بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٤
0%
مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 597
مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 597
كتاب بهج الصباغة
في شرح نهج البلاغة
المجلد الرابع
الشيخ محمد تقي التّستري
هذا الكتاب
نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي
بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى قريبة إنشاء الله تعالى.
كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة
المجلد الرابع
الشيخ محمّد تقي التّستري (الشوشتري)
المجلد الرابع
الفصل الثامن في الإمامة الخاصة
١
١ من الكتاب ( ٢١ ) وَ مِنْهُ فَإِنَّهُ لاَ سَوَاءَ إِمَامُ اَلْهُدَى وَ إِمَامُ اَلرَّدَى وَ وَلِيُّ ؟ اَلنَّبِيِّ ص ؟
وَ عَدُوُّ ؟ اَلنَّبِيِّ ص ؟ وَ لَقَدْ قَالَ لِي ؟ رَسُولُ اَللَّهِ ص ؟ إِنِّي لاَ أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مُؤْمِناً وَ لاَ مُشْرِكاً أَمَّا اَلْمُؤْمِنُ فَيَمْنَعُهُ اَللَّهُ بِإِيمَانِهِ وَ أَمَّا اَلْمُشْرِكُ فَيَقْمَعُهُ اَللَّهُ بِشِرْكِهِ وَ لَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ كُلَّ مُنَافِقِ اَلْجَنَانِ عَالِمِ اَللِّسَانِ يَقُولُ مَا تَعْرِفُونَ وَ يَفْعَلُ مَا تُنْكِرُونَ قول المصنّف : و منه : انّما قال : « و منه » لأنّ قبله « فإن استطعتم يا أهل مصر أن تصدّق أقوالكم أفعالكم ، و أن يتوافق سرّكم و علانيتكم ، و لا يخالف ألسنتكم قلوبكم ، فافعلوا . عصمنا اللّه و إيّاكم ، و سلك بنا و بكم المحجّة الوسطى ، و إيّاكم و دعوة الكذّاب ابن هند ، و تأمّلوا و اعلموا » .
قوله عليه السّلام : « فإنّه لا سواء ، إمام الهدى و إمام الردى » : أي : الهلكة . قال ( ابن أبي الحديد ) يعنى عليه السّلام بإمام الهدى ، نفسه ، و بإمام الردى ، معاوية كما قال تعالى
ــــــــــــــــــ
( ١ ) قال الشارح ، و يأتي في العناوين ٣٢ ، ٣٣ ، ٣٤ من الفصل التاسع كلامه عليه السلام في المهدي عليه السلام .
و جعلناهم أئمّة يدعون إلى النار ١ .
قلت : إنّه عليه السلام و إن قال ذلك ، و كان في قباله معاوية في ذلك الوقت إلاّ أنّه عليه السلام أراد بإمام الردى غيره مطلقا ، معاوية و الثلاثة المتقدّمة عليه ، ففي رواية الثقفي لعهده عليه السلام إلى محمّد بن أبي بكر الّذي هذا الكلام جزء منه و قد نقله ( ابن أبي الحديد ) نفسه عند قوله عليه السلام : « و قد أردت تولية مصر هاشم بن عتبة » :
« و اعلموا عباد اللّه إنّكم ان اتقيتم ربّكم ، و حفظتم نبيّكم في أهل بيته ، فقد عبدتموه بأفضل ما عبد ، و ذكرتموه بأفضل ما ذكر ، و شكرتموه بأفضل ما شكر ، و أخذتم بأفضل الصبر ، و جاهدتم بأفضل الجهاد ، و إن كان غيركم أطول صلاة منكم ، و أكثر صياما ، إذ كنتم أتقى للّه ، و أنصح لأولياء اللّه من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أخشع » ٢ .
و هل كان معاوية إلاّ تابعا لهم ، و سالكا سبيلهم ، و في كتاب معاوية إلى محمّد ابن أبي بكر و كان ازرى على معاوية قيامه في قباله عليه السلام « فإن يك ما نحن فيه صوابا فأبوك أوّله ، و إن يك جورا فأبوك أسّه ، و نحن شركاؤه و بهديه أخذنا ، و بفعله اقتدينا ، فعب أباك ما بدا لك أو دع » .
و فيه أيضا « ذكرت حق ابن أبي طالب و قديم سوابقه و قرابته من نبي اللّه ، و نصرته له و مواساته إيّاه في كل خوف و هول ، إلى أن قال : و قد كنّا و أبوك معنا في حياة من نبيّنا ، نرى حق ابن أبي طالب لازما لنا ، و فضله مبرزا علينا . فلمّا اختار اللّه لنبيّه ما عنده ، كان أبوك و فاروقه أوّل من ابتزّه و خالفه ، على ذلك اتّفقا و اتّسقا ، ثم دعواه إلى أنفسهم فأبطأ عنهما و تلكأ
ــــــــــــــــــ
( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٤٥٠ ، و الآية ٤١ من سورة القصص .
