بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٤
0%
مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 597
مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 597
دويهية تصفرّ منها الأنامل ١ .
و قال ابن ميثم : « بعد اللتيا و الّتي : مثل ، و أصله أنّ رجلا تزوّج امرأة قصيرة سيّئة الخلق . فقاسى منها شدائد . فطلّقها ، و تزوّج طويلة . فقاسى منها أضعاف ما قاسى من القصيرة فطلّقها ، و قال بعد اللتيا و الّتي لا أتزوّج أبدا فصار ذلك مثلا » ٢ . قلت : لم يذكر ذلك أمثال العسكري ، و لا الميداني ٣ ، و لا أدري من أين نقله .
و كما خصّت اللتيا بإبقاء فتحها كترك صلة لها كذلك بعدم ذكرها إلاّ مع الّتي كما في كلامه عليه السلام هنا ، و كما في كلام سيّدة النساء صلوات اللّه عليها في احتجاجها على أبي بكر في فدك « فأنقذكم اللّه تعالى بنبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلم بعد اللتيا و الّتي ، و بعد أن مني ببهم الرجال » ٤ . و كما في قول شاعر :
بعد اللتيا و اللّتيا و التي
إذا علتها أنفس تردّت
أيضا :
و لقد رأيت نأى العشيرة كلّها
و كفيت جانبها اللتيا و التي
و من الأخير يعلم أنّ ذكر « بعد » قبل اللّتيّا و الّتي ليس بلازم و إن كان كثيرا .
هذا و في ( اللسان ) : « و تصغير الّتي و اللاتي و اللات اللتيّا . و اللّتيا بالفتح و التشديد . قال العجّاج :
دافع عني بنفير موتتي
بعد اللتيا و اللتيا و الّتي
ــــــــــــــــــ
( ١ ) لسان العرب ١٥ : ٢٤٠ ، مادة ( لتا ) .
( ٢ ) شرح ابن ميثم ١ : ٢٧٩ .
( ٣ ) ذكر المثل العسكري في جمهرة الامثال : ٦٠ ، و الميداني في مجمع الامثال ١ : ٩٢ ، و ذكر الميداني القصة أيضا .
( ٤ ) رواه عن سقيفة الجوهري الاربلي في كشف الغمة ٢ : ١١١ ، و غيره .
اذا علتها أنفس تردّت » ١ « و اللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي امّه » كان عليه السلام متفردا بهذا الكلام كما بقوله « لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا » ٢ قلنا : إنّه عليه السلام متفرد بذلك لأنّ الأخبار وردت بأنّ الأنبياء من آدم الّذي وهب مقدارا من عمره لداود إلى غيره حتّى ابراهيم عليه السلام الّذي كان أشرف اولي العزم كانوا مستوحشين من الموت . ففي الخبر لمّا هبط ملك الموت لقبض روح ابراهيم عليه السلام قال له : أداع أم ناع ؟ قال : بل ناع . فقال : هل رأيت خليلا يميت خليله ؟ فقال : إلهي قد سمعت ما قال خليلك . فقال تعالى : قل له : هل رأيت حبيبا يكره لقاء حبيبه ؟ إنّ الحبيب يحبّ لقاء حبيبه ٣ .
و أمّا قصّة آدم . فروى ( الكافي ) عن عبد اللّه بن سنان عن الصادق عليه السلام في خبر أنّ ابن شبرمة القاضي قال له : ما تقول في شيء سألني عنه الأمير أي عيسى بن موسى العباسي فلم يكن عندي فيه شيء . فقال : و ما هو ؟ قال :
سألني عن أوّل كتاب كتب في الأرض قال : نعم إنّ اللّه عزّ و جلّ عرض على آدم عليه السلام ذريّته عرض العين في صور الذرّ نبيّا فنبيّا ، و ملكا فملكا و مؤمنا فمؤمنا ، و كافرا فكافرا ، فلمّا انتهى إلى داود عليه السلام قال : من هذا الّذي نبّيته ،
و كرّمته ، و قصّرت عمره ؟ فأوحى إليه : هذا ابنك داود ، عمره أربعون سنة ،
و إنّي كتبت الآجال ، و قسمت الأرزاق ، و أنا أمحو ما أشاء ، و أثبت و عندي امّ الكتاب . فإن جعلت له شيئا من عمرك ألحقته له . قال : يا ربّ قد جعلت له من عمري ستّين سنة تمام المئة . فقال عزّ و جلّ لجبرئيل و ميكائيل ، و ملك الموت :
ــــــــــــــــــ
( ١ ) لسان العرب ١٥ : ٤٤٦ ، مادة ( لتا ) ، و النقل بتصرف .
