بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٤
0%
مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 597
مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 597
بأبه اقتدى عدى في الكرم
و من يشابه أبه فما ظلم
إقتدى معاوية بصدّيقهم و فاروقهم كما صرّح به معاوية نفسه في جواب كتابه الى محمد بن أبي بكر و أفصح فيه عن الحقيقة إذ قال فيه مخاطبا محمّد بن أبي بكر : « ذكرت فيه فضل ابن أبي طالب ، و قديم سوابقه ، و قرابته الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و مواساته إيّاه في كل هول و خوف إلى أن قال .
و قد كنّا و أبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب ، و حقّه لازما لنا ،
مبرورا علينا ، فلمّا اختار اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ما عنده ، و أتمّ له ما وعده ، و أظهر دعوته و أبلج حجّته و قبضه اللّه إليه . فكان أبوك و فاروقه أوّل من ابتزّه حقّه و خالفه على أمره ، على ذلك اتفقا و اتّسقا ، ثم إنهما دعواه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما ، و تلكّأ عليهما ، فهمّا به الهموم ، و أرادا به العظيم ، ثم إنه بايع لهما و سلّم لهما ، و أقاما لا يشركانه في أمرهما ، و لا يطلعانه على سرّهما ، حتى قبضهما اللّه إلى أن قال في قيامه بالامر في قباله عليه السلام .
أبوك مهّد مهاده ، و بنى لملكه و ساده ، فإن يكن ما نحن فيه صوابا فأبوك استبدّ به و نحن شركاؤه ، و لو لا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب ، و لسلّمنا إليه ، و لكنّا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا فأخذنا بمثله ، فعب أباك بما بدا لك أو دع ذلك .
و كتاب معاوية في جواب محمّد بن ابى بكر هو الكتاب الذي اعتذر الطبري في ( تاريخه ) عن نقله بانه كتاب لا تحتمله العامة و نقله المسعودي و غيره ١ و يقال للطبري : ان هذا الكتاب لا يحتمله إلاّ من انسلخ عن الانسانيّة .
ثم هل زمان ذي نوريهم الذي قال فيه أبو سفيان ما قال كان أحسن من
ــــــــــــــــــ
( ١ ) رواه المسعودي في مروج الذهب ٣ : ١٢ ، و ابن مزاحم في وقعة صفين : ١١٩ ، و البلاذري في انساب الاشراف ٢ : ٣٩٦ ، و أشار إليه الطبري في تاريخه ٣ : ٥٥٧ ، سنة ٣٦ .
زمان معاوية بل يزيد أيضا ، فكيف يقبل عثمان بالإمامة و لا يقبل معاوية ؟
فهل السلطان في زمان عثمان إلاّ مروان و أبو سفيان و غلمان بني اميّة ؟ و لم يصلّ عامل من عمّال معاوية ، و يزيد صلاة الفجر بالناس في حال السكر أربعا مع إنشاد أبيات في العربدة فيها .
و من العجب أن عامّة العامة قتلوا النسائي أحد أئمة حديثهم ، و صاحب أحد صحاحهم الستة لأنه أنكر فضل معاوية قال ابن خلكان : سئل النسائي عن معاوية و فضائله فقال : ما أعرف له فضيلة إلاّ قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فيه : « لا أشبع اللّه بطنك » فما زالوا يدفعون في حضنيه و داسوه ثم حمل الى الرملة فمات بها ١ .
و مما يضحك الثكلى ، و يبدّل البكاء بالضحك عجبا انّ المتسمّين بالعلم منهم جعلوا من لم يكن فساد في الأرض الاّ عمل به حتّى كفّره من نصبه ،
و استباحوا دمه ، و حرّموا تجهيزه ، أفضل ممّن قال رسول ربّ العالمين في حقه : « لو لا أن تقول الناس فيك بالالوهية لقلت فيك ما إن لا تمرّ في طريق إلاّ أخذوا التراب من تحت قدميك » ؟ ٢ .
فهل للجزاف حدّ ؟ و هل يتفوّه أحد بأفضلية الظلمات من النور ، و في تاريخ بغداد قال ابو عبيد القاسم بن سلام : فعلت بالبصرة فعلتين أرجو بهما الجنّة ، أتيت يحيى القطّان و هو يقول أبو بكر و عمر و علي فقلت : معي شاهدان من أهل بدر يشهدان أن عثمان أفضل من علي . قال : بمن ؟ قلت : أنت حدّثتنا عن شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة قال : خطبنا عبد اللّه بن
ــــــــــــــــــ
( ١ ) وفيات الاعيان ١ : ٧٧ ، و النقل بتلخيص .
( ٢ ) اخرجه ابن أبي حاتم في علل الحديث ١ : ٣١٣ ، و الثقفي في المعرفة ، و عنه إعلام الورى : ١٨٦ ، و الصدوق في امالية : ٨٦ ح ١ ، مجلس ٢١ ، و غيرهم عن جابر ، و روي عن علي عليه السلام و ابن رافع أيضا و النقل بالمعنى .
مسعود فقال : أميرنا خير من بقي و لم نال قال : و من الآخر ؟ قلت : « الزهري عن حميد بن عبد الرحمن ، عن المسوّر بن مخرمة قال : سمعت عبد الرحمن بن عوف يقول : شاورت المهاجرين الأوّلين و امراء الأجناد و أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلم أر أحدا يعدل بعثمان » قال : فترك قوله و قال ابو بكر و عمر و عثمان ١ .
قبّح اللّه دينا هذا أساسه ، مع أنّ شاهديه من أهل بدر و ما رواه عنهما رواية لم تعلم صحتها ، و الذي نعلم بالدراية أنّ ذينك الشاهدين هجراه و فجّراه و كفّراه . و قوله في خبره الثاني : « شاورت المهاجرين و أمراء الأجناد » فلا بد أنّه أراد بالمهاجرين الأوّلين مثل المغيرة بن شعبة جعله فاروقهم من المهاجرين الأوّلين لمّا أراد منع زياد عن أداء شهادته في زناه حتى يبطل حدّ اللّه فيه ، كما أنّه لا بدّ من أراده معاوية بن أبي سفيان بأمراء الأجناد .
