عقائد الإمامية

عقائد الإمامية0%

عقائد الإمامية مؤلف:
الناشر: محمّد رضا المظفر
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 176

عقائد الإمامية

مؤلف: العلامة الكبير الشيخ محمد رضا المظفر
الناشر: محمّد رضا المظفر
تصنيف:

الصفحات: 176
المشاهدات: 47551
تحميل: 4598

توضيحات:

عقائد الإمامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 176 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47551 / تحميل: 4598
الحجم الحجم الحجم
عقائد الإمامية

عقائد الإمامية

مؤلف:
الناشر: محمّد رضا المظفر
العربية

١٠ - عقيدتنا في القضاء والقدر

ذهب قوم - وهم المجبرة(١) - الى انه تعالى هو القاعل لافعال المخلوقين ، فيكون قد اجبر الناس على فعل المعاصي ، وهو مع ذلك يعذبهم عليها ، واجبرهم على فعل الطاعات ومع ذلك يثيبهم عليها ؛ لانهم يقلون : ان افعالهم في الحقيقة افعاله ، وانما تنسب اليه الطبيعة بين الاشياء ، وانه تعالى هو السبب الحقيقي لا سبب سواه.

وقد انكروا السببية الطبيعية بين الاشياء ؛ اذ ظنوا ان ذلك هو مقتضى كونه تعالى هو الخالق الذي لا شريك له.

ومن يقول بهذه المقالة فقد نسب الظلم اليه ، تعالى عن ذلك.

وذهب قوم آخرون - وهم المفوضة(٢) - الى انه تعالى فوض الافعال

____________________

(١)ومنهم الاشاعرة الذين ذهبوا الى انكار السببية ، وانحصار السبب في الله تعالى ،وقالوا : ان النار - مثلا - لا تحرق شيئا بل عادة الله جرت على احراق الثوب المماس بها مثلا من دون مدخلية للنار في الاحراق وبذلك فقد ذهبوا الى ان افعال العباد مخلوقة له تعالى من دون دخل للعباد فيها ، أي أن العبد لا أثر له في ايجاد الفعل راجع : بداية المعارف الالهية : ١/١٥٩ وما بعدها.

ولا يخفى على من تتبع كتب الامامية انهم يبطلون الجبر خلافا للاشاعرة ، كما يبطلون التفويض خلافا للمعتزلة ، فقد روي عن الامام ابي الحسن علي بن محمد الهاديعليه‌السلام انه سئل عن افعال العباد فقيل له : هل هي مخلوقة لله تعالى ؟ فقالعليه‌السلام : (لو كان خالقا لها لما تبرأ منها وقد قال سبحانه( إن الله بريء من المشركين ورسوله ) [ التوبة ٩: ٣] ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم وانما تبرأ من شركهم وقبائحهم).

لاحظ : تصحيح الاعتقاد من مصنفات الشيخ المفيد : ٥/٤٣ ، بحار الانوار: ٥/٢٠.

(٢) وهم الذين نفوا حقيقة الجبر ، وأكثرهم المعتزلة ممن قالوا أن الفعل مفوض الينا ، ولا مدخلية

=

٤١

إلى المخلوقين، ورفع قدرته وقضاءه وتقديره عنها، باعتبار أنّ نسبة الأفعال إليه تعالى تستلزم نسبة النقص إليه، وأنّ للموجودات أسبابها الخاصة، وإن انتهت كلُّها إلى مسبِّب الأسباب والسبب الأول، وهو الله تعالى.

ومن يقول بهذه المقالة فقد أخرج الله تعالى من سلطانه(١) ، وأشرك

____________________

=

فيه لا رادته وإذنه تعالى، والذي أوجب هذا الزعم الفاسد هو الاحتراز عن نسبة المعاصي والفكر والقبائح إليه تعالى. والتفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال والاباحة لهم مع ما شاؤوا من الاعمال وهذا قول الزنادقة وأصحاب الاباحات.

راجع: تصحيح الاعتقاد من مصنفات الشيخ المفيد: ٥/ ٤٧، بداية المعارف الإلهية: ١/ ١٦٦.

(١) ومن المستحسن أن نذكر في هذا الصدد ما رواه الاَصبغ بن نباته في حديث طويل: «إنّ شيخاً قام إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام في منصرفه عن صفين فقال: أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله وقدره؟ فقال: والذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، ما وطأنا موطئاً، ولا هبطنا وادياً إلاّ بقضاء الله وقدره، فقال الشيخ: عند الله تعالى احتسب عنائي؛ ما أرى لي من الأجر شيئاً. فقال لهعليه‌السلام : مه! أيّها الشيخ! لقد عظّم الله أجركم في مسيركم وانتم سائرون. وفي منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين. فقال الشيخ: فكيف والقضاء والقدر ساقانا؟ فقالعليه‌السلام : ويحك لعلك ظننت قضاءاً لازماً وقدراً حتماً؟ لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، والوعد والوعيد، والامر والنهي، ولم تأت لائمة من الله لمذنب ولا محمدة لمحسن ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء، ولا المسيء أولى بالذم من المحسن. تلك مقالة عبدة الأوثان، وجنود الشيطان، وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب. وهم قدرية هذه الامة ومجوسها؛ إنّ الله تعالى أمر تخييراً ونهى تحذيراً، وكلّف يسيراً. لم يعص مغلوباً، ولم يطع مكرهاً، ولم يرسل الرسل عبثاً، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً( ذَلِكَ ظَنُّ الّذينَ كَفروُا فَوَيلٌ للّذينَ كفَرُوا مِنَ النَّارِ ) [سورة ص ٣٨: ٢٧]. فقال الشيخ: وما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلاّ بهما؟ فقالعليه‌السلام : هو الأمر من الله تعالى والحكم، وتلى قوله تعالى:( وَقَضَى ربُّكَ الاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إيّاهُ ) [الاسراء ١٧: ٢٣] فنهض الشيخ مسروراً وهو يقول:

أنت الامام الذي نرجوا بطاعته

يوم النشور من الرحمن رضوانا

=

٤٢

غيره معه في الخلق.