( ٢ ) رواه الثقفي في الغارات ١ : ٢٣٦ و نقله عنه ابن أبي الحديد في شرحه ٢ : ٢٦ شرح الخطبة ٦٦ .
عليهما فهمّا ، به الهموم ، و أرادا به العظيم ، فبايع و سلّم لهما لا يشركانه و لا يطلعانه على سرّهما حتّى قبضا » رواه المسعودي و نصر بن مزاحم و أشار إليه الطبري لكنّه كفّ عن نقله عنادا و قال : لا تحتمله العامة ١ .
كما أنّ ما قاله من أنه عليه السلام أراد بامام الهدى نفسه ، صحيح ، لكن لم يرد نفسه بالخصوص بل مع عترته ، و كان عليه السلام ميزانا في تمييز المؤمنين من المنافقين من عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و قد قال تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيه و في عترته :
إنّما أنت منذر و لكلّ قوم هاد ٢ .
« و وليّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم » قال تعالى : إنّما وليّكم اللّه و رسوله و الّذين آمنوا الّذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون ٣ .
قال سبط ابن الجوزي في ( تذكرته ) : ذكر الثعلبي في ( تفسيره ) عن السدّي ، و عتبة بن أبي حكيم ، و غالب بن عبد اللّه قالوا : انزلت آية إنّما وليكم اللّه في عليّ عليه السلام مرّ به سائل و هو في المسجد راكع فأعطاه خاتمه ٤ .
و روى الثعلبي أيضا مسندا عن أبي ذر قال : صلّيت يوما صلاة الظهر في المسجد و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حاضر فقام سائل فسأل . فلم يعطه أحد شيئا إلى أن قال فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : اللهم و أنا محمّد صفيّك و نبيّك فاشرح لي صدري ،
و يسّر لي أمري ، و اجعل لي وزيرا من أهلي عليّا اشدد به أزري أو قال ظهري ،
قال أبو ذر : فو اللّه ما استتم الكلام حتّى نزل جبرئيل عليه السلام من عند اللّه تعالى فقال : يا محمّد اقرأ إنّما وليّكم اللّه و رسوله و الذين آمنوا الّذين يقيمون
ــــــــــــــــــ
( ١ ) رواه المسعودي في مروج الذهب ٣ : ١٢ و ابن مزاحم في وقعة صفين : ١١٩ و البلاذري في انساب الاشراف ٢ : ٣٩٦ و اشار اليه الطبري في تاريخه ٣ : ٥٥٧ سنة ٣٦ .
( ٢ ) الرعد : ٧ .
( ٣ ) المائدة : ٥٥ .
( ٤ ) تذكرة الخواص : ١٥ .
الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون ١ .
و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في المتواتر : « من كنت مولاه فعلي مولاه » قال سبط ابن الجوزي في ( تذكرته ) : روى أحمد بن حنبل في ( مسنده ) و في ( فضائله ) ،
و الترمذي في ( سننه ) عن زاذان قال : سمعت عليّا عليه السلام يقول في الرحبة و هو ينشد الناس : انشد اللّه رجلا سمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول في يوم غدير خم : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فقام ثلاثة عشر رجلا من الصحابة فشهدوا أنّهم سمعوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول ذلك ٢ .
و روى في فضائله عن رياح بن حارث قال : جاء رهط إلى على عليه السلام فقالوا : السلام عليك يا مولانا و كان بالرحبة فقال : كيف أكون مولاكم و أنتم قوم عرب ؟ قالوا : سمعنا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول يوم غدير خم : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » قال رياح : فقلت : من هؤلاء ؟ فقيل : نفر من الأنصار فيهم أبو أيوب الأنصاري صاحب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ٣ .
و عن عبد الملك بن عطية العوفي قال : أتيت زيد بن أرقم فقلت له : إنّ ختنا لي حدّثني عنك بحديث في شأن علي عليه السلام يوم الغدير و أنا أحبّ أن أسمعه منك فقال : إنّكم معشر أهل العراق فيكم ما فيكم ، فقلت : ليس عليك منّي بأس فقال : نعم . كنّا بالجحفة ، فخرج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علينا ظهرا و هو آخذ بعضد علي عليه السلام فقال : أيّها الناس ألستم تعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟
فقالوا : بلى ، فقال : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » قالها أربع مرات ٤ .
و عن البراء بن عازب قال : كنّا مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فنزلنا بغدير خم ، فنودي
ــــــــــــــــــ
( ١ ) تذكرة الخواص : ١٥ . و الآية ٥٥ من سورة المائدة .
( ٢ ) تذكرة الخواص : ٢٨ .
( ٣ ) تذكرة الخواص : ٢٩ .
( ٤ ) تذكرة الخواص : ٢٩ .
فينا الصلاة جامعة ، و كسح للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بين شجرتين ، فصلّى الظهر و أخذ بيد علي عليه السلام و قال : « اللهم من كنت مولاه فهذا مولاه » قال : فلقيه عمر بعد ذلك فقال : هنيئا لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت و أمسيت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة ١ .
