بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٤
0%
مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 597
مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 597
حقّه ، و كذلك لم يزل المؤمنون ، و أصبحت العرب تعرف لقريش حقّها بأنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلم كان منها ، و أصبحت العرب تفتخر على العجم بأنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلم كان منها ، و أصبحنا أهل البيت لا يعرف لنا حقّ . فهكذا أصبحنا يا منهال ١ .
و قالت أروى بنت الحارث بن عبد المطلب كما في ( بلاغات نساء البغدادي ) لمّا وفدت على معاوية في جملة كلامها لمعاوية « و نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم هو المنصور فوليتم علينا من بعده ، و تحتجّون بقرابتكم من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و نحن أقرب إليه منكم ، و اولى بهذا الأمر . فكنّا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون ، و كان علي بن أبي طالب عليه السلام بعد نبيّنا بمنزلة هرون من موسى .
فغايتنا الجنّة ، و غايتكم النار » ٢ .
« و ان يكن بغيره فالأنصار على دعواهم » و قد مات أبو بكر شاكّا في أمره ،
و أمر الأنصار .
روى المبرد في ( كامله ) ، و ابن قتيبة في ( خلفائه ) ، و ابن عبد ربه في ( عقده ) : أنّ أبا بكر تمنّى حين وفاته ثلاثا فعلهنّ ليته تركهنّ ، و ثلاثا تركهنّ ليته فعلهنّ ، و ثلاثا لم يسأل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم عنهنّ ليته سأله عنهنّ إلى أن قال و ليتني كنت سألته هل للأنصار فيها من حقّ الخبر ٣ .
و يقال له : ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أراد أن يكتب وصيّة لئلاّ يضلّ الناس بعده فيعرفوا وظيفتهم فمنعه صاحبك ، و قال : إنّ الرجل ليهجر ، ليصل الأمر اليك و اليه ، و الآن تتمنى سؤاله .
ــــــــــــــــــ
( ١ ) أخرجه القمي في تفسيره ٢ : ١٣٤ ، و ابن سعد في الطبقات ٥ : ١٦٢ ، و النقل بتقطيع .
( ٢ ) بلاغات النساء : ٤٣ ، و النقل بتلخيص .
( ٣ ) رواه مؤلف الإمامة و السياسة فيه ١ : ١٨ ، و ابن عبد ربه في العقد الفريد ٥ : ١٩ ، و جماعة غيرهم لكن المبرد روى صدر هذا الحديث في الكامل ١ : ٥٤ ، فقط .
قوله عليه السلام في الثالث « وا عجباه أ تكون الخلافة بالصحابة و القرابة » هكذا في ( المصرية ) و هو غلط واضح ، و الصحيح ما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) ١ و غيرها : « وا عجباه أ تكون الخلافة بالصحابة ، و لا تكون بالصحابة و القرابة » .
قال الكراجكي في كنزه : و من العجب أن يجتمعوا في السقيفة لطلب الخلافة فتحتجّ الأنصار بأنّها تستحقّها بنصرتها للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و تحتجّ المهاجرون بقربهم منه و ليس فيهم من يذكر أمير المؤمنين صلّى اللّه عليه و آله و سلم الّذي لا يلحقه الأنصاري في نصرة ، و لا يدانيه القريشي في قرابة ، و من العجب قول القريشي : إنّ الخلافة لا تكون إلاّ من حيث النبوّة ، و انّها تستحقّها بذلك لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم من قريش ، و لم يقل لها أحد في الحال : إنّ بني هاشم أولى منكم بها على هذه الحجّة ، لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم من بني هاشم . لكن صرفهم عن أن يحاجّوهم بهذا اتفاق جميع من حضر السقيفة على صرف الأمر عن أهله ،
و منعه عن مستحقه ، و من عجيب أمرهم دعواهم أنّ إمامة أبي بكر تثبت عن إذن من أهل الحل و العقد ، و اختيار و تأمّل هذا مع سماعهم قول عمر « كانت بيعة أبي بكر فلتة و قى اللّه المسلمين شرّها ، فمن عاد الى مثلها فاقتلوه » فشهدوا أنّها كانت قد وقعت بغتة من غير رويّة ، و حصلت فجأة من غير مشهورة ، و في هذا غاية الذم و التكذيب لهم فيما ادّعوه من التهديد بسفك دم من عاد إلى مثلها ٢ .
و في ( سقيفة الجوهري ) : عن أبي الأسود قال : غضب رجال من
ــــــــــــــــــ
( ١ ) كذا في تكملة شرح الخوئي ٢١ ، ٢٦٢ ، طبعة المكتبة الاسلامية ، لكن لفظ شرح ابن أبي الحديد ٤ : ٣٢٩ ، و شرح ابن ميثم ٥ : ٣٤١ ، أيضا نحو المصرية .
( ٢ ) هذا كلام الكراجكي في رسالة التعجب : ١٣ و ١٤ ، و النقل بتقطيع .
المهاجرين في بيعة أبي بكر بغير مشورة ، و غضب علي و الزبير . فدخلا بيت فاطمة معهما السلاح فجاء عمر في عصابة ، منهم أسيد بن حضير ، و سلمة بن سلامة بن قريش و هما من بني عبد الأشهل ، فاقتحما الدار ، فصاحت فاطمة عليها السلام و ناشدتهم ، فأخذوا سيفي علي و الزبير فضربوا بهما الجدار حتّى كسروهما . ثم أخرجهما عمر يسوقهما حتّى بايعا . ثم قام أبو بكر فخطب الناس ، و اعتذر إليهم ، و قال : إنّ بيعتي كانت فلتة و قى اللّه شرّها الخبر ١ .