واعتقادنا في ذلك تبع لما جاء عن أئمتنا الأطهارعليهم‌السلام من الأَمر بين الأمرين، والطريق الوسط بين القولين، الذي كان يعجز عن فهمه أمثال أولئك المجادلين من أهل الكلام، ففرَّط منهم قوم وأفرط آخرون، ولم يكتشفه العلم والفلسفة إلاّ بعد عدة قرون(١) .

وليس من الغريب ممَّن لم يطّلع على حكمة الأَئمّةعليهم‌السلام وأقوالهم أن يحسب أنّ هذا القول - وهو الأمر بين الاَمرين - من مكتشفات بعض فلاسفة الغرب المتأخرين، وقد سبقه إليه أئمتنا قبل عشرة قرون.

فقد قال إمامنا الصادقعليه‌السلام لبيان الطريق الوسط كلمته المشهورة: «لا جبر ولا تفويض،ولكن أمر بين أمرين»(٢) .

____________________

=

أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً

جزاك ربّك عنّا منه إحساناً

شرح نهج البلاغة: ١٨/٢٢٧.

وأسند ابن عساكر هذا الحديث عن ابن عباس في تاريخ دمشق: ٣/٢٣١، وذكره الشيخ الصدوق في التوحيد: ٣٨٠، تجريد الاعتقاد بتحقيق محمد جواد الحسيني الجلالي: ٢٠٠، عقائد الاسلام من القرآن الكريم: ٤٥٥.

(١) قال الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد: ٤٧(والواسطة بين هذين القولين - أي الجبر والتفويض - أنّ الله تعالى أقدر الخلق على أفعالهم، ومكّنهم من أعمالهم، وحدّ لهم الحدود في ذلك، ورسم لهم الرسوم، ونهاهم عن القبائح بالزجر والتخويف والوعد والوعيد، فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبراً لهم عليها، ولم يفوّض إليهم الأعمال لمنعهم من أكثرها، ووضع الحدود لهم فيها، وأمرهم بحسنها، ونهاهم عن قبيحها، فهذا هو الفصل بين الجبر والتفويض) مصنّفات الشيخ المفيد المجلد الخامس.

(٢) الكافي: ١/١٦٠ ح١٣، الاحتجاج: ٢/٤٩٠، التوحيد: ٣٦٢، الاعتقادات للشيخ

=

٤٣

ما أجلَّ هذا المغزى، وما أدقّ معناه، وخلاصته: إنّ أفعالنا من جهة هي أفعالنا حقيقة ونحن اسبابها الطبيعية، وهي تحت قدرتنا واختيارنا، ومن جهة أخرى هي مقدورة لله تعالى، وداخلة في سلطانه؛ لاَنّه هو مفيض الوجود ومعطيه، فلم يجبرنا على افعالنا حتى يكون قد ظلمنا في عقابنا على المعاصي؛ لاَنّ لنا القدرة والاختيار فيما نفعل، ولم يفوِّض إلينا خلق أفعالنا حتى يكون قد أخرجها عن سلطانه، بل له الخلق والحكم والأمر، وهو قادر على كل شيء ومحيط بالعباد(١) .

وعلى كل حال، فعقيدتنا : أنّ القضاء والقدر سر من أسرار الله تعالى، فمن استطاع أن يفهمه على الوجه اللائق بلا إفراط ولا تفريط فذاك، وإلاّ فلا يجب عليه أن يتكلّف فهمه والتدقيق فيه؛ لئلاّ يضل وتفسد عليه عقيدته؛ لاَنّه من دقائق الأمور، بل من أدق مباحث الفلسفة التي لا يدركها إلاّ الأوحدي من الناس، ولذا زلّت به أقدام كثير من المتكلّمين(٢) .

____________________

=

الصدوق: ١٠، تصحيح الاعتقاد من مصنفات الشيخ المفيد: ٥/٤٦.

(١) سأل أبو حنيفة الامام أبا الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام عن أفعال العباد، ممن هي؟ فقال لهعليه‌السلام : «إنّ أفعال العباد لا تخلو من ثلاثة منازل؛ إمّا أن تكون من الله تعالى خاصّة، أو من الله ومن العبد على وجه الاشتراك فيها، أو من العبد خاصّة. فلو كانت من الله تعالى خاصة لكان أولى بالحمد على حسنها والذم على قبحها ولم يتعلق بغيره حمد ولا لوم فيها. ولو كانت من الله ومن العبد لكان الحمد لهما معاً فيها والذم عليهما جميعاً فيها، وإذا بطل هذان الوجهان ثبت انها من الخلق، فان عاقبهم الله تعالى على جنايتهم بها فله ذلك، وإن عفا عنهم فهو أهل التقوى وأهل المغفرة».

