بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٤

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة0%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 597

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف:

الصفحات: 597
المشاهدات: 41861
تحميل: 4594


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 597 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 41861 / تحميل: 4594
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء 4

مؤلف:
العربية

بأبه اقتدى عدى في الكرم

و من يشابه أبه فما ظلم

إقتدى معاوية بصدّيقهم و فاروقهم كما صرّح به معاوية نفسه في جواب كتابه الى محمد بن أبي بكر و أفصح فيه عن الحقيقة إذ قال فيه مخاطبا محمّد بن أبي بكر : « ذكرت فيه فضل ابن أبي طالب ، و قديم سوابقه ، و قرابته الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و مواساته إيّاه في كل هول و خوف إلى أن قال .

و قد كنّا و أبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب ، و حقّه لازما لنا ،

مبرورا علينا ، فلمّا اختار اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ما عنده ، و أتمّ له ما وعده ، و أظهر دعوته و أبلج حجّته و قبضه اللّه إليه . فكان أبوك و فاروقه أوّل من ابتزّه حقّه و خالفه على أمره ، على ذلك اتفقا و اتّسقا ، ثم إنهما دعواه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما ، و تلكّأ عليهما ، فهمّا به الهموم ، و أرادا به العظيم ، ثم إنه بايع لهما و سلّم لهما ، و أقاما لا يشركانه في أمرهما ، و لا يطلعانه على سرّهما ، حتى قبضهما اللّه إلى أن قال في قيامه بالامر في قباله عليه السلام .

أبوك مهّد مهاده ، و بنى لملكه و ساده ، فإن يكن ما نحن فيه صوابا فأبوك استبدّ به و نحن شركاؤه ، و لو لا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب ، و لسلّمنا إليه ، و لكنّا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا فأخذنا بمثله ، فعب أباك بما بدا لك أو دع ذلك .

و كتاب معاوية في جواب محمّد بن ابى بكر هو الكتاب الذي اعتذر الطبري في ( تاريخه ) عن نقله بانه كتاب لا تحتمله العامة و نقله المسعودي و غيره ١ و يقال للطبري : ان هذا الكتاب لا يحتمله إلاّ من انسلخ عن الانسانيّة .

ثم هل زمان ذي نوريهم الذي قال فيه أبو سفيان ما قال كان أحسن من

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه المسعودي في مروج الذهب ٣ : ١٢ ، و ابن مزاحم في وقعة صفين : ١١٩ ، و البلاذري في انساب الاشراف ٢ : ٣٩٦ ، و أشار إليه الطبري في تاريخه ٣ : ٥٥٧ ، سنة ٣٦ .

٢٢١

زمان معاوية بل يزيد أيضا ، فكيف يقبل عثمان بالإمامة و لا يقبل معاوية ؟

فهل السلطان في زمان عثمان إلاّ مروان و أبو سفيان و غلمان بني اميّة ؟ و لم يصلّ عامل من عمّال معاوية ، و يزيد صلاة الفجر بالناس في حال السكر أربعا مع إنشاد أبيات في العربدة فيها .

و من العجب أن عامّة العامة قتلوا النسائي أحد أئمة حديثهم ، و صاحب أحد صحاحهم الستة لأنه أنكر فضل معاوية قال ابن خلكان : سئل النسائي عن معاوية و فضائله فقال : ما أعرف له فضيلة إلاّ قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فيه : « لا أشبع اللّه بطنك » فما زالوا يدفعون في حضنيه و داسوه ثم حمل الى الرملة فمات بها ١ .

و مما يضحك الثكلى ، و يبدّل البكاء بالضحك عجبا انّ المتسمّين بالعلم منهم جعلوا من لم يكن فساد في الأرض الاّ عمل به حتّى كفّره من نصبه ،

و استباحوا دمه ، و حرّموا تجهيزه ، أفضل ممّن قال رسول ربّ العالمين في حقه : « لو لا أن تقول الناس فيك بالالوهية لقلت فيك ما إن لا تمرّ في طريق إلاّ أخذوا التراب من تحت قدميك » ؟ ٢ .

فهل للجزاف حدّ ؟ و هل يتفوّه أحد بأفضلية الظلمات من النور ، و في تاريخ بغداد قال ابو عبيد القاسم بن سلام : فعلت بالبصرة فعلتين أرجو بهما الجنّة ، أتيت يحيى القطّان و هو يقول أبو بكر و عمر و علي فقلت : معي شاهدان من أهل بدر يشهدان أن عثمان أفضل من علي . قال : بمن ؟ قلت : أنت حدّثتنا عن شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة قال : خطبنا عبد اللّه بن

ــــــــــــــــــ

( ١ ) وفيات الاعيان ١ : ٧٧ ، و النقل بتلخيص .

( ٢ ) اخرجه ابن أبي حاتم في علل الحديث ١ : ٣١٣ ، و الثقفي في المعرفة ، و عنه إعلام الورى : ١٨٦ ، و الصدوق في امالية : ٨٦ ح ١ ، مجلس ٢١ ، و غيرهم عن جابر ، و روي عن علي عليه السلام و ابن رافع أيضا و النقل بالمعنى .

٢٢٢

مسعود فقال : أميرنا خير من بقي و لم نال قال : و من الآخر ؟ قلت : « الزهري عن حميد بن عبد الرحمن ، عن المسوّر بن مخرمة قال : سمعت عبد الرحمن بن عوف يقول : شاورت المهاجرين الأوّلين و امراء الأجناد و أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلم أر أحدا يعدل بعثمان » قال : فترك قوله و قال ابو بكر و عمر و عثمان ١ .

قبّح اللّه دينا هذا أساسه ، مع أنّ شاهديه من أهل بدر و ما رواه عنهما رواية لم تعلم صحتها ، و الذي نعلم بالدراية أنّ ذينك الشاهدين هجراه و فجّراه و كفّراه . و قوله في خبره الثاني : « شاورت المهاجرين و أمراء الأجناد » فلا بد أنّه أراد بالمهاجرين الأوّلين مثل المغيرة بن شعبة جعله فاروقهم من المهاجرين الأوّلين لمّا أراد منع زياد عن أداء شهادته في زناه حتى يبطل حدّ اللّه فيه ، كما أنّه لا بدّ من أراده معاوية بن أبي سفيان بأمراء الأجناد .