و في ( ارشاد المفيد ) : و اغتنم القوم ( في السقيفة ) الفرصة لشغل أمير المؤمنين عليه السلام برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و انقطاع بني هاشم عنهم بمصابهم بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله . فتبادروا ، و اتّفق لأبي بكر ما اتّفق من اختلاف الأنصار بينهم و كراهية الطلقاء و المؤلفة قلوبهم من تأخر الأمر حتّى يفرغ بنو هاشم فيستقرّ الأمر مقره . فبايعوا أبا بكر لحضوره المكان ، و كانت أسباب معروفة تيسّر للقوم منها ما راموه الخ ٢ .
قوله المصنّف : « و روي له شعر في هذا المعنى :
« فإن كنت بالشورى ملكت امورهم
فكيف بهذا و المشيرون غيّب
و إن كنت بالقربى حججت خصيمهم
فغيرك أولى بالنبي و أقرب »
و قال الكراجكي بعد نقل قول من قال : إن الشعر له عليه السلام و قيل : إنّه قول قيس بن سعد بن عبادة ، و إنما تمثّل به أمير المؤمنين عليه السلام ، و قد أخذ الكميت هذا المعنى . فقال :
فإن هي لم تصلح لخلق سواهم
فإنّ ذوي القربى أحقّ و أوجب ٣ .
ــــــــــــــــــ
( ١ ) السقيفة : ٧٠ ، و النقل بتصرف .
( ٢ ) الارشاد : ١٠١ ، و النقل بتقطيع .
( ٣ ) رسالة التعجب : ١٣ .
قلت : لا بدّ أنه أراد أخذ المعنى في غير مورد خلافة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم .
هذا و للّه درّ القائل في غصب خلافته و مدفنه :
بأيّ حكم بنوه يتبعونكم
و فخركم أنكم صحب له تبع
و كيف ضاقت عن الأهلين تربته
و للأجانب في جنبيه متّسع
و فيم صيّرتم الإجماع حجّتكم
و الناس ما اتّفقوا طوارا و لا اجتمعوا
أمر علي بعيد من مشورته
مستكره فيه و العباس يمتنع
و بدعة قريش بالقرابة و الأنصار
لا رفعوا فيه و لا وضعوا
فأيّ خلف كخلف كان بينهم
لو لا تلفق اخبار و مصطنع
و قال كثيّر الشاعر كما في أنساب قريش مصعب الزبيري :
يأمن الظبي و الحمام و لا
يأمن آل الرسول عند المقام
حفظوا خاتما و سحق رداء
و أضاعوا قرابة الأرحام ١
و في ( خلفاء ابن قتيبة ) : قال المغيرة بن شعبة لأبي بكر : « أرى أن تلقوا العباس ، فتجعلوا له في هذا الأمر نصيبا يكون له و لعقبه ، و تكون لكما الحجّة على علي و بني هاشم إذا كان العباس معكم » فانطلق أبو بكر و عمر و أبو عبيدة حتّى دخلوا على العباس إلى أن قال قال : فخلّى النبي على الناس أمرهم ليختاروا لأنفسهم في مصلحتهم متّفقين لا مختلفين . فاختاروني عليهم واليا ،
و لامورهم راعيا ، و ما أخاف بحمد اللّه و هنا ، و ما زال يبلغني عن طاعن يطعن بخلاف ما اجتمعت عليه عامة المسلمين و يتخذونكم لحافا . فأحذروا أن تكونوا جهد المنيع ، فإمّا دخلتم في ما دخل فيه العامة أو دفعتموها عمّا مالوا إليه ، و قد جئناك ، و نحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيبا يكون لك و لعقبك من بعدك ، إذ كنت عم النبي ، و ان كان الناس قد رأوا مكانك و مكان
ــــــــــــــــــ
( ١ ) نسب قريش : ٦ ، و النقل بحذف بعض الأبيات .
أصحابك فعدلوا الأمر عنكم إلى أن قال :
قال العباس له : فإن كنت برسول اللّه طلبت فحقّنا أخذت ، و إن كنت بالمؤمنين طلبت ، فنحن متقدّمون فيهم ، و إن كان هذا الأمر إنّما يجب لك بالمؤمنين ، فما وجب إذ كنّا كارهين . فإمّا بذلت لنا فإن يكن حقا لك فلا حاجة لنا فيه ، و إن يكن حقا للمؤمنين ، فليس لك أن تحكم عليهم ، و إن كان حقّنا لم نرض عنك فيه ببعض ١ .
قوله المصنّف في ( خصائصه ) : « و يروى : و القرابة و النص » ٢ أمّا قرابته عليه السلام فعنه عليه السلام لو استطاع مخالفوه إنكارها لأنكروها ، و أمّا النصوص عليه فمع كونهم بصدد إخفائها بأنحاء مختلفة لم يقدروا ، و لم نتعرض لذكرها بعد تواترها و نقل المخالف لها ، و لأنّ استقصاءها يحتاج الى مجلّدات ضخمة ،
و قد كفانا ذلك رجال منهم و منّا كالطبري و ابن عقدة و غيرهما .
و في ( ادباء الحموي ) في ترجمة الطبري : و للطبري كتاب ( فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام ) تكلّم في أوّله بصحّة الأخبار الواردة في غدير خم . ثم تلاه بالفضائل ، و كان قد قال بعض الشيوخ ببغداد بتكذيب غدير خم ، و قال : كان علي باليمن في الوقت الّذي كان النبي بغدير خم . فقال في قصيدة له :
ثمّ مررنا بغدير خم
كم قائل فيه بزور جمّ
على علي و النبي الامّي
فبلغ ذلك الطبري ، فابتدأ بالكلام في فضائل علي عليه السلام و ذكر طرق حديث خم ٣ .
ــــــــــــــــــ
( ١ ) الإمامة و السياسة ١ : ١٥ ، و النقل بتصرف يسير .
( ٢ ) خصائص الأئمة : ٨٦ .