تصحيح الاعتقاد من مصنفات الشيخ المفيد: ٥/٤٤.

(٢) لخّص الشيخ المظفر في محاضراته الفلسفية هذه الفكرة الدقيقة بقوله: (كلّ من المجبّرة والمفوّضة نظروا إلى جهة وغفلوا عن الجهة الاخرى، ولكن الانسان يجب أن يكون ذا عينين

=

٤٤

فالتكليف به تكليف بما هو فوق مستوى مقدور الرجل العادي، ويكفي أن يعتقد به الانسان على الاجمال اتّباعاً لقول الأئمة الأطهارعليهم‌السلام من أنّه أمر بين الأمرين؛ ليس فيه جبر ولا تفويض.

وليس هو من الاصول الاعتقادية حتى يجب تحصيل الاعتقاد به على كل حال على نحو التفصيل والتدقيق.

____________________

=

لا ذا عين واحدة، فمن نظر بعين واحدة كان أعور، ينظر إلى إفاضة الوجود من جهة واحده فيتصور أنّ الناس مجبورون، وينظر من الجهة الاخرى وهو أنّ الناس يعملون اعمالهم باختيارهم فيتخيل أنّهم مفوضون، ولكن لو انقطع فيض الله تعالى عني لحظة واحدة لانعدمت وانعدمت أفعالي وأنا أسبح في سلطانه وعظمته.

معنى الجبر: أنّ فاعل ما منه الوجود هو فاعل ما به الوجود، وهو الله تعالى، ومعنى التفويض: أنّ العبد هو فاعل ما به الوجود وما منه الوجود، ولكن القوم لم يلتفتوا إلى هذه النكتة، وهي أنّ العبد فاعل ما به الوجود، والله تعالى فاعل ما منه الوجود، فمن ناحية فاعل ما به الوجود لا جبر، ومن ناحية فاعل ما منه الوجود لا تفويض، فيصحّ في العقل ما جاء في الاثر عن أهل البيتعليهم‌السلام : «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين»).

الفلسفة الاسلامية: ٨٤.

٤٥

١١ - عقيدتنا في البداء

البداء في الانسان: أن يبدو له رأي في الشيء لم يكن له ذلك الرأي سابقاً، بأن يتبدَّل عزمه في العمل الذي كان يريد أن يصنعه؛ إذ يحدث عنده ما يغيِّر رأيه وعلمه به، فيبدو له تركه بعد أن كان يريد فعله، وذلك عن جهل بالمصالح، وندامة على ما سبق منه.

والبداء بهذا المعنى يستحيل على الله تعالى. لاَنّه من الجهل والنقص، وذلك محال عليه تعالى، ولا تقول به الامامية.

قال الصادقعليه‌السلام : «مَن زعم أنّ الله تعالى بدا له في شيء بداء ندامة فهو عندنا كافر بالله العظيم»(١) .

وقال أيضاً: «من زعم أن الله بدا له في شيء ولم يعلمه أمس فأبرأ منه»(٢) .

غير أنّه وردت عن أئمتنا الأطهارعليهم‌السلام روايات توهم القول بصحة البداء بالمعنى المتقدِّم، كما ورد عن الصادقعليه‌السلام : «ما بدا لله في شيء كما بدا له في اسماعيل ابني»(٣) ولذلك نَسبَ بعض المؤلّفين

____________________

(١) إكمال الدين: ٦٩.

(٢) المصدر السابق: ٧٠.

(٣) التوحيد: ٣٣٦ ح١٠، إكمال الدين: ٦٩، تصحيح الاعتقاد من مصنّفات الشيخ المفيد: ٥/٦٦. وقد أوضح الشيخ المفيد معنى الحديث بقوله: (أراد بهعليه‌السلام ما ظهر من الله تعالى فيه من دفاع القتل عنه، وقد كان مخوفاً عليه من ذلك مظنوناً به، فلطف له في دفعه عنه.

وقد جاء الخبر بذلك عن الصادقعليه‌السلام ، فروي عنه أنّه قال: «كان القتل قد كتب على اسماعيل مرّتين فسألت الله في دفعه عنه فدفعه»، وقد يكون الشيء مكتوباً بشرط فيتغيّر

=

٤٦

في الفرق الاسلامية إلى الطائفة الامامية القول بالبداء طعناً في المذهب وطريق آل البيت، وجعلوا ذلك من جملة التشنيعات على الشيعة.

والصحيح في ذلك أن نقول كما قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:( يَمْحوُا اللهُ ما يَشَآءُ وَيُثبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ ) (١) .

ومعنى ذلك: أنّه تعالى قد يُظهر شيئاً على لسان نبيِّه أو وليِّه، أو في ظاهر الحال لمصلحة تقتضي ذلك الاِظهار، ثم يمحوه فيكون غير ما قد ظهر أولاً، مع سبق علمه تعالى بذلك، كما في قصة اسماعيل لما رأى ابوه إبراهيم أنّه يذبحه(٢) .

فيكون معنى قول الامامعليه‌السلام : أنّه ما ظهر لله سبحانه أمر في شيء كما ظهر له في اسماعيل ولده؛ إذ اخترمه قبله ليعلم الناس أنّه ليس بإمام، وقد كان ظاهر الحال أنّه الاِمام بعده؛ لاَنّه أكبر ولده(٣) .

