بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٤
0%
مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 597
مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 597
فالنبوّة ليس لك فيها نصيب ، و أما الاخرى ، فالعلم أنت شريكي فيه . فلم يعلم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم حرفا ممّا علّمه اللّه تعالى إلاّ علّمه عليّا عليه السلام الخبر ١ .
و روى نصر بن مزاحم في ( صفّينه ) : عن عمر بن سعد ، عن مسلم الملائي عن حبّة عن علي قال : لما نزل علي عليه السلام الرقّة بمكان يقال له : بليخ على جانب الفرات نزل راهب من صومعته فقال لعلي عليه السلام : انّ عندنا كتابا توارثناه عن آبائنا كتبه عيسى بن مريم عليه السلام اعرضه عليك . قال علي عليه السلام : نعم فما هو ؟
قال الراهب : ( بسم اللّه الرحمن الرحيم الّذي قضى في ما قضى ، و سطر في ما سطّر أنه باعث في الاميين رسولا منهم يعلّمهم الكتاب و الحكمة إلى أن قال .
فيمرّ رجل من امّته بشاطئ هذا الفرات يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر و يقضي بالحق ، و لا يرتشي في الحكم ، و الدنيا أهون عليه من الرّماد في يوم عصفت الريح ، و الموت أهون عليه من شرب الماء على الظماء ، يخاف اللّه في السرّ ، و ينصح له في العلانية ، و لا يخاف في اللّه لومة لائم ، من أدرك ذلك النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم من أهل هذه البلاد فآمن به كان ثوابه رضوانه و الجنّة ، و من أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره فإنّ القتل معه شهادة .
و قال الراهب له عليه السلام : « فأنا مصاحبك غير مفارقك حتّى يصيبني ما أصابك » فبكي علي عليه السلام ثم قال : « الحمد للّه الّذي لم يجعلني عنده منسيا ، الحمد للّه الّذي ذكرني في كتب الأبرار » .
و مضى الراهب معه عليه السلام و كان في ما ذكروا يتغدّى معه عليه السلام و يتعشّى حتى اصيب يوم صفّين ، فلمّا خرج الناس يدفنون قتلاهم ، قال علي عليه السلام :
ــــــــــــــــــ
( ١ ) أخرجه الصفار في البصائر : ٣١٣ ح ٢ و ٣ و ٥ ، عن زرارة و محمد بن مسلم عن الباقر عليه السلام و أخرجه هو في المصدر : ٣١٢ ح ١ ، عن حمران عن الباقر عليه السلام ، و أخرجه في المصدر : ٣١١ ح ٦ ، بفرق في العبارة عن حمران عن الصادق عليه السلام .
اطلبوه ، فلمّا و جدوه صلّى عليه و دفنه ، و قال : هذا من أهل البيت ، و استغفر له مرارا ١ .
« و هل يصدقّك في امرك إلاّ مثل هذا يعنونني » قال السروي في رواية الحرث بن نوفل ، و أبي رافع ، و عباد بن عبد اللّه الأسدي عن علي عليه السلام في خبر طلب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم من بني عبد المطلب معاضدته حتى يفوّض إليهم وزارته و خلافته فقلت : أنا يا رسول اللّه قال : أنت ، و أدناني إليه و تفل في فيّ ، و قاموا يتضاحكون ، و يقولون : بئس ما حبا ابن عمه إذ اتّبعه و صدّقه ٢ .
« و انّي لمن قوم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم » روى الطبري عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن ركانة قال : لمّا أقبل علي عليه السلام من اليمن ليلقى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بمكّة تعجّل إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و استخلف على جنده الّذين معه رجلا من أصحابه . فعمد ذلك الرجل فكسا رجالا من القوم حللا من البزّ الذّي كان مع علي عليه السلام فلمّأ دنا جيشه خرج علي عليه السلام ، ليلقاهم فإذا هم عليهم الحلل فقال :
ويحك ما هذا ؟ قال : كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس . فقال : ويلك انزع من قبل ان تنتهي إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم . فانتزع الحلل من الناس ، و ردّها في البز ، و أظهر الجيش شكايته لما صنع بهم قال ابو سعيد الخدري : شكا الناس عليا فقام النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فينا خطيبا . فسمعته يقول : يا أيّها الناس لا تشكوا عليا فو اللّه إنّه لا خشن في ذات اللّه ٣ .
« سيماهم سيما الصديقين ، و كلامهم كلام الأبرار » روى المسعودي في ( مروجه ) في قصة الجمل عن المنذر بن الجارود قال : لمّا قدم علي عليه السلام
ــــــــــــــــــ
( ١ ) وقعة صفين : ١٤٧ .
( ٢ ) مناقب السروي ٢ : ٢٥ .
( ٣ ) تاريخ الطبري ٢ : ٤٠١ ٤٠٢ ، سنة ١٠ .
البصرة دخل ممّا يلي الطف فأتى الزاوية . فخرجت انظر إليه . فورد موكب نحو الف فارس يقدمهم فارس على فرس أشهب ، عليه قلنسوة و ثياب بيض ،
متقلد سيفا معه راية ، و اذا تيجان القوم الأغلب عليها البياض و الصفرة ،
مدّججين في الحديد و السلاح . فقلت : من هذا ؟ فقيل ، أبو أيوب الأنصاري صاحب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و هؤلاء الأنصار .
ثم تلاهم فارس آخر عليه عمامة صفراء ، و ثياب بيض ، متقلّد سيفا ،
متنكب قوسا ، معه راية على فرس أشقر في نحو ألف فارس . فقلت : من هذا ؟
فقيل : خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين .
ثم مرّ بنا فارس آخر على كميت معتمّ بعمامة صفراء من تحتها قلنسوة بيضاء ، و عليه قباء أبيض مصقول ، متقلد سيفا ، متنكّب قوسا ، في نحو ألف فارس و معه راية فقلت : من هذا ؟ فقيل : أبو قتادة بن ربعي .