و من الغريب أنّ إمامهم الثالث و ذا نوريهم يقول لأمير المؤمنين عليه السلام في خبر إخراجه لأبي ذر من المدينة الى الربذة و مشايعته عليه السلام لأبي ذر مع حظر عثمان عن مشايعته ، و إرادة مروان منعه عليه السلام عن ذلك و شتمه له عليه السلام « لم لا يشتمك كانّك خير منه » ٢ فأنكر أن يكون من كان بمنزلة نفس النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم خيرا من ذاك اللعين ابن اللعين على لسان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم .

و نقل ابن قتيبة في ( مختلف ) أخباره في جملة ما ذكره متكلّموهم في محدّثيهم أنّهم يقدحون في الشيخ يسوّي بين علي و عثمان أو يقدّم عليّا عليه السلام عليه ٣ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ بغداد ١٢ : ٤٠٩ .

( ٢ ) رواه الجوهري في السقيفة : ٧٨ ، و المسعودي في مروج الذهب ٢ : ٣٤٢ .

( ٣ ) تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة : ١٠ .

٢٢٣

هذا ، و نظير كلامه عليه السلام في الأدب أنه لمّا ولّي خالد بن عبد اللّه القسرى بعد ابن هبيرة الفزاري الذي قال فيه الفرزدق مخاطبا يزيد بن عبد الملك الذي ولاّه :

أولّيت العراق و رافديه

فزاريا أحذّ يد القميص

قال شاعر أسدي :

عجب الفرزدق من فزارة أن رأى

عنها أمية بالمشارق تنزع

فلقد رأى عجبا و أحدث بعده

أمر تضجّ له القلوب و تفزع

بكت المنابر من فزارة شجوها

فاليوم من قسر تذوب و تجزع

و ملوك خندف أسلمونا للعدى

للّه درّ ملوكنا ما تصنع

كانوا كتاركة بنيها جانبا

سفها و غيرهم تصون و ترضع

« فلقد اضحكني الدهر » في قيام ابن أبي سفيان في قبالي .

« بعد ابكائه » بقيام الاولين .

و مما يبدّل البكاء بالضحك عجبا في أمر معاوية أنّ بعض النصّاب حرّف قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فيه : « إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه » من القتل بقوله : « فاقبلوه » من القبول أو لم ير أن الحسن البصري الذي رواه قال بعد الخبر : « فما فعلوا و لا أفلحوا » ، و روى أيضا بلفظ « اذا رأيتم معاوية على منبرى فاضربوا عنقه » ١ .

و كيف و روى نصر بن مزاحم في ( صفّينه ) : أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال : « انّ معاوية في تابوت في الدرك الاسفل من النار و لو لا كلمة فرعون « انا ربكم الأعلى » ما كان أحد أسفل من معاوية » ٢ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) اخرجه عن طريق الحسن ، ابن مزاحم في وقعة صفين : ٢١٦ و ٢٢١ ، و جماعة اخرى ، و روى عن ابن مسعود و ابي سعيد و حذيفة و ابن جذعان أيضا .

( ٢ ) وقعة صفين : ٢١٧ ، و الحديث موقوف عن ابن عمر و لم يرفعه الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم .

٢٢٤

و روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أيضا قال : « شر خلق اللّه خمسة : إبليس ، و ابن آدم الذي قتل أخاه ، و فرعون ذو الأوتاد ، و رجل من بني اسرائيل ردّهم عن دينهم ، و رجل من هذه الامّة يبايع على كفره عند باب لدّ » ١ ، و روى أنّ رجلا شاميا سمع ذلك من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فلمّا رأى معاوية بويع عند باب لدّ ، ذكر قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فلحق بعليّ عليه السلام ٢ .

« و لا غرو » أي : لا عجب .

« فيا له خطبا » في ( المصباح ) : الخطب : الأمر الشديد ينزل ٣ .

« يستفرغ العجب » قال ابن أبي الحديد : أي : يستنفذه و يفنيه . يقول : قد صار العجب لا عجب لأنّ هذا الخطب استغرق التعجب فلم يبق منه ما يطلق عليه لفظ التعجب ، و هذا من باب الاغراق و المبالغة في المبالغة إلى أن قال قال ابن هاني المغربي :

قد سرت في الميدان يوم طرادهم

فعجبت حتى كدت أن لا أعجبا ٤

قلت : لم يعلم استعمال الاستفراغ بمعنى الافراغ ، و ما قاله ركيك ، و انما معنى « يستفرغ العجب » لا يدّخر منه شيئا من قولهم « فرس مستفرغ » لا يدّخر من عدوه قال الشاعر

« مستفرغ كاهله اشمّ »

٥ .

روى ابن عبد ربه في ( عقده ) عن الشعبي قال : دخلت بكارة الهلاليه على معاوية بالمدينة و كانت قد اسنّت و عشي بصرها ، و ضعفت قوّتها . فقال لها معاوية : قد غيّرك الدهر قالت : كذلك هو ذو غير ، من عاش كبر ، و من مات قبر فقال عمرو بن العاص : هي و اللّه القائلة :

ــــــــــــــــــ

( ١ ) وقعة صفين : ٢١٧ .

( ٢ ) وقعة صفين : ٢١٧ .

( ٣ ) المصباح المنير ١ : ٢١٠ ، مادة خطب .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٤٥٦ .

( ٥ ) اورده في اساس البلاغة : ٣٤٠ ، مادة فرغ .