____________________

الحال فيه).

(١) الرعد ١٣: ٣٩.

(٢) قال تعالى:( فَلمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعيَ قالَ يبنَيَّ إنّي أرَى في المَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرُ مَاذا تَرىَ قال يا أَبَتِ افْعَل مَا تُؤمَرُ سَتَجدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرينَ * فَلَمّا أَسْلَما وَتَلّهُ لِلجبيِن* وَنادَيْناهُ أَنْ يا إبراهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤيا إِنّا كذلِكَ نَجْزِي المُحسِنينَ * إنّ هَذا لَهُوَ البل-وءُ المُبيِنُ * وَفَدَيْنهُ بِذِبْحٍ عَظيمٍ ) الصافات ٣٧: ١٠٢ - ١٠٧.

(٣) ونجد أنّ مجموعة من الشيعة - وعلى الرغم ممّا فعله الامام الصادقعليه‌السلام ، وما قاله في وفاة وتجهيز وتكفين ولده اسماعيل - قالوا بإمامة اسماعيل بعد أبيه الامام الصادقعليه‌السلام ، وهؤلاء هم الذين يدعون ب- «الاسماعيلية»، وهم يفترقون عن الشيعة الامامية بقولهم: إنّ الامامة بعد الامام الصادقعليه‌السلام انتقلت الى ولده الاكبر اسماععيل ويزعمون ان الامام الصادقعليه‌السلام نص عليه في حياته. وقد اختلفوا في اسماعيل، فمنهم من قال بموته في حياة أبيه - وهو الثابت والمتواتر تأريخياً كما يشير إليه المصنّف هنا - وهؤلاء قالوا بأنّ الامامة تبقى في ذريته، وأولهم محمد بن اسماعيل وقسم منهم يقول بأنّه

=

٤٧

وقريب من البداء في هذا المعنى نسخ أحكام الشرائع السابقة بشريعة نبيِّناصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل نسخ بعض الأحكام التي جاء بها نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

____________________

=

- أي اسماعيل - لم يمت وإنّما أظهر أبوهعليه‌السلام موته تقيّةً من العباسيين، وأشهد على موته وتجهيزه عامل المنصور بالمدينة محمد بن سليمان، وهؤلاء بين من وقف على محمد بن إسماعيل ولم يتجاوزه إلى غيره - وهم المسمّون بالواقفة - ، وبين من تعدّى عن محمد بن إسماعيل وجعل الامامة في سبعة سبعة؛ بين ظاهر ومستور كأيّام الاسبوع وعدد السموات والاَرضين والاَفلاك، وانّ أول سبعة ظاهرين يبدأون من الامام عليعليه‌السلام وينتهون باسماعيل، وأوّل سبعة مستورين يبدأون بمحمد بن اسماعيل، ثمّ ولده جعفر المصدّق، ثمّ ولده محمد الحبيب، ثم عبدالله المهدي الذي ظهر في شمال افريقيه ومن ولده تكونت الدولة الفاطمية.

راجع، فرق الشيعة: ٦٧، الفصول المختارة من العيون والمحاسن: ٣٠٨، الشيعة بين الاَشاعرة والمعتزلة: ٧٨، تاريخ المذاهب الاسلامية: ٥٤، الملل والنحل للشهرستاني: ١/١٤٩، الفرق بين الفرق: ٦٢.

(١) يذكر الامام الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء في هذا الصدد قوله: (البداء في عالم التكوين كالنسخ في عالم التشريع، فكما أنّ لنسخ الحكم وتبديله بحكم آخر مصالح وأسراراً بعضها غامض وبعضها ظاهر فكذلك في الاخفاء والابداء في عالم التكوين، على أنّ قسماً من البداء يكون من اطّلاع النفوس المتّصلة بالملأ الأعلى على الشيء وعدم اطّلاعها على شرطه أو مانعه. مثلاً اطّلع عيسىعليه‌السلام أنّ العروس يموت ليلة زفافه، ولكن لم يطّلع على أنّ ذلك مشروط بعدم صدقة أهله، فاتفق أنّ أمه تصدّقت عنه، وكان عيسىعليه‌السلام أخبر بموته ليلة عرسه فلم يمت وسئل عن ذلك فقال: «لعلّكم تصدّقتم عنه والصدقة قد تدفع البلاء المبرم» وهكذا نظائرها... ولولا البداء لم يكن وجه للصدقة، ولا للدعاء، ولا للشفاعة، ولا لبكاء الأنبياء والأولياء وشدّة خوفهم وحذرهم من الله مع أنّهم لم يخالفوه طرفة عين، إنّما خوفهم من ذلك العلم المصون المخزون الذي لم يطّلع عليه أحد).

أصل الشيعة وأصولها: ٣١٤.

٤٨

١٢ - عقيدتنا في أحكام الدين

نعتقد: أنّه تعالى جعل أحكامه - من الواجبات والمحرَّمات وغيرهما - طبقاً لمصالح العباد في نفس أفعالهم، فما فيه المصلحة الملزمة جعله واجباً، وما فيه المفسدة البالغة نهى عنه، وما فيه مصلحة راجحة ندبنا إليه...

وهكذا في باقي الأحكام، وهذا من عدله ولطفه بعباده.

