثناء الصلاة ، وفسّرها البعض بخمسين آية ، وقيل مائة آية ، وقيل مائتان ، ولا دليل على ذلك ، بل إنّ مفهوم الآية هو قراءة ما يتمكن عليه الإنسان.

وبديهي أنّ المراد من قراءة القرآن هو تعلم الدروس لبناء الذات وتقوية الإيمان والتقوى.

ثمّ يبيّن دليلا آخرا للتخفيف فيضيف تعالى :( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) ، وهذا تخفيف آخر كما قلنا في الحكم ، ولذا يكرر قوله «فاقرؤوا ما تيسر منه» ، والواضح أنّ المرض والأسفار والجهاد في سبيل الله ذكرت بعنوان ثلاثة أمثلة للأعذار الموجهة ولا تعني الحصر ، والمعنى هو أنّ الله يعلم أنّكم سوف تلاقون ، كثيرا من المحن والمشاكل الحياتية ، وبالتالي تؤدي إلى قطع المنهج الذي أمرتم به ، فلذا خفف عليكم الحكم.

وهنا يطرح هذا السؤال ، وهو : هل أنّ هذا الحكم ناسخ للحكم الذي ورد في صدر السورة ، أم هو حكم استثنائي؟ طاهر الآيات يدل على النسخ ، وفي الحقيقة أنّ الغرض من الحكم الأوّل في صدر السورة هو إقامة المنهج العبادي ، وهذا ما حصل لمدّة معينة ثمّ نسخ بعد ذلك بهذه الآية ، وأصبح أخف من ذي قبل ، لأنّ ظاهر الآية يدل على وجود معذورين ، فلذا حفف الحكم على الجميع ، وليس للمعذورين فحسب ، ولذا لا يمكن أن يكون حكما استثنائيا بل هو حكم ناسخ.

ويرد سؤال آخر ، هو : هل أنّ الحكم المذكور بقراءة ما تيسّر من القرآن واجب أم مستحب؟ إنّه مستحب ، واحتمل البعض الآخر الوجوب ، لأنّ قراءة القرآن تبعث على معرفة دلائل التوحيد ، وإرسال الرسل ، وواجبات الدين ، وعلى

١٤٦

هذا الأساس تكون القراءة واجبة.

ولكن يجب الالتفات إلى أنّ الإنسان لا يلزم بقراءة القرآن ليلا أثناء صلاة الليل ، بل يجب على المكلّف أن يقرأ بمقدار ما يحتاجه للتعليم والتربية لمعرفة اصول وفروع الإسلام وحفظه وإيصاله إلى الأجيال المقبلة ، ولا يختص ذلك بزمان ومكان معينين ، والحقّ هو وجوب القراءة لما في ظاهر الأمر (فاقرؤا كما هو مبيّن في اصول الفقه) إلّا أن يقال بقيام الإجماع على عدم الوجوب ، فيكون حينها مستحبا ، والنتيجة هي وجوب القراءة في صدر الإسلام لوجود الظروف الخاصّة لذلك ، واعطي التخفيف بالنسبة للمقدار والحكم ، وظهر الاستحباب بالنسبة للمقدار الميسّر ، ولكن صلاة الليل بقيت واجبة على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة حياته (بقرينة سائر الآيات والرّوايات).

ونقرأ في حديث ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام حيث يقول : «... متى يكون النصف والثلث نسخت هذه الآية( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) واعلموا أنّه لم يأت نبيّ قط إلّا خلا بصلاة الليل ، ولا جاء نبي قط صلاة الليل في أوّل الليل»(١) .

والملاحظ في الآية ذكر ثلاثة نماذج من الأعذار ، أحدها يتعلق بالجسم (المرض) ، والآخر بالمال (السفر) ، والثالث بالدين (الجهاد في سبيل الله) ، ولذا قال البعض : إنّ المستفاد من الآية هو السعي للعيش بمثابة الجهاد في سبيل الله! وقالوا : إنّ هذه الآية مدنيّة بدليل سياقها في وجوب الجهاد ، إلّا أنّ الجهاد لم يكن في مكّة ، ولكن بالالتفات إلى قوله :( سَيَكُونُ ) يمكن أن تكون الآية مخبرة على تشريع الجهاد في المستقبل ، أي بسبب ما لديكم من الأعذار وما سيكون من الأعذار ، لم يكن هذا الحكم دائميا ، وبهذا الصورة يمكن أن تكون الآية مكّية ولا منافاة في ذلك.