ثم مرّ بنا فارس آخر على فرس أشهب عليه ثياب بيض ، و عمامة سوداء قد سدلها بين يديه ، و من خلفه ، شديد الأدمة ، على سكينة و وقار ، رافع صوته بقراءة القرآن ، متقلد سيفا ، متنكّب قوسا ، معه راية بيضاء في ألف من الناس مختلفي التيجان ، حوله مشيخة و كهول و شبان . كأن قد أوقفوا للحساب ،
عليهم أثر السجود قد أثّر في جباههم فقلت : من هذا ؟ فقيل : عمار بن ياسر في عدّة من الصحابة من المهاجرين و الأنصار و أبنائهم .
ثم مرّ بنا فارس على فرس أشقر ، عليه ثياب بيض و قلنسوة بيضاء ،
و عمامة صفراء ، متنكب قوسا ، متقلد سيفا ، تخطّ رجلاه في الارض ، في الف من الناس الغالب على تيجانهم الصفرة و البياض معه راية صفراء قلت : من هذا ؟ قيل : قيس بن سعد بن عبادة في الأنصار و أبنائهم ، و غيرهم من قحطان .
ثم مرّ بنا فارس على فرس أشهل ما رأينا احسن منه ، عليه ثياب بيض ،
و عمامة سوداء قد سدلها بين يديه ، بلواء . قلت : من هذا ؟ قيل : هو عبد اللّه بن عباس في عدّة من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم .
ثم أقبلت المواكب و الرايات يقدم بعضها بعضا و اشتبكت الرماح .
ثم ورد موكب فيه خلق من الناس عليهم السلاح و الحديد مختلفوا الرايات في أوّله راية كبيرة يقدمهم رجل كأنّما كسر و جبر ، نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى فوق ، كانّما على رؤوسهم الطير ، و عن ميمنته شاب حسن الوجه ، و عن ميسرته شاب حسن الوجه . قلت : من هؤلاء ؟ قيل : هذا علي بن أبي طالب ، و هذان الحسن و الحسين عن يمينه و شماله ، و هذا محمّد بن الحنفية بين يديه معه الراية العظمى ، و هذا الّذي خلفه عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب ،
و هؤلاء ولد عقيل ، و غيرهم من فتيان بني هاشم ، و هؤلاء المشايخ أهل بدر من المهاجرين و الانصار . فساروا حتى نزلوا المعروف بالزاوية . فصلّى علي عليه السلام أربع ركعات ، و عفّر خدّيه على التراب و قد خالط ذلك دموعه .
ثم رفع يديه يدعو : « اللهمّ ربّ السماوات و ما اظلّت ، و الأرضين و ما اقلّت ، و رب العرش العظيم هذه البصرة أسألك من خيرها ، و أعوذ بك من شرّها اللهم أنزلنا فيها خير منزل ، و أنت خير المنزلين ، اللهم هؤلاء القوم قد خلعوا طاعتي ، و بغوا علي و نكثوا بيعتي ، اللهم احقن دماء المسلمين » .
قال : و بعث إليهم من يناشدهم اللّه في الدماء و قال : « علام تقاتلوني ؟ » فأبوا إلاّ الحرب فبعث رجلا من أصحابه يقال له مسلم معه مصحف يدعوهم إلى اللّه فرموه بسهم فقتل ١ .
و في ( مطالب السؤول ) لابن طلحة الشافعي ، عن ( تفسير الثعلبي ) ، عن أبي ذر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم : « علي قائد البررة ، و قاتل الكفرة ، منصور من نصره ،
ــــــــــــــــــ
( ١ ) رواه المسعودي في مروج الذهب ٢ : ٣٥٩ ، و النقل بتصرف يسير .
مخذول من خذله . . . » ١ ، و هو في تصدّقه في الصلاة و نزول آية انّما وليّكم اللّه و رسوله و الّذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون فيه عليه السلام ٢ .
« عمّار الليل » رووا انّ رجلا من التابعين سمع أنس بن مالك يقول : نزل قوله تعالى أمّن هو قانت آناء الليل ساجدا و قائما يحذر الآخرة و يرجو رحمة ربه ٣ فيه عليه السلام ، فأتاه لينظر إلى عبادته في ليلة ، فوجده كذلك ، فخرج و هو يقول : أشهد أنّ الآية نزلت فيه ٤ .
و عن ( إبانة التلعكبري ) ، عن سليمان بن المغيرة ، عن امّه قالت : سألت ام سعيد سريّة علي عليه السلام عن صلاة علي في شهر رمضان فقالت : رمضان و شوال سواء يحيي الليل كله ٥ .
و عن ( مسند أبي يعلى ) عنه عليه السلام قال : « ما تركت صلاة الليل منذ سمعت قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم صلاة الليل نور » فقال ابن الكواء : و لا ليلة الهرير ؟ قال : « و لا ليلة الهرير » ٦ .
« و منار النهار » قال زاذان : كان علي عليه السلام يمشي في الأسواق وحده ، و هو في ذاك يرشد الضالّ ، و يعين الضعيف ، و يمرّ بالبيّاع و البقّال فيفتح عليه القرآن و يقرأ : تلك الدار الآخرة نجعلها للّذين لا يريدون علوّا في الأرض و لا
ــــــــــــــــــ
( ١ ) مطالب السؤول : ٣١ .
( ٢ ) المائدة : ٥٥ .
( ٣ ) الزمر : ٩ .
( ٤ ) رواه الفتال في الروضة ١ : ١١٧ ، و عنه السروي في مناقبه ٢ : ١٢٤ ، و النقل بالمعنى .
( ٥ ) رواه عن كتاب الابانة لابن بطة العكبري ، السروي في مناقبه ٢ : ١٢٣ ، و التلعكبري غلط واضح .
( ٦ ) رواه عنه السروي في مناقبه ٢ : ١٢٣ .
فسادا و العافية للمتقين ١ .