ولا بدّ أن يكون له في كل واقعة حكم(١) ، ولا يخلو شيء من الأشياء من حكم واقعي لله فيه، وإن انسدَّ علينا طريق علمه.

ونقول أيضاً: إنّه من القبيح أن يأمر بما فيه المفسدة، أو ينهى عمّا فيه المصلحة.

غير أنّ بعض الفِرق من المسلمين يقولون: إنّ القبيح ما نهى الله تعالى عنه، والحسن ما أمر به، فليس في نفس الاَفعال مصالح أو مفاسد ذاتية، ولا حسن أو قبح ذاتيان(٢) ، وهذا قول مخالف للضرورة العقلية.

كما أنّهم جوَّزوا أن يفعل الله تعالى القبيح فيأمر بما فيه المفسدة، وينهى عما فيه المصلحة. وقد تقدَّم أنّ هذا القول فيه مجازفة عظيمة ، وذلك

____________________

(١) قال تعالى:( مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيءٍ ) الانعام ٦: ٣٨. وورد في الحديث: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب الله» الكافي: ١/٧٨ ح٦. وورد أيضاً. «ما من حادثة إلاّ ولله فيها حكم» البحار: ٩٣/٩١.

(٢) قالت الاَشاعرة: إنّ الحسن والقبح شرعيان، ولا يقضي العقل بحسن شيء منها ولا بقبحه، بل القاضي بذلك هو الشرع، فما حسّنه فهو حسن وما قبّحه فهو قبيح.

لاحظ: نهج الحق: ٨٣، الملل والنحل: ١/٨٩، شرح التجريد للقوشجي: ٣٧٥.

٤٩

لاستلزامه نسبة الجهل أو العجز إليه سبحانه، تعالى علواً كبيراً.

والخلاصة: أنّ الصحيح في الاعتقاد أن نقول: إنّه تعالى لا مصلحة له ولا منفعة في تكليفنا بالواجبات ونهينا عن فعل ما حرَّمه، بل المصلحة والمنفعة ترجع لنا في جميع التكاليف، ولا معنى لنفي المصالح والمفاسد في الأفعال المأمور بها والمنهي عنها؛ فإنّه تعالى لا يأمر عبثاً ولا ينهى جزافاً، وهو الغني عن عباده.

٥٠

الفصل الثاني

النبوّة

عقيدتنا في النبوّة

النبوّة لطف

عقيدتنا في معجزة الأنبياء

عقيدتنا في عصمة الأنبياء

عقيدتنا في صفات النبي

عقيدتنا في الأنبياء وكتبهم

عقيدتنا في الاِسلام

عقيدتنا في مشرّع الاِسلام

عقيدتنا في القرآن الكريم

طريقة إثبات الاِسلام والشرائع السابقة

٥١

١٣ - عقيدتنا في النبوّة

نعتقد: أنّ النبوّة وظيفة إلهية، وسفارة ربّانية، يجعلها الله تعالى لمن ينتجبه ويختاره من عباده الصالحين وأوليائه الكاملين في إنسانيّتهم، فيرسلهم إلى سائر الناس لغاية إرشادهم إلى ما فيه منافعهم ومصالحهم في الدنيا والآخرة، ولغرض تنزيههم وتزكيتهم من درن مساوئ الأخلاق ومفاسد العادات، وتعليمهم الحكمة والمعرفة، وبيان طرق السعادة والخير؛ لتبلغ الانسانية كمالها اللائق بها، فترتفع إلى درجاتها الرفيعة في الدارين دار الدنيا ودار الآخرة.

ونعتقد: أنّ قاعدة اللطف - على ما سيأتي معناها - توجب أن يبعث الخالق - اللطيف بعباده - رسله لهداية البشر، وأداء الرسالة الاصلاحية، وليكونوا سفراء الله وخلفاءه.

كما نعتقد: أنّه تعالى لم يجعل للناس حق تعيين النبي أو ترشيحه أو انتخابه، وليس لهم الخيرة في ذلك، بل أمر كلّ ذلك بيده تعالى؛ لاَنّه( أَعلمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسَالَتهُ ) (١) .

وليس لهم أن يتحكَّموا فيمن يرسله هادياً ومبشِّراً ونذيراً، ولا أن يتحكَّموا فيما جاء به من أحكام وسنن وشريعة(٢) .

____________________

(١) الاَنعام ٦: ١٢٤.

(٢) وقد قال الامام عليعليه‌السلام في خطبة له يصف فيها ابتداء خلق السماء والارض وخلق آدمعليه‌السلام ، ويذكر الانبياء وبعثتهم فيقول:

«واصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم لمّا بدّل أكثرُخلقه عهد الله إليهم فجهلوا حقّه، واتخذوا الانداد معه، واجتالتهم الشياطين