( ٢ ) رواه الجاحظ في مائة كلمة ، و شرحه لابن ميثم : ٥٢ ، و الخوارزمي في مناقبه : ٢٧١ ، و غيرهما .
( ٣ ) أخرجه الصدوق في علل الشرائع ١ : ٣٦ ح ٩ ، و في اماليه : ١٦٤ ح ١ ، المجلس ٣٦ ، و النقل بتخليص .
اكتبوا عليه كتابا فإنّه سينسى . فكتبوا عليه كتابا و ختموه بأجنحتهم من طينة عليين . فلمّا حضرت آدم الوفاة أتاه ملك الموت . فقال له آدم : ما جاء بك ؟ قال :
لأقبض روحك . قال : قد بقي من عمري ستّون سنة . فقال : إنّك جعلتها لابنك داود ، و نزل عليه جبرئيل و أخرج له الكتاب . قال أبو عبد اللّه عليه السلام : فمن أجل ذلك إذا خرج الصك على المديون ذلّ ، فقبض روحه ١ .
و أمّا هو عليه السلام فروى نصر بن مزاحم في ( صفّينه ) مسندا عن حبّة العرني قال : لمّا نزل علي عليه السلام الرقّة بمكان يقال له بليخ على جانب الفرات ، نزل راهب من صومعته . فقال لعليّ عليه السلام : إنّ عندنا كتابا توارثناه عن آبائنا كتبه عيسى بن مريم عليه السلام أعرضه عليك ؟ قال : نعم فما هو ؟ قال هو : « بسم اللّه الرحمن الرحيم الّذي قضى في ما قضى ، و سطر في ما سطر أنّه باعث في الاميين رسولا منهم يعلّمهم الكتاب و الحكمة ، و يدلّهم على السبيل لا فظ و لا غليظ ، و لا صخّاب في الأسواق ، و لا يجزي بالسيّئة السيئة ، و لكن يعفو و يصفح ، امّته الحمّادون الذين يحمدون اللّه على كلّ نشز ، و في كلّ صعود و هبوط . تذلّ ألسنتهم بالتهليل و التكبير . ينصره اللّه على كلّ من ناواه . فإذا توفّاه اختلفت امّته ثم اجتمعت ، فلبثت بذلك ما شاء اللّه ، ثم اختلفت ، فيمرّ رجل من امّته بشاطئ هذا الفرات . يأمر بالمعروف ، و ينهى عن المنكر ، و يقضي بالحقّ ، و لا يرتشي في الحكم ، الدّنيا أهون عليه من الرّماد في يوم عصفت فيه الريح ، و الموت أهون عليه من شرب الماء على الظمأ » الخبر ٢ .
و مثله عليه السلام كانت سيّدة النساء صلوات اللّه عليها ففي ( طبقات كاتب الواقدي ) عن عائشة قالت : إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم دعا ابنته فاطمة في وجعه الّذي
ــــــــــــــــــ
( ١ ) أخرجه الكليني في الكافي ٧ : ٣٧٨ ح ١ ، و النقل بتصرف يسير .
( ٢ ) وقعة صفين : ١٤٧ ، و النقل بتصرف يسير .
توفّي فيه . فسارّها بشيء . فبكت ، ثم دعاها فسارّها فضحكت . قالت فسألتها عن ذلك . فقالت : أخبرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه يقبض في وجعه هذا فبكيت . ثم أخبرني أنّي أوّل أهله لحاقا به فضحكت ١ .