ثمّ يشير إلى أربعة أحكام اخرى ، وبهذه الطريقة يكمل البناء الروحي للإنسان فيقول:( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ٤٥١.

١٤٧

تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

هذه الأوامر الأربعة (الصلاة ، الزكاة ، القروض المستحبة ، الاستغفار) مع الأمر بالقراءة والتدبر في القران الذي ورد من قبل تشكّل بمجموعها منهجا للبناء الروحي ، وهذا مهم للغاية بالخصوص لمن كان في عصر صدر الإسلام.

والمراد من «الصلاة» هنا الصلوات الخمس المفروضة ، والمراد من «الزكاة» الزكاة المفروضة ومن إقراض الله تعالى هو إقراض الناس ، وهذه من أعظم العبارات المتصورة في هذا الباب ، فإنّ مالك الملك يستقرض بمن لا يملك لنفسه شيئا ، ليرغبهم بهذه الطريقة للإنفاق والإيثار واكتساب الفضائل منها وليتربى ويتكامل بهذه الطريقة.

وذكر «الاستغفار» في آخر هذه الأوامر يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى وإيّاكم والغرور إذا ما أنجزتم هذه الطاعات ، وبأنّ تتصوروا بأنّ لكم حقّا على الله ، بل اعتبروا أنفسكم مقصرين على الدوام واعتذروا لله.

ويرى البعض أنّ التأكيد على هذه الأوامر هو لئلا يتصور المسلّم أنّ التخفيف سار على جميع المناهج والأوامر الدينية كما هو الحال في التخفيف الذي امر به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه في قيام وقراءة القرآن ، بل إنّ المناهج والأوامر الدينية باقية على متانتها وقوّتها(١) .

وقيل إنّ ذكر الزكاة المفروضة في هذه الآية هو دليل آخر على مدنيّة هذه الآية ، لأنّ حكم الزكاة نزل بالمدينة وليس في مكّة ، ولكن البعض قال : إنّ حكم الزكاة نزل في مكّة من غير تعيين نصاب ومقدار لها ، والذي فرض بالمدينة تعيين الأنصاب والمقادير.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٥٦.

١٤٨

ملاحظات

١ ـ ضرورة الاستعداد العقائدي والثقافي

لغرض إيجاد ثورة واسعة في جميع الشؤون الحياتية أو إنجاز عمل اجتماعي ذي أهمية لا بدّ من وجود قوّة عزم بشرية قبل كل شيء ، وذلك مع الإعتقاد الراسخ ، والمعرفة الكاملة ، والتوجيه والفكري والثقافي الضروري والتربوي ، والتربية الأخلاقية ، وهذا ما قام به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة في السنوات الاولى للبعثة ، بل في مدّة حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولوجود هذا الأساس المتين للبناء أخذ الإسلام بالنمو السريع والرشد الواسع من جميع الجهات.

وما جاء في هذه السورة هو نموذج حي ومنطقي لهذا المنهج المدروس ، فقد خلّف القيام لثلثي الليل أو ثلثه وقراءة القرآن والتمعن فيه أثرا بالغا في أرواح المؤمنين ، وهيأهم لقبول القول الثقيل والسبح الطويل ، وتطبيق هذه الأوامر التي هي أشدّ وطأ وأقوم قيلا كما يعبّر عنه القرآن ، هي التي أعطتهم هذه الموفقية ، وجهزت هذه المجموعة المؤمنة القليلة ، والمستضعفة والمحرومة بحيث أهلتهم لإدارة مناطق واسعة من العالم ، وإذا ما أردنا نحن المسلمين إعادة هذه العظمة والقدرة القديمة علينا أن نسلك هذا الطريق وهذا المنهج ، ولا يجب علينا إزالة حكومة الصهاينة بالاعتماد على أناس عاجزين وضعفاء لم يحصلوا على ثقافة أخلاقية.