( ٣ ) معجم الادباء ١٨ ، ٨٤ ، و ٨٥ ، و النقل بالمعنى .
و قد نظمه شعراء منهم كحسّان العثماني و غيره ، و شعراء منّا كقيس بن سعد بن عبادة و غيره من المتقدّمين و المتأخّرين . و لو اريد استقصاءها لاحتيج أيضا إلى مجلّدات ، و لكن نكتفي تيّمنا بقول كميت ، و قول الحميري .
أمّا الكميت فقال :
و يوم الدوح دوح غدير خمّ
أبان له الولاية لو اطيعا
و لكنّ الرجال تبايعوها
فلم أر مثلها خطرا منيعا
نقل هذه الأبيات سبط ابن الجوزي و قال : و لها قصّة عجيبة حدّثنا بها شيخنا عمرو بن صافي الموصلي قال : أنشد بعضهم هذه الأبيات و بات مفكّرا فرأى عليا عليه السلام في المنام . فقال له : اعد علي أبيات كميت . فأنشده إيّاها حتى بلغ إلى قوله خطرا منيعا فأنشده علي عليه السلام بيتا آخر من قوله زيادة فيها :
فلم أر مثل ذلك اليوم يوما
و لم أر مثله حقّا اضيعا
فانتبه الرجل مذعورا ، و أمّا الحميري فقال :
قالوا له لو شئت أعلمتنا
إلى من الغاية و المفزع
فقال في الناس النبي الّذي
كان بما قيل له يصدع
و كان مأمورا و في كفّه
كفّ علي لهم تلمع
من كنت مولاه فهذا له
مولى فلم يرضوا و لم يقنعوا ١
نقلها المصنّف في ( خصائصه ) ، و قال : « و لهذه الأبيات حديث شريف ،
حكي أنّ زيد بن موسى بن جعفر رأى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في المنام كأنّه جالس مع أمير المؤمنين عليه السلام في موضع عال شبيه بالمسنّاة ، و عليها مراق . فإذا منشد ينشد قصيدة الحميري حتّى انتهى إلى قوله :
قالوا له لو شئت أعلمتنا
إلى من الغاية و المفزع
ــــــــــــــــــ
( ١ ) تذكرة الخواص : ٣٣ .
فنظر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلى أمير المؤمنين عليه السلام و تبسّم و قال : أ و لم أعلمهم أ و لم أعلمهم ثلاثا ١ .
فإن قلت : إنّ إخلاص الأنصار لأمير المؤمنين عليه السلام لم يكن مختلفا فيه ،
و انّما الاختلاف في قريش ، فلو كان نصّ عليه عليه السلام لما اقدم سعد بن عبادة على ما اقدم ، و لما شهد السقيفة قبل أبي بكر و عمر ، و حضّ الأنصار على اختيارهم له .
قلت : إنّ سعد بن عبادة علم أنّ قريشا لا يخلّون الأمر لأهله ، لكون ذلك معلوما من أفعالهم من أوّل أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و صار الأمر كالعيان عنده بتخلّفهم عن جيش اسامة مع حثّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم على تجهيزه و إشخاصه ،
و لعنه المتخلّف عنه و منعهم له صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن الوصية ، و نسبة الهجر إليه ،
و تقدمهم للصلاة بالناس في مرضه حتّى اضطر صلّى اللّه عليه و آله و سلم مع شدة مرضه أن يتّكئ على نفرين و يشهد المسجد و يؤخّره ، إتماما للحجّة ، و دفعا للشبهة ،
و غير ذلك . فرأى نفسه أولى ، لحصول الاستقلال للاسلام بقومه ، و عدم حصول أثر في الاسلام من وجود المدّعين ، لا في جهاد و لا في غيره ، و لأنّه رأى معاضدة الطلقاء لهم ، و علم أنّهم إن غلبوا يذلّوهم و يطلبوا ثارهم عندهم ،
كما صرّح بذلك الحباب بن المنذر من عشيرته كما مرّ .
و في ( رسائل محمّد بن يعقوب الكليني ) : قال أمير المؤمنين عليه السلام في جملة ما كتب للناس بعد منصرفه من النهروان لمّا كانوا سألوه عن رأيه في أبي بكر و عمر « و لقد كان سعد لمّا رأى الناس يبايعون أبا بكر نادى أيّها الناس إنّي و اللّه ما أردتها حتّى رأيتكم تصرفونها عن علي عليه السلام ، و لا ابايعكم
ــــــــــــــــــ
( ١ ) خصائص الأئمة : ٨ .
حتّى يبايع علي عليه السلام ، و لعلّي لا أفعل و إن بايع » . ثم ركب دابته و أتى حوران ١ .
و فيه أيضا أنّ الأنصار قالوا لقريش : أمّا إذ لم تسلّموها لعليّ عليه السلام فصاحبنا أحقّ بها من غيره ٢ .
و مع ذلك كان اقدام الأنصار ذاك خطأ مع علمهم بأنّ الأمر حق أمير المؤمنين عليه السلام ، و كونهم مأمورين بالدفاع عنه ، و لم يفعلوا . روى الجوهري في ( سقيفته ) عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : كنت ابايع الأنصار للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم على السمع و الطاعة له في المحبوب و المكروه . فلمّا عزّ الإسلام و كثر أهله قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم : يا علي زدها « على أن تمنعوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و أهل بيته مما تمنعون منه أنفسكم و ذراريكم » فحملها على ظهور القوم فوفى بها من وفى ، و هلك من هلك ٣ .