و كذلك كان باقى أئمّتنا عليهم السلام و في ( اعتقادات الصدوق ) : قال الحسين عليه السلام يوم الطف لبعض أصحابه و كان تعجب من عدم مبالاته بالموت : ما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس و الضرّ ، إلى الجنان الواسعة و النعيم الدائم ٢ .
و فيه : و قال السجاد عليه السلام : الموت للمؤمن كنزع ثياب و سخة قملة . و فكّ قيود و أغلال ثقيلة ، و الاستبدال بأفخر الثياب و أطيبها روائح ، و أوطأ المراكب ،
و آنس المنازل الخبر ٣ .
هذا و قيل في مدح الموت أشعار كثيرة منها :
و ما الموت إلاّ راحة غير أنّها
من المنزل الفاني إلى المنزل الباقي
أيضا :
جزى اللّه عنّا الموت خيرا فإنّه
أبرّ بنا من كلّ برّ و أرأف
يعجّل تخليص النفوس من الأذى
و يدني من الدار الّتي هي أشرف
أيضا :
قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا
في الموت ألف فضيلة لا تعرف
منها أمان لقاءه بلقائه
و فراق كلّ معاشر لا ينصف
أيضا :
من كان يرجوا أن يعيش فإنّني
أصبحت أرجو أن أموت فأعتقا
ــــــــــــــــــ
( ١ ) طبقات ابن سعد ٢ ق ٢ : ٣٩ .
( ٢ ) الاعتقادات للصدوق : ١٥ .
( ٣ ) الاعتقادات للصدوق : ١٥ .
في الموت ألف فضيلة لو أنّها
عرفت لكان سبيله أن يعشقا
أيضا :
نحن و اللّه في زمان غشوم
لو رأيناه في المنام فزعنا
أصبح الناس فيه من سوء حال
حقّ من مات منهم أن يهنّا
« بل اندمجت » أي : انطويت .
« على مكنون علم » أي : مصونه و مستوره عن العامّة .
« لو بحت به » أي : أظهرته من باح الرجل بسرّه أظهره .
« لاضطربتم اضطراب الأرشية » الأرشية جمع الرشاء : حبل يستقى به من البئر ، و الرشوة قيل إنّها من هذا لأنّه يتوصّل بها إلى الحاجة كما يتوصل بالحبل إلى الماء ، و قيل : إنّها من رشا الفرخ إذا مدّ رأسه إلى امّه لتزقّه .
« في الطويّ البعيدة » أي : في البئر العميقة ، و بحسب ازدياد العمق يزداد اضطراب الحبل .
كان هو عليه السلام و أهل بيته ، و خواص شيعته يكتمون كثيرا ممّا يعلمون عن كثير من الناس لعدم استعدادهم لفهمه . و في كتاب سليم بن قيس : قال أمير المؤمنين عليه السلام : لو حدّثت عامّة شيعتي الذين سمّوني أمير المؤمنين و استحلوا جهاد من خالفني ببعض ما أعلم ممّا نزل به جبرئيل عليه السلام و سمعته من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لتفرّقوا عنّي حتّى أبقى في عصابة حقّ قليلة إنّ أمرنا صعب مستصعب ، لا يعرفه و لا يقرّ به إلاّ ثلاثة : ملك مقرّب ، أو نبيّ مرسل ، أو عبد مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان ١ .
و عن السجاد عليه السلام كما في ( فواتح الميبدي ) ثم ( وافي الكاشاني ) ، و إن نسبها الخطيب إلى العتابي :
ــــــــــــــــــ
( ١ ) كتاب سليم بن قيس : ٦٩ ، و النقل بتصرف .
إنّي لأكتم من علمي جواهره
كيلا يرى الحقّ ذو جهل فيفتتنا
و قد تقدّم في هذا أبو حسن
إلى الحسين و وصّى قبله الحسنا
و ربّ جوهر علم لو أبوح به
لقيل لي أنت ممّن يعبد الوثنا
و لا ستحلّ رجال مسلمون دمي
يرون أقبح ما يأتونه حسنا ١
و في ( الحلية ) عن أبي داود قال : كنّا يوما عند شعبة و في البيت جراب معلّق في السقف . فقال : أترون ذلك الجراب ؟ و اللّه لقد كتبت فيه عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن علي كرّم اللّه وجهه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ما لو حدّثتكم به لرقصتم ، و اللّه لا حدّثتكموه ٢ .