٢ ـ قراءة القرآن والتفكر

يستفاد من الرّوايات الإسلامية أنّ فضائل قراءة القرآن ليس بكثرة القراءة ، بل في حسن القراءة والتدبر والتفكر فيها ، ومن الطريف أنّ هناك رواية

وردت عن الإمام الرضاعليه‌السلام في تفسير ذيل الآية :( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) رواها عن

١٤٩

جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما تيسّر منه لكم فيه خشوع القلب وصفاء السر»(١) ، لم لا يكون كذلك والهدف الأساس للقراءة هو التعليم والتربية.

والرّوايات في هذا المعنى كثيرة.

٣ ـ السعي للعيش كالجهاد في سبيل الله

كما عرفنا من الآية السابقة فإنّ السعي لطلب الرزق جعل مرادفا للجهاد في سبيل الله ، وهذا يشير إلى أنّ الإسلام يعير أهمية بالغه لهذا الأمر ، ولم لا يكون كذلك فلأمّة الفقيرة والجائعة المحتاجة للأجنبي لا يمكن لها أن تحصل على الاستقلال والرفاه ، والمعروف أنّ الجهاد الاقتصادي هو قسم من الجهاد مع الأعداء ، وقد نقل في هذا الصدد قول عن الصحابي المشهور عبد الله بن مسعود : «أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء» ثمّ قرأ :( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ ) (٢) .

اللهم! وفقنا للجهاد بكلّ أبعاده.

ربّنا! وفقنا لقيام الليل وقراءة القرآن الكريم وتهذيب أنفسنا بواسطة هذا النور السماوي.

ربّنا! منّ على مجتمعنا الإسلامي بمقام الرفعة والعظمة بالإلهام من هذه السورة العظيمة.

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة المزّمل

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٢.

(٢) مجمع البيان ، وتفسير أبي الفتوح ، وتفسير القرطبي ، ذيل الآية مورد البحث وقد نقل القرطبي حديثا عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشابه هذه الحديث ، فيستفاد من ذلك أنّ عبد الله بن مسعود قد ذكر الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس هو من قوله.

١٥٠
١٥١

سورة

المدّثّر

مكيّة

وعدد آياتها ستّ وخمسون آية

١٥٢

«سورة المدّثّر»

محتوى السورة :

لا شك أنّ هذه السورة هي من السور المكّية ولكن هناك تساؤل عن أنّ هذه السورة هل هي الاولى النازلة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم نزلت بعد سورة العلق؟

يتّضح من التمعن في محتوى سورة العلق والمدثر أنّ سورة العلق نزلت في بدء الدعوة ، وأنّ سورة المدثر نزلت في زمن قد امر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه بالدعوة العلنية ، وانتهاء فترة الدعوة السرّية ، لذا قال البعض أنّ سورة العلق هي أوّل سورة نزلت في صدر البعثة ، والمدثر هي السورة الاولى التي نزلت بعد الدعوة العلنية ، وهذا الجمع هو الصحيح.

ومهما يكن فإنّ سياق السور المكّية التي تشير إلى الدعوة وإلى المبدأ والمعاد ومقارعة الشرك وتهديد المخالفين وإنذارهم بالعذاب الإلهي واضح الوضوح في هذه السورة.

يدور البحث في هذه السورة حول سبعة محاور وهي :

١ ـ يأمر الله تعالى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإعلان الدعوة العلنية ، ويأمر أن ينذر المشركين ، وتمسك بالصبر والاستقامة في هذا الطريق والاستعداد الكامل لخوض هذا الطريق.

٢ ـ تشير إلى المعاد وأوصاف أهل النّار الذين واجهوا القرآن بالتكذيب والإعراض عنه.

١٥٣

٣ ـ الإشارة إلى بعض خصوصيات النّار مع إنذار الكافرين.

٤ ـ التأكيد على المعاد بالأقسام المكررة.

٥ ـ ارتباط عاقبة الإنسان بعمله ، ونفي كل أنواع التفكر غير المنطقي في هذا الإطار.

٦ ـ الإشارة إلى قسم من خصوصيات أهل النّار وأهل الجنّة وعواقبهما.

٧ ـ كيفية فرار الجهلة والمغرورين من الحقّ.

فضيلة السورة :

ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأ سورة المدثر اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بمحمّد وكذب به بمكّة»(١) .