و روى محمد بن علي بن بابويه في ( أماليه ) عن أبي جعفر عليه السلام قال : كان علي عليه السلام كل بكرة يطوف في اسواق الكوفة سوقا سوقا ، و معه الدرة على عاتقة ، و كان لها طرفان ، و كانت تسمّى السبيبة فيقف على سوق سوق فينادي : يا معشر التجار قدّموا الاستخارة ، و تبرّكوا بالسهولة ، و اقتربوا من المبتاعين ، و تزيّنوا بالحلم ، و تناهوا عن الكذب و اليمين ، و تجافوا عن الظلم ،
و أنصفوا المظلومين ، و لا تقربوا الربا ، و أوفوا الكيل و الميزان ، و لا تبخسوا الناس أشياءهم ، و لا تعثوا في الأرض مفسدين . يطوف في جميع أسواق الكوفة فيقول هذا ثم يقول :
تفنى اللذاذة ممّن نال صفوتها
من الحرام و يبقى الإثم و العار
تبقى عواقب سوء في مغبّتها
لا خير في لذة من بعدها النار
و كانوا اذا انظروا إليه عليه السلام قد أقبل إليهم و قال : « أيا معشر التجار » أمسكوا أيديهم ، و أصغوا إليه بآذانهم ، و رمقوه بأعينهم حتى يفرغ من كلامه ،
فإذا فرغ قالوا : السمع و الطاعة ، ثم يرجع فيقعد للناس ٢ .
و قال ابن أبي الحديد في موضع آخر : روى زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال : كان علي عليه السلام إذا صلّى الفجر لم يزل معقّبا إلى أن تطلع الشمس ، فإذا طلعت اجتمع إليه الفقراء و المساكين ( فيعطيهم و اجتمع ) غيرهم من الناس فيعلّمهم الفقه و القرآن ، و كان له وقت يقوم فيه من مجلسه . فقام يوما فمرّ برجل فرماه بكلمة هجر ، فرجع عوده على بدئه حتى صعد المنبر ، و امر
ــــــــــــــــــ
( ١ ) أخرجه ابن عساكر في ترجمة علي عليه السلام ٣ : ٢٤٩ ح ١٢٦٧ ، و غيره و النقل بتصرف في اللفظ ، و الآية ٨٣ من سورة القصص .
( ٢ ) أخرجه الصدوق في اماليه : ٤٠٢ ح ٦ ، مجلس ٧٥ .
رفنودي الصلاة جامعة فحمد اللّه و أثنى عليه ، و صلّى على نبيه ثم قال : « أيّها الناس إنّه ليس شيء احبّ إلى اللّه ، و لا اعمّ نفعا من حلم امام و فقهه ، و لا شيء أبغض اللّه ، و لا أعمّ ضررا من جهل امام و خرقه ، ألا و إنه من لم يكن له من نفسه واعظ لم يكن له من اللّه تعالى حافظ ، ألا و إنه من انصف من نفسه لم يزده اللّه إلاّ عزّا ، ألا و إنّ الذلّ في طاعة اللّه أقرب إلى اللّه من التعزّز في معصيته .
ثم قال : أين المتكلّم آنفا . فلم يستطع الانكار . فقال : ها أنا ذا يا أمير المؤمنين فقال : « أما إنّي لو أشاء لقلت » فقال : ان تعف و تصفح فأنت أهل ذلك . قال عليه السلام :
« قد عفوت و صفحت » قال : فقيل لأبي جعفر عليه السلام ما أراد ان يقول ؟ قال : أراد ان ينسبه ١ .
و في ( المناقب ) عن الباقر عليه السلام قال : رجع علي عليه السلام إلى داره في وقت القيظ فاذا امرأة قائمة تقول : انّ زوجي ظلمني ، و أخافني ، و تعدّى علي ، و حلف ليضربني فقال : يا امة اللّه أصبري حتى يبرد النهار ثم أذهب معك . فقالت : يشتدّ غضبه و حرده علي . فطأطأ رأسه ثم رفعه و هو يقول « أو يؤخذ للمظلوم حقّه غير متعتع . أين منزلك ؟ » فمضى إلى بابه فوقف و قال : « السلام عليكم » فخرج شابّ فقال عليه السلام له : « يا عبد اللّه اتّق اللّه فإنّك أخفتها ، و أخرجتها » فقال الفتى : و ما أنت و ذاك و اللّه لاحرقنّها لكلامك .
فقال عليه السلام مسلتا سيفه « أنهاك عن المنكر ، و تستقبلني بالمنكر ، و تنكر المعروف » و أقبل الناس من الطرق يقولون : السلام عليك يا أمير المؤمنين فسقط الرجل في يديه فقال : أقلني عثرتي يا أمير المؤمنين فو اللّه لأكونن لها أرضا تطأني . فأغمد عليه السلام سيفه و قال : يا أمّة اللّه ادخلي منزلك ،
ــــــــــــــــــ
( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١ : ٣٧٣ ، شرح الخطبة ٥٦ .
و لا تلجئي زوجك إلى مثل هذا ١ .
« متمسكون بحبل القرآن » تواتر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم انه قال : « انّ القرآن و عترتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، « يحيون سنن اللّه و سنن رسوله » ٢ روى الشيخ في ( أماليه ) مسندا عن جابر الأنصاري قال : لمّا فرغ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم من هوازن سار حتّى نزل الطائف . فسأله القوم ان يبرح عنهم حتى يقدم عليه و فدهم فيشترط له ، و يشترطون لانفسهم . فسار حتى نزل مكّة . فقدم عليه نفر منهم باسلام قومهم ، و لم ينجع القوم له بالصلاة و الزكاة فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم : إنّه لا خير في دين لا ركوع فيه و لا سجود أما و الذي نفسي بيده لتقيمنّ الصلاة ، و لتؤتنّ الزكاة أو لأبعثنّ إليكم رجلا هو منّي كنفسي ، فليضربنّ اعناق مقاتليهم ، و ليسبينّ نساءهم و ذراريهم ، و هو هذا و اخذ بيد علي عليه السلام فاشالها فلمّا صارا الوفد إلى قومهم أخبروهم بما سمعوا من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فأقّرّوا له بالصلاة و ما شرط عليهم فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم « ما استعصى علي أهل مملكة و لا امّة إلاّ رميتهم بسهم اللّه » قالوا : و ما سهم اللّه ؟ قال : « علي ، ما بعثته في سرية إلاّ رأيت جبرئيل عن يمينه ،
و ميكائيل عن يساره ، و ملكا أمامه ، و سحابة تظلّه حتّى يعطي اللّه حبيبي النصر و الظفر » ٣ .