و في ( تاريخ أعثم الكوفي ) و هو من رجالهم أيضا أنّ ابن الزبير لمّا كان يحثّ خالته على الخروج ، و أنكر أن يكون النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال : إنّ عليّا وليّ الناس قالت له امّ سلمة : إن لم تكن سمعت ذلك فهذه خالتك عائشة سلها هل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لعلي عليه السلام أنت خليفتي في حياتي ، و بعد مماتي ؟ فقالت عائشة : نعم . سمعت ذلك ٢ .
و في ( استيعاب ابن عبد البر ) : روى بريدة و أبو هريرة ، و جابر ، و البراء بن عازب ، و زيد بن أرقم كل واحد منهم عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال يوم غدير خم : « من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهمّ و ال من والاه و عاد من عاداه » ٣ .
و في ( اسد الغابة ) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : شهدت عليّا في الرحبة يناشد الناس : انشد اللّه من سمع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول يوم غدير خم : « من كنت مولاه فعلي مولاه » لما قام ، قال عبد الرحمن : فقام اثنا عشر بدريّا كأنّي أنظر إلى أحدهم عليه سراويل فقالوا : نشهد أنّا سمعنا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول يوم غدير خم : « الست أولى بالمؤمنين من أنفسهم و أزواجي أمهاتهم ؟ قلنا : بلى فقال : « من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهمّ و ال من والاه و عاد من عاداه » ٤ .
« و عدوّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم » قال ابن أبي الحديد : جعل أمير المؤمنين عليه السلام
ــــــــــــــــــ
( ١ ) تذكرة الخواص : ٢٩ .
( ٢ ) الفتوح لابن أعثم ٢ : ٢٨٢ و النقل بتلخيص .
( ٣ ) الاستيعاب ٣ : ٣٦ .
( ٤ ) اسد الغابة ٤ : ٢٨ .
معاوية عدوّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكونه عدوّه عليه السلام و قد قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له : « وليّك وليّي ،
و وليّي وليّ اللّه ، و عدوّك عدوّي ، و عدوّي عدوّ اللّه » و لأن دلائل النفاق كانت ظاهرة عليه من فلتات لسانه ، و من أفعاله ، و قد قال أصحابنا في هذا المعنى أشياء كثيرة فلتطلب من كتبهم خصوصا من كتب شيخنا أبي عبد اللّه و كتب أبي جعفر الاسكافي و أبي القاسم البلخي ١ .
قلت : و ان صحّ ما قاله من كون معاوية عدوا للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بما ذكره من القياس إلاّ أنه كان عدوّا له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالأساس أيضا . روى المسعودي في ( مروجه ) : أنّ المغيرة بن شعبة قال لمعاوية : بلغت أملك ، فلو أظهرت عدلا .
فقال له : إنّ أخا هاشم يصرّح به في كل يوم خمس مرات « أشهد ان محمّدا رسول اللّه » فأيّ أمل يبقى مع هذا لا امّ لك لا و اللّه إلاّ دفنا دفنا ٢ .
و في ( الطبري ) عن كتاب المأمون الذي أمر بإنشائه في لعن معاوية « و منه الحديث المرفوع المشهور أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال : إن معاوية في تابوت من نار في أسفل درك منها ينادي يا حنان يا منان ( فيقال له ) آلآن و قد عصيت قبل و كنت من المفسدين » ٣ ؟
و في ( صفين نصر بن مزاحم ) مسندا عن رجل شامي صحابي قال :
سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول : « شرّ خلق اللّه خمسة : ابليس ، و ابن آدم الّذي قتل أخاه ، و فرعون ذو الأوتاد ، و رجل من بني اسرائيل ردّهم عن دينهم ، و رجل من هذه الامّة يبايع على كفره عند باب لدّ » قال الرجل : إنّي لمّا رأيت معاوية بايع عند باب لدّ ذكرت قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلحقت بعلي عليه السلام فكنت معه ٤ .
ــــــــــــــــــ
( ١ ) قاله ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ٤٥٠ و النقل بالمعنى .
( ٢ ) رواه المسعودي في مروج الذهب ٣ : ٤٥٤ و النقل بتصرف .
( ٣ ) رواه الطبري في تاريخه ٨ : ١٨٦ سنة ٢٨٤ .
( ٤ ) رواه ابن مزاحم في وقعة صفين : ٢١٧ .
« و لقد قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : إنّي لا أخاف على أمّتي مؤمنا و لا مشركا ، أمّا المؤمن فيمنعه اللّه بإيمانه ، و أمّا المشرك فيقمعه اللّه ( أي يقهره و يذلّه ) بشركه ،
و لكنّي أخاف عليكم كلّ منافق الجنان ، عالم اللّسان ، يقول ما تعرفون ، و يفعل ما تنكرون » لقد صدق صلوات اللّه عليه فكل فتنة كانت في الإسلام كانت من المسلمين الّذين وصفهم عليه السلام ، جعل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبا بكر كصاحبه في جيش اسامة لئلاّ يوجب الفتنة بعده ، فتخلّف عنه مع تأكيداته حتّى لعن المتخلّف عن الجيش ، حتّى ينال الإمرة ، و لمّا نال مرامه أراد التلبيس على الناس بأنه لا بدّ أن يجري أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الجيش .