وورد في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال : «من قرأ في الفريضة سورة المدثر كان حقّا على الله أن يجعله مع مجمّد في درجته ، ولا يدركه في حياة الدنيا شقاء أبدا»(٢)

وبديهي أنّ هذه النتائج العظيمة لا تتحقق بمجرّد قراءة الألفاظ فحسب ، بل لا بدّ من التمعن في معانيها وتطبيقها حرفيا.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٣.

(٢) المصدر السابق.

١٥٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) )

التّفسير

قم وانذر النّاس :

لا شك من أنّ المخاطب في هذه الآيات هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن لم يصرح باسمه ، ولكن القرائن تشير إلى ذلك ، فيقول أوّلا :( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ) فلقد ولى زمن النوم الاستراحة ، وحان زمن النهوض والتبليغ ، وورد التصريح هنا بالإنذار مع أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبشر ونذير ، لأنّ الإنذار له أثره العميق في إيقاظ الأرواح النائمة خصوصا في بداية العمل.

وأورد المفسّرون احتمالات كثيرة عن سبب تدثرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعوته إلى القيام والنهوض.

١ ـ اجتمع المشركون من قريش في موسم الحج وتشاور الرؤساء منهم

١٥٥

كأبي جهل وأبي سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وغيرهم في ما يجيبون به عن أسئلة القادمين من خارج مكّة وهم يناقشون أمر النّبي الذي قد ظهر بمكّة ، وفكروا في وأن يسمّي كلّ واحد منهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسم ، ليصدوا الناس عنه ، لكنّهم رأوا في ذلك فساد الأمر لتشتت أقوالهم ، فاتفقوا في أن يسمّوه ساحرا ، لأنّ أحد آثار السحرة الظاهرة هي التفريق بين الحبيب وحبيبه ، وكانت دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أثّرت هذا الأثر بين الناس! فبلغ ذلك النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتأثر واغتم لذلك ، فأمر بالدثار وتدثر ، فأتاه جبرئيل بهذه الآيات ودعاه إلى النهوض ومقابلة الأعداء.

٢ ـ إنّ هذه الآيات هي الآيات الأولى التي نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نقله جابر بن عبد الله قال : جاوزت بحراء فلمّا قضيت جواري نوديت يا محمّد ، أنت رسول الله ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فملئت منه رعبا ، فرجعت إلى خديجة وقلت : «دثروني دثروني ، واسكبوا عليّ الماء البارد» ، فنزل جبرئيل بسورة :( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) .

ولكن بلحاظ أن آيات هذه السورة نظرت للدعوة العلنية ، فمن المؤكّد أنّها نزلت بعد ثلاث سنوات من الدعوة الخفية ، وهذا لا ينسجم والروية المذكورة ، إلّا أن يقال بأنّ بعض الآيات التي في صدر السورة قد نزلت في بدء الدعوة ، والآيات الأخرى مرتبطة بالسنوات التي تلت الدعوة.

٣ ـ إنّ النّبي كان نائما وهو متدثر بثيابه فنزل عليه جبرائيلعليه‌السلام موقظا إيّاه ، ثمّ قرأ عليه الآيات أن قم واترك النوم واستعد لإبلاغ الرسالة.

٤ ـ ليس المراد بالتدثر التدثر بالثياب الظاهرية ، بل تلبسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنبوّة والرسالة كما قيل في لباس التقوى.

١٥٦

٥ ـ المراد به اعتزالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانزواؤه واستعد لإنذار الخلق وهداية العباد(١) والمعني الأوّل هو الأنسب ظاهرا.

ومن الملاحظ أنّ جملة (فانذر) لم يتعين فيها الموضوع الذي ينذر فيه ، وهذا يدل على العمومية ، يعني إنذار الناس من الشرك وعبادة الأصنام والكفر والظلم والفساد ، وحول العذاب الإلهي والحساب المحشر إلخ (ويصطلح على ذلك بأن حذف المتعلق يدل على العموم). ويشمل ضمن ذلك العذاب الدنيوي والعذاب الاخروي والنتائج السيئة لأعمال الإنسان التي سيبتلى بها في المستقبل.

ثم يعطي للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمسة أوامر مهمّة بعد الدعوة إلى القيام والإنذار ، تعتبر منهاجا يحتذي به الآخرون ، والأمر الأوّل هو في التوحيد ، فيقول :( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) (٢) .