٢٢٥

يا زيد دونك فاحتفر من درانا

سيفا حساما في التراب دفينا

قد كنت أذخره ليوم كريهة

فاليوم أبرزه الزمان مصونا

فقال مروان و هي القائلة :

أ ترى ابن هند للخلافة مالكا

هيهات ذاك و ان أراد بعيد

منّتك نفسك في الخلاء ضلالة

أغراك عمرو للشقا و سعيد

فقال سعيد بن العاص هي القائلة :

قد كنت أطمع أن اموت و لا أرى

فوق المنابر من أميّة خاطبا

فاللّه أخّر مدّتي فتطاولت

حتى رأيت من الزمان عجائبا

في كل يوم للزمان خطيبهم

بين الجميع لآل أحمد عائبا ١

و في السير : لمّا دخل المعتضد برأس صاحب الزنج بغداد دخل في جيش لم ير مثله ، و اشنق أسواق بغداد ، و الرأس بين يديه . فلما صار بباب الطريق صاح قوم من درب من تلك الدروب « رحم اللّه معاوية » و زاد حتى علت اصوات العامّة بذلك ، فتغير وجه المعتضد ، و قال للعلاء بن صاعد : ألا تسمع ؟

ما اعجب هذا و ما الّذي اقتضى ذكر معاوية في هذا الوقت ؟ و اللّه لقد بلغ أبي الى الموت ، و ما أفلتّ أنا إلاّ بعد مشارفته ، و لقينا كلّ جهد و بلاء حتى أنجينا هؤلاء الكلاب من عدوّهم و حصّنا حرمهم و أولادهم ، فتركوا أن يترحّموا على العباس ، و عبد اللّه بن العباس ، و من ولد من الخلفاء ، و تركوا الترحم على علي بن ابي طالب ، و حمزة و جعفر و الحسن و الحسين ، و اللّه لا برحت أو أؤثّر في تأديب هؤلاء أثرا لا يعودون بعد هذا اليوم لفعل مثله .

ثم أمر بجمع النفّاطين ليحرق الناحية فقيل له : أيّها الأمير إنّ هذا اليوم من أشرف أيّام الإسلام فلا تفسده بجهل عامة لاخلاق لهم

ــــــــــــــــــ

( ١ ) العقد الفريد ١ : ٢٩٣ ، و النقل بتصرف يسير .

٢٢٦
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الرابع الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

و لم يزل يدارونه حتى سار ١ .

و قال الطبري : تقدّم ( المعتضد ) الى الشرّاب و الذين يسقون الماء في الجامعين ان لا يترحّموا على معاوية ، و لا يذكروه بخير الى آخر ما ذكر ٢ .

فهل عجب فوق هذا ؟ هل كان السقاة و الشرّاب يترحمون عليه لأنّ جروه قتل سيد شباب أهل الجنة عطشانا ؟

« و يكثر » من الاكثار .

« الاود » أي : الاعوجاج .

« حاول القوم » أي : أرادوا .

« اطفاء نور اللّه من مصباحه » أي : سراجه .

روى ( قرب اسناد الحميري ) عن البزنطي قال : قال لي الرضا عليه السلام : إن الناس قد جهدوا على إطفاء نور اللّه حين قبض اللّه تعالى رسوله ، و أبى اللّه إلاّ أن يتمّ نوره ، و قد جهد علي بن أبي حمزة على إطفاء نور اللّه حين مضى ابو الحسن عليه السلام فأبى اللّه إلاّ أن يتم نوره ، و قد هداكم اللّه لأمر جهله الناس الخبر ٣ .

و روى ( أمالي ) محمّد بن محمّد بن النعمان عن أبي الحسن علي بن محمّد البصري ، عن أبي بشر أحمد بن ابراهيم ، عن زكريا بن يحيى الساجي ،

عن عبد الجبار ، عن سفيان ، عن الوليد بن كثير ، عن ابن الصياد ، عن سعيد بن المسيّب قال : لمّا قبض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ارتجّت مكة بنعيه ، فقال أبو قحافة : ما هذا ؟ قالوا : قبض رسول اللّه ، قال : فمن ولي الناس بعده ؟ قالوا : إبنك . قال : فهل

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه الآبي في نثر الدرّ عنه شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٣٤٠ ، شرح الخطبة ١٢٦ .

( ٢ ) رواه الطبري في تاريخه ٨ : ١٨٢ ، سنة ٢٨٤ .

( ٣ ) قرب الاسناد : ١٥١ .

٢٢٧

رضيت بنو عبد شمس و بنو المغيرة ؟ قالوا : نعم . قال : لا مانع لما أعطى اللّه ، و لا معطي لما منع اللّه . ما أعجب هذا الأمر تنازعون النبوة ، و تسلّمون الخلافة إنّ هذا لشي‏ء يراد ١ .

و في ( مروج المسعودي ) عن ( موفقيات الزبير بن بكار ) الذي صنّفه للموفق عن المدائني قال : قال مطرف بن المغيرة بن شعبة : وفدت مع أبي الى معاوية فكان أبي يأتيه يتحدّث عنده ثم ينصرف إليّ فيذكر معاوية و يذكر عقله و يعجب مما يرى منه ، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء ، فرأيته مغتما فانتظرته ساعة و ظننت أنّه لشي‏ء حدث فينا أو في عملنا فقلت له : ما لي أراك مغتما منذ الليلة ؟ قال : يا بني جئت من عند أخبث الناس . قلت له : و ما ذاك ؟ قال :

قلت له و قد خلوت به إنّك قد بلغت منّا يا أمير المؤمنين ، فلو أظهرت عدلا و بسطت خيرا فإنك قد كبرت ، و لو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم . فو اللّه ما عندهم اليوم شي‏ء تخافه فقال لي : هيهات هيهات ملك أخو تيم فعدل و فعل ما فعل فو اللّه ما عدا أن هلك ، فهلك ذكره إلاّ ان يقول قائل أبو بكر ، ثم ملك أخو عديّ فاجتهد و شمّر عشر سنين . فو اللّه ما عدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل عمر ، ثم ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه فعمل ما عمل و عمل به . فو اللّه ما عدا أن هلك فهلك ذكره و ذكر ما فعل به . و إنّ أخا هاشم يصرخ به في كل يوم خمس مرّات : أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه . فأيّ عمل يبقى مع هذا لا امّ لك ؟ و اللّه إلاّ دفنا دفنا ٢ .