فروى كاتب الواقدي في ( طبقاته ) عن ابن عمر ، أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعث سرية فيهم أبو بكر و عمر ، و استعمل عليهم اسامة . فكان الناس طعنوا فيه .
فبلغ ذلك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فصعد المنبر . فحمد اللّه و أثنى عليه ، و قال : إنّ الناس قد طعنوا في إمارة اسامة و قد كانوا طعنوا في إمارة أبيه من قبله ، و إنّهما لخليقان لها الخبر ١ .
و في ( الطبري ) : نادى منادي أبي بكر من بعد الغد من متوفّى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليتمّ بعث اسامة ، ألا لا يبقينّ بالمدينة أحد من جند اسامة إلاّ خرج إلى عسكره بالجرف ٢ .و فيه أيضا قال أبو بكر : لو خطفتني الكلاب و الذئاب لم أردّ قضاء قضى به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ٣ .
و فيه أيضا ان عمر قال له : ان الأنصار أمروني أن ابلغك و إنّهم يطلبون
ــــــــــــــــــ
( ١ ) طبقات ابن سعد ٢ ، ق ٢ : ٤١ و ٤ ، ق ١ : ٤٦ .
( ٢ ) تاريخ الطبري ٢ : ٤٦٠ سنة ١١ .
( ٣ ) تاريخ الطبري ٢ : ٤٦٢ سنة ١١ .
إليك أن تولّي أمرهم رجلا أقدم سنّا من اسامة . فوثب أبو بكر و كان جالسا فأخذ بلحية عمر و قال له : ثكلتك امك و عدمتك يا ابن الخطاب استعمله النّبيّ ، و تأمرني أن أنزعه ١ .
و هذا عمر ، يقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : إيتوني بدواة و صحيفة أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا . فقال : دعوه إنّه ليهجر ٢ .
و في ( طبقات كاتب الواقدي ) عن ابن عباس قال : قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : هلمّ اكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده . فقال عمر : انّ رسول اللّه قد غلبه الوجع و عندكم القرآن حسبنا كتاب اللّه إلى أن قال .
فكان ابن عباس يقول : ان الرزية كل الرزية ما حال بين رسول اللّه و بين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم و لغطهم ٣ .
ثم يقول ذلك الرجل من ولهه بزعمهم بعد قبض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : انّه ما مات و لكنّه غاب . ففي ( الطبري ) : لما توفي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قام عمر فقال : إنّ رجالا من المنافقين يزعمون أنّ رسول اللّه توفّي ، و إنّ رسول اللّه و اللّه ما مات ، و لكنّه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة . ثم رجع بعد أن قيل قد مات ، و اللّه ليرجعن رسول اللّه . فليقطّعنّ أيدي رجال و أرجلهم ، يزعمون أن رسول اللّه مات ٤ .
و انّما فعل ذلك ليصل إليه أبو بكر و كان غائبا حتى يدبّر أمر السقيفة ، و في كتاب ابن عباس الى الحسن عليه السلام بعد أبيه « و اعلم أنّ عليّا أباك عليه السلام إنّما رغب الناس عنه إلى معاوية أنه آسى بينهم في الفيء ، و سوّى بينهم في
ــــــــــــــــــ
( ١ ) تاريخ الطبري ٢ : ٤٦٢ سنة ١١ .
( ٢ ) أخرج هذا الحديث جماعة منهم البخاري في صحيحه ١ : ٣٢ و ٤ : ٧ و ٢٧١ و مسلم في صحيحه ٣ : ١٢٥٩ ح ٢٢ .
( ٣ ) طبقات ابن سعد ٢ ، ق ٢ : ٣٧ .
( ٤ ) تاريخ الطبري ٢ : ٤٤٢ سنة ١١ .
العطاء ، فثقل عليهم ، و اعلم أنّك تحارب من حارب اللّه و رسوله في ابتداء الإسلام حتّى ظهر امر اللّه فلمّا وحّد الرب و محق الشرك ، و عزّ الدين ، أظهروا الايمان و قرأوا القرآن مستهزئين بآياته ، و قاموا إلى الصلاة و هم كسالى ، و أدّوا الفرائض و هم لها كارهون فلمّا رأوا أنّه لا يعزّ في الدين إلاّ الأتقياء الأبرار ، توسّموا بسيما الصالحين ليظنّ المسلمون بهم خيرا ، فما زالوا بذلك حتّى شركوهم في أماناتهم ، و قالوا : حسابهم على اللّه فإن كانوا صادقين فإخواننا في الدين ، و إن كانوا كاذبين كانوا بما اقترفوا هم الأخسرين ، و قد منيت باولئك ، و بأبنائهم و بأشباههم ، و اللّه ما زادهم طول العمر إلاّ غيّا ، و لا زادهم ذلك لأهل الدين إلاّ مقتا » ١ .