و ممّا يدلّ على تفريط الأنصار في أمره عليه السلام و تقصيرهم ، مضافا إلى تصريحات سيّدة النساء صلوات اللّه عليها في خطبها ، و تلويحات أمير المؤمنين عليه السلام في كلماته كقوله عليه السلام « و سخت عنها نفوس آخرين » ٤ و أمثاله أنّهم لم يتمكّنوا من أخذ البيعة عن سعد قهرا فقال لهم بشير ابن عم سعد الحاسد له حتّى بايع أبا بكر قبل عمر « لا تأخذون البيعة منه قهرا حتّى تقتلوا جميع الأنصار خزرجهم و اوسهم » ٥ و أمّا هو عليه السلام فأخذوا منه البيعة مع كونه منصوبا من اللّه و رسوله قسرا فكتب إليه معاوية « كنت تقاد إلى بيعة
ــــــــــــــــــ
( ١ ) رواه عن رسائل الكليني ابن طاووس في كشف المحجة : ١٧٧ .
( ٢ ) كشف المحجة : ١٧٦ .
( ٣ ) السقيفة : ٦٩ ، و النقل بتصرف .
( ٤ ) رواه الشريف الرضي في نهج البلاغة ٢ : ٦٤ ، الخطبة ٦٠ ، و ٣ : ٧١ ، الكتاب ٤٥ .
( ٥ ) جاء هذا المعنى في تاريخ الطبري ٢ : ٤٥٩ ، سنة ١١ ، و الإمامة و السياسة ١ : ١٠ ، و غيرهما.
أبي بكر كما يقاد الجمل المخشوش » ١ و حتّى لاذ عليه السلام بقبر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و قال :
« يا ابن ام انّ القوم استضعفوني و كادوا يقتلوني » ٢ و أرادوا إحراق بيته لو لم يخرج ، و ضرب عنقه لو لم يبايع .
١٥
الكتاب ( ٦٢ ) و من كتاب له عليه السلام إلى أهل مصر مع مالك الأشتر رحمه اللّه لمّا ولاّه إمارتها :
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ ؟ مُحَمَّداً ص ؟ نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ وَ مُهَيْمِناً عَلَى اَلْمُرْسَلِينَ فَلَمَّا مَضَى ؟ مُحَمَّداً ع ؟ تَنَازَعَ اَلْمُسْلِمُونَ اَلْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ فَوَاللَّهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي وَ لاَ يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ اَلْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا اَلْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ ص عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَ لاَ أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ فَمَا رَاعَنِي إِلاَّ اِنْثِيَالُ اَلنَّاسِ عَلَى فُلاَنٍ يُبَايِعُونَهُ فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ اَلنَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ اَلْإِسْلاَمِ يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ ؟ مُحَمَّدٍ ص ؟ فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ اَلْإِسْلاَمَ وَ أَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ اَلْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلاَيَتِكُمُ اَلَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلاَئِلَ يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ اَلسَّرَابُ وَ كَمَا يَتَقَشَّعُ اَلسَّحَابُ فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ اَلْأَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ اَلْبَاطِلُ وَ زَهَقَ وَ اِطْمَأَنَّ اَلدِّينُ وَ تَنَهْنَهَ قول المصنّف : « و من كتاب له عليه السلام إلى أهل مصر مع مالك الأشتر
ــــــــــــــــــ
( ١ ) روى هذا المعنى ابن مزاحم في وقعة صفين : ٨٧ ، و ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ٤٥٧ ، شرح الكتاب ٢٨ ، و غيرهما .
( ٢ ) الإمامة و السياسة ١ : ١٣ ، و غيره .
لما ولاّه إمارتها » .
أقول : الّذي وجدت الرواية عنه عليه السلام في هذه المضامين خطبته عليه السلام بها بالكوفة بعد فتح مصر و قتل محمّد بن أبي بكر ، و كان قتله بعد قتل مالك الاشتر و سؤال الناس له عن عقيدته في أبي بكر و عمر .
روى ذلك ابن قتيبة في ( خلفائه ) ، و ابراهيم الثقفي في ( غاراته ) ، و محمد بن يعقوب الكليني في ( رسائله ) ، و محمّد بن جرير بن رستم الطبري في ( مستر شده ) .
قال الأوّل بعد ذكره حث أمير المؤمنين عليه السلام الناس على الجهاد و اخباره إيّاهم بما يفعل بنو امية بهم بعده عليه السلام فقام حجر بن عدى و عمرو بن الحمق ، و عبد اللّه بن وهب الراسبي . فدخلوا على علي عليه السلام فسألوه عن أبي بكر و عمر ما يقول فيهما ، و قالوا بيّن لنا قولك فيهما و في عثمان ؟ قال علي عليه السلام : و قد تفرّغتم لهذا و هذه مصر قد افتتحت ، و شيعتي فيها قد قتلت . إنّي مخرج إليكم كتابا انبّئكم فيه ما سألتموني عنه فاقرؤوه على شيعتي . فأخرج إليهم كتابا فيه « أما بعد فإنّ اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلم نذيرا للعالمين ، و أمينا على التنزيل ، و شهيدا على هذه الامّة إلى أن قال بعد ذكر حال العرب وقت بعثه صلّى اللّه عليه و آله و سلم :
فلمّا مضى صلّى اللّه عليه و آله و سلم تنازع المسلمون الأمر بعده . فو اللّه ما كان يلقى في روعي ، و لا يخطر على بالي أنّ العرب تعدل هذا الأمر عنّي . فما راعني إلاّ إقبال الناس على أبي بكر . و إجفالهم عليه . فأمسكت يدي ، و رأيت أنّي أحقّ بمقام محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم في الناس ممّن تولّى الامور علي . فلبثت بذلك ما شاء اللّه حتّى رأيت راجعة من الناس رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محو دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم و ملّة ابراهيم عليه السلام . فخشيت إن لم أنصر الاسلام و أهله أن أرى
في الاسلام ثلما و هدما تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولاية أمركم الّتي إنّما هي متاع أيّام قلائل ، ثم يزول ما كان منها كما يزول السراب . فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فبايعته ، و نهضت معه في تلك الأحداث حتّى زهق الباطل .