و صرح في كتابه الى محمد بن ابي بكر أنّ المؤسس له ذلك ، الصدّيق و فاروقه ، و لم يكن المقام مقام افتراء ، و إلاّ لكذّبه محمّد بن أبي بكر ، مع أنّه

ــــــــــــــــــ

( ١ ) امالي المفيد : ٩٠ ح ٧ ، المجلس ١٠ .

( ٢ ) مروج الذهب ٣ : ٤٥٤ .

٢٢٨

يشهد له الاعتبار الذي كالعيان .

« و سد فواره » مصدر فار الماء ، نبع و جرى .

« من ينبوعه » و الينبوع : عين الماء . قال تعالى : حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ١ .

روى أخطب خوارزم في ( مناقبه ) : أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال لعلي عليه السلام : اتّق الضغائن التي لك في صدور من لا يظهرها إلاّ بعد موتي ، اولئك يلعنهم اللّه و يلعنهم اللاعنون ثم بكى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقيل له ممّ بكاؤك قال : أخبرني جبرئيل أنّهم يظلمونه ، و يمنعونه حقّه ، و يقاتلونه ، و يقاتلون ولده و يظلمونهم بعده الخبر ٢ .

و في ( عيون ابن قتيبة ) بعد ذكر جعل معاوية جعالة لمن قتل العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم قال علي عليه السلام : ( و اللّه لودّ معاوية أنّه ما بقي من هاشم نافخ ضرمة إلاّ طعن في نيطه إطفاء لنور اللّه ،

و يأبى اللّه إلاّ أن يتمّ نوره و لو كره الكافرون ) ٣ .

« و جدحوا بيني و بينهم شربا و بيئا » في ( النهاية ) : الجدح أن يحرّك السويق بالماء ، و يخوض حتى يستوي ، و كذلك اللبن و نحوه ، و المجدح : عود مجنّح الرأس تساط به الأشربة ، و ربما يكون له ثلاث شعب . و منه حديث علي عليه السلام « جدحوا بيني ، و بينهم شربا و بيئا » ٤ .

و في ( المصباح ) : « الوباء بالهمز ، مرض عام يمدّ و يقصر ، و يجمع الممدود على أوبئة مثل متاع و أمتعة ، و المقصور على أوباء مثل سبب

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الاسراء : ٩٠ .

( ٢ ) يوجد بلفظ قريب منه في مناقب الخوارزمي : ٢٦ .

( ٣ ) عيون الاخبار ١ : ١٨٠ .

( ٤ ) النهاية ١ : ٢٤٢ ، مادة جدع .

٢٢٩

و أسباب » ١ ، و عن أبي عبيدة « الشرب بالفتح مصدر ، و بالخفض و الرفع اسمان من شربت » ٢ .

روى ابن بابويه عن النضر بن مالك قال : قلت للحسين عليه السلام حدّثني عن قوله تعالى : هذان خصمان اختصموا في ربهم ٣ قال : نحن و بنو اميّة اختصمنا في اللّه تعالى قلنا : صدق اللّه ، و قالوا : كذب اللّه ، فنحن و إيّاهم الخصمان يوم القيامة ٤ .

و روى الشيخ عن قيس بن سعد بن عبادة ، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال :

أنا أوّل من يجثو بين يدي اللّه عزّ و جلّ يوم القيامة للخصومة ٥ .

« فان ترتفع عنّا و عنهم محن البلوى » حسب سنّة اللّه تعالى في امتحان عباده .

روى محمّد بن بابويه في خصاله عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن محمّد بن الحنفية قال : أتى رأس اليهود علي بن أبي طالب عليه السلام عند منصرفه من وقعة النهروان و هو جالس في مسجد الكوفة فقال له : إنّي أريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلاّ نبي أو وصي نبي . قال : سل عمّا بدا لك يا أخا اليهود .

قال : انّا نجد في الكتاب انّ اللّه عزّ و جلّ إذا بعث نبيّا أوحى إليه أن يتّخذ من أهل بيته من يقوم بأمر أمّته بعده و أن يعهد إليهم فيه عهدا يحتذى عليه ، و أنّ اللّه عزّ و جلّ يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء و بعد وفاتهم ، فأخبرني كم يمتحن اللّه

ــــــــــــــــــ

( ١ ) المصباح المنير ٢ : ٣٦٢ ، مادة وبا .

( ٢ ) رواه عنه ابن منظور في لسان العرب ١ : ٤٨٧ ، مادة شرب .

( ٣ ) الحج : ١٩ .

( ٤ ) اخرجه الصدوق في الخصال ١ : ٤٢ ح ٢٥ ، باب الاثنين .

( ٥ ) رواه ابو علي الطوسي في اماليه ١ : ٨٣ ، جزء ٣ ، و البخاري في صحيحة ٣ : ٥ و ١٦١ ، و الحاكم في المستدرك ٢ : ٣٨٦ ، و غيرهم .

٢٣٠

الأوصياء في حياة الأنبياء ، و كم يمتحنهم بعدهم ، و إلى ما يصير آخر أمر الأوصياء إذا رضي محنتهم ؟ فقال عليه السلام : لئن اجبتك لتسلمنّ . قال : نعم .

فقال عليه السلام له : إنّ اللّه يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء في سبعة مواطن ليبتلي طاعتهم ، فإذا رضي طاعتهم و محنتهم أمر الأنبياء أن يتخذوهم أولياء في حياتهم و أوصياء بعد وفاتهم ، و يصيّروا طاعة الأوصياء في أعناق الامم ممن يقول بطاعة الأنبياء ، ثم يمتحن الأوصياء بعد وفاة الأنبياء في سبعة مواطن ليبتلي صبرهم ، فإذا رضي محنتهم ختم لهم بالسعادة ليلحقهم بالأنبياء و قد أكمل لهم السعادة . قال : صدقت .