و من الغريب أنّ إمامهم الثالث و ذا نوريهم يقول لأمير المؤمنين عليه السلام في خبر إخراجه لأبي ذر من المدينة الى الربذة و مشايعته عليه السلام لأبي ذر مع حظر عثمان عن مشايعته ، و إرادة مروان منعه عليه السلام عن ذلك و شتمه له عليه السلام « لم لا يشتمك كانّك خير منه » ٢ فأنكر أن يكون من كان بمنزلة نفس النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم خيرا من ذاك اللعين ابن اللعين على لسان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم .
و نقل ابن قتيبة في ( مختلف ) أخباره في جملة ما ذكره متكلّموهم في محدّثيهم أنّهم يقدحون في الشيخ يسوّي بين علي و عثمان أو يقدّم عليّا عليه السلام عليه ٣ .
ــــــــــــــــــ
( ١ ) تاريخ بغداد ١٢ : ٤٠٩ .
( ٢ ) رواه الجوهري في السقيفة : ٧٨ ، و المسعودي في مروج الذهب ٢ : ٣٤٢ .
( ٣ ) تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة : ١٠ .
هذا ، و نظير كلامه عليه السلام في الأدب أنه لمّا ولّي خالد بن عبد اللّه القسرى بعد ابن هبيرة الفزاري الذي قال فيه الفرزدق مخاطبا يزيد بن عبد الملك الذي ولاّه :
أولّيت العراق و رافديه
فزاريا أحذّ يد القميص
قال شاعر أسدي :
عجب الفرزدق من فزارة أن رأى
عنها أمية بالمشارق تنزع
فلقد رأى عجبا و أحدث بعده
أمر تضجّ له القلوب و تفزع
بكت المنابر من فزارة شجوها
فاليوم من قسر تذوب و تجزع
و ملوك خندف أسلمونا للعدى
للّه درّ ملوكنا ما تصنع
كانوا كتاركة بنيها جانبا
سفها و غيرهم تصون و ترضع
« فلقد اضحكني الدهر » في قيام ابن أبي سفيان في قبالي .
« بعد ابكائه » بقيام الاولين .
و مما يبدّل البكاء بالضحك عجبا في أمر معاوية أنّ بعض النصّاب حرّف قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فيه : « إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه » من القتل بقوله : « فاقبلوه » من القبول أو لم ير أن الحسن البصري الذي رواه قال بعد الخبر : « فما فعلوا و لا أفلحوا » ، و روى أيضا بلفظ « اذا رأيتم معاوية على منبرى فاضربوا عنقه » ١ .
و كيف و روى نصر بن مزاحم في ( صفّينه ) : أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال : « انّ معاوية في تابوت في الدرك الاسفل من النار و لو لا كلمة فرعون « انا ربكم الأعلى » ما كان أحد أسفل من معاوية » ٢ .
ــــــــــــــــــ
( ١ ) اخرجه عن طريق الحسن ، ابن مزاحم في وقعة صفين : ٢١٦ و ٢٢١ ، و جماعة اخرى ، و روى عن ابن مسعود و ابي سعيد و حذيفة و ابن جذعان أيضا .
( ٢ ) وقعة صفين : ٢١٧ ، و الحديث موقوف عن ابن عمر و لم يرفعه الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم .
و روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أيضا قال : « شر خلق اللّه خمسة : إبليس ، و ابن آدم الذي قتل أخاه ، و فرعون ذو الأوتاد ، و رجل من بني اسرائيل ردّهم عن دينهم ، و رجل من هذه الامّة يبايع على كفره عند باب لدّ » ١ ، و روى أنّ رجلا شاميا سمع ذلك من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فلمّا رأى معاوية بويع عند باب لدّ ، ذكر قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فلحق بعليّ عليه السلام ٢ .
« و لا غرو » أي : لا عجب .
« فيا له خطبا » في ( المصباح ) : الخطب : الأمر الشديد ينزل ٣ .
« يستفرغ العجب » قال ابن أبي الحديد : أي : يستنفذه و يفنيه . يقول : قد صار العجب لا عجب لأنّ هذا الخطب استغرق التعجب فلم يبق منه ما يطلق عليه لفظ التعجب ، و هذا من باب الاغراق و المبالغة في المبالغة إلى أن قال قال ابن هاني المغربي :
قد سرت في الميدان يوم طرادهم
فعجبت حتى كدت أن لا أعجبا ٤
قلت : لم يعلم استعمال الاستفراغ بمعنى الافراغ ، و ما قاله ركيك ، و انما معنى « يستفرغ العجب » لا يدّخر منه شيئا من قولهم « فرس مستفرغ » لا يدّخر من عدوه قال الشاعر
« مستفرغ كاهله اشمّ »
٥ .
روى ابن عبد ربه في ( عقده ) عن الشعبي قال : دخلت بكارة الهلاليه على معاوية بالمدينة و كانت قد اسنّت و عشي بصرها ، و ضعفت قوّتها . فقال لها معاوية : قد غيّرك الدهر قالت : كذلك هو ذو غير ، من عاش كبر ، و من مات قبر فقال عمرو بن العاص : هي و اللّه القائلة :
ــــــــــــــــــ
( ١ ) وقعة صفين : ٢١٧ .
( ٢ ) وقعة صفين : ٢١٧ .
( ٣ ) المصباح المنير ١ : ٢١٠ ، مادة خطب .
( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٤٥٦ .
( ٥ ) اورده في اساس البلاغة : ٣٤٠ ، مادة فرغ .