و في ( الكافي ) : قيل لأبي جعفر الباقر عليه السلام أنّ الحسن البصري يزعم أنّ الّذين يكتمون العلم يؤذي ريح بطونهم أهل النار . فقال عليه السلام : فهلك إذن مؤمن آل فرعون . ما زال العلم مكتوما منذ بعث اللّه نوحا ، فليذهب الحسن يمينا و شمالا فو اللّه ما يوجد العلم إلاّ ها هنا ٣ .
و في ( عيون القتيبي ) : قال سلمان : لو حدّثت الناس بكلّ ما أعلم لقالوا :
رحم اللّه قاتل سلمان ٤ .
و في ( رجال الكشّي ) عن الصادق عليه السلام قال سلمان في خطبته : أيّها الناس اسمعوا من حديثي ، ثم اعقلوه عنّي . قد اوتيت من العلم كثيرا ، و لو أخبرتكم بكلّ ما أعلم لقالت طائفة : إنّه لمجنون ، و قالت طائفة : اللّهمّ اغفر لقاتل سلمان . ألا إنّ لكم منايا تتبعها بلايا . فإنّ عند علي عليه السلام علم المنايا و علم
ــــــــــــــــــ
( ١ ) رواه الميبدي في الفواتح ، مخطوط ، و الكاشاني في المحجة البيضاء ١ : ٦٥ ، و الشبراوي في الإتحاف : ١٣٨ ، و الآلوسي في روح المعاني ٦ : ١٩٠ ، عن السجّاد عليه السلام ، و رواه الخطيب في تاريخ بغداد ١٢ : ٤٨٩ ، عن العتابي .
( ٢ ) حلية الأولياء ٧ : ١٥٧ .
( ٣ ) الكافي ١ : ٥١ ، ١٥ .
( ٤ ) عيون الأخبار ٢ : ١٢٧ .
الوصايا ، و فصل الخطاب على منهاج هارون بن عمران . قال له النبي عليه السلام : أنت وصيّي و خليفتي في أهلي بمنزلة هارون من موسى ، و لكنكم أصبتم سنّة الأوّلين ، و أخطأتم سبيلكم ، و الّذي نفس سلمان بيده لتركبنّ طبقا عن طبق ،
سنّة بني اسرائيل القذّة بالقذّة ، أما و اللّه لو ولّيتموها عليّا لأكلتم من فوقكم و من تحت أرجلكم . فأبشروا بالبلاء . و اقنطوا من الرجاء ، و أنذرتكم على سواء ، و انقطعت العصمة فيما بيني و بينكم من الولاء الخبر ١ .
و في ( استيعاب ابن عبد البر ) : سئل علي عليه السلام عن أبي ذر . فقال : ذاك رجل وعى علما عجز عنه الناس ، ثم أوكأ عليه و لم يخرج شيئا منه ٢ .
و روى المرتضى في ( شافيه ) : أنّ الشعبي كان يقول : كان عند عبد اللّه بن عباس دفائن علم يعطيها أهله ، و يصرفها عن غيرهم ، و كان حذيفة يقول : كان أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يسألونه عن الخير ، و أنا أسأله عن الشرّ مخافة أن أقع فيه ، و كان يقول : لو كنت على شاطئ نهر ، و قد مددت يدي لاغترف . فحدّثتكم بكل ما اعلم ما وصلت يدي إلى فمي حتّى اقتل ٣ .
و روى الخطيب عن عيسى بن يونس قال : حدّثنا الأعمش بأربعين حديثا فيها ضرب الرقاب لم يشركني فيها غير محمّد بن إسحاق ربما قال الأعمش لمحمّد بن إسحاق : من معك ؟ فيقول : عيسى بن يونس . فيقول : أدخلا و أجيفا الباب ، و كان يسأله عن حديث الفتن ٤ .