٢
من الخطبة ( ٣٣ ) أَمَا وَ اَللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَفِي سَاقَتِهَا حَتَّى وَلَّتْ بِحَذَافِيرِهَا مَا عَجَزْتُ وَ لاَ جَبُنْتُ وَ إِنَّ مَسِيرِي هَذَا لِمِثْلِهَا فَلَأَنْقُبَنَّ اَلْبَاطِلَ حَتَّى يَخْرُجَ اَلْحَقُّ مِنْ جَنْبِهِ مَا لِي وَ ؟ لِقُرَيْشٍ ؟ وَ اَللَّهِ لَقَدْ قَاتَلْتُهُمْ كَافِرِينَ وَ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونِينَ وَ إِنِّي لَصَاحِبُهُمْ بِالْأَمْسِ كَمَا أَنَا صَاحِبُهُمُ اَلْيَوْمَ من الخطبة ( ١٠٢ ) وَ اَيْمُ اَللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ مِنْ سَاقَتِهَا حَتَّى تَوَلَّتْ بِحَذَافِيرِهَا وَ اِسْتَوْثَقَتْ قِيَادَهَا مَا ضَعُفْتُ وَ لاَ جَبُنْتُ وَ لاَ خُنْتُ وَ لاَ وَهَنْتُ وَ اَيْمُ اَللَّهِ لَأَبْقُرَنَّ اَلْبَاطِلَ حَتَّى أُخْرِجَ اَلْحَقَّ مِنْ خَاصِرَتِهِ أقول : قاله عليه السلام في ذى قار لمّا أراد الجمل كما صرّح به في الأوّل .
« و أيم اللّه » في الثاني بمعنى « أما و اللّه » في الاول .
ــــــــــــــــــ
( ١ ) رواه المدائني ، و عنه شرح ابن أبي الحديد ٤ : ٨ و غيره .
قال الجوهري : أيمن اللّه اسم وضع للقسم قال : و ربما حذفوا منه النون فقالوا : أيم اللّه و أيم اللّه أيضا بكسر الهمزة ١ .
« إن كنت » في الأوّل بمعنى « لقد كنت » في الثاني لأنّ « ان » فيه مخففة من الثقيلة .
« لفي ساقتها » و في الثاني « من ساقتها » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) ٢ و ( الخطّيّة ) لا « في ساقتها » كما في ( المصرية ) ، و ساقة جمع سائق كقادة في قائد من ساقة الجيش ، و في ( الأساس ) : رأيته يكرّ في سوق الحرب :
أي في حومة القتال و وسطه ٣ .
« حتّى » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : « حتّى تولت » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطيّة ) ٤ و كما في الثاني : أي : انقضت .
« بحذافيرها » : أي بأسرها و تمامها و جميع نواحيها .
قوله عليه السلام في الثاني « و استوثقت قيادها » هكذا في المصرية ، و الصواب « و استوسقت في قيادها » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطبة ) ٥ و في ( المصباح ) قال الخليل : القود أن يكون الرجل أمام الدابة آخذا بقيادها إلى أن قال و المقود بكسر الميم : الحبل يقاد به و الجمع مقاود ، و القياد مثل المقود الخ ٦ و استوسقت : أي اجتمعت و انتظمت .
قوله عليه السلام فيهما « ما ضعفت » هكذا في ( المصرية ) و في ( ابن أبي الحديد )
ــــــــــــــــــ
( ١ ) صحاح اللغة ٦ : ٢٢٢١ مادة ( يمن ) ، و النقل بتقطيع .
( ٢ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٩٩ لكن لفظ شرح ابن ميثم ٣ : ٢١ مثل المصرية أيضا .
( ٣ ) أساس البلاغة : ٢٢٥ مادة ( سوق ) .
( ٤ ) لفظ شرح ابن أبي الحديد ١ : ١٧٦ و شرح ابن ميثم ٢ : ٧٢ « ولت » أيضا .
( ٥ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٩٩ و شرح ابن ميثم ٣ : ٢١ .
( ٦ ) المصباح المنير ٢ : ٢٠٣ مادة ( قود ) .
و لكن في ( ابن ميثم و الخطية ) ١ : « ما عجزت » ، و كيف كان فالمراد أنه عليه السلام لم يعجز و لم يضعف في سياقة غزوات الإسلام و سلطته كما عجز و ضعف باقيهم .
و في ( الإرشاد ) روى أصحاب الآثار عن الحسن بن صالح عن الأعمش عن أبي اسحاق عن ابن أبي عبد اللّه الجدلي قال : سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول : لمّا عالجت باب خيبر جعلته مجنّا لي . فقاتلتهم به . فلمّا أخزاهم اللّه وضعت الباب على حصنهم طريقا ، ثم رميت به في خندقهم . فقال له رجل : لقد حملت منه ثقلا . فقال : ما كان إلاّ مثل جنّتى الّتي في يدي في غير ذلك المقام ،
و فيه يقول الشاعر :
إنّ امرأ حمل الرتاج بخيبر
يوم اليهود بقدرة لمؤيّد
حمل الرتاج رتاج باب قموصها
و المسلمون و أهل خيبر حشّد
فرمى به و لقد تكلف ردّه
سبعون كلهم له يتشدّد
ردّوه بعد تكلّف و مشقّة
و مقال بعضهم لبعض ارددوا ٢
« و لا جبنت » : أي : كما جبنوا ، ففي خيبر أخذ الراية أوّلا ، الأوّل ثمّ الثاني و رجعا منهزمين يجبّنان أصحابهما و يجبّنهما أصحابهما .