يا زيد دونك فاحتفر من درانا
سيفا حساما في التراب دفينا
قد كنت أذخره ليوم كريهة
فاليوم أبرزه الزمان مصونا
فقال مروان و هي القائلة :
أ ترى ابن هند للخلافة مالكا
هيهات ذاك و ان أراد بعيد
منّتك نفسك في الخلاء ضلالة
أغراك عمرو للشقا و سعيد
فقال سعيد بن العاص هي القائلة :
قد كنت أطمع أن اموت و لا أرى
فوق المنابر من أميّة خاطبا
فاللّه أخّر مدّتي فتطاولت
حتى رأيت من الزمان عجائبا
في كل يوم للزمان خطيبهم
بين الجميع لآل أحمد عائبا ١
و في السير : لمّا دخل المعتضد برأس صاحب الزنج بغداد دخل في جيش لم ير مثله ، و اشنق أسواق بغداد ، و الرأس بين يديه . فلما صار بباب الطريق صاح قوم من درب من تلك الدروب « رحم اللّه معاوية » و زاد حتى علت اصوات العامّة بذلك ، فتغير وجه المعتضد ، و قال للعلاء بن صاعد : ألا تسمع ؟
ما اعجب هذا و ما الّذي اقتضى ذكر معاوية في هذا الوقت ؟ و اللّه لقد بلغ أبي الى الموت ، و ما أفلتّ أنا إلاّ بعد مشارفته ، و لقينا كلّ جهد و بلاء حتى أنجينا هؤلاء الكلاب من عدوّهم و حصّنا حرمهم و أولادهم ، فتركوا أن يترحّموا على العباس ، و عبد اللّه بن العباس ، و من ولد من الخلفاء ، و تركوا الترحم على علي بن ابي طالب ، و حمزة و جعفر و الحسن و الحسين ، و اللّه لا برحت أو أؤثّر في تأديب هؤلاء أثرا لا يعودون بعد هذا اليوم لفعل مثله .
ثم أمر بجمع النفّاطين ليحرق الناحية فقيل له : أيّها الأمير إنّ هذا اليوم من أشرف أيّام الإسلام فلا تفسده بجهل عامة لاخلاق لهم
ــــــــــــــــــ
( ١ ) العقد الفريد ١ : ٢٩٣ ، و النقل بتصرف يسير .
و لم يزل يدارونه حتى سار ١ .
و قال الطبري : تقدّم ( المعتضد ) الى الشرّاب و الذين يسقون الماء في الجامعين ان لا يترحّموا على معاوية ، و لا يذكروه بخير الى آخر ما ذكر ٢ .
فهل عجب فوق هذا ؟ هل كان السقاة و الشرّاب يترحمون عليه لأنّ جروه قتل سيد شباب أهل الجنة عطشانا ؟
« و يكثر » من الاكثار .
« الاود » أي : الاعوجاج .
« حاول القوم » أي : أرادوا .
« اطفاء نور اللّه من مصباحه » أي : سراجه .
روى ( قرب اسناد الحميري ) عن البزنطي قال : قال لي الرضا عليه السلام : إن الناس قد جهدوا على إطفاء نور اللّه حين قبض اللّه تعالى رسوله ، و أبى اللّه إلاّ أن يتمّ نوره ، و قد جهد علي بن أبي حمزة على إطفاء نور اللّه حين مضى ابو الحسن عليه السلام فأبى اللّه إلاّ أن يتم نوره ، و قد هداكم اللّه لأمر جهله الناس الخبر ٣ .
و روى ( أمالي ) محمّد بن محمّد بن النعمان عن أبي الحسن علي بن محمّد البصري ، عن أبي بشر أحمد بن ابراهيم ، عن زكريا بن يحيى الساجي ،
عن عبد الجبار ، عن سفيان ، عن الوليد بن كثير ، عن ابن الصياد ، عن سعيد بن المسيّب قال : لمّا قبض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ارتجّت مكة بنعيه ، فقال أبو قحافة : ما هذا ؟ قالوا : قبض رسول اللّه ، قال : فمن ولي الناس بعده ؟ قالوا : إبنك . قال : فهل
ــــــــــــــــــ
( ١ ) رواه الآبي في نثر الدرّ عنه شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٣٤٠ ، شرح الخطبة ١٢٦ .
( ٢ ) رواه الطبري في تاريخه ٨ : ١٨٢ ، سنة ٢٨٤ .
( ٣ ) قرب الاسناد : ١٥١ .
رضيت بنو عبد شمس و بنو المغيرة ؟ قالوا : نعم . قال : لا مانع لما أعطى اللّه ، و لا معطي لما منع اللّه . ما أعجب هذا الأمر تنازعون النبوة ، و تسلّمون الخلافة إنّ هذا لشيء يراد ١ .
و في ( مروج المسعودي ) عن ( موفقيات الزبير بن بكار ) الذي صنّفه للموفق عن المدائني قال : قال مطرف بن المغيرة بن شعبة : وفدت مع أبي الى معاوية فكان أبي يأتيه يتحدّث عنده ثم ينصرف إليّ فيذكر معاوية و يذكر عقله و يعجب مما يرى منه ، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء ، فرأيته مغتما فانتظرته ساعة و ظننت أنّه لشيء حدث فينا أو في عملنا فقلت له : ما لي أراك مغتما منذ الليلة ؟ قال : يا بني جئت من عند أخبث الناس . قلت له : و ما ذاك ؟ قال :
قلت له و قد خلوت به إنّك قد بلغت منّا يا أمير المؤمنين ، فلو أظهرت عدلا و بسطت خيرا فإنك قد كبرت ، و لو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم . فو اللّه ما عندهم اليوم شيء تخافه فقال لي : هيهات هيهات ملك أخو تيم فعدل و فعل ما فعل فو اللّه ما عدا أن هلك ، فهلك ذكره إلاّ ان يقول قائل أبو بكر ، ثم ملك أخو عديّ فاجتهد و شمّر عشر سنين . فو اللّه ما عدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل عمر ، ثم ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه فعمل ما عمل و عمل به . فو اللّه ما عدا أن هلك فهلك ذكره و ذكر ما فعل به . و إنّ أخا هاشم يصرخ به في كل يوم خمس مرّات : أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه . فأيّ عمل يبقى مع هذا لا امّ لك ؟ و اللّه إلاّ دفنا دفنا ٢ .