« لا يستكبرون و لا يعلون ، و لا يغلّون » قال الجوهري « غلّ من المغنم
ــــــــــــــــــ
( ١ ) مناقب السروي ٢ : ١٠٦ ، و النقل بتصرف يسير .
( ٢ ) حديث الثقلين أخرجه جمع كثير منهم مسلم في صحيحه ٤ : ١٨٧٣ و ١٨٧٤ ح ٣٦ و ٣٧ ، و الترمذي في سننه ٥ : ٦٦٣ ح ٣٧٨٨ و الدارمي في سننه ٢ : ٤٣١ ، و الحاكم في المستدرك ٣ : ١٤٨ ، عن زيد بن أرقم ، و روي عن غيره من الأصحاب أيضا .
( ٣ ) أخرجه أبو علي الطوسي في أماليه ٢ : ١١٨ ، جزء ١٨ ، و النقل بتصرف يسير .
غلولا » أي : خان ، و أغلّ مثله ١ .
« و لا يفسدون » كما قال تعالى : تلك الدار الآخرة نجعلها للّذين لا يريدون علوّا في الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتّقين ٢ .
و عن الأصبغ بن نباته نزل قوله تعالى : و عباد الرحمن الّذين يمشون على الأرض هونا ٣ فيه عليه السلام ٤ و عن زيد بن علي أنه عليه السلام كان يمشي في خمسة حافيا و يعلّق نعله بيده اليسرى يوم الفطر ، و النحر ، و يوم الجمعة ،
و عند العيادة ، و تشييع الجنازة ، و يقول : إنها مواضع اللّه و أحبّ أن أكون فيها حافيا ٥ .
و في ( كامل الجزري ) : قال الشعبي : وجد علي عليه السلام درعا له عند نصراني فأقبل به إلى شريح ، و جلس إلى جانبه و قال : لو كان خصمي مسلما لساويته ، و قال : هذه درعي فقال النصراني : ما هي إلاّ درعي ،
و لم يكذّب أمير المؤمنين عليه السلام فقال شريح لعليّ عليه السلام : ألك بيّنة ؟ قال : لا .
و هو يضحك ، فأخذ النصراني الدرع و مشى يسيرا ثم عاد ، و قال : « اشهد أنّ هذه أحكام الأنبياء . أمير المؤمنين قدّمني إلى قاضيه ، و قاضيه يقضي عليه » ثم أسلم ، و اعترف أنّ الدرع سقطت من علي عليه السلام عند مسيره إلى صفين . ففرح علي عليه السلام بإسلامه و وهب له الدرع و فرسا ، و شهد معه قتال الخوارج ٦ .
و عن عاصم بن كليب عن أبيه : قدم على علي عليه السلام مال من اصبهان
ــــــــــــــــــ
( ١ ) صحاح اللغة ٥ : ١٧٨٤ ، مادة ( غلل ) .
( ٢ ) القصص : ٨٣ .
( ٣ ) الفرقان : ٦٣ .
( ٤ ) أخرجهما السروي في مناقبه ٢ : ١٠٤ .
( ٥ ) أخرجهما السروي في مناقبه ٢ : ١٠٤ .
( ٦ ) كامل ابن الاثير ٣ : ٤٠١ ، سنة ٤٠ .
فقسّمه على سبعة أسهم فوجد فيه رغيفا فكسره على سبعة ، و دعا أمراء الاسباع فأقرع بينهم لينظر أيّهم يعطي اولا ١ .
« قلوبهم في الجنان ، و أجسادهم في العمل » روى ( الارشاد ) عن سعيد ابن كلثوم قال : كنت عند جعفر بن محمّد الصادق فذكر أمير المؤمنين عليا عليه السلام فأطراه و مدحه بما هو أهله ثم قال : و اللّه ما أكل علي من الدنيا حراما قطّ حتى مضى لسبيله ، و ما عرض له أمران قطّ هما للّه رضى إلاّ أخذ بأشدّهما عليه في دينه ، و ما نزلت بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم نازلة قطّ إلاّ دعاه ثقة به ، و ما أطاق عمل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم من هذه الامّة غيره ، و ان كان ليعمل عمل رجل كان وجهه بين الجنّة و النار يرجو ثواب هذه ، و يخاف عقاب هذه ،
و لقد اعتق من ماله مئة ألف مملوك في طلب وجه اللّه ، و النجاة من النار ممّا كدّ بيديه ، و رشح منه جبينه ، و ان كان ليقوت أهله بالزيت و الخل و العجوة ،
و ما كان لباسه إلاّ الكرابيس ، اذا فصل شيء عن يده من كمّه دعا بالحلم فقصه ٢ .
و روى ( سبط ابن الجوزي ) ، عن سويد بن غفلة قال : دخلت على علي عليه السلام يوما و ليس في داره سوى حصير رثّ ، و هو جالس عليه . فقلت يا أمير المؤمنين انت ملك المسلمين و الحاكم عليهم ، و على بيت المال ، و تأتيك الوفود ، و ليس في بيتك سوى هذا الحصير شيء . فقال : « يا سويد إنّ اللبيب لا يتأثث في دار النقلة ، و أمامنا دار المقامة . قد نقلنا إليها متاعنا و نحن منتقلون إليها عن قريب » قال سويد : فأبكاني و اللّه كلامه ٣ .
ــــــــــــــــــ
( ١ ) أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب ٣ : ٤٩ ، و ابن عساكر في ترجمة علي عليه السلام ٣ : ٢٢٧ ح ١٢٣٠ ، و غيرها و النقل بتصرف يسير .
( ٢ ) نسبه الى ارشاد المفيد المجلسي في بحار الانوار ٤١ : ١١٠ ح ١٩ .
( ٣ ) رواه سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص : ١١٥ .