قلت : و هل تحتمل أن يكون حديث : لو حدّثهم سلمان لقالوا : رحم اللّه قاتله ، و لو حدّثهم حذيفة ما أمهلوه حتّى يشرب ماءه الّذي اغترفه من
ــــــــــــــــــ
( ١ ) اختيار معرفة الرجال : ٢١ .
( ٢ ) الاستيعاب ٤ : ٦٤ .
( ٣ ) لم أظفر به في مظانه في الشامن .
( ٤ ) رواه الخطيب في تاريخ بغداد ١١ : ١٥٣ ، و النقل بتصرف يسير .
النهر ليشربه ، و لو حدّثهم الأعمش كان فيه ضرب الرقاب ، إلاّ بطلان أمر الأوّلين ؟ كيف لا و كان مالك بن نويرة قد خاطب خالد بن الوليد في التعبير عن أبي بكر بصاحبك . فقتله خالد لذلك ، و معاوية و من بعده من خلفاء بني اميّة لا يمهلون أحدا يتفوّه بإنكار خلافتهم حفظا لسلطنتهم ،
و كذلك العباسيّة ، و قد خوّف معاوية الحسن عليه السلام لمّا قال : إنّ قريشا آثروا علينا بأنّك صرّحت بتهمة أبي بكر الصدّيق ، و عمر الفاروق و أبي عبيدة الأمين .
و لقد صدق عليه السلام في أنّه اندمج على مكنون علم لو باح به لمن كان ميله إليه عمّه و غيره اضطربوا اضطراب الارشية في الطويّ البعيدة .
فكيف كانوا يخلّونه عليه السلام يتصدّى للأمر مع أنّه بعد مضيّ ثلاثة منهم ، و بعد ما قاسوا من ثالثهم حتّى اضطروا إلى قتله دفعا لشرّه بتسليطه بني اميّة على الناس ، و أخذهم مال اللّه دولا ، و عباده خولا ، و بعد بيعة العامة له عليه السلام بتلك الكيفية حتّى شقّوا من الشوق و الولع إلى بيعته عطفيه ،
و وطؤا الحسنين عليه السلام ما تركوه و الناس بل نكثت طائفة منهم ، و قسطت اخرى ، و مرقت ثالثة حتّى قتلوه و خضبوا لحيته من رأسه . و كان عليه السلام عالما بجميع ذلك كما يعلم من أخباره عليه السلام بخصوصيات ما يتّفق قبل وقوعها في الجمل و صفّين و النهروان . فقد أخبر في النهروان بأنّه لا يقتل من أصحابه عشرة ، و لا يفلت من المارقة عشرة ، و ان مصارعهم دون النطفة و كون شيطان الردهة ذي الثديّة فيهم حتّى أنّهم لمّا قالوا له لا نجده فيهم قال عليه السلام : ما كذبت و لا كذبت ، و قام بنفسه حتّى أخرجه من تحت قتلاهم ١ إلى غير ذلك .
ــــــــــــــــــ
( ١ ) رواه المسعودي في مروج الذهب ٢ : ٤٠٥ و ٤٠٦ ، و غيره .