و في ( الإرشاد ) : روى أبو محمّد الحسن بن جمهور قال : قرأت على أبي عثمان المازني الشاعر :
بعث النبي براية منصورة
عمر بن حنتمة الدلام الأدلما
فمضى بها حتى إذا برزوا له
دون القماص ثنى و هاب و أحجما
ــــــــــــــــــ
( ١ ) لفظ شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٧٦ و ١٩٩ ، و أيضا شرح ابن ميثم ٢ : ٧٢ ، و ٣ : ٢١ « ضعفت » نعم في بعض نسخ شرح ابن ميثم في الاول « عجزت » .
( ٢ ) الإرشاد : ٦٧ .
فأتى النبي براية مردودة
الا تخوف عارها فتذمما
فبكى النبي له و انّبه بها
و دعا امرأ حسن البصيرة مقدما
فغدا بها في فيلق و دعا له
ألاّ يصد بها و ألاّ يهزما
فزوى اليهود الى القموص و قد كسا
كبش الكتبية ذا غرار مخذما
و ثنى بناس بعدهم فقراهم
طلس الذئاب و كل نسر قشعما ١
« و لا خنت و لا وهنت » كما خان و وهن غيري ، و في ( السير ) : لما انصرف النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من احد إلى المدينة استقبلته فاطمة عليها السلام و معها إناء فيه ماء فغسل به وجهه و لحقه علي عليه السلام و قد خضب الدم يده إلى كتفه و معه ذو الفقار ،
فناوله فاطمة عليها السلام و قال لها : خذي هذا السيف . فقد صدقني اليوم و أنشأ يقول .
أفاطم هاك السيف غير ذميم فلست برعديد و لا بمليم لعمري لقد أعذرت في نصر أحمد و طاعة رب بالعباد عليم اميطي دماء القوم عنه فإنّه سقى آل عبد الدار كأس حميم و قال لها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : « خذيه يا فاطمة فقد أدّى بعلك ما عليه ، و قد قتل اللّه بسيفه صناديد قريش » ٢ ، فإذا كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا بعث اللّه تعالى كما قال قبل هذا الكلام ساق الناس حتّى بوّأهم محلّتهم ، و بلّغهم منجاتهم فاستقامت قناتهم ، و اطمأنت صفاتهم ، و كان أمير المؤمنين عليه السلام كما قال هنا معينا له من أوّله إلى آخره ، و المتصدّي لغزواته عليه السلام بلا ضعف و لا جبن و لا خيانة و لا وهن ، كغيره ممّن ادّعى الأمر في قباله كما ستعرف ، فلا بدّ بحكم العقل أن يكون هو خليفته و قائما مقامه ، و من أنكر فقد كابر البداهة ، و من خالف فقد خالف مقتضى العقول .
ــــــــــــــــــ
( ١ ) الارشاد : ٦٨ .
( ٢ ) رواه المفيد في الارشاد : ٤٨ .
و قد صرّحت بذلك سيّدة النساء صلوات اللّه عليها و على أبيها فقالت في خطبتها يوم أبي بكر كما في ( بلاغات أحمد بن أبي طاهر البغدادي ) من رجالهم « فأنقذكم اللّه برسوله بعد اللتيا و الّتي ، و بعد ما مني بهم الرجال ،
و ذؤبان العرب و مردة أهل الكتاب كلّما حشوا نارا للحرب أطفاها ، و نجم قرن للضلال ، و فغرت فاغرة من المشركين قذف بأخيه في لهواتها ، فلا ينكفئ حتّى يطأ صماخها بأخمصه ، و يخمد لهبها بحده ، مكدودا في ذات اللّه ، قريبا من رسول اللّه ، سيّدا في أولياء اللّه ، و أنتم في بلهنية و ادعون آمنون حتّى إذا اختار اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دار أنبيائه ، ظهرت خلة النفاق ، و سمل جلباب الدّين ،
و نطق كاظم الغاوين » إلى آخرها ١ .
و روى المصنّف في ( خصائصه ) باسناد مرفوع الى الأعمش عن ابن عطية قال : لمّا خرج عمر الى الشام و كان العباس معه يسايره و كان من يستقبله ينزل . فيبدأ بالعباس ، فيسلّم عليه ، يقدّر الناس أنّه الخليفة ، لجماله و بهائه و هيبته فقال عمر : لعلك تقدّر أنّك أحق بهذا الأمر منّي . فقال له العبّاس :
أحق به منّي و منك من خلّفناه بالمدينة . فقال عمر : من ذلك ، قال : من ضربنا بسيفه حتّى قادنا بالاسلام ، يعني عليّا عليه السلام ٢ .