و كانت كلمة اللّه هي العليا و أن يرغم الكافرون الخبر بطوله و فيه ذكر أيّام عمر و شوراه ، و إعراض أهل الشورى عنه عليه السلام ليأسهم عن أن يشركهم في أمره و فيه ذكر أيّام عثمان ، و قتل الناس له ، و بيعة الناس له بعده ، و قيام الناكثين ، و القاسطين و المارقين ، و غارات معاوية ، و خذلان أصحابه له ١ .
و روى الثاني كما في ابن أبي الحديد في عنوان كلامه عليه السلام في قتل محمّد بن أبي بكر عن رجاله عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه قال : خطب علي عليه السلام بعد فتح مصر ، و قتل محمّد بن أبي بكر . فقال : « أما بعد فإنّ اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلم نذيرا للعالمين ، و أمينا على التنزيل ، و شهيدا على هذه الامّة إلى أن قال فلمّا مضى صلّى اللّه عليه و آله و سلم لسبيله تنازع المسلمون الأمر بعده . فو اللّه ما كان يلقى في روعي ، و لا يخطر على بالي أنّ العرب تعدل هذا الأمر بعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن أهل بيته ، و لا أنّهم منحّوه عنّي من بعده . فما راعني إلاّ انثيال الناس على أبي بكر و إجفالهم اليه ليبايعوه ، فأمسكت يدي ، و رأيت أنّي أحقّ بمقام محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم في الناس ممّن تولّى الأمر من بعده . فلبثت بذاك ما شاء اللّه حتّى رأيت راجعة من الناس رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين اللّه و ملّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم فخشيت إن لم أنصر الإسلام و اهله أن أرى فيه ثلما و هدما يكون المصاب بهما علي أعظم من فوات ولاية اموركم الّتي إنّما هي متاع أيّام قلائل ، ثم يزول ما كان منها كما يزول السراب ، و كما يتقشّع السحاب ،
فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فبايعته ، و نهضت في تلك الأحداث حتّى زاغ
ــــــــــــــــــ
( ١ ) الإمامة و السياسة ١ : ١٥٤ .
الباطل و زهق ، و كان كلمة اللّه هي العليا و لو كره الكافرون » الخبر ١ .
و روى الثالث في ( رسائله ) كما في محجّة علي بن طاووس عن القمي باسناده قال : كتب أمير المؤمنين عليه السلام كتابا بعد منصرفه من النهروان و أمر أن يقرأ على الناس . و ذلك أنّ الناس سألوه عن أبي بكر و عمر و عثمان .
فغضب عليه السلام و قال : قد تفرّغتم للسؤال عمّا لا يعنيكم و هذه مصر قد انفتحت و قتل معاوية بن حديج محمّد بن أبي بكر فيالها من مصيبة ما اعظمها بمصيبتي بمحمّد . فو اللّه ما كان إلاّ كبعض بنيّ سبحان اللّه ، بينا نحن نرجو أن نغلب القوم على ما في أيديهم إذ غلبونا على ما في أيدينا . و أنا كاتب لكم كتابا فيه تصريح ما سألتم إن شاء اللّه تعالى . فدعا كاتبه عبيد اللّه بن أبي رافع فقال له : أدخل علي عشرة من ثقاتي . فقال سمّهم لي يا أمير المؤمنين . فقال : أدخل أصبغ بن نباتة ، و ابا الطفيل ، و زرّ بن حبيش الأسدي ، و جويرية بن مسهّر العبدي ، و خندف بن زهير ، و حارثة بن مضرب الهمداني ، و الحارث بن عبد اللّه الأعور الهمداني و مصباح النخعي ، و علقمة بن قيس ، و كميل بن زياد ، و عمير بن زرارة . فدخلوا عليه . فقال لهم : خذوا هذا الكتاب و ليقرأه عبيد اللّه بن أبي رافع ، و أنتم شهود كلّ يوم جمعة . فإن شغب شاغب عليكم ، فأنصفوه بكتاب اللّه بينكم و بينه إلى أن قال :
فمضى لسبيله صلّى اللّه عليه و آله و سلم و ترك كتاب اللّه ، و أهل بيته إمامين لا يختلفان ،
و أخوين لا يتخاذلان ، و مجتمعين لا يتفرّقان ، و لقد قبض اللّه محمّدا نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و لأنّا أولى الناس به منّي بقميصي هذا ، و ما ألقي في روعي ، و لا عرض في رأيي انّ وجه الناس إلى غيري إلى أن قال :
ــــــــــــــــــ
( ١ ) رواه الثقفي في الغارات ١ : ٣٠٢ ، و عنه ابن أبي الحديد في شرحه ٢ : ٣٥ ، شرح الخطبة ٦٦ ، و اللفظ لابن أبي الحديد .
فلمّا رأيت الناس قد انثالوا على أبي بكر للبيعة أمسكت يدي ، و ظننت أنّي أولى و أحقّ بمقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم منه و من غيره إلى أن قال :
فلمّا رأيت راجعة من الناس قد رجعت من الإسلام تدعو إلى محو دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم و ملّة إبراهيم عليه السلام خشيت إن أنا لم أنصر الإسلام و أهله أرى فيه ثلما و هدما تكون المصيبة علي فيه أعظم من فوت ولاية اموركم الّتي إنّما هي متاع أيّام قلائل ثم تزول و تتقشع كما يزول و يتقشع السحاب . فنهضت مع القوم في تلك الأحداث حتّى زهق الباطل ، و كانت كلمة اللّه هي العليا ، و ان رغم الكافرون الخبر ١ .