١٩
من الخطبة ( ٢٦ ) و منها :
فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي مُعِينٌ إِلاَّ أَهْلُ بَيْتِي فَضَنِنْتُ بِهِمْ عَنِ اَلْمَوْتِ وَ أَغْضَيْتُ عَلَى اَلْقَذَى وَ شَرِبْتُ عَلَى اَلشَّجَا وَ صَبَرْتُ عَلَى أَخْذِ اَلْكَظَمِ وَ عَلَى أَمَرَّ مِنْ طَعْمِ اَلْعَلْقَمِ من الخطبة ( ١٧٠ ) منها :
وَ قَدْ قَالَ قَائِلٌ إِنَّكَ عَلَى هَذَا اَلْأَمْرِ يَا ؟ اِبْنَ أَبِي طَالِبٍ ؟ لَحَرِيصٌ فَقُلْتُ بَلْ أَنْتُمْ وَ اَللَّهِ لَأَحْرَصُ وَ أَبْعَدُ وَ أَنَا أَخَصُّ وَ أَقْرَبُ وَ إِنَّمَا طَلَبْتُ حَقّاً لِي وَ أَنْتُمْ تَحُولُونَ بَيْنِي وَ بَيْنَهُ وَ تَضْرِبُونَ وَجْهِي دُونَهُ فَلَمَّا قَرَّعْتُهُ بِالْحُجَّةِ فِي اَلْمَلَإِ اَلْحَاضِرِينَ هَبَّ كَأَنَّهُ بُهِتَ لاَ يَدْرِي مَا يُجِيبُنِي بِهِ اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى ؟ قُرَيْشٍ ؟ وَ مَنْ أَعَانَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي وَ صَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِيَ وَ أَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْراً هُوَ لِي ثُمَّ قَالُوا أَلاَ إِنَّ فِي اَلْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وَ فِي اَلْحَقِّ أَنْ تَتْرُكَهُ من الخطبة ( ٢١٥ ) و من كلام له عليه السلام :
اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى ؟ قُرَيْشٍ ؟ وَ مَنْ أَعَانَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي وَ أَكْفَئُوا إِنَائِي وَ أَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقّاً كُنْتُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِي وَ قَالُوا أَلاَ إِنَّ فِي اَلْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وَ فِي اَلْحَقِّ أَنْ تُمْنَعَهُ فَاصْبِرْ مَغْمُوماً أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي رَافِدٌ وَ لاَ ذَابٌّ وَ لاَ مُسَاعِدٌ إِلاَّ أَهْلَ بَيْتِي فَضَنَنْتُ بِهِمْ عَنِ اَلْمَنِيَّةِ فَأَغْضَيْتُ عَلَى اَلْقَذَى
وَ جَرِعْتُ رِيقِي عَلَى اَلشَّجَا وَ صَبَرْتُ مِنْ كَظْمِ اَلْغَيْظِ عَلَى أَمَرَّ مِنَ اَلْعَلْقَمِ وَ آلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ وَخْزِ اَلشِّفَارِ و قد مضى هذا الكلام في أثناء خطبة متقدمة إلا أني ذكرته هاهنا لاختلاف الروايتين من الكتاب ( ٣٦ ) في كتابه عليه السلام إلى عقيل :
فَدَعْ عَنْكَ ؟ قُرَيْشاً ؟ وَ تَرْكَاضَهُمْ فِي اَلضَّلاَلِ وَ تَجْوَالَهُمْ فِي اَلشِّقَاقِ وَ جِمَاحَهُمْ فِي اَلتِّيهِ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى حَرْبِي كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى حَرْبِ ؟ رَسُولِ اَللَّهِ ص ؟ قَبْلِي فَجَزَتْ ؟ قُرَيْشاً ؟ عَنِّي اَلْجَوَازِي فَقَدْ قَطَعُوا رَحِمِي وَ سَلَبُونِي سُلْطَانَ اِبْنِ أُمِّي أقول : الأصل في الثلاثة الاولى هو كتاب كتبه عليه السلام للناس ليخطب به عبيد اللّه بن أبي رافع لمّا سأله الناس عن قوله في أبي بكر و عمر و عثمان بعد فتح معاوية لمصر ، و قتله محمّد بن أبي بكر . شرح عليه السلام في كتابه ذاك الأمر من بعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلى وفاته ، و أيام أبي بكر و عمر و عثمان . ثم بيعة الناس له .
ثم قيام الناكثة والقاسطة و المارقة عليه . ثم غارات معاوية ، و خذلان الناس له .
و العناوين الثلاثة الأول كلامه عليه السلام من ذاك الكتاب في بيان حال قريش يوم الشورى ، و اتّفاقهم على صرف الأمر عنه عليه السلام إلى عثمان . ذكر ذاك الكتاب الثقفي في ( غاراته ) ، و القتيبي في ( خلفائه ) ، و الكليني في ( رسائله ) . و ابن رستم الطبري في ( مسترشده ) ١ .