٧
من الخطبه ( ١٦٠ ) و من كلام له عليه السلام لبعض أصحابه ، و قد سأله : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام و أنتم أحقّ به ؟ فقال :
يَا أَخَا ؟ بَنِي أَسَدٍ ؟ إِنَّكَ لَقَلِقُ اَلْوَضِينِ تُرْسِلُ فِي غَيْرِ سَدَدٍ وَ لَكَ بَعْدُ ذِمَامَةُ اَلصِّهْرِ وَ حَقُّ اَلْمَسْأَلَةِ وَ قَدِ اِسْتَعْلَمْتَ فَاعْلَمْ أَمَّا اَلاِسْتِبْدَادُ عَلَيْنَا بِهَذَا اَلْمَقَامِ وَ نَحْنُ اَلْأَعْلَوْنَ نَسَباً وَ اَلْأَشَدُّونَ ؟ بِالرَّسُولِ ص ؟
نَوْطاً فَإِنَّهَا كَانَتْ أَثَرَةً شَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ وَ سَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ وَ اَلْحَكَمُ اَللَّهُ وَ اَلْمَعْوَدُ إِلَيْهِ يَوْمُ اَلْقِيَامَةِ
وَ دَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ فِي حَجَرَاتِهِ
وَ هَلُمَّ اَلْخَطْبَ فِي ؟ اِبْنِ أَبِي سُفْيَانَ ؟ فَلَقَدْ أَضْحَكَنِي اَلدَّهْرُ بَعْدَ إِبْكَائِهِ وَ لاَ غَرْوَ فَيَا لَهُ خَطْباً يَسْتَفْرِغُ اَلْعَجَبَ وَ يُكْثِرُ اَلْأَوَدَ حَاوَلَ اَلْقَوْمُ إِطْفَاءَ نُورِ اَللَّهِ مِنْ مِصْبَاحِهِ وَ سَدَّ فَوَّارِهِ مِنْ يَنْبُوعِهِ وَ جَدَحُوا بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ شِرْباً وَبِيئاً فَإِنْ تَرْتَفِعْ عَنَّا وَ عَنْهُمْ مِحَنُ اَلْبَلْوَى أَحْمِلْهُمْ مِنَ اَلْحَقِّ عَلَى مَحْضِهِ وَ إِنْ تَكُنِ اَلْأُخْرَى فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ ١٨ ٢٧ ٣٥ : ٨ أقول : الأصل فيه رواية الصدوق في ( علله و أماليه ) ، و المفيد في ( ارشاده ) ١ رواه الاول مسندا عن طريق العامة . ففي العلل في باب العلة الّتي من أجلها ترك الناس عليا عليه السلام و قال « أبو أحمد الحسن بن عبد اللّه العسكري عن ابراهيم بن رغد العبشمي ، عن ثبيت بن محمد ، عن أبي الأحوص المصري عمّن حدّثه ، عن أبي محمّد الحسن بن علي عليه السلام ، عن آبائه عليه السلام قال : بينا أمير المؤمنين عليه السلام في أصعب موقف بصفين اذ قام إليه رجل من بني دودان ،
ــــــــــــــــــ
( ١ ) رواه الصدوق في علل الشرائع ١ : ١٤٥ ح ٢ ، و في اماليه : ٤٩٤ ح ٥ ، مجلس ٩٠ ، و المفيد في الارشاد : ١٥٦ .
فقال له : لم دفعكم قومكم عن هذا الأمر ، و كنتم أفضل الناس علما بالكتاب و السنّة ؟ فقال عليه السلام : سألت يا أخا بني دودان ، و لك حقّ المسألة ، و ذمام الصهر ،
فإنّك لقلق الوضين ، ترسل عن غير ذي مسد . إنّها كانت إمرة شحّت عليها نفوس قوم ، و سخت عنها نفوس آخرين ، و لنعم الحكم اللّه ، و الزعيم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم و دع عنك نهبا صيح في حجراته ، و هلّم الخطب في ابن أبي سفيان . فلقد اضحكني الدهر بعد ابكائه .
و لا غرو إلاّ جارتي و سؤالها
ألا هل لنا أهل سألت كذلك
بئس القوم من خفضني ، و حاولوا الإدهان في دين اللّه فان ترفع عنّا محن البلوى أحملهم من الحق على محضه ، و ان تكن الاخرى ، فلا تأس على القوم الفاسقين . إليك عنّي يا أخا بني دودان .
و قال الثاني : روى نقلة الآثار أنّ رجلا من بني أسد وقف على أمير المؤمنين عليه السلام فقال له : يا أمير المؤمنين العجب فيكم يا بني هاشم كيف عدل بهذا الأمر عنكم ، و أنتم الأعلون نسبا و سببا و نوطا بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و فهما للكتاب ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام : يا ابن دودان إنّك لقلق الوضين ، ضيّق المخرم ، ترسل غير ذي مسد ، لك ذمامة الصهر ، و حقّ المسألة ، و قد استعلمت فاعلم : كانت أثرة سخت بها نفوس قوم و شحّت عليها نفوس آخرين . فدع عنك نهبا صيح في حجراته ، و هلّم الخطب في أمر ابن أبي سفيان فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه و لا غرو ، و يئس القوم و اللّه من خفضي و منيتي ،
و حاولوا الإدهان في ذات اللّه ، و هيهات ذلك منّي ، و قد جدحوا بيني و بينهم شربا و بيئا فإن تنحسر عنّا محن البلوى أحملهم من الحق على محضه ، و ان تكن الاخرى ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فلا تأس على القوم الفاسقين .
و نقل الخوئي كلام ( الارشاد ) لكن فيه « من خفضني و هينني » ١ و نقله المرتضى عن ( مجالس المفيد ) مثل ( ارشاده ) ٢ .