٥٢

____________________

=

عن معرفته، واقتطعتهم عن عبادته، فبعث إليهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم منسيّ نعمته، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة؛ من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع، ومعايش تحييهم، وآجال تفنيهم، وأوصاب تهرمهم، وأحداث تتابع عليهم، ولم يخل الله سبحانه خلقه من نبي مرسل، أو كتاب منزل، أو حجّة لازمة أو محجّة قائمة، رسل لا تقصر بهم قلّة عددهم ولا كثرة المكذبين لهم، من سابق سُمّي له مَن بعده، أو غابر عرّفه من قبله. على ذلك نسلت القرون، ومضت الدهور، وسلفت الآباء، وخلفت الأبناء، إلى أن بعث الله سبحانه محمّداً رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لاِنجاز عدتِه، وإتمام نبوّته، مأخوذاً على النبيين ميثاقه، مشهورة سماته، كريماً ميلاده، وأهل الأرض يومئذٍ مللّ متفرّقة، وأهواء منتشرة، وطرائق متشتتة؛ بين مشبّه لله بخلقه، أو ملحد في اسمه، أو مشير إلى غيره، فهداهم به من الضلالة، وأنقذهم بمكان من الجهالة...». راجع: نهج البلاغة: الخطبة: ١، وغيرها من الخطب أيضاً ففيها إشارات وذكر حول بعثة الأنبياءعليهم‌السلام .

٥٣

١٤ - النبوّة لطف

إنّ الانسان مخلوق غريب الأطوار، معقَّد التركيب في تكوينه وفي طبيعته وفي نفسيّته وفي عقله، بل في شخصية كلّ فرد من أفراده، وقد اجتمعت فيه نوازع الفساد من جهة، وبواعث الخير والصلاح من جهة أخرى(١) .

فمن جهة قد جُبل على العواطف والغرائز من حب النفس، والهوى، والاثرة، وإطاعة الشهوات، وفطر على حب التغلُّب، والاستطالة، والاستيلاء على ما سواه، والتكالب على الحياة الدنيا وزخارفها ومتاعها كما قال تعالى:( إنَّ الاِنسنَ لَفِي خُسْرٍ ) (٢) و( إنَّ الاِنسنَ لَيَطْغَى * أَنْ رآهُ استَغنَى ) (٣) و( إنَّ النَّفْس لاَمَّارَةٌ بالسُّوءِ ) (٤) إلى غير ذلك من الآيات المصرِّحة والمشيرة إلى ما جُبلت عليه النفس الاِنسانية من العواطف والشهوات.

ومن الجهة الثانية، خلق الله تعالى فيه عقلاً هادياً يرشده إلى الصلاح ومواطن الخير، وضميراً وازعاً يردعه عن المنكرات والظلم ويؤنبه على فعل ما هو قبيح ومذموم.

ولا يزال الخصام الداخلي في النفس الانسانية مستعراً بين العاطفة والعقل، فمن يتغلَّب عقله على عاطفته كان من الأعلين مقاماً، والراشدين

____________________

(١) فقد قال تعالى:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّيها* فَألْهَمهَا فُجُورَهَا وتَقْوَيها ) الشمس ٩١: ٧ - ٨.

(٢) العصر ١٠٣: ٢.

(٣) العلق ٩٦: ٦، ٧.

(٤) يوسف ١٢: ٥٣.

٥٤

في انسانيتهم، والكاملين في روحانيتهم، ومن تقهره عاطفته كان من الأخسرين منزلة، والمتردّين إنسانية، والمنحدرين إلى رتبة البهائم.

واشد هذين المتخاصمين مراساً على النفس هي العاطفة وجنودها، فلذلك تجد أكثر الناس منغمسين في الضلالة، ومبتعدين عن الهداية، بإطاعة الشهوات، وتلبية نداء العواطف( وَمَا أَكثَرُ النَّاسِ ولو حَرَصتَ بِمُؤمِنيِنَ ) (١) .

على أنّ الانسان لقصوره، وعدم اطّلاعه على جميع الحقائق، وأسرار الأشياء المحيطة به، والمنبثقة من نفسه، لا يستطيع أن يعرف بنفسه كل ما يضرّه وينفعه، ولا كل ما يسعده ويشقيه؛ لا فيما يتعلَّق بخاصّة نفسه، ولا فيما يتعلّق بالنوع الانساني ومجتمعه ومحيطه، بل لا يزال جاهلاً بنفسه، ويزيد جهلاً، أو ادراكاً لجهله بنفسه، كلّما تقدّم العلم عنده بالأشياء الطبيعية، والكائنات المادية.

وعلى هذا، فالانسان في أشدّ الحاجة ليبلغ درجات السعادة إلى من ينصب له الطريق اللاحب، والنهج الواضح إلى الرشاد واتّباع الهدى؛ لتقوى بذلك جنود العقل، حتى يتمكن من التغلب على خصمه اللَّدود اللجوج عندما يهيىء الانسان نفسه لدخول المعركة الفاصلة بين العقل والعاطفة.

وأكثر ما تشتد حاجته إلى من يأخذ بيده إلى الخير والصلاح عندما تخادعه العاطفة وتراوغه - وكثيراً ما تفعل - فتزيِّن له أعماله، وتحسّن لنفسه انحرافاتها؛ إذ تريه ما هو حسن قبيحاً، أو ما هو قبيح حسناً، وتلبس على العقل طريقه إلى الصلاح والسعادة والنعيم، في وقت ليس له تلك المعرفة التي تميّز له كلّ ما هو حسن ونافع، وكل ما هو قبيح وضار. وكل واحد منّا

____________________

(١) يوسف ١٢: ١٠٣.

٥٥

صريع لهذه المعركة من حيث يدري ولا يدري، إلاّ من عصمه الله.