و روى أبو بكر بن الأنباري في ( أماليه ) و نقله ابن أبي الحديد في موضع آخر أنّ عليا عليه السلام جلس إلى عمر في المسجد ، و عنده ناس . فلمّا قام عرّض واحد بذكره ، و نسبه إلى التيه و العجب . فقال عمر : حق لمثله أن يتيه ،
و اللّه لو لا سيفه لما قام عمود الإسلام ، و هو بعد أقضى الامّة ، و ذو سابقتها و ذو شرفها . فقال له ذلك القائل : فما منعكم عنه . قال : كرهناه على حداثة السن
ــــــــــــــــــ
( ١ ) بلاغات النساء : ٢٤ .
( ٢ ) خصائص الائمة : ٤٨ .
و حبّه بني عبد المطلب ١ .
قلت : لقد أجابه ابن عباس عن حداثة سنّه بأنّ اللّه تعالى ما استحدث سنّه حيث انزل جبرئيل ليأخذ سورة براءة من صاحبه أبي بكر ، و أمّا حبّه بني عبد المطلب ، فهل كان الاّ حبّ أهل بيت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من قال تعالى فيهم قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ٢ ؟ كره الرجل منه عليه السلام حبّه لبني عبد المطلب أقارب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أحبّائه . فلم يدع الأمر يصل إليه ، و لم يكره من عثمان تهالكه و تفدية نفسه لبني امية أعداء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أعداء الإسلام فدبّر الأمر له ، و الحكم اللّه تعالى .
و روى محمّد بن بابويه في ( خصاله ) عن محمّد بن الحنفية ، أنّ رأس اليهود أتى إلى أمير المؤمنين عليه السلام عند منصرفه من وقعة النهروان ، و هو جالس في مسجد الكوفة فقال له : إنّي اريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلاّ نبيّ أو وصي نبيّ . قال : سل عمّا بدا لك يا أخا اليهود . قال : إنّا نجد في الكتب أنّ اللّه عزّ و جلّ إذا بعث نبيّا أوحى إليه أن يتّخذ من أهل بيته من يقوم بأمر امّته من بعده ، و أن يعهد إليهم فيه عهدا يحتذى به و يعمل به في امته من بعده ، و أنّ اللّه عزّ و جلّ يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء ، و يمتحنهم بعد وفاتهم إلى أن قال فقال له علي عليه السلام : إنّ اللّه تعالى يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء في سبعة مواطن ليبتلي طاعتهم . فإذا رضي طاعتهم و محنتهم أمر الأنبياء أن يتّخذوهم أولياء في حياتهم ، و أوصياء بعد وفاتهم إلى أن قال قال الرجل : صدقت . فأخبرني كم امتحنك اللّه في حياة محمّد ، و كم
ــــــــــــــــــ
( ١ ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ١١٥ شرح الخطبة ٢٢٦ .
( ٢ ) الشورى : ٢٣ .
امتحنك بعد وفاته ، و إلى ما يصير آخر أمرك ؟ فأخذ علي عليه السلام بيده و قال :
انهض انبّئك . فقام إليه جماعة من أصحابه . فقالوا : أنبئنا بذلك معه . فقال : انّي أخاف ألاّ تحتمله قلوبكم . قالوا : و لم ؟ قال : لامور بدت من كثير منكم . فقام إليه الأشتر فقال له : أنبئنا بذلك فو اللّه إنّا لنعلم أنّه ما على ظهر الأرض وصي نبي سواك ، و إنّا لنعلم أنّ اللّه تعالى لا يبعث بعد نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نبيّا ، و أنّ طاعتك موصولة بطاعة نبيّنا . قال : فجلس علي عليه السلام و أقبل على اليهودي و قال له : إنّ اللّه عزّ و جلّ امتحنني في حياة نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في سبعة مواطن فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي ، بنعمة اللّه مطيعا . قال : فيم و فيم .
قال : أما أوّلهن : فانّ اللّه عزّ و جلّ أوحى إلى نبيّنا و أنا أحدث أهل بيته سنّا أخدمه في بيته ، و أسعى في قضاء حوائجه بين يديه في أمره ، فدعا صغير بني عبد المطّلب و كبيرهم إلى شهادة ألا إله إلاّ اللّه ، و أنّه رسوله فامتنعوا من ذلك ، و أنكروا عليه و هجروه ، و نابذوه ، و اعتزلوه ، و اجتنبوه ، و سائر الناس مقصين له ، و مخالفين عليه ، قد استعظموا ما أورده عليهم ممّا لم تحتمله قلوبهم ، و تدركه عقولهم . فأجبته وحدي مسرعا إلى ما دعا إليه مطيعا موقنا لم يخالجني شك في ذلك ، فمكثنا بذلك ثلاث حجج ، و ما على وجه الأرض خلق يصلي أو يشهد له بما أتاه غيري و غير ابنة خويلد رحمها اللّه و قد فعل .