و قال ابن أبي الحديد بعد العنوان : سألت أبا جعفر يحيى بن محمد العلوي نقيب البصرة وقت قراءتي عليه عن هذا الكلام و كان على ما يذهب إليه من مذهب العلوية منصفا وافر العقل فقلت له من يعنى بقوله « كانت اثرة شحّت عليها نفوس قوم ، و سخت عنها نفوس آخرين » ؟ و من القوم الذين عناهم الأسدي بقوله : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام ، و أنتم أحقّ به ؟ هل المراد يوم السقيفة و يوم الشورى ؟ فقال : يوم السقيفة . فقلت : إن نفسي لا تسامحني ان أنسب إلى الصحابة عصيان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم و دفع النص . فقال :
و أنا ايضا لا تسامحني أن أنسب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم و سلم إلى إهمال أمر الامة ، و ان يترك الناس فوضى سدى مهملين ، و كان لا يغيب عن المدينة إلاّ و يؤمّر عليها أميرا ، و هو حيّ ليس بالبعيد عنها ، فكيف لا يؤمّر ، و هو ميت لا يقدر على استدراك ما يحدث .
ثم قال : لا يشك أحد من الناس ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم كان عاقلا كامل العقل .
أمّا المسلمون فاعتقادهم فيه معلوم ، و اما اليهود و النصارى و الفلاسفة ،
فيزعمون انّه حكيم تامّ الحكمة سديد الرأي اقام ملّة ، و شرع شريعة . فاستجدّ ملكا عظيما بعقله و تدبيره ، و هذا الرجل العاقل الكامل يعرف طباع العرب ،
و غرائزهم و طلبهم بالثارات و الذحول ، و لو بعد الأزمان المتطاولة ، و يقتل الرجل من القبيلة رجلا من بيت آخر . فلا يزال أهل ذلك المقتول ، و اقاربه يتطلّبون القاتل ليقتلوه حتى يدركوا ثارهم منه ، فان لم يظفروا به قتلوا بعض
ــــــــــــــــــ
( ١ ) شرح الخوئي ٤ : ٢٧٨ .
( ٢ ) نقله المرتضى في الفصول المختاره ١ : ٤٦ ، عن العيون و المحاسن للمفيد .
اقاربه و أهله . فإن لم يظفروا بأحدهم قتلوا واحدا أو جماعة من تلك القبيلة ،
و ان لم يكونوا رهطه الادنين و الاسلام لم يحل طبائعهم ، و لا غيّر هذه السجيّة المركوزة في أخلاقهم ، و الغرائز بحالها فكيف يتوهم لبيب انّ هذا العاقل وتر العرب ، و على الخصوص قريشا ، و ساعده على سفك الدماء ، و ازهاق الأنفس و تقلد الضغائن ابن عمه الأدنى و صهره ، و هو يعلم أنه سيموت كما يموت الناس و يتركه بعده ، و عنده ابنته ، و له منها ابنان يجريان عنده مجرى ابنين من ظهره حنوّا عليهما ، و محبّة لهما ، ثم يعدل عنه في الامر بعده ، و لا ينصّ عليه ، و لا يستخلفه فيحقن دمه ، و دم بنيه و أهله باستخلافه ؟ ألا يعلم هذا العاقل الكامل أنه إذا تركه و ترك بنيه و أهله سوقة و رعية فقد عرّض دماءهم للاراقة بعده ، بل يكون هو الذي قتلهم ، و أشاط بدمائهم ، لأنهم لا يعتصمون بعده بأمر يحميهم ، و إنّما يكونون مضغة للآكل ، و فريسة للمفترس ،
يتخطّفهم الناس ، و يبلغ فيهم الاغراض فأمّا اذا جعل السلطان فيهم و الأمر إليهم فإنه يكون قد عصمهم و حقن دماءهم بالرياسة التي يصولون بها ،
و يرتدع الناس عنهم لأجلها ، و مثل هذا معلوم بالتجربة . ألا ترى أنّ ملك بغداد أو غيرها من البلاد لو قتل الناس و وترهم و ابقى في نفوسهم الأحقاد العظيمة عليه ثم أهمل أمر ولده و ذريته من بعده ، و فسح للناس أن يقيموا ملكا من عرضهم ، و جعل بنيه سوقة كبعض العامة ، لكان بنوه بعده قليلا بقاؤهم سريعا هلاكهم ، و لوثب عليهم ذوو الأحقاد و التراث من كل جهة يقتلونهم و يشرّدونهم كل مشرّد ، و لو انّه عيّن واحدا من أولاده للملك ، و قام خواصّه و خدمه و خوله بأمره بعده ، لحقنت دماء أهل بيته ، و لم تطل يد أحد من الناس إليهم لناموس الملك ، و ابّهة السلطنة ، و قوّة الرياسة ، و حرمة الامارة افترى ذهب عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم هذا المعنى أم أحبّ أن يستأصل أهله و ذريّته من بعده ؟
و اين موضع الشفقة على فاطمة العزيزة عنده الحبيبة إلى قلبه تقول :
انّه احبّ ان يجعلها كواحدة من فقراء المدينة تتكفف الناس ، و ان يجعل عليا المكرّم المعظّم عنده الّذي كانت حاله معه معلومة كأبي هريرة الدوسي ،
و أنس بن مالك الأنصاري يحكم الامراء في دمه و عرضه و نفسه و ولده فلا يستطيع الامتناع ، و على رأسه مئة ألف سيف مسلول يتلظى اكباد اصحابها عليه ، و يودّون ان يشربوا دمه بافواههم ، و ياكلوا لحمه بأسيافهم . قد قتل أبناءهم و اخوانهم و آباءهم ، و أعمامهم ، و العهد لم يطل ، و القروح لم تتعرق ،
و الجروح لم تندمل .
قال : فقلت : لقد احسنت في ما قلت الاّ أنّ لفظه عليه السلام يدل على انه لم يكن نصّ عليه . ألا تراه يقول « و نحن الأعلون نسبا ، و الأشدّون بالرسول نوطا » فجعل الاحتجاج بالنسب ، و شدة القرب ، فلو كان عليه نصّ لقال عوض ذلك « و انا المنصوص علي و المخطوب باسمى » .
فقال رحمه اللّه انما اتاه من حيث يعلم لا من حيث يجهل . ألا ترى أنّه سأله فقال : « كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام و أنتم أحق به » أي : باعتبار الهاشمية و القربى . فأجابه بجواب أعاد قبله المعنى الّذي تعلّق به الأسدي تمهيدا للجواب .