فأخبرني كم امتحنك اللّه في حياة محمّد ، و كم امتحنك بعد وفاته ، و إلى ما يصير آخر أمرك ؟

قال : فأخذ علي عليه السلام بيده و قال : إنهض بنا انبّئك بذلك . فقام إليه جماعة من أصحابه فقالوا : أنبئنا بذلك معه . فقال : إنّي أخاف أن لا تحتمله قلوبكم .

قالوا : و لم ؟ قال : لامور بدت لي من كثير منكم . فقام إليه الأشتر فقال : أنبئنا بذلك ، فو اللّه إنّا لنعلم ما على ظهر الأرض وصيّ نبيّ سواك ، و إنّا لنعلم أنّ اللّه لا يبعث بعد نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم نبيّا سواه ، و أنّ طاعتك في أعناقنا موصولة بطاعة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم فجلس علي عليه السلام و أقبل على اليهودي فقال :

يا أخا اليهود إنّ اللّه عزّ و جلّ امتحنني في حياة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم في سبعة مواطن فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي بنعمة اللّه له مطيعا . أمّا أوّلهن :

فإنّ اللّه تعالى أوحى الى نبيّنا و أنا أحدث أهل بيتي سنّا أخدمه بين يديه و أسعى في قضاء أمره ، فدعا صغير بني عبد المطلب و كبيرهم إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه فامتنعوا من ذلك ، و هجروه ، و نابذوه ، و اعتزلوه ، و سائر الناس مقصين له ، و مخالفين عليه ، قد استعظموا ما أورده عليهم ممّا لم تحتمله

٢٣١

قلوبهم ، و لم تدركه عقولهم فأجبت نبيّنا وحدي الى ما دعا إليه مسرعا مطيعا لم يتخالجني في ذلك شك . فمكثنا بذلك ثلاث حجج و ما على وجه الأرض خلق يصلّي أو يشهد للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بما أتاه غيره و غير ابنة خويلد رحمها اللّه ، و قد فعل ، ثم أقبل عليه السلام على أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .

فقال عليه السلام : و أما الثانية : فإنّ قريشا لم تزل تجيل الآراء و تعمل الحيل في قتل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم حتى كان آخر ما اجتمعت في ذلك ، يوم دار الندوة ، و إبليس حاضر في صورة أعور ثقيف . فلم تزل تضرب أمرها ظهرا لبطن حتى اجتمعت آراؤها على أن ينتدب من كلّ فخذ من قريش رجل ، ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه . ثم يأتي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و هو نائم على فراشه ، فيضربونه بأسيافهم جميعا ضربة واحد فيقتلوه ، و إذا قتلوه منعت قريش رجالها ، و لم تسلمها ،

فيمضي دمه هدرا . فهبط جبرئيل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فأنبأه بذلك ، و أخبره بالليلة الّتي يجتمعون فيها ، و الساعة التي يأتون فراشه فيها ، و أمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه الى الغار . فأخبرني النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و أمرني أن أضطجع في مضجعه ، و أقيه بنفسي ، فأسرعت الى ذلك مطيعا له ، مسرورا بأن أقتل دونه . فمضى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لوجهه ، و اضطجعت في مضجعه ،

و أقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها أن تقتل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم . فلمّا استوى بي و بهم البيت الذي أنا فيه ، ناهضتهم بسيفي فدفعتهم عن نفسي ما قد علمه اللّه و علمه الناس . ثم أقبل عليه السلام على أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .

فقال عليه السلام : و أمّا الثالثة يا أخا اليهود : فإنّ ابني ربيعة و ابن عتبة و كانوا فرسان قريش دعوا إلى البراز يوم بدر فلم يبرز لهم خلق ، فأنهضني النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم مع صاحبيّ رضي اللّه عنهما ، و قد فعل و أنا أحدث أصحابي سنّا ،

و أقلّهم للحرب تجربة ، فقتل اللّه بيدي وليدا و شيبة ، سوى من قتلت من

٢٣٢

جحاجحة قريش في ذلك اليوم ، و سوى من أسرت ، و كان منّي أكثر ممّا كان من أصحابي ، و استشهد ابن عمي رحمة اللّه عليه في ذلك اليوم . ثم التفت عليه السلام الى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .

فقال عليه السلام : و أما الرابعة يا أخا اليهود : فان أهل مكّة أقبلوا إلينا على بكرة أبيهم ، قد استجلبوا من يليهم من قبائل العرب و قريش ، طالبين بثار مشركي قريش في يوم بدر ، فهبط جبرئيل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فأنبأه بذلك ، فذهب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و عسكر بأصحابه في سدّ أحد ، و أقبل المشركون إلينا فحملوا حملة رجل واحد ، و استشهد من المسلمين من استشهد ، و كان من بقي من المنهزمة ، و بقيت مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و مضى المهاجرون و الأنصار الى منازلهم من المدينة كل يقول : قتل النبي ، و قتل أصحابه . ثم ضرب اللّه تعالى وجوه المشركين ، و قد جرحت بين يدي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم نيّفا و سبعين جراحة منها هذه و هذه ، ثم ألقى عليه السلام رداءه و أمرّ يده على جراحاته ، و كان منّي في ذلك ما على اللّه عزّ و جلّ ثوابه إن شاء . ثم التفت عليه السلام إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا :

بلى .