و في ( مسترشد ) ابن جرير بن رستم الطبري روى الشعبي عن شريح بن هاني قال : خطب علي عليه السلام بعد ما افتتحت مصر ثم قال : و إنّي مخرج إليكم كتابا إلى أن قال فلمّا مضى صلّى اللّه عليه و آله و سلم لسبيله ترك كتاب اللّه و أهل بيته إمامين لا يختلفان ، و أخوين لا يتخاذلان ، و مجتمعين لا يفترقان ، و قد كنت أولى الناس به منّى بقميصي . فسارع المسلمون بعده فو اللّه ما كان يلقى في روعي و لا يخطر على بالي انّ العرب تعدل هذا الأمر بعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم عنّي . فلمّا ابطأوا بالولاية علي ، و همّوا بإزالتها عنّي ، و ثبت الأنصار و هم كتيبة الإسلام فقالت : إذ لم تسلموها لعليّ فصاحبنا سعد أحقّ بها من غيره إلى أن قال :
فبينا أنا على ذلك إذ قيل انثال الناس على أبي بكر و أجفلوا عليه ليبايعوه ، و ما ظننت أنّه تخلّف عن جيش اسامة إذ كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قد أمّره عليه و على صاحبه ، و قد كان أمر أن يجهّز جيش اسامة . فلمّا رأيته قد تخلّف و طمع في الامارة ، و رأيت انثيال الناس عليه أمسكت يدي ، و رأيت أنّي أحقّ بمقام محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم في الناس ممّن قد رفض نفسه . فلبث ما شاء اللّه حتّى رأيت
ــــــــــــــــــ
( ١ ) كشف المحجة : ١٧٣ .
راجعة من الناس رجعت عن الإسلام ، و أظهرت ذلك إلى محو دين اللّه و تغيير ملّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم فخشيت إن لم أنصر الإسلام و قعدت ، أن أرى فيه ثلما و هدما تكون مصيبته علي أعظم من فوت ولاية اموركم الّتي إنّما هي متاع أيّام قلائل ، ثم يزول ما كان منها كما يزول السراب ، و ينقشع السحاب ، و رأيت الناس قد امتنعوا بقعودي عن الخروج إليهم ، فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فتألّفته ، و لو لا أنّي فعلت ذلك لباد الاسلام . ثم نهضت في تلك الأحداث حتّى أتاح الباطل ، و كانت كلمة اللّه هي العليا و لو كره المشركون الخبر ١ .
و بالجملة فالروايات الأربع متفقة على كون العنوان مما خطب عليه السلام كتابة للناس بالكوفة بعد فتح مصر بقتل محمّد بن أبي بكر في شرح حاله عليه السلام بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لمّا سألوه عن المتقدّمين عليه ، و وجود رواية اخرى في كونه كتابا له عليه السلام إلى أهل مصر مع الأشتر و استند إليها المصنّف محتمل ، لكنّ المظنون أنّ المصنّف لم ينظر في الأسانيد لكون همّه في المتون ، فظنّ بحدسه كونه كتابا له عليه السلام إلى أهل مصر .
« أمّا بعد فانّ اللّه سبحانه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلم نذيرا للعالمين » قد عرفت انّ في رواية ( المسترشد ) بدل « نذيرا للعالمين » « بشيرا و نذيرا للعالمين » .
« و مهيمنا على المرسلين » أي : شاهدا عليهم قال الجوهري : و أصل « مهيمن » مؤامن من « آمن » قلبت الهمزة الثانية ياء كراهة لاجتماعهما ثم صيّرت الاولى هاء ٢ .
قلت : مراده من « آمن » على وزن فاعل لا على وزن أفعل ففي مثله يتّحدان لفظا و يختلفان تقديرا ثم بعد هذا الكلام كلام كثير في تلك الروايات
ــــــــــــــــــ
( ١ ) المسترشد : ٩٥ ٩٧ .
( ٢ ) صحاح اللغة ٦ : ٢٢١٧ ، مادة ( همن ) .
أسقطه المصنّف . ففي رواية الكليني : « و أنتم معاشر العرب على شر حال يغذو أحدكم كلبه ، و يقتل ولده ، و يغير على غيره فيرجع و قد اغير عليه ،
تأكلون العلهز و الهبيد ، و الميتة و الدم . منيخون على أحجار خشن ، و أوثان مضلّة . . . » ١ .
« فلمّا مضى عليه السلام » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : بدل « عليه السلام » « صلّى اللّه عليه و آله » كما في ( ابن ميثم ) ٢ الّذي نسخته بخطّ المصنّف .
ثم في رواية ( المسترشد ) و ( الرسائل ) : « و ترك كتاب اللّه ، و أهل بيته إمامين لا يختلفان ، و أخوين لا يتخاذلان ، و مجتمعين لا يفترقان ، و قد كنت أولى الناس به منّي بقميصي » ٣ .
« تنازع المسلمون » أي : قريش و الأنصار .
« الأمر من بعده » بشرح مرّ في العنوان السابق .
« فو اللّه ما كان يلقى في روعي » روع : هنا بالضم بمعنى القلب و البال ، و أما بالفتح فبمعنى الخوف ، و لا ربط له هنا .
« و لا يخطر ببالي » قال الجوهري : « البال : القلب تقول : ما يخطر فلان ببالي و البال رخاء النفس ، يقال : فلان رخّيّ البال » ٤ .
قلت : الصواب مما قال ، المعنى الأوّل . و أمّا الثاني فغلط منه لكونه تفسير مطلق بمقيد ، كأن تقول : معنى الانسان الانسان العالم .
« أنّ العرب تزعج » أي : تقلع .
« هذا الأمر من بعده صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن أهل بيته » فإنّ القاعدة عند ملل العالم أنّ كلّ
ــــــــــــــــــ
( ١ ) كشف المحجة : ١٧٤ .