فقال عليه السلام : « انّما فعلوا ذلك مع انّا اقرب إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم من غيرنا لانّهم استاثروا علينا » و لو قال له « انا المنصوص علي و المخطوب باسمى في حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم » لما كان قد اجابه لانه ما سأله « هل أنت منصوص عليك أم لا و هل نصّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بالخلافة على أحد أم لا » و انما قال « لم دفعكم قومكم عن الامر و انتم اقرب إلى ينبوعه و معدنه منهم فاجابه جوابا ينطبق على السؤال و يلائمه .
و أيضا فلو اخذ يصرّح له بالنصّ ، و يعرّفه تفاصيل باطن الامر لنفر عنه و اتّهمه ، و لم ينجذب إلى تصديقه ، فكان اولى الامور في حكم السياسة و تدبير الناس ان يجيب بما لا نفرة منه ، و لا مطعن عليه فيه ١ .
و قال ابن أبي الحديد أيضا : في ضمن شرح عنوان « للّه بلاد فلان » بعد ذكر اخبار من طريقهم دالّة على النصّ كخبر ابن عباس قال : خرجت مع عمر إلى الشام في احدى خرجاته . فانفرد يوما ، يسير على بعيره فاتّبعته فقال لي :
يا ابن عباس أشكو إليك ابن عمّك . سألته أن يخرج معي فلم يفعل ، و لا أزال أراه واجدا افيم تظنّ موجدته ؟ قلت : إنك لتعلم . قال : اظنّه لا يزال كئيبا لفوت الخلافة . قلت : هو ذاك . إنه يزعم أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أراد الأمر له فقال : يا ابن عباس ، و أراد النبي الأمر له فكان ماذا إذا لم يرد اللّه ذلك ؟ ان النبي أراد ذلك و أراد للّه غيره فنفذ مراد اللّه و لم ينفذ مراد رسوله ، أو كلّ ما أراده النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم كان ؟ انه أراد اسلام عمّه و لم يرده اللّه فلم يسلم .
قال ابن أبي الحديد : و قد روي معنى هذا الخبر بغير هذا اللفظ و هو قوله « ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أراد أن يذكره للأمر في مرضه فصددته عنه خوفا من الفتنة و انتشار أمر الاسلام فعلم النبي ما في نفسي فأمسك ، و أبى اللّه إلاّ امضاء ما حتم » ٢ .
و كخبر الحسين بن محمّد السبتي انّ عمر نزلت به نازلة فقام لها وقعد و ترنّح لها و تفطّر و قال لمن عنده ، معشر الحاضرين ما تقولون في هذا الامر ؟
فقالوا : أنت المفزع و المنزع فغضب و قال يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه و قولوا
ــــــــــــــــــ
( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٤٥٦ ، شرح الخطبة ١٦٠ ، و النقل بتصرف يسير .
( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ١١٤ ، شرح الخطبة ٢٢٦ .
قولا سديدا ١ ثم قال « اما و اللّه انّي و ايّاكم لنعلم ابن نجدتها و الخبير بها .
قالوا : « كانّك اردت ابن أبي طالب » قال « و انّى يعدل عنه ، و هل طفحت حرة مثله » قالوا : فلو دعوت به قال : « هيهات انّ هناك شمخا من هاشم ، و اثرة من علم ، و لحمة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم يؤتى و لا يأتي فامضوا بنا إليه فأقصفوا نحوه و أفضوا إليه فألفوه في حائط له عليه تبّان و هو يتركّل على مسحاته و يقرأ أ يحسب الانسان أن يترك سدى ٢ إلى آخر السورة و دموعه تهمي على خدّيه فأجهش الناس لبكائه فبكوا ثم سكت و سكتوا . فسأله عمر عن تلك الواقعة فأصدر جوابها فقال عمر : « اما و اللّه لقد ارادك الحقّ ، و لكن أبى قومك » فقال : « يا أبا حفص خفّض عليك من هنا و من هنا انّ يوم الفصل كان ميقاتا » فوضع عمر إحدى يديه على الاخرى و أطرق إلى الأرض و خرج كأنما ينظر في رماد ٣ .
و كخبر ابن عباس قال : دخلت على عمر يوما فقال : يا ابن عباس لقد أجهد هذا الرجل نفسه في العبادة حتّى نحلته رياء . قلت : من هو ؟ فقال : هذا ابن عمك يعني عليا عليه السلام قلت : و ما يقصد بالرياء ؟ قال : يرشّح نفسه بين الناس للخلافة . قلت : و ما يصنع بالترشيح قد رشحه لها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فصرفت عنه قال : انّه كان شابّا حدثا فاستصغرت العرب سنّه ، و قد كمل الآن ألم تعلم أنّ اللّه لم يبعث نبيّا إلاّ بعد الأربعين . قلت : أما أهل الحجى و النهى فإنّهم ما زالوا يعدّونه كاملا منذ رفع اللّه منار الإسلام ، و لكنهم يعدّونه محروما محدودا .
فقال : أما إنّه سيليها بعد هياط و مياط ثم تزلّ فيها قدمه ، و لا يقضي منها إربه ،
ــــــــــــــــــ
( ١ ) الاحزاب : ٧٠ .
( ٢ ) القيامة : ٣٦ .
( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ١١٤ ، شرح الخطبة ٢٢٦ .
و لتكونن شاهدا ذلك يا عبد اللّه . ثم يتبين الصبح لذي عينين ، و تعلم العرب صحّة رأي المهاجرين الأولين الّذين صرفوها عنه بادئ بدء فليتني أراكم بعدي يا عبد اللّه إنّ الحرص محرّمة ، و انّ دنياك كظلك كلّما هممت به ازداد عنك بعدا ١ .
و كخبره أيضا كما في ( امالي ابن حبيب ) قال ابن عباس : تبرّم عمر بالخلافة في آخر ايّامه ، و خاف العجز ، و ضجر من سياسة الرعية . فكان لا يزال يدعو اللّه بأن يتوفاه . فقال لكعب الأحبار يوما و أنا عنده : إنّي قد أحببت أن أعهد إلى من يقوم بهذا الأمر ، و أظنّ وفاتي قد دنت ، فما تقول في علي ؟ أشر علي في رأيك ، و اذكر لي ما تجدونه عندكم فإنكم تزعمون أنّ أمرنا هذا مسطور في كتبكم .