ولأجل هذا يعسر على الانسان المتمدِّن المثقَّف - فضلاً عن الوحشي الجاهل - أن يصل بنفسه إلى جميع طرق الخير والصلاح، ومعرفة جميع ما ينفعه ويضرّه في دنياه وآخرته، فيما يتعلَّق بخاصة نفسه أو بمجتمعه ومحيطه، مهما تعاضد مع غيره من أبناء نوعه ممّن هو على شاكلته وتكاشف معهم، ومهما أقام بالاشتراك معهم المؤتمرات والمجالس والاستشارات.

فوجب أن يبعث الله تعالى في الناس رحمة لهم ولطفاً بهم( رَسُولاً مِنهُم يَتلوُا عَلَيهِم ءايتِه وَيُزكِّيهِم ويُعلّمُهُمُ الكِتبَ والحكمَةَ ) (١) وينذرهم عمّا فيه فسادهم، ويبشّرهم بما فيه صلاحهم وسعادتهم.

وإنّما كان اللطف من الله تعالى واجباً، فلأنّ اللطف بالعباد من كماله المطلق، وهو اللطيف بعباده الجواد الكريم، فإذا كان المحل قابلاً ومستعدّاً لفيض الجود واللطف، فإنّه تعالى لا بد أن يفيض لطفه؛ إذ لا بخل في ساحة رحمته، ولا نقص في جوده وكرمه.

وليس معنى الوجوب هنا أنّ أحداً يأمره بذلك فيجب عليه أن يطيع تعالى عن ذلك، بل معنى الوجوب في ذلك هو كمعنى الوجوب في قولك: إنّه واجب الوجود (أي اللزوم واستحالة الانفكاك).

____________________

(١) الجمعة ٦٢: ٢.

٥٦

١٥ - عقيدتنا في معجزة الأنبياء

نعتقد: أنّه تعالى إذ ينصّب لخلقه هادياً ورسولاً لا بدّ أن يعرِّفهم بشخصه، ويرشدهم إليه بالخصوص على وجه التعيين، وذلك منحصر بأن ينصب على رسالته دليلاً وحجّة يقيمها لهم(١) ؛ إتماماً للطف، واستكمالاً للرحمة.

وذلك الدليل لا بدّ أن يكون من نوع لا يصدر إلا من خالق الكائنات، ومدبر الموجودات - أي فوق مستوى مقدور البشر - فيجريه على يدي ذلك الرسول الهادي؛ ليكون معرِّفاً به، ومرشداً إليه، وذلك الدليل هو المسمى بالمعجز أو المعجزة؛ لاَنّه يكون على وجه يعجز البشر عن مجاراته والاِتيان بمثله.

وكما أنّه لا بد للنبي من معجزة يظهر بها للناس لاِقامة الحجة عليهم، فلا بد أن تكون تلك المعجزة ظاهرة الاِعجاز بين الناس على وجه يعجز عنها العلماء وأهل الفن في وقته، فضلاً عن غيرهم من سائر الناس، مع اقتران تلك المعجزة بدعوى النبوّة منه؛ لتكون دليلاً على مدَّعاه، وحجة بين يديه، فإذا عجز عنها أمثال أولئك عُلم أنّها فوق مقدور البشر، وخارقة للعادة، فيُعلم أنّ صاحبها فوق مستوى البشر، بما له من ذلك الاتصال الروحي بمدبِّر الكائنات.

وإذا تمَّ ذلك لشخص، من ظهورالمعجز الخارق للعادة، وادّعى - مع

____________________

(١) قال تعالى:( رُسلاً مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرِينَ لِئلا يَكُونَ للِنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةً بَعْدَ الرُّسُلِ وكَانَ اللهُ عَزِيزَاً حَكِيماً ) النساء ٤: ١٦٥.

٥٧

ذلك - النبوة والرسالة، يكون حينئذٍ موضعاً لتصديق الناس بدعواه، والايمان برسالته، والخضوع لقوله وأمره، فيؤمن به من يؤمن، ويكفر به من يكفر.

ولأجل هذا وجدنا أنّ معجزة كل نبي تناسب ما يشتهر في عصره من العلوم والفنون، فكانت معجزة موسىعليه‌السلام هي العصا التي تلقف السحر وما يأفكون؛ إذ كان السحر في عصره فنّاً شائعاً، فلما جاءَت العصا بطل ما كانوا يعملون، وعلموا أنّها فوق مقدروهم، وأعلى من فنّهم، وأنّها ممّا يعجز عن مثله البشر، ويتضاءل عندها الفن والعلم(١) .

وكذلك كانت معجزة عيسىعليه‌السلام ، وهي إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى؛ إذ جاءَت في وقت كان فن الطب هو السائد بين الناس، وفيه علماء وأطباء لهم المكانة العليا، فعجز علمهم عن مجاراة ما جاء به عيسىعليه‌السلام (٢) .

ومعجزة نبينا الخالدة هي القرآن الكريم، المعجز ببلاغته وفصاحته، في وقت كان فن البلاغة معروفاً. وكان البلغاء هم المقدَّمين عند الناس بحسن بيانهم وسموِّ فصاحتهم، فجاء القرآن كالصاعقة؛ أذلّهم وأدهشهم، وأفهمهم أنّهم لا قِبَل لهم به، فخنعوا له مهطعين عندما عجزوا عن مجاراته،

____________________

(١) قال تعالى:( وَأَوحَيْنا إلى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأفِكُونَ * فَوقَعَ الحَقُّ وبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلوُنَ * فَغُلِبوُا هُنَالِكَ وانْقَلَبوُا صَاغِريِنَ * وأُلقِيَ السَحَرَةُ سجدين ) الاعراف ٧: ١١٧ - ١٢٠.