ثم أقبل على أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
فقال : و أمّا الثانية : فإنّ قريشا لم تزل تجيل الآراء ، و تعمل الحيل في قتل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى كان آخر ما اجتمعت في ذلك يوم الدار ، ( دار الندوة ) و ابليس اللعين حاضر في صورة أعور ثقيف ، فلم تزل تضرب أمرها ظهرا لبطن حتّى اجتمعت آراؤها على أن ينتدب من كلّ فخذ من قريش رجل ثمّ يأخذ كلّ رجل منهم سيفه ثمّ يأتي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو نائم على فراشه .
فيضربونه بأسيافهم ضربة رجل واحد فيقتلوه ، و اذا قتلوه منعت قريش رجالها ، و لم تسلمها فيمضى دمه هدرا . فهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأنبأه بذلك ، و أخبره بالليلة الّتي يجتمعون فيها و الساعة الّتي يأتون فراشه ، و أمره بالخروج في الوقت الّذي خرج فيه إلى الغار . فاخبرني النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالخبر و أمرني أن اضطجع في مضجعه و أقيه بنفسي . فأسرعت إلى ذلك مطيعا له مسرورا بأن أقتل دونه ، فمضى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لوجهه و اضطجعت في مضجعه ، و أقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها أن تقتل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ، فلما استوى بي و بهم البيت الّذي أنا فيه ناهضتهم بسيفي ،
فدفعتهم عن نفسي بما قد علمه اللّه .
ثم أقبل عليه السلام على أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .
فقال عليه السلام : و أمّا الثالثة يا أخا اليهود ، فإنّ ابني ربيعة و الوليد بن عتبة ،
و كانوا فرسان قريش دعوا إلى البراز يوم بدر فلم يبرز لهم خلق من قريش .
فأنهضني مع صاحبيّ رضي اللّه عنهما و قد فعل ، و أنا أحدث أصحابي سنّا و أقلهم للحرب تجربة فقتل اللّه عزّ و جلّ بيدي وليدا و شيبة سوى من قتلت من حجاحجة قريش في ذلك اليوم ، و سوى من أسرت ، و كان منّي أكثر ممّا كان من أصحابي ، و استشهد ابن عمي في ذلك رحمة اللّه عليه .
ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى .
فقال : و أمّا الرابعة ، فإنّ أهل مكة أقبلوا إلينا على بكرة أبيهم قد استجابوا من يليهم من قبائل العرب طالبين بثار مشركي قريش في يوم بدر .
فهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأنبأه بذلك . فذهب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عسكر بأصحابه في سدّ احد ، و أقبل المشركون إلينا فحملوا علينا حملة رجل واحد ،
و استشهد من المسلمين من استشهد ، و كان من بقي ، من المنهزمة ، و بقيت مع
النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ، و مضى المهاجرون و الأنصار إلى المدينة كلّ يقول : قتل النّبيّ و قتل أصحابه . ثم ضرب اللّه عزّ و جلّ وجوه المشركين ، و قد جرحت بين يدي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نيّفا و سبعين جرحة ، منها هذه و هذه ، ثم ألقى عليه السلام رداءه و أمرّ يده على جراحاته ، و كان منّي في ذلك ما على اللّه عزّ و جلّ ثوابه ، ثم التفت الى أصحابه ، فقال : اليس كذلك ؟ قالوا : بلى .
فقال : و اما الخامسة يا أخا اليهود ، فان قريشا و العرب تجمعت و عقدت عقدا و ميثاقا لا ترجع من وجهها حتّى تقتل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تقتلنا معاشر بني عبد المطلب معه ، ثم أقبلت بحدّها و حديدها حتّى أناخت علينا بالمدينة واثقة بأنفسها في ما توجّهت له ، فهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأنبأه بذلك فخندق على نفسه و من معه من المهاجرين و الأنصار ، فقدمت قريش فأقامت على الخندق ، محاصرة لنا ، ترى في أنفسها القوّة و فينا الضعف ترعد و تبرق ،
و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يدعوها إلى اللّه تعالى و يناشدها بالقرابة و الرحم فتأبى ، و لا يزيدها ذلك إلاّ عتوّا ، و فارسها و فارس العرب يومئذ عمرو بن عبد ود يهدر كالبعير المغتلم ، يدعو إلى البراز ، و يرتجز ، و يخطر برمحه مرة ، و بسيفه مرة ،
لا يقدم عليه مقدم و لا يطمع فيه طامع ، و لا حميّة تهيجه ، و لا بصيرة تشجّعه ،
فأنهضني إليه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عمّمني بيده و أعطاني سيفه هذا و ضرب بيده إلى ذي الفقار و عمّمني فخرجت إليه ، و نساء أهل المدينة توالي إشفاقا علي من ابن عبد ود فقتله اللّه عزّ و جلّ بيدي ، و العرب لا تعدّ لها فارسا غيره ،
و ضربني هذه الضربة و أومأ بيده إلى هامته فهزم اللّه قريشا و العرب بذلك و بما كان مني فيهم من النكاية . ثم التفت عليه السلام إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟
قالوا : بلى .
فقال : و أمّا السادسة يا أخا اليهود ، فإنّا وردنا مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مدينة