فقال : أمّا من طريق الرأي فانّه لا يصلح ، إنّه رجل متين الدّين ، لا يغضي على عورة ، و لا يحلم عن زلّة ، و لا يعمل باجتهاد رأيه ، و ليس هذا من سياسة الرعية في شيء ، و أمّا ما نجده في كتبنا فنجده لا يلي الأمر هو و لا ولده ، و ان وليه كان هرج شديد . قال : و كيف ذاك ؟
قال : لأنه أراق الدماء ، و من أراق الدماء لا يلي الملك . إنّ داود لمّا أراد أن يبني حيطان بيت المقدس أوحى اللّه إليه : إنّك لا تبنيه ، لأنك أرقت الدماء ، و إنّما يبنيه سليمان . فقال عمر : أليس بحق أراقها ؟
قال كعب : و داود بحقّ أراقها يا أمير المؤمنين . قال : فإلى من يفضي الأمر تجدونه عندكم .
قال : نجده ينتقل بعد صاحب الشريعة و اثنين من أصحابه إلى أعدائه الّذين حاربهم و حاربوه على الدين . فاسترجع عمر مرارا ، و قال : أتستمع يا
ــــــــــــــــــ
( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ١١٥ ، شرح الخطبة ٢٢٦ .
ابن عباس أما و اللّه لقد سمعت من النبي ما يشابه هذا ، سمعته يقول : ليصعدن بنو امية على منبري ، و لقد اريتهم في منامي ينزون عليه نزو القردة ، و فيهم انزل : و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلاّ فتنة للناس و الشجرة الملعونة في القرآن ١ .
و كخبر ( أمالي أبي بكر بن الأنباري ) : ان عليّا عليه السلام جلس إلى عمر في المسجد ، و عنده ناس ، فلمّا قام عرّض واحد بذكره ، و نسبه إلى التيه و العجب فقال عمر : حقّ لمثله أن يتيه . و اللّه لو لا سيفه لما قام عمود الاسلام ، و هو بعد أقضى الامّة و ذو سابقتها و ذو شرفها . فقال له ذلك القائل : فما منعكم يا أمير المؤمنين عنه ؟ قال : كرهناه على حداثة السن و حبّه بني عبد المطلب ٢ .
« سألت النقيب أبا جعفر يحيى ، و قد قرأت عليه هذه الأخبار فقلت له : ما أراها إلاّ تكاد تكون دالة على النص ، و لكنّي أستبعد أن تجتمع الصحابة على دفع نص النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم على شخص بعينه كما استبعدنا من الصحابة على ردّ نصّه على الكعبه ، و شهر رمضان و غيرهما من معالم الدين » .
فقال : أبيت إلاّ ميلا إلى المعتزلة ، ثم قال : إنّ القوم لم يكونوا يذهبون إلى أنها من معالم الدين ، و أنّها جارية مجرى العبادات الشرعية كالصلاة الصوم ،
و لكنهم كانوا يجرونها مجرى الامور الدنيوية ، مثل تأمير الامراء ، و تدبير الحروب ، و سياسة الرعية ، و ما كانوا بهذا الأمر و أمثاله من مخالفة نصوص النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إذا رأوا المصلحة في غيرها . ألا ترى كيف نصّ على إخراج أبي بكر ، و عمر في جيش اسامة ، و لم يخرجا لمّا رأيا أنّ في مقامهما مصلحة للّه و له و للملّة ، و حفظا للبيضة ، و دفعا للفتنة و قد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يخالف و هو
ــــــــــــــــــ
( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ١١٥ ، شرح الخطبة ٢٢٦ ، و الآية ٦٠ من سورة الاسراء .
( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ١١٥ ، شرح الخطبة ٢٢٦ .
حيّ في أمثال ذلك فلا ينكره ، و لا يرى به بأسا . ألست تعلم أنه نزل في غزاة بدر منزلا على أن يحارب قريشا فيه فخالفته الأنصار ، و قالت له : ليس الرأي في نزولك هذا المنزل فاتركه ، و انزل في منزل كذا فرجع إلى آرائهم .
و هو الّذي قال للأنصار عام قدم المدينة « لا تؤبّروا النخل » فعملوا على قوله فحالت نخلهم في تلك السنة حتى قال لهم : انتم اعرف بأمر دنياكم و أنا أعرف بأمر دينكم .
و هو الذي أخذ الفداء من اسارى فخالفه عمر فرجع إلى تصويب رأيه بعد أن فات الأمر ، و خلص الأسرى ، و رجعوا إلى مكّة .
و هو الذي أراد ان يصالح الأحزاب على ثلث تمر المدينة ليرجعوا عنه .
فأبى سعد بن معاذ ، و سعد بن عبادة ذلك ، و خالفاه فرجع إلى قولهما ، و قد كان قال لأبي هريرة : اخرج فناد في الناس « من قال لا إله إلاّ اللّه مخلصا بها قلبه دخل الجنة فخرج أبو هريرة فأخبر عمر بذلك فدفع في صدره حتّى وقع على الأرض فقال : « لا تقلها فإنّك إن تقلها يتّكلوا عليها و يدعوا العمل » فأخبر أبو هريرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بذلك فقال « لا تقلها و خلّهم يعملون » فرجع إلى قول عمر .
و قد أطبقت إطباقات واحدا على ترك كثير من النصوص لمّا رأوا المصلحة في ذلك كاسقطا سهم ذوي القربى ، و إسقاطهم سهم المؤلّفة قلوبهم ، و هذان الأمران في باب الدين أدخل منهما في باب الدنيا ، و قد عملوا بآرائهم امورا لم يكن لها ذكر في السنّة كحدّ الخمر . فإنّهم عملوه اجتهادا ، و لم يحدّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم شاربي الخمر ، و قد شربها الجم الغفير في زمانه بعد نزول آية التحريم .
و لقد كان أوصاهم في مرضه أن أخرجوا نصارى نجران من جزيرة العرب : فلم يخرجوهم حتّى مضى صدر من خلافة عمر ، و عملوا في أيام