و صرح في كتابه الى محمد بن ابي بكر أنّ المؤسس له ذلك ، الصدّيق و فاروقه ، و لم يكن المقام مقام افتراء ، و إلاّ لكذّبه محمّد بن أبي بكر ، مع أنّه
ــــــــــــــــــ
( ١ ) امالي المفيد : ٩٠ ح ٧ ، المجلس ١٠ .
( ٢ ) مروج الذهب ٣ : ٤٥٤ .
يشهد له الاعتبار الذي كالعيان .
« و سد فواره » مصدر فار الماء ، نبع و جرى .
« من ينبوعه » و الينبوع : عين الماء . قال تعالى : حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ١ .
روى أخطب خوارزم في ( مناقبه ) : أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال لعلي عليه السلام : اتّق الضغائن التي لك في صدور من لا يظهرها إلاّ بعد موتي ، اولئك يلعنهم اللّه و يلعنهم اللاعنون ثم بكى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقيل له ممّ بكاؤك قال : أخبرني جبرئيل أنّهم يظلمونه ، و يمنعونه حقّه ، و يقاتلونه ، و يقاتلون ولده و يظلمونهم بعده الخبر ٢ .
و في ( عيون ابن قتيبة ) بعد ذكر جعل معاوية جعالة لمن قتل العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم قال علي عليه السلام : ( و اللّه لودّ معاوية أنّه ما بقي من هاشم نافخ ضرمة إلاّ طعن في نيطه إطفاء لنور اللّه ،
و يأبى اللّه إلاّ أن يتمّ نوره و لو كره الكافرون ) ٣ .
« و جدحوا بيني و بينهم شربا و بيئا » في ( النهاية ) : الجدح أن يحرّك السويق بالماء ، و يخوض حتى يستوي ، و كذلك اللبن و نحوه ، و المجدح : عود مجنّح الرأس تساط به الأشربة ، و ربما يكون له ثلاث شعب . و منه حديث علي عليه السلام « جدحوا بيني ، و بينهم شربا و بيئا » ٤ .
و في ( المصباح ) : « الوباء بالهمز ، مرض عام يمدّ و يقصر ، و يجمع الممدود على أوبئة مثل متاع و أمتعة ، و المقصور على أوباء مثل سبب
ــــــــــــــــــ
( ١ ) الاسراء : ٩٠ .
( ٢ ) يوجد بلفظ قريب منه في مناقب الخوارزمي : ٢٦ .
( ٣ ) عيون الاخبار ١ : ١٨٠ .
( ٤ ) النهاية ١ : ٢٤٢ ، مادة جدع .
و أسباب » ١ ، و عن أبي عبيدة « الشرب بالفتح مصدر ، و بالخفض و الرفع اسمان من شربت » ٢ .
روى ابن بابويه عن النضر بن مالك قال : قلت للحسين عليه السلام حدّثني عن قوله تعالى : هذان خصمان اختصموا في ربهم ٣ قال : نحن و بنو اميّة اختصمنا في اللّه تعالى قلنا : صدق اللّه ، و قالوا : كذب اللّه ، فنحن و إيّاهم الخصمان يوم القيامة ٤ .
و روى الشيخ عن قيس بن سعد بن عبادة ، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال :
أنا أوّل من يجثو بين يدي اللّه عزّ و جلّ يوم القيامة للخصومة ٥ .
« فان ترتفع عنّا و عنهم محن البلوى » حسب سنّة اللّه تعالى في امتحان عباده .
روى محمّد بن بابويه في خصاله عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن محمّد بن الحنفية قال : أتى رأس اليهود علي بن أبي طالب عليه السلام عند منصرفه من وقعة النهروان و هو جالس في مسجد الكوفة فقال له : إنّي أريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلاّ نبي أو وصي نبي . قال : سل عمّا بدا لك يا أخا اليهود .
قال : انّا نجد في الكتاب انّ اللّه عزّ و جلّ إذا بعث نبيّا أوحى إليه أن يتّخذ من أهل بيته من يقوم بأمر أمّته بعده و أن يعهد إليهم فيه عهدا يحتذى عليه ، و أنّ اللّه عزّ و جلّ يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء و بعد وفاتهم ، فأخبرني كم يمتحن اللّه
ــــــــــــــــــ
( ١ ) المصباح المنير ٢ : ٣٦٢ ، مادة وبا .
( ٢ ) رواه عنه ابن منظور في لسان العرب ١ : ٤٨٧ ، مادة شرب .
( ٣ ) الحج : ١٩ .
( ٤ ) اخرجه الصدوق في الخصال ١ : ٤٢ ح ٢٥ ، باب الاثنين .
( ٥ ) رواه ابو علي الطوسي في اماليه ١ : ٨٣ ، جزء ٣ ، و البخاري في صحيحة ٣ : ٥ و ١٦١ ، و الحاكم في المستدرك ٢ : ٣٨٦ ، و غيرهم .
الأوصياء في حياة الأنبياء ، و كم يمتحنهم بعدهم ، و إلى ما يصير آخر أمر الأوصياء إذا رضي محنتهم ؟ فقال عليه السلام : لئن اجبتك لتسلمنّ . قال : نعم .
فقال عليه السلام له : إنّ اللّه يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء في سبعة مواطن ليبتلي طاعتهم ، فإذا رضي طاعتهم و محنتهم أمر الأنبياء أن يتخذوهم أولياء في حياتهم و أوصياء بعد وفاتهم ، و يصيّروا طاعة الأوصياء في أعناق الامم ممن يقول بطاعة الأنبياء ، ثم يمتحن الأوصياء بعد وفاة الأنبياء في سبعة مواطن ليبتلي صبرهم ، فإذا رضي محنتهم ختم لهم بالسعادة ليلحقهم بالأنبياء و قد أكمل لهم السعادة . قال : صدقت .