(٢) قال تعالى:( وَرَسُولاً إلى بَنيِ إِسرءِيلَ أَنِّي قد جئتُكُم بِآيةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أنِّي أخَلُقُ لَكُمْ مِنَ الْطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَيْرِ فَأنفخُ فِيهِ فَيَكُونُ طيراً بإذنِ الله وأُبْريءُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ وأُحْيي الموتَى بإذْن الله وأُنَبِّئُكُمْ بما تأكلُونَ وما تَدَّخِرون في بيوتِكُمْ إنّ في ذلِكَ لآيةً لَكُمْ إنّ كُنتُمْ مُؤمِنينَ ) آل عمران ٣: ٤٩.

٥٨

وقصروا عن اللحاق بغبارة»(١) .

ويدلّ على عجزهم أنّه تحدّاهم بإتيان عشر سور مثله فلم يقدروا(٢) ، ثمّ تحدّاهم أن يأتوا بسورة من مثله(٣) فنكصوا، ولمّا علمنا عجزهم عن مجاراته - مع تحدّيه لهم، وعلمنا لجوءهم إلى المقاومة بالسنان دون اللسان - علمنا أنّ القرآن من نوع المعجز، وقد جاء به محمد بن عبدالله مقروناً بدعوى الرسالة. فعلمنا أنّه رسول الله، جاء بالحق وصدق به،صلى‌الله‌عليه‌وآله .

____________________

(١) قال تعالى:( قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الاِنْسُ والجِنُّ عَلَى أَنْ يَأتُوا بِمِثْلِ هذا القُرءانَ لاَ يَأتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) الاسراء ١٧: ٨٨.

(٢)( أَمْ يَقُولُونَ افتريهُ قُلْ فَأتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صدِقِيْنَ ) هود ١١: ١٣.

(٣) قال تعالى أيضاً:( وَإنْ كُنْتُم في رَيْبٍ مِمَّا نزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وادعوا شهُدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُم صَدِقِينَ ) البقرة ٢: ٢٣.

وقال تعالى أيضاً :( أَمْ يَقُولُونَ افْتريهُ قُلْ فَأتُوا بِسُوَرَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ استَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَدقِينَ ) يونس ١٠: ٣٨.

٥٩

١٦ - عقيدتنا في عصمة الأنبياء

ونعتقد: أنّ الأنبياء معصومون قاطبة، وكذلك الأئمة عليهم جميعاً التحيات الزاكيات، وخالَفَنا في ذلك بعض المسلمين، فلم يوجبوا العصمة في الأنبياء ، فضلاً عن الأئمة.

والعصمة: هي التنزُّه عن الذنوب والمعاصي صغائرها وكبائرها، وعن الخطأ والنسيان(٢) ، وإن لم يمتنع عقلاً على النبي أن يصدر منه ذلك، بل

____________________

(١) انظر: شرح المقاصد: ٥/٥٠، الغنية في اصول الدين: ١٦١.

وذكر السيد المرتضى في تنزيه الانبياء ما نصه: (وجوّز أصحاب الحديث والحشوية على الأنبياء الكبائر قبل النبوّة، ومنهم من جوّزها في حال النبوّة سوى الكذب فيما يتعلّق بأداء الشريعة، ومنهم من جوّزها كذلك - في حال النبوّة - بشرط الاستسرار دون الاِعلان، ومنهم من جوّزها على الأحوال كلها. ومنعت المعتزلة من وقوع الكبائر والصغائر المستخفة من الانبياءعليهم‌السلام قبل النبوّة وفي حالها، وجوّزت في الحالين وقوع ما لا يستخف من الصغائر، ثم اختلفوا؛ فمنهم من جوّز على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الاِقدام على المعصية الصغيرة على سبيل العمد، ومنهم من منع ذلك وقال إنّهم لا يقدمون على الذنوب التي يعلمونها ذنوباً بل على سبيل التأويل، وحكي عن النظام وجعفر بن مبشر وجماعة ممّن تبعهما أنّ ذنوبهم لا تكون إلاّ على سبيل السهو والغفلة، وأنّهم مؤاخذون بذلك وإن كان موضوعاً عن أممهم بقوّة معرفتهم وعلوّ مرتبتهم). تنزيه الأنبياء: المقدمة.

(٢) معنى العصمة في أصل اللغة هي: ما اعتصم به الانسان من الشيء؛ كأنّه امتنع به عن الوقوع فيما يكره، وليس هو جنساً من أجناس الفعل، ومنه قولهم: إعتصم فلان بالجبل، إذا امتنع به، ومنه سميت العصم، وهي وعول الجبال؛ لامتناعها بها.

وقال في لسان العرب: (إنّ العصمة هي الحفظ، يقال: عصمته فانعصم،، واعتصمت بالله، إذا امتنعت بلطفه من المعصية).

والعصمة من الله تعالى هي: التوفيق الذي يسلم به الانسان ممّا يكره إذا أتى بالطاعة، وذلك مثل إعطائنا رجلاً غريقاً حبلاً ليتشبّث به فيسلم، وقد بيّن الله تعالى هذا المعنى في

=

٦٠