ذلك الربّ الذي هو مالكك مربيك ، وجميع ما عندك فمنه تعالى ، فعليك أن تضع غيره في زاوية النسيان وتشجب على كلّ الآلهة المصطنعة ، وامح كلّ آثار الشرك وعبادة الأصنام.

ذكر كلمة (ربّ) وتقديمها على (كبّر) الذي هو يدل على الحصر ، فليس المراد من جملة «فكبر» هو (الله أكبر) فقط ، مع أنّ هذا القول هو من مصاديق التكبير كما ورد من الرّوايات ، بل المراد منه أنسب ربّك إلى الكبرياء والعظمة اعتقادا وعملا ، قولا فعلا وهو تنزيهه تعالى من كلّ نقص وعيب ، ووصفه

__________________

(١) أورد الفخر الرازي هذه التفاسير الخمسة بالإضافة إلى احتمالات أخرى في تفسيره الكبير ، واقتبس منه البعض الآخر من المفسّرين (تفسير الفخر الرازي ، ج ٣٠ ، ص ١٨٩ ـ ١٩٠).

(٢) الفاء من (فكبر) زائدة للتأكيد بقول البعض ، وقيل لمعنى الشرط ، والمعنى هو : لا تدع التكبير عند كلّ حادثة تقع ، (يتعلق هذا القول بالآيات الاخرى الآتية أيضا).

١٥٧

بأوصاف الجمال ، بل هو أكبر من أن يوصف ، ولذا ورد في الرّوايات عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام في معنى الله أكبر : «الله أكبر من أن يوصف» ، ولذا فإنّ التكبير له مفهوم أوسع من التسبيح الذي هو تنزيهه من كل عيب ونقص.

ثمّ صدر الأمر الثّاني بعد مسألة التوحيد ، ويدور حول الطهارة من الدنس فيضيف :( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) ، التعبير بالثوب قد يكون كناية عن عمل الإنسان ، لأنّ عمل الإنسان بمنزلة لباسه ، وظاهره مبين لباطنه ، وقيل المراد منه القلب والروح ، أي طهر قلبك وروحك من كلّ الأدران ، فإذا وجب تطهير الثوب فصاحبه اولى بالتطهير.

وقيل هو اللباس الظاهر ، لأنّ نظافة اللباس دليل على حسن التربية والثقافة ، خصوصا في عصر الجاهلية حيث كان الاجتناب من النجاسة قليلا وإن ملابسهم وسخة غالبا ، وكان الشائع عندهم تطويل أطراف الملابس (كما هو شائع في هذا العصر أيضا) بحيث كان يسحل على الأرض ، وما ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في معنى أنّه : «ثيابك فقصر»(١) ، ناظر إلى هذا المعنى.

وقيل المراد بها الأزواج لقوله تعالى :( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ ) (٢) ، والجمع بين هذه المعاني ممكن ، والحقيقة أنّ الآية تشير إلى أنّ القادة الإلهيين يمكنهم إبلاغ الرسالة عند طهارة جوانبهم من الأدران وسلامة تقواهم ، ولذا يستتبع أمر إبلاغ الرسالة ولقيام بها أمر آخر ، هو النقاء والطهارة.

ويبيّن تعالى الأمر الثّالث بقوله :( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) المفهوم الواسع للرجز كان سببا لأن تذكر في تفسيره أقوال مختلفة ، فقيل : هو الأصنام ، وقيل : المعاصي ، وقيل : الأخلاق الرّذيلة الذميمة ، وقيل : حبّ الدنيا الذي هو رأس كلّ خطيئة ، وقيل هو العذاب الإلهي النازل بسبب الترك والمعصية ، وقيل : كل ما يلهي

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٥.

(٢) البقرة ، ١٨٧.

١٥٨

عن ذكر الله.

والأصل أنّ معنى «الرجز» يطلق على الاضطراب والتزلزل(١) ثمّ اطلق على كل أنواع الشرك ، عبادة الأصنام ، والوساوس الشيطانية والأخلاق الذميمة والعذاب الإلهي التي تسبب اضطراب الإنسان ، فسّره البعض بالعذاب(٢) ، وقد اطلق على الشرك والمعصية والأخلاق السيئة وحبّ الدّنيا تجلبه من العذاب.