( ٢ ) لفظ شرح ابن ميثم ٥ : ٢٠٠ ، أيضا « عليه السلام » .
( ٣ ) لفظ كشف المحجة : ١٧٥ ، « و لقد قبض اللّه محمّدا نبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و لأنا اولى الناس به منّي بقميصي هذا .
( ٤ ) صحاح اللغة ٤ : ١٦٤٢ ، مادة ( بول ) .
من كانت له أمارة تكون أمارته بعده لأهل بيته » . فلا يظنّ ظانّ انّ العرب تخالف عرف باقى العالم .
و الى هذا ينظر قوله تعالى : إنّ اللّه اصطفى آدم و نوحا و آل ابراهيم و آل عمران على العالمين ذرّيّة بعضها من بعض ١ .
و لهذه القاعدة لمّا سأل السلطان سنجر بن ملكشاه السلجوقي و كان على طريقة أهل السنّة السنائي الشاعر و كان إماميا عن مذهبه أجابه بأبيات بالفارسيّة منها :
از پى سلطان ملكشاه چون نميدارى روا
تاج و تخت پادشاهى جز كه سنجر داشتن
از پى سلطان دين چون همى دارى روا
جز على و عترتش محراب و منبر داشتن
« و لا أنّهم منحّوه » بتشديد الحاء : أي : مبعّدوه .
« عنّي من بعده » و في هذا الكتاب في رواية ( رسائل الكليني ) بعد ذكر اتّفاق أهل الشورى و باقي قريش على خلافه « فكان للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ولاء هذه الامّة و كان لي بعده ما كان له ، فما جاز لقريش من فضلها عليها ( أي العرب ) بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم جاز لبني هاشم على قريش ، و جاز لي على بني هاشم بقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يوم غدير خم : « من كنت مولاه فهذا علي مولاه » إلاّ أن تدّعي قريش فضلها على العرب بغير النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم » ٢ .
و قال ابن عائشة : قال خزيمة بن ثابت الأنصاري في صرف الأمر عنه عليه السلام :
ــــــــــــــــــ
( ١ ) آل عمران : ٣٣ ٣٤ .
( ٢ ) كشف المحجة : ١٧٨ .
ما كنت أحسب هذا الأمر منصرفا
عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أوّل من صلّى بقبلتهم
و أعرف الناس بالآثار و السنن
و آخر الناس عهدا بالنبيّ و من
جبريل عون له في الغسل و الكفن
ماذا الّذي ردّكم عنه فنعلمه
ها إنّ بيعتكم من أغبن الغبن
و حيث إنّ قوله عليه السلام « فو اللّه ما كان يلقى في روعي إلى و لا أنّهم منحّوه عنّي من بعده » ورد في ذاك المقام الّذي قلنا من كون الأمر له بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم على مقتضى ناموس الفطرة و القاعدة المتداولة بين الناس عربهم و عجمهم ، و كون خلافه امرا لا يحتمله أحد و لا ينتظره ، لا ينافي وجود نصوص متواترة باستخلافه و عدم استناده عليه السلام إليها ، لأنّ مقامات الكلام متفاوتة ، و حيثيّات الأغراض مختلفة فقول ابن أبي الحديد إنّ ذاك الكلام يدلّ على بطلان دعوى الإمامية النصّ و خصوصا الجليّ ١ نفخ في غير ضرام .
ثم قوله : دعوى الامامية النص الخ غلط ، فنقل النص نصاب العامة ،
و قوله « خصوصا الجلى » أيضا غلط فهل نصّ أجلى من أن يقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لهم « أ لست أولى بكم من أنفسكم » فيقولون : بلى فيقول لهم : « من كنت مولاه ،
أي أولى به من نفسه ، فهذا علي مولاه و أولى به من نفسه » إلاّ انّها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب الّتي في الصدور .
مع أنّه عليه السلام تمسّك بالنّص في هذا الكتاب كما عرفته من رواية الكليني ،
و لم ينقله الرضي حيث إنّه يختار من الكلام ما يتضمّن النكات البيانية .
مع أنّه لا يتمسّك بالنصّ فكان عليه السلام يتّقي حتّى أيّام خلافته كما يفهم من أسانيد هذا العنوان ، فكان لا يمكنه التصريح بهلاكة المتقدّمين عليه ، و لم يجترئ أن يخطب بالعنوان مشافهة حتّى كتبه لهم كما عرفته من رواية ابن
ــــــــــــــــــ
( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٤ : ١٦٥ .
قتيبة ، و حتّى أنّه و كلّ جمعا من ثقات شيعته بمراقبة القاري إن شغب عليه الناس كما عرفته من رواية الرسائل .
و تدلّ أسانيد العنوان على أنّ أصحابه فهموا من حاله عليه السلام كونه كشيعته اليوم معتقدا فيهم الهلاكة و أرادوا منه التصريح ، و لم يكن صلاحا له عليه السلام لا سيّما و أنّ ذاك الوقت كان وقت تزلزل أمره ، و فتح معاوية لمصر ،
و غاراته على بلاده عليه السلام سوى الكوفة مقرّه . فقال عليه السلام لهم : أو قد تفرّغتم لهذا و هذه مصر قد افتتحت و شيعتي بها قد قتلوا .
و كان أكثر أصحابه غير عارف به ، و كان معاوية دائما يكتب إليه عليه السلام بما يستثيره في المتقدّمين عليه . فيفصح ببطلان أمرهم فيتفرق أصحابه عنه .
فكان يكتب إليه كرارا « كنت كارها للخلفاء باغيا عليهم قد عرفنا ذلك في نظرك الشزر و تنفّسك الصعداء » ١ .