فأخبرني كم امتحنك اللّه في حياة محمّد ، و كم امتحنك بعد وفاته ، و إلى ما يصير آخر أمرك ؟
قال : فأخذ علي عليه السلام بيده و قال : إنهض بنا انبّئك بذلك . فقام إليه جماعة من أصحابه فقالوا : أنبئنا بذلك معه . فقال : إنّي أخاف أن لا تحتمله قلوبكم .
قالوا : و لم ؟ قال : لامور بدت لي من كثير منكم . فقام إليه الأشتر فقال : أنبئنا بذلك ، فو اللّه إنّا لنعلم ما على ظهر الأرض وصيّ نبيّ سواك ، و إنّا لنعلم أنّ اللّه لا يبعث بعد نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم نبيّا سواه ، و أنّ طاعتك في أعناقنا موصولة بطاعة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم فجلس علي عليه السلام و أقبل على اليهودي فقال :
يا أخا اليهود إنّ اللّه عزّ و جلّ امتحنني في حياة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم في سبعة مواطن فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي بنعمة اللّه له مطيعا . أمّا أوّلهن :
فإنّ اللّه تعالى أوحى الى نبيّنا و أنا أحدث أهل بيتي سنّا أخدمه بين يديه و أسعى في قضاء أمره ، فدعا صغير بني عبد المطلب و كبيرهم إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه فامتنعوا من ذلك ، و هجروه ، و نابذوه ، و اعتزلوه ، و سائر الناس مقصين له ، و مخالفين عليه ، قد استعظموا ما أورده عليهم ممّا لم تحتمله
قلوبهم ، و لم تدركه عقولهم فأجبت نبيّنا وحدي الى ما دعا إليه مسرعا مطيعا لم يتخالجني في ذلك شك . فمكثنا بذلك ثلاث حجج و ما على وجه الأرض خلق يصلّي أو يشهد للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بما أتاه غيره و غير ابنة خويلد رحمها اللّه ، و قد فعل ، ثم أقبل عليه السلام على أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .
فقال عليه السلام : و أما الثانية : فإنّ قريشا لم تزل تجيل الآراء و تعمل الحيل في قتل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم حتى كان آخر ما اجتمعت في ذلك ، يوم دار الندوة ، و إبليس حاضر في صورة أعور ثقيف . فلم تزل تضرب أمرها ظهرا لبطن حتى اجتمعت آراؤها على أن ينتدب من كلّ فخذ من قريش رجل ، ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه . ثم يأتي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و هو نائم على فراشه ، فيضربونه بأسيافهم جميعا ضربة واحد فيقتلوه ، و إذا قتلوه منعت قريش رجالها ، و لم تسلمها ،
فيمضي دمه هدرا . فهبط جبرئيل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فأنبأه بذلك ، و أخبره بالليلة الّتي يجتمعون فيها ، و الساعة التي يأتون فراشه فيها ، و أمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه الى الغار . فأخبرني النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و أمرني أن أضطجع في مضجعه ، و أقيه بنفسي ، فأسرعت الى ذلك مطيعا له ، مسرورا بأن أقتل دونه . فمضى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لوجهه ، و اضطجعت في مضجعه ،
و أقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها أن تقتل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم . فلمّا استوى بي و بهم البيت الذي أنا فيه ، ناهضتهم بسيفي فدفعتهم عن نفسي ما قد علمه اللّه و علمه الناس . ثم أقبل عليه السلام على أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .
فقال عليه السلام : و أمّا الثالثة يا أخا اليهود : فإنّ ابني ربيعة و ابن عتبة و كانوا فرسان قريش دعوا إلى البراز يوم بدر فلم يبرز لهم خلق ، فأنهضني النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم مع صاحبيّ رضي اللّه عنهما ، و قد فعل و أنا أحدث أصحابي سنّا ،
و أقلّهم للحرب تجربة ، فقتل اللّه بيدي وليدا و شيبة ، سوى من قتلت من
جحاجحة قريش في ذلك اليوم ، و سوى من أسرت ، و كان منّي أكثر ممّا كان من أصحابي ، و استشهد ابن عمي رحمة اللّه عليه في ذلك اليوم . ثم التفت عليه السلام الى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .
فقال عليه السلام : و أما الرابعة يا أخا اليهود : فان أهل مكّة أقبلوا إلينا على بكرة أبيهم ، قد استجلبوا من يليهم من قبائل العرب و قريش ، طالبين بثار مشركي قريش في يوم بدر ، فهبط جبرئيل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فأنبأه بذلك ، فذهب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و عسكر بأصحابه في سدّ أحد ، و أقبل المشركون إلينا فحملوا حملة رجل واحد ، و استشهد من المسلمين من استشهد ، و كان من بقي من المنهزمة ، و بقيت مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و مضى المهاجرون و الأنصار الى منازلهم من المدينة كل يقول : قتل النبي ، و قتل أصحابه . ثم ضرب اللّه تعالى وجوه المشركين ، و قد جرحت بين يدي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم نيّفا و سبعين جراحة منها هذه و هذه ، ثم ألقى عليه السلام رداءه و أمرّ يده على جراحاته ، و كان منّي في ذلك ما على اللّه عزّ و جلّ ثوابه إن شاء . ثم التفت عليه السلام إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا :
بلى .