وما تجدر الإشارة إليه أنّ القرآن الكريم غالبا ما استعمل لفظ «الرجز» بمعنى العذاب(٣) ، ويعتقد البعض أنّ كلمتي الرجز والرجس مرادفان(٤) .

وهذه المعاني الثلاثة ، وإن كانت متفاوتة ، ولكنّها مرتبطة بعضها بالآخر ، وبالتالي فإنّ للآية مفهوما جامعا ، وهو الانحراف والعمل السيء ، وتشمل الأعمال التي لا ترضي اللهعزوجل ، والباعثة على سخر الله في الدنيا والآخرة ، ومن المؤكّد أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد هجر واتقى ذلك حتى قبل البعثة ، وتاريخه الذي يعترف به العدو والصديق شاهد على ذلك ، وقد جاء هذا الأمر هنا ليكون العنوان الأساس في مسير الدعوة إلى الله ، وليكون للناس أسوة حسنة.

ويقول تعالى في الأمر الرّابع :( وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) .

هنا التعلق محذوف أيضا ، ويدل على سعة المفهوم كليته ، ويشمل المنّة على الله والخلائق ، أي فلا تمنن على الله بسعيك واجتهادك ، لأنّ الله تعالى هو الذي منّ عليك بهذا المقام المنيع.

ولا تستكثر عبادتك وطاعتك وأعمالك الصالحة ، بل عليك أن تعتبر نفسك مقصرا وقاصرا ، واستعظم ما وفقت إليه من العبادة.

__________________

(١) مفردات الراغب.

(٢) الميزان ، في ظلال القرآن.

(٣) راجع الآيات ، ١٣٤ ـ ١٣٥ من سورة الأعراف ، والآية ٥ من سورة سبأ ، والآية ١١ من سورة الجاثية ، والآية ٥٩ من سورة البقرة ، والآية ١٦٢ من سورة الأعراف ، والآية ٣٤ من سورة العنكبوت.

(٤) وذكر ذلك في تفسير الفخر الرازي بصورة احتمال ، ج ٣٠ ، ص ١٩٣.

١٥٩

وبعبارة أخرى : لا تمنن على الله بقيامك بالإنذار ودعوتك إلى التوحيد وتعظيمك لله وتطهيرك ثيابك وهجرك الرجز ، ولا تستعظم كل ذلك ، بل أعلم أنّه لو قدمت خدمة للناس سواء في الجوانب المعنوية كالإرشاد والهداية ، أم في الجوانب المادية كالإنفاق والعطاء فلا ينبغي أن تقدمها مقابل منّة ، أو توقع عوض أكبر ممّا أعطيت ، لأنّ المنّة تحبط الأعمال الصالحة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) (١) .

«لا تمنن» من مادة «المنّة» وتعني في هذه الموارد الحديث عن تبيان أهمية النعم المعطاة للغير ، وهنا يتّضح لنا العلاقة بينه وبين الاستكثار ، لأنّ من يستصغر عمله لا ينتظر المكافأة ، فكيف إذن بالاستكثار ، فإنّ الامتنان يؤدي دائما إلى الاستكثار ، وهذا ممّا يزيل قيمة النعم ، وما جاء من الرّوايات يشير لهذا المعنى : «لا تعط تلتمس أكثر منها»(٢) كما جاء في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية : «لا تستكثر ما عملت من خير لله»(٣) وهذا فرع من ذلك المفهوم.

ويشير في الآية الأخرى إلى الأمر الأخير في هذا المجال فيقول :( وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) ، ونواجه هنا مفهوما واسعا عن الصبر الذي يشمل كلّ شيء ، أي اصبر في طريق أداء الرسالة ، واصبر على أذى المشركين الجهلاء ، واستقم في طريق عبودية الله وطاعته ، واصبر في جهاد النفس وميدان الحرب مع الأعداء.

ومن المؤكّد أنّ الصبر هو ضمان لإجراء المناهج السابقة ، والمعروف أنّ الصبر هو الثروة الحقيقية لطريق الإبلاغ والهداية ، وهذا ما اعتمده القرآن الكريم

__________________

(١) البقرة ، ٢٦٤.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٥٤ ، وتفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٠٠.

(٣) المصدر السابق.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176