و قد أفصح معاوية عن غرضه ذلك في كتابه إلى الحسن عليه السلام بعد أمير المؤمنين عليه السلام لمّا كان عليه السلام كتب إليه « انّ قريشا بغوا على أهل بيت نبيّهم بعده » في قوله « صرّحت بتهمة أبي بكر الصديق ، و عمر الفاروق ، و أبي عبيدة الأمين و حواري النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و صلحاء المهاجرين و الأنصار ، فكرهت ذلك لك . فانّك امرؤ عندنا و عند الناس غير ظنين » ٢ كما عرفت في سابقه .
و مع ذلك كان أمير المؤمنين عليه السلام لم يبال بذلك ، فيظهر الحقّ لمن كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد ، إتماما للحجّة ، كما لم يبال بفوت حكومته الّتي جعلها اللّه تعالى له يوم الشورى لمّا شرطوا عليه سنّة الشيخين كما لم يبال بتفرّق الناس عنه بترك تفضيله الأشراف كعمر لكونه خلاف حكم اللّه .
ــــــــــــــــــ
( ١ ) رواه ابن مزاحم في وقعة صفين : ٨٧ ، و ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ٤٥٧ ، شرح الكتاب ٢٨ ، و النقل بتصرف .
( ٢ ) مر في العنوان ١٤ ، من هذا الفصل .
و ممّا يوضح كونه عليه السلام كباقي أهل بيته و شيعته اليوم ، ما رواه الخطيب في تاريخ بغداد في عنوان عبد اللّه بن نوح باسناده عن سويد بن غفلة قال :
مررت بنفر من الشيعة يتناولون أبا بكر و عمر ، و ينتقصونهما بغير الّذي هما له من الامة أهل فدخلت على علي عليه السلام . فقلت : يا أمير المؤمنين مررت بنفر من الشيعة ، و هم ينتقصون أبا بكر و عمر بغير الّذي هما له من الامة أهل ، و لو لا انّهم يرون أنك تضمر لهما على مثل ما أعلنوا ما اجترأوا على ذلك . فقال علي :
أعوذ باللّه أن أضمر لهما إلاّ الحسن الجميل ١ .
فانّه عليه السلام ورّى في جوابه ، و صدق في توريته فانّه عليه السلام كان لا يضمر لأحد سوء بل كان يريد لجميع الناس الجميل كالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم فإن كان الناس استحبّوا العمى على الهدى فأيّ شيء عليه ، و لو لم يكن عليه السلام على ما نقل له من شيعته لم لم يبعث وراءهم و يزجرهم إذا لم يكونا أهلا لانتقاصهم كما قاله سويد ، و قد كان عليه السلام لا يتسامح مع أحد في أدنى شيء على خلاف الشريعة .
« فما راعني » في ( أساس الزمخشري ) : « ما راعني إلاّ مجيئك » بمعنى ما شعرت إلاّ به » ٢ قلت : و الصواب أن يقال : إنّه بمعنى شعور بشيء مفزع لاشتقاقه من الروع بالفتح ، بمعنى : الفزع .
و في ( صحاح الجوهري ) : « راعني الشيء : أي : أعجبني » ٣ قلت :
و الصواب التفصيل في استعماله بين السلب و الايجاب بأن يقال : لا يستعمل في النفي إلاّ مع إلاّ ، كما في كلامه عليه السلام ، و ما يأتي من الشعر بمعنى عدم الشعور إلاّ بمفزع .
ــــــــــــــــــ
( ١ ) تاريخ بغداد ١٠ : ١٨١ .
( ٢ ) اساس البلاغة : ١٨٤ ، مادة ( روع ) .
( ٣ ) صحاح اللغة ٣ : ١٢٢٣ ، مادة ( روع ) .
« إلاّ انثيال الناس » أي : انصبابهم .
« على فلان » أي : أبي بكر ، و قد صرّح به في الروايات الأربع المتقدمة ١ .
« يبايعونه » جملة إلاّ يبايعونه فاعل لقوله « فما راعني » ، و كلمة « ما راعني » مختصّة في كلام العرب بمجيء فاعله جملة . قال عمر بن أبي ربيعة :
فلم يرعهن إلاّ العيس طالعة
بالقوم ركبانا و أكوارا
و يأتي بسط القول في ذلك في الشقشقية .
ثم إنّ انثيال الناس على أبي بكر للبيعة إنّما كان مصداق قوله تعالى و اتّقوا فتنة لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّة ٢ فشملت الأنصار الّذين لم يكن لهم نيّة سوء و انّما شهد سعد بن عبادة السقيفة ، و حثّ الأنصار على بيعته لما استشعره من الرجلين و من أعوانهم الطلقاء و المؤلفة و المنافقين عدم ابقائهم الأمر لأمير المؤمنين عليه السلام و تصدّيهم له ، و كان سعد و قومه قد و تروا قريشا فخافوا انتقامهم منهم ، و صار الأمر كذلك فأذلّوهم ، و قتلوهم يوم الحرّة . و فيه قال يزيد متمثلا :
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
ثم إنّ انثيالهم عليه كان لامور : أحدها حسد بشير بن سعد لابن عمّه سعد بن عبادة ، و حسد الأوس للخزرج . فلمّا أراد عمر و أبو عبيدة و هما ركنا بيعة أبي بكر ان يبايعاه سبقهما إليه بشير فبايعه . فناداه الحباب بن المنذر كما قال الطبري « عققت عقاق . ما أحوجك إلى ما صنعت ؟ أنفست على ابن عمك الامارة » ٣ و لمّا رأى أسيد بن حضير الأوسي ما تطلب الخزرج من
ــــــــــــــــــ
( ١ ) كذا في الإمامة و السياسة ١ : ١٥٥ ، و الغارات ١ : ٣٠٥ ، و كشف المحجة ، ١٧٦ .
( ٢ ) الانفال : ٢٥ .
( ٣ ) تاريخ الطبري ٢ : ٤٥٨ و ٤٥٩ ، سنة ١١ .