فقال عليه السلام : و أمّا الخامسة يا أخا اليهود : فإنّ قريشا و العرب تجمّعت و عقدت بينها عقدا و ميثاقا لا ترجع من وجهها حتّى تقتل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و تقتلنا معه معاشر بني عبد المطلب ، ثم أقبلت بحدّها و حديدها حتّى أناخت علينا بالمدينة ، واثقة بأنفسها في ما توجّهت له . فهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فأنبأه بذلك . فخندق على نفسه و من معه . فقدمت قريش فأقامت على الخندق محاصرة لنا ، ترى في أنفسها القوّة و فينا الضعف ، ترعد و تبرق ،
و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يدعوها الى اللّه عزّ و جلّ و يناشدها بالقرابة و الرحم فتأبى ، و لا يزيدها ذلك إلاّ عتوّا ، و فارسها و فارس العرب يومئذ عمرو بن عبد ود يهدر
كالبعير المغتلم . يدعو الى البراز و يرتجز ، و يخطر برمحه مرّة ، و بسيفه مرّة لا يقدم عليه مقدم ، و لا يطمع فيه طامع . فأنهضني إليه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و عمّمني بيده ، و أعطاني سيفه هذا و ضرب بيده الى ذي الفقار فخرجت إليه و نساء أهل المدينة تأنين إشفاقا علي من ابن عبد ود فقتله اللّه بيدي ، و العرب لا تعدّ لها فارسا غيره ، و ضربني هذه الضربة و أومأ بيده الى هامته فهزم اللّه قريشا و العرب بذلك و بما كان منّي فيهم من النكاية . ثم التفت عليه السلام الى أصحابه فقال :
أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .
فقال : و أما السادسة يا أخا اليهود : فإنّا وردنا مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم مدينة أصحابك خيبر على رجال من اليهود و فرسانها ، فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل و الرجال و السلاح ، كلّ ينادي و يبادر الى القتال ، فلم يبرز إليهم من أصحابي أحد إلاّ قتلوه ، حتّى إذا احمرّت الحدق ، و دعيت الى النزال ، و أهمّت كلّ امرئ نفسه ، و التفت بعض أصحابي الى بعض ، و كلّ يقول : يا أبا الحسن انهض ، فأنهضني النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم الى دارهم ، فلم يبرز اليّ أحد منهم إلاّ قتلته ، و لا يثبت لي فارس إلاّ طحنته ، ثم شددت عليهم شدّة الليث على فريسته حتّى أدخلتهم جوف مدينتهم مسددا عليهم ، فاقتلعت باب حصنهم بيدي حتّى دخلت عليهم مدينتهم وحدي ، أقتل من يظهر فيها من رجالها ، و أسبي من أجد من نسائها ، حتّى افتتحتها وحدي ، و لم يكن لي فيها معاون إلاّ اللّه وحده . ثمّ التفت عليه السلام الى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .
فقال عليه السلام : و أما السابعة يا أخا اليهود : فإنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لما توجّه لفتح مكّة أحبّ أن يعذر إليهم ، و يدعوهم الى اللّه عزّ و جلّ آخرا كما دعاهم أوّلا .
فكتب إليهم كتابا يحذّرهم فيه ، و ينذرهم عذاب اللّه ، و يعدهم الصفح ، و يمنّيهم مغفرة ربّهم ، و نسخ لهم في آخره سورة براءة ليقرأها عليهم . ثم عرض على
جميع أصحابه المضيّ به . فكلّهم يرى التثاقل فيه ، فلمّا رأى ذلك ندب منهم رجلا فوجّهه به . فأتاه جبرئيل فقال : يا محمّد لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك فأنبأني النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بذلك ، و وجّهني بكتابه و رسالته الى أهل مكّة ، فأتيت مكّة ، و أهلها من قد عرفتم ليس منهم أحد إلاّ و لو قدر أن يضع على كلّ جبل منّى إربا لفعل ، و لو أن يبذل في ذلك نفسه و أهله و ولده و ماله . فبلّغتهم رسالة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و قرأت عليهم كتابه ، فكلّهم يلقاني بالتهديد و الوعيد ، و يبدي لي البغضاء ، و يظهر الشحناء من رجالهم و نسائهم ، فكان منّي في ذلك ما قد رأيتم . ثم التفت عليه السلام الى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .
فقال عليه السلام : يا أخا اليهود هذه المواطن التي امتحنني فيها ربي عزّ و جلّ مع نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فوجدني فيها كلّها بمنّه مطيعا ، ليس لأحد فيها مثل الذي لي ،
و لو شئت لو صفت ذلك ، و لكن اللّه عزّ و جلّ نهى عن التزكية فقالوا : صدقت و اللّه يا أمير المؤمنين ، لقد أعطاك اللّه عزّ و جلّ الفضيلة بالقرابة من نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و أسعدك بأن جعلك أخاه تنزل منه بمنزلة هارون من موسى ،
و فضّلك بالمواقف الّتي باشرتها ، و الأهوال التي ركبتها ، و ذخر لك الذي ذكرت و أكثر منه ممّا لم تذكره ، ممّا ليس لأحد من المسلمين مثله . يقول ذلك من شهدك منّا مع نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و من شهدك بعده . فأخبرنا بما امتحنك اللّه عزّ و جلّ بعد نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم فاحتملته و صبرت ، فلو شئنا أن نصف ذلك لوصفناه علما منّا به ، إلاّ أنّا نحبّ أن نسمع منك ذلك كما سمعنا منك ما امتحنك اللّه به في حياته فأطعته فيه .
فقال عليه السلام : يا أخا اليهود إنّ اللّه عزّ و جلّ امتحنني بعد وفاة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في سبعة مواطن فوجدني فيهنّ من غير تزكية لنفسي بمنّه و نعمته صبورا .
أما أوّلهنّ يا أخا اليهود : فإنّه لم يكن لي خاصّة دون المسلمين عامة أحد
آنس به أو أعتمد عليه أو أستنيم إليه أو أتقرب به غير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم .
ربانّي صغيرا و بوّأني كبيرا ، و كفاني العيلة و جبرني من اليتم ، و أغناني عن الطلب ، و وقاني المكسب ، و عال لي النفس و الولد و الأهل . هذا في تصاريف أمر الدّنيا مع ما خصّني به من الدرجات التي قادتني الى معالي الحقّ عند اللّه عزّ و جلّ فنزل بي من وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ما لم أكن أظنّ الجبال لو حملت عنوة كانت تنهض به ، فرأيت الناس من أهل بيتي بين جازع لا يملك جزعه ، و لا يضبط نفسه ، و لا يقوى على حمل فادح ما نزل به ، قد أذهب الجزع صبره و أذهل عقله ، و حال بينه و بين الفهم و الافهام ، و القول و الاستماع ، و سائر الناس من غير بني عبد المطلب بين معزّ يأمر بالصبر و بين مساعد باك لبكائهم جازع لجزعهم ، و حملت نفسي على الصبر عند وفاته بلزوم الصمت ،
و الاشتغال بما أمرني به من تجهيزه ، و تغسيله و تحنيطه ، و الصلاة عليه و وضعه في حفرته ، و جمع كتاب اللّه و عهده الى خلقه ، لا يشغلني عن ذلك بارز دمعة ، و لا هائج زفرة ، و لا لاذع حرقة ، و لا جليل مصيبة ، حتى أدّيت في ذلك الحق الواجب للّه تعالى و لرسوله علي ، و بلغت منه الذي أمرني به ،
و احتملته صابرا محتسبا . ثم التفت عليه السلام الى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا :
بلى فقال عليه السلام .
و أما الثانية يا أخا اليهود : فإنّ رسول اللّه أمّرني في حياته على جميع أمّته ، و أخذ على جميع من حضره منهم البيعة ، و السمع و الطاعة لأمري ،
و أمرهم أن يبلّغ الشاهد الغائب ذلك ، فكنت المؤدّي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أمره أنّي الأمير على من حضرني منهم إذا فارقته ، لا تختلج في نفسي منازعة أحد من الخلق لي في شيء من الأمر في حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و لا بعد وفاته ، ثمّ أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بتوجيه الجيش الذي وجّهه مع اسامة بن زيد عند الذي أحدث اللّه
به المرض الذي توفّاه فيه ، فلم يدع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أحدا من أفناء العرب ، و لا من الأوس و الخزرج و غيرهم من ساير الناس ممّن يخاف علي نقضه و منازعته ،
و لا أحدا ممّن يراني بعين البغضاء ممّن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه ،
إلاّ وجّهه في ذلك الجيش ، لتصفوا قلوب من يبقى معي ، و لئلاّ يقول قائل شيئا ممّا أكرهه ، و لا يدفعني دافع من الولاية ، و القيام بأمر رعيّته من بعده ، ثمّ كان آخر ما تكلّم به في شيء من أمر أمّته أن يمضي جيش اسامة ، و لا يتخلّف عنه أحد ممّن أنهض معه ، و تقدّم في ذلك أشدّ التقدّم ، و أو عز فيه أبلغ الايعاز ، و أكّد فيه أكثر التأكيد ، فلم أشعر بعد أن قبض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلاّ برجال من بعث أسامة و أهل عسكره قد تركوا مراكزهم ، و أخلوا مواضعهم ، و خالفوا أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في ما أنهضهم له و أمرهم به ، و تقدّم إليه من ملازمة أميرهم ،
و السير معه تحت لوائه حتّى ينفذ لوجهه الذي أنفذه إليه ، فخلّفوا أميرهم مقيما في عسكره ، و أقبلوا يتبادرون على الخيل ركضا الى حلّ عقدة عقدها اللّه عزّ و جلّ لي و لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم في أعناقهم فحلّوها ، و نبذ عهد عاهدوا اللّه و رسوله عليه فنكثوه ، و عقدوا لأنفسهم عقدا ضجّت به أصواتهم ، و اختصّت به آراؤهم ، من غير مناظرة لأحد منّا بني عبد المطّلب ، أو مشاركة في رأي ، أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي . فعلوا ذلك و أنا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم مشغول ،
و بتجهيزه عن سائر الأشياء مصدود ، فإنّه كان أهمّها و أحقّ ما بدئ به منها ،
فكان هذا يا أخا اليهود أقرح ما ورد على قلبي من الذي أنا فيه من عظيم الرزّية ، و فاجع المصيبة ، و فقد من لا خلف منه إلاّ اللّه تعالى ، فصبرت عليها إذ أتت بعد أختها ، على تقاربها و سرعة اتّصالها . ثم التفت عليه السلام الى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .
فقال عليه السلام : و أما الثالثة يا أخا اليهود : فإنّ القائم بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم كان
يلقاني معتذرا في كلّ أيّامه ، و يلوم غيره ما ارتكبه من أخذ حقّي ، و نقض بيعتي ، و يسألني تحليله فكنت أقول : تنقضي أيّامه ثم يرجع إليّ حقّي الذي جعله اللّه لي عفوا هنيئا من غير أن أحدث في الإسلام ، مع حدوثه و قرب عهده بالجاهليّة ، حدثا في طلب حقّي بمنازعة لعلّ فلانا يقول فيها : نعم ، و فلانا يقول فيها : لا . فيؤول ذلك من القول الى الفعل ، و جماعة من خواصّ أصحاب محمّد عليه السلام أعرفهم بالنصح للّه و لرسوله و لكتابه و دينه يأتوني عودا و بدءا ،
و علانية و سرّا ، فيدعونني إلى أخذ حقّي ، و يبذلون أنفسهم في نصرتي ليؤدّوا إليّ بذلك بيعتي في أعناقهم ، فأقول : رويدا و صبرا قليلا لعل اللّه يأتيني بذلك عفوا ، بلا منازعة و لا اراقة دماء فقد ارتاب كثير من الناس بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و طمع في الأمر بعده من ليس له بأهل . فقال كلّ قوم : منّا أمير ،