فقال عليه السلام : و أمّا الخامسة يا أخا اليهود : فإنّ قريشا و العرب تجمّعت و عقدت بينها عقدا و ميثاقا لا ترجع من وجهها حتّى تقتل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و تقتلنا معه معاشر بني عبد المطلب ، ثم أقبلت بحدّها و حديدها حتّى أناخت علينا بالمدينة ، واثقة بأنفسها في ما توجّهت له . فهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فأنبأه بذلك . فخندق على نفسه و من معه . فقدمت قريش فأقامت على الخندق محاصرة لنا ، ترى في أنفسها القوّة و فينا الضعف ، ترعد و تبرق ،

و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يدعوها الى اللّه عزّ و جلّ و يناشدها بالقرابة و الرحم فتأبى ، و لا يزيدها ذلك إلاّ عتوّا ، و فارسها و فارس العرب يومئذ عمرو بن عبد ود يهدر

٢٣٣

كالبعير المغتلم . يدعو الى البراز و يرتجز ، و يخطر برمحه مرّة ، و بسيفه مرّة لا يقدم عليه مقدم ، و لا يطمع فيه طامع . فأنهضني إليه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و عمّمني بيده ، و أعطاني سيفه هذا و ضرب بيده الى ذي الفقار فخرجت إليه و نساء أهل المدينة تأنين إشفاقا علي من ابن عبد ود فقتله اللّه بيدي ، و العرب لا تعدّ لها فارسا غيره ، و ضربني هذه الضربة و أومأ بيده الى هامته فهزم اللّه قريشا و العرب بذلك و بما كان منّي فيهم من النكاية . ثم التفت عليه السلام الى أصحابه فقال :

أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .

فقال : و أما السادسة يا أخا اليهود : فإنّا وردنا مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم مدينة أصحابك خيبر على رجال من اليهود و فرسانها ، فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل و الرجال و السلاح ، كلّ ينادي و يبادر الى القتال ، فلم يبرز إليهم من أصحابي أحد إلاّ قتلوه ، حتّى إذا احمرّت الحدق ، و دعيت الى النزال ، و أهمّت كلّ امرئ نفسه ، و التفت بعض أصحابي الى بعض ، و كلّ يقول : يا أبا الحسن انهض ، فأنهضني النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم الى دارهم ، فلم يبرز اليّ أحد منهم إلاّ قتلته ، و لا يثبت لي فارس إلاّ طحنته ، ثم شددت عليهم شدّة الليث على فريسته حتّى أدخلتهم جوف مدينتهم مسددا عليهم ، فاقتلعت باب حصنهم بيدي حتّى دخلت عليهم مدينتهم وحدي ، أقتل من يظهر فيها من رجالها ، و أسبي من أجد من نسائها ، حتّى افتتحتها وحدي ، و لم يكن لي فيها معاون إلاّ اللّه وحده . ثمّ التفت عليه السلام الى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .

فقال عليه السلام : و أما السابعة يا أخا اليهود : فإنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لما توجّه لفتح مكّة أحبّ أن يعذر إليهم ، و يدعوهم الى اللّه عزّ و جلّ آخرا كما دعاهم أوّلا .

فكتب إليهم كتابا يحذّرهم فيه ، و ينذرهم عذاب اللّه ، و يعدهم الصفح ، و يمنّيهم مغفرة ربّهم ، و نسخ لهم في آخره سورة براءة ليقرأها عليهم . ثم عرض على

٢٣٤

جميع أصحابه المضيّ به . فكلّهم يرى التثاقل فيه ، فلمّا رأى ذلك ندب منهم رجلا فوجّهه به . فأتاه جبرئيل فقال : يا محمّد لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك فأنبأني النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بذلك ، و وجّهني بكتابه و رسالته الى أهل مكّة ، فأتيت مكّة ، و أهلها من قد عرفتم ليس منهم أحد إلاّ و لو قدر أن يضع على كلّ جبل منّى إربا لفعل ، و لو أن يبذل في ذلك نفسه و أهله و ولده و ماله . فبلّغتهم رسالة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و قرأت عليهم كتابه ، فكلّهم يلقاني بالتهديد و الوعيد ، و يبدي لي البغضاء ، و يظهر الشحناء من رجالهم و نسائهم ، فكان منّي في ذلك ما قد رأيتم . ثم التفت عليه السلام الى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .

فقال عليه السلام : يا أخا اليهود هذه المواطن التي امتحنني فيها ربي عزّ و جلّ مع نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فوجدني فيها كلّها بمنّه مطيعا ، ليس لأحد فيها مثل الذي لي ،

و لو شئت لو صفت ذلك ، و لكن اللّه عزّ و جلّ نهى عن التزكية فقالوا : صدقت و اللّه يا أمير المؤمنين ، لقد أعطاك اللّه عزّ و جلّ الفضيلة بالقرابة من نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و أسعدك بأن جعلك أخاه تنزل منه بمنزلة هارون من موسى ،

و فضّلك بالمواقف الّتي باشرتها ، و الأهوال التي ركبتها ، و ذخر لك الذي ذكرت و أكثر منه ممّا لم تذكره ، ممّا ليس لأحد من المسلمين مثله . يقول ذلك من شهدك منّا مع نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و من شهدك بعده . فأخبرنا بما امتحنك اللّه عزّ و جلّ بعد نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم فاحتملته و صبرت ، فلو شئنا أن نصف ذلك لوصفناه علما منّا به ، إلاّ أنّا نحبّ أن نسمع منك ذلك كما سمعنا منك ما امتحنك اللّه به في حياته فأطعته فيه .

فقال عليه السلام : يا أخا اليهود إنّ اللّه عزّ و جلّ امتحنني بعد وفاة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في سبعة مواطن فوجدني فيهنّ من غير تزكية لنفسي بمنّه و نعمته صبورا .

أما أوّلهنّ يا أخا اليهود : فإنّه لم يكن لي خاصّة دون المسلمين عامة أحد

٢٣٥

آنس به أو أعتمد عليه أو أستنيم إليه أو أتقرب به غير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم .

ربانّي صغيرا و بوّأني كبيرا ، و كفاني العيلة و جبرني من اليتم ، و أغناني عن الطلب ، و وقاني المكسب ، و عال لي النفس و الولد و الأهل . هذا في تصاريف أمر الدّنيا مع ما خصّني به من الدرجات التي قادتني الى معالي الحقّ عند اللّه عزّ و جلّ فنزل بي من وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ما لم أكن أظنّ الجبال لو حملت عنوة كانت تنهض به ، فرأيت الناس من أهل بيتي بين جازع لا يملك جزعه ، و لا يضبط نفسه ، و لا يقوى على حمل فادح ما نزل به ، قد أذهب الجزع صبره و أذهل عقله ، و حال بينه و بين الفهم و الافهام ، و القول و الاستماع ، و سائر الناس من غير بني عبد المطلب بين معزّ يأمر بالصبر و بين مساعد باك لبكائهم جازع لجزعهم ، و حملت نفسي على الصبر عند وفاته بلزوم الصمت ،

و الاشتغال بما أمرني به من تجهيزه ، و تغسيله و تحنيطه ، و الصلاة عليه و وضعه في حفرته ، و جمع كتاب اللّه و عهده الى خلقه ، لا يشغلني عن ذلك بارز دمعة ، و لا هائج زفرة ، و لا لاذع حرقة ، و لا جليل مصيبة ، حتى أدّيت في ذلك الحق الواجب للّه تعالى و لرسوله علي ، و بلغت منه الذي أمرني به ،

و احتملته صابرا محتسبا . ثم التفت عليه السلام الى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا :

بلى فقال عليه السلام .

و أما الثانية يا أخا اليهود : فإنّ رسول اللّه أمّرني في حياته على جميع أمّته ، و أخذ على جميع من حضره منهم البيعة ، و السمع و الطاعة لأمري ،

و أمرهم أن يبلّغ الشاهد الغائب ذلك ، فكنت المؤدّي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أمره أنّي الأمير على من حضرني منهم إذا فارقته ، لا تختلج في نفسي منازعة أحد من الخلق لي في شي‏ء من الأمر في حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و لا بعد وفاته ، ثمّ أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بتوجيه الجيش الذي وجّهه مع اسامة بن زيد عند الذي أحدث اللّه

٢٣٦

به المرض الذي توفّاه فيه ، فلم يدع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أحدا من أفناء العرب ، و لا من الأوس و الخزرج و غيرهم من ساير الناس ممّن يخاف علي نقضه و منازعته ،

و لا أحدا ممّن يراني بعين البغضاء ممّن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه ،

إلاّ وجّهه في ذلك الجيش ، لتصفوا قلوب من يبقى معي ، و لئلاّ يقول قائل شيئا ممّا أكرهه ، و لا يدفعني دافع من الولاية ، و القيام بأمر رعيّته من بعده ، ثمّ كان آخر ما تكلّم به في شي‏ء من أمر أمّته أن يمضي جيش اسامة ، و لا يتخلّف عنه أحد ممّن أنهض معه ، و تقدّم في ذلك أشدّ التقدّم ، و أو عز فيه أبلغ الايعاز ، و أكّد فيه أكثر التأكيد ، فلم أشعر بعد أن قبض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلاّ برجال من بعث أسامة و أهل عسكره قد تركوا مراكزهم ، و أخلوا مواضعهم ، و خالفوا أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في ما أنهضهم له و أمرهم به ، و تقدّم إليه من ملازمة أميرهم ،

و السير معه تحت لوائه حتّى ينفذ لوجهه الذي أنفذه إليه ، فخلّفوا أميرهم مقيما في عسكره ، و أقبلوا يتبادرون على الخيل ركضا الى حلّ عقدة عقدها اللّه عزّ و جلّ لي و لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم في أعناقهم فحلّوها ، و نبذ عهد عاهدوا اللّه و رسوله عليه فنكثوه ، و عقدوا لأنفسهم عقدا ضجّت به أصواتهم ، و اختصّت به آراؤهم ، من غير مناظرة لأحد منّا بني عبد المطّلب ، أو مشاركة في رأي ، أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي . فعلوا ذلك و أنا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم مشغول ،

و بتجهيزه عن سائر الأشياء مصدود ، فإنّه كان أهمّها و أحقّ ما بدئ به منها ،

فكان هذا يا أخا اليهود أقرح ما ورد على قلبي من الذي أنا فيه من عظيم الرزّية ، و فاجع المصيبة ، و فقد من لا خلف منه إلاّ اللّه تعالى ، فصبرت عليها إذ أتت بعد أختها ، على تقاربها و سرعة اتّصالها . ثم التفت عليه السلام الى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .

فقال عليه السلام : و أما الثالثة يا أخا اليهود : فإنّ القائم بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم كان

٢٣٧

يلقاني معتذرا في كلّ أيّامه ، و يلوم غيره ما ارتكبه من أخذ حقّي ، و نقض بيعتي ، و يسألني تحليله فكنت أقول : تنقضي أيّامه ثم يرجع إليّ حقّي الذي جعله اللّه لي عفوا هنيئا من غير أن أحدث في الإسلام ، مع حدوثه و قرب عهده بالجاهليّة ، حدثا في طلب حقّي بمنازعة لعلّ فلانا يقول فيها : نعم ، و فلانا يقول فيها : لا . فيؤول ذلك من القول الى الفعل ، و جماعة من خواصّ أصحاب محمّد عليه السلام أعرفهم بالنصح للّه و لرسوله و لكتابه و دينه يأتوني عودا و بدءا ،

و علانية و سرّا ، فيدعونني إلى أخذ حقّي ، و يبذلون أنفسهم في نصرتي ليؤدّوا إليّ بذلك بيعتي في أعناقهم ، فأقول : رويدا و صبرا قليلا لعل اللّه يأتيني بذلك عفوا ، بلا منازعة و لا اراقة دماء فقد ارتاب كثير من الناس بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و طمع في الأمر بعده من ليس له بأهل . فقال كلّ قوم : منّا أمير ،

و ما طمع القائلون في ذلك إلاّ لتناول غيري الأمر ، فلمّا دنت وفاة القائم و انقضت أيامه صيّر ، الأمر بعده لصاحبه ، و كانت هذه اخت أختها ، و محلّها منّي مثل محلّها ، و أخذا منّي ما جعله اللّه لي ، فاجتمع إليّ من أصحاب محمّد ممّن مضى و ممّن بقي ممّن أخّره اللّه من اجتمع . فقالوا لي فيها مثل الّذي قالوا في اختها ، فلم يعد قولي الثاني قولي الأوّل ، صبرا و احتسابا ، و اشفاقا من أن تفنى عصبة تألّفهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم باللّين مرة ، و بالشدة اخرى ، و بالإنذار مرّة ،