و ما طمع القائلون في ذلك إلاّ لتناول غيري الأمر ، فلمّا دنت وفاة القائم و انقضت أيامه صيّر ، الأمر بعده لصاحبه ، و كانت هذه اخت أختها ، و محلّها منّي مثل محلّها ، و أخذا منّي ما جعله اللّه لي ، فاجتمع إليّ من أصحاب محمّد ممّن مضى و ممّن بقي ممّن أخّره اللّه من اجتمع . فقالوا لي فيها مثل الّذي قالوا في اختها ، فلم يعد قولي الثاني قولي الأوّل ، صبرا و احتسابا ، و اشفاقا من أن تفنى عصبة تألّفهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم باللّين مرة ، و بالشدة اخرى ، و بالإنذار مرّة ،
و بالسيف اخرى ، حتّى لقد كان من تألّفه أحسن الناس في المسكن ، و الشبع و الرّي و اللباس ، و الوطاء و الدثار ، و نحن أهل بيت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم لا سقوف لبيوتنا ، و لا أبواب و لا ستور إلاّ الجرائد و ما أشبهها ، و لا وطاء لنا و لا دثار علينا ، يتداول الثوب الواحد في الصلاة أكثرنا ، و نطوي اللّيالي و الأيّام عامّتنا ،
و ربّما أتانا الشيء ممّا أفاءه اللّه علينا و صيّره لنا خاصّة دون غيرنا و نحن على ما وصفت من حالنا فيؤثر به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أرباب النعم و الأموال تألّفا منه
لهم فكنت أحقّ من لم يفرّق هذه العصبة التي ألّفها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و من لم يحملها على الخطّة التي لا خلاص لها منها دون بلاغها أو فناء آجالها ، لأنّي لو نصبت نفسي فدعوتهم إلى نصرتي كانوا منّي و في أمري على احدى منزلتين : إمّا متّبع مقاتل ، و إمّا مقتول ان لم يتّبع الجميع ، و إمّا خاذل يكفر بخذلانه إن قصّر في نصرتي أو أمسك عن طاعتي ، و قد علم اللّه أنّي منه بمنزلة هارون من موسى يحلّ بهم مخالفتي و الإمساك عن نصرتي ما أحلّ قوم موسى بأنفسهم في مخالفة هارون و ترك طاعته . فرأيت تجرّع الغصص ، و ردّ أنفاس الصعداء ، و لزوم الصبر حتّى يفتح اللّه لي ، أو يقضي بما أحبّ ، أزيد لي في حظّي ، و ارفق بالعصابة التي و صفت أمرهم ، و كان أمر اللّه قدرا مقدورا ،
و لو لم أتّق هذه الحالة ثم طلبت حقّي لكنت أولى ممّن طلبه لعلم من مضى من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و من بحضرتك منهم بأنّي كنت أكثر عددا ، و أعزّ عشيرة ، و أمنع رجالا ، و أطوع أمرا ، و أوضع حجّة ، و أكثر في هذا الدّين مناقب و آثارا ، لسوابقي و قرابتي و وراثتي فضلا عن استحقاقي ذلك بالوصية التي لا مخرج للعباد منها ، و البيعة المتقدمة في أعناقهم ممّن تناولها ، و قد قبض محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم و إنّ ولاية الامّة في يده و في بيته لا في يد الألى تناولوها و لا في بيوتهم ، و أهل بيته الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا ، أولى بالأمر من بعده من غيرهم في جميع الخصال . ثم التفت عليه السلام الى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .
قال : و اما الرابعة يا أخا اليهود : فإنّ القائم بعد صاحبه كان يشاورني في الامور فيصدرها عن أمري ، و يناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأيي ،
لا أعلمه أحدا و لا يعلمه أصحابي ، يناظره في ذلك غيري ، و لا يطمع في الأمر بعده سواي . فلمّا أتته منيّته على فجأة بلا مرض كان قبله ، و لا أمر كان أمضاه
في صحّة من بدنه لم أشكّ أنّي قد استرجعت حقّي في عافية بالمنزلة التي كنت أطلبها ، و العاقبة التي كنت ألتمسها ، و أنّ اللّه سيأتي بذلك على أحسن ما رجوت ، و أفضل ما أمّلت ، و كان من فعله أن ختم أمره بأن سمّى قوما أنا سادسهم ، و لم يسوّني بواحد منهم ، و لا ذكر لي حالا في وراثة الرسول ، و لا قرابة و لا صهر و لا نسب ، و لا لواحد منهم مثل سابقة من سوابقي ، و لا أثر من آثاري ، و صيّرها شورى بيننا ، و صيّر ابنه فيها حاكما علينا ، و أمره أن يضرب أعناق النفر الستّة الذين صيّر الأمر فيهم إن لم ينفذوا أمره ، و كفى بالصبر على هذا يا أخا اليهود صبرا ، فمكث القوم أيّامهم كلّها كلّ يخطب نفسه ، و أنا ممسك حتّى سألوني عن أمري فناظرتهم في أيّامي و أيّامهم ، و آثاري و آثارهم ،
و أوضحت لهم ما لم يجهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم ، و ذكّرتهم عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم إليهم ، و تأكيد ما أكّده من البيعة لي في أعناقهم ، فدعاهم حبّ الإمارة ، و بسط الأيدي و الألسن في الأمر و النهي ، و الركون الى الدّنيا ،
و الاقتداء بالماضين قبلهم ، الى تناول ما لم يجعل اللّه لهم ، فإذا خلوت بواحد ذكّرته أيّام اللّه ، و حذّرته ما هو قادم عليه و صائر إليه ، التمس منّي شرطا أن أصيّرها له بعدي فلمّا لم يجدوا عندي إلاّ المحجّة البيضاء ، و الحمل على كتاب اللّه عزّ و جلّ و وصيّة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و إعطاء كلّ امرئ منهم ما جعله اللّه له ،
و منعه مما لم يجعله اللّه له ، أزالها عنّي الى ابن عفّان طمعا في الشحيح .
ثم لم أعلم القوم أمسوا من يومهم ذلك حتّى ظهرت ندامتهم ، و نكصوا على أعقابهم ، و أحال بعضهم على بعض ، كلّ يلوم نفسه و يلوم أصحابه ، ثم لم تطل الأيام بالمستبدّ بالأمر حتّى أكفروه ، و تبرّءوا منه . فكانت هذه يا أخا اليهود أكبر من اختها و أفظع فنالني منها الّذي لا يبلغ و صفه ، و لم يكن عندي إلاّ الصبر على ما هو أمضّ منها ، و لقد أتاني الباقون من الستّة من يومهم كلّ