و بالسيف اخرى ، حتّى لقد كان من تألّفه أحسن الناس في المسكن ، و الشبع و الرّي و اللباس ، و الوطاء و الدثار ، و نحن أهل بيت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم لا سقوف لبيوتنا ، و لا أبواب و لا ستور إلاّ الجرائد و ما أشبهها ، و لا وطاء لنا و لا دثار علينا ، يتداول الثوب الواحد في الصلاة أكثرنا ، و نطوي اللّيالي و الأيّام عامّتنا ،

و ربّما أتانا الشي‏ء ممّا أفاءه اللّه علينا و صيّره لنا خاصّة دون غيرنا و نحن على ما وصفت من حالنا فيؤثر به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أرباب النعم و الأموال تألّفا منه

٢٣٨

لهم فكنت أحقّ من لم يفرّق هذه العصبة التي ألّفها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و من لم يحملها على الخطّة التي لا خلاص لها منها دون بلاغها أو فناء آجالها ، لأنّي لو نصبت نفسي فدعوتهم إلى نصرتي كانوا منّي و في أمري على احدى منزلتين : إمّا متّبع مقاتل ، و إمّا مقتول ان لم يتّبع الجميع ، و إمّا خاذل يكفر بخذلانه إن قصّر في نصرتي أو أمسك عن طاعتي ، و قد علم اللّه أنّي منه بمنزلة هارون من موسى يحلّ بهم مخالفتي و الإمساك عن نصرتي ما أحلّ قوم موسى بأنفسهم في مخالفة هارون و ترك طاعته . فرأيت تجرّع الغصص ، و ردّ أنفاس الصعداء ، و لزوم الصبر حتّى يفتح اللّه لي ، أو يقضي بما أحبّ ، أزيد لي في حظّي ، و ارفق بالعصابة التي و صفت أمرهم ، و كان أمر اللّه قدرا مقدورا ،

و لو لم أتّق هذه الحالة ثم طلبت حقّي لكنت أولى ممّن طلبه لعلم من مضى من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و من بحضرتك منهم بأنّي كنت أكثر عددا ، و أعزّ عشيرة ، و أمنع رجالا ، و أطوع أمرا ، و أوضع حجّة ، و أكثر في هذا الدّين مناقب و آثارا ، لسوابقي و قرابتي و وراثتي فضلا عن استحقاقي ذلك بالوصية التي لا مخرج للعباد منها ، و البيعة المتقدمة في أعناقهم ممّن تناولها ، و قد قبض محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم و إنّ ولاية الامّة في يده و في بيته لا في يد الألى تناولوها و لا في بيوتهم ، و أهل بيته الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا ، أولى بالأمر من بعده من غيرهم في جميع الخصال . ثم التفت عليه السلام الى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .

قال : و اما الرابعة يا أخا اليهود : فإنّ القائم بعد صاحبه كان يشاورني في الامور فيصدرها عن أمري ، و يناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأيي ،

لا أعلمه أحدا و لا يعلمه أصحابي ، يناظره في ذلك غيري ، و لا يطمع في الأمر بعده سواي . فلمّا أتته منيّته على فجأة بلا مرض كان قبله ، و لا أمر كان أمضاه

٢٣٩

في صحّة من بدنه لم أشكّ أنّي قد استرجعت حقّي في عافية بالمنزلة التي كنت أطلبها ، و العاقبة التي كنت ألتمسها ، و أنّ اللّه سيأتي بذلك على أحسن ما رجوت ، و أفضل ما أمّلت ، و كان من فعله أن ختم أمره بأن سمّى قوما أنا سادسهم ، و لم يسوّني بواحد منهم ، و لا ذكر لي حالا في وراثة الرسول ، و لا قرابة و لا صهر و لا نسب ، و لا لواحد منهم مثل سابقة من سوابقي ، و لا أثر من آثاري ، و صيّرها شورى بيننا ، و صيّر ابنه فيها حاكما علينا ، و أمره أن يضرب أعناق النفر الستّة الذين صيّر الأمر فيهم إن لم ينفذوا أمره ، و كفى بالصبر على هذا يا أخا اليهود صبرا ، فمكث القوم أيّامهم كلّها كلّ يخطب نفسه ، و أنا ممسك حتّى سألوني عن أمري فناظرتهم في أيّامي و أيّامهم ، و آثاري و آثارهم ،

و أوضحت لهم ما لم يجهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم ، و ذكّرتهم عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم إليهم ، و تأكيد ما أكّده من البيعة لي في أعناقهم ، فدعاهم حبّ الإمارة ، و بسط الأيدي و الألسن في الأمر و النهي ، و الركون الى الدّنيا ،

و الاقتداء بالماضين قبلهم ، الى تناول ما لم يجعل اللّه لهم ، فإذا خلوت بواحد ذكّرته أيّام اللّه ، و حذّرته ما هو قادم عليه و صائر إليه ، التمس منّي شرطا أن أصيّرها له بعدي فلمّا لم يجدوا عندي إلاّ المحجّة البيضاء ، و الحمل على كتاب اللّه عزّ و جلّ و وصيّة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و إعطاء كلّ امرئ منهم ما جعله اللّه له ،

و منعه مما لم يجعله اللّه له ، أزالها عنّي الى ابن عفّان طمعا في الشحيح .

ثم لم أعلم القوم أمسوا من يومهم ذلك حتّى ظهرت ندامتهم ، و نكصوا على أعقابهم ، و أحال بعضهم على بعض ، كلّ يلوم نفسه و يلوم أصحابه ، ثم لم تطل الأيام بالمستبدّ بالأمر حتّى أكفروه ، و تبرّءوا منه . فكانت هذه يا أخا اليهود أكبر من اختها و أفظع فنالني منها الّذي لا يبلغ و صفه ، و لم يكن عندي إلاّ الصبر على ما هو أمضّ منها ، و لقد أتاني الباقون من الستّة من يومهم كلّ

٢٤٠