قال الثقفي و القتيبي في جملة نقلهما الكتاب « فجعلني الثاني سادس ستّة . فما كانوا لولاية أحد أشد كراهية منهم لولايتي عليهم فكانوا يسمعوني
ــــــــــــــــــ
( ١ ) جاء في الغارات للثقفي ١ : ٣٠٢ ، و الإمامة و السياسة ١ : ١٥٤ ، و رسائل الكليني ، عنه كشف المحجة : ١٧٤ .
عند وفاة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم احاجّ أبا بكر و أقول : يا معشر قريش إنّا أهل البيت أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان فينا من يقرأ القرآن و يعرف السنّة ، و يدين دين الحق . فخشي القوم إن أنا ولّيت عليهم ألاّ يكون لهم في الأمر نصيب ما بقوا .
فأجمعوا إجماعا واحدا فصرفوا الولاية عنّي الى عثمان ، و أخرجوني منها رجاء أن ينالوها و يتداولوها ، إذ يئسوا أن ينالوها من قبلي . ثم قالوا : هلمّ فبايع و إلاّ جاهدناك . فبايعت مستكرها ، و صبرت محتسبا . فقال قائلهم : يا ابن أبي طالب إنّك على هذا الأمر لحريص . فقلت : أنتم أحرص منّي و أبعد . أأنا أحرص اذا طلبت تراثي ، و حقّي الّذي جعلني اللّه و رسوله أولى به ، أم أنتم ؟
تضربون وجهي دونه ، و تحولون بيني و بينه . فبهتوا ، و اللّه لا يهدي القوم الظالمين . اللّهمّ إنّي أستعديك على قريش . فإنّهم قطعوا رحمي و أصغوا إنائي ،
و صغّروا عظيم منزلتي ، و أجمعوا على منازعتي حقّا كنت أولى به منهم فسلبونيه . ثم قالوا : ألاّ إنّ في الحق أن تأخذه و في الحق أن تمنعه . فاصبر كمدا متوخما . أو مت متأسفا حنقا . فنظرت فإذا ليس معي رافد و لا ذابّ و لا مساعد إلاّ أهل بيتي . فضننت بهم عن الهلاك . فأغضيت على القذى ، و تجرّعت ريقي على الشجا ، و صبرت من كظم الغيظ على امرّ من العلقم و في الأوّل آلم للقلب من حزّ الشفار و في الثاني و آلم للقلب من حزّ الحديد .
و قال محمّد بن يعقوب « و لم يكونوا لولاية أحد منهم أكره منهم لولايتي . كانوا يسمعون و أنا احاجّ أبا بكر و أقول : يا معشر قريش أنا أحقّ بهذا الأمر منكم . ما كان منّا من يقرأ القرآن و يعرف السنّة ، و يدين دين اللّه الحق ، و إنّما حجّتي أنّي وليّ هذا الأمر من دون قريش ، أنّ نبيّ اللّه قال « الولاء لمن أعتق » فجاء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم بعتق الرقاب من النار ، و أعتقها من الرقّ . فكان للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ولاء هذه الامّة ، و كان لي بعده ما كان له . فما جاز لقريش من
فضلها عليها بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم جاز لبني هاشم على قريش ، و جاز لي على بني هاشم بقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يوم غدير خم « من كنت مولاه فهذا علي مولاه » إلاّ أن تدّعي قريش فضلها على العرب بغير النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فإن شاءوا فليقولوا ذلك فخشى القوم إن أنا ولّيت عليهم أن آخذ بأنفاسهم ، و اعترض في حلوقهم ، و لا يكون لهم في الأمر نصيب . فأجمعوا علي إجماع رجل واحد منهم حتّى صرفوا الولاية عنّي إلى عثمان رجاء أن ينالوها و يتداولوها فيما بينهم .
فبيناهم كذلك إذ نادى مناد لا يدرى من هو ، و أظنّه جنيّا فأسمع أهل المدينة ليلة بايعوا عثمان . فقال :
يا ناعي الاسلام قم فانعه
قد مات عرف و بدا منكر
ما لقريش لا علا كعبها
من قدّموا اليوم و من أخّروا
إنّ عليّا هو أولى به
منه فولّوه و لا تنكروا
فكان لهم في ذلك عبرة ، و لو لا أنّ العامّة قد علمت بذلك لم أذكره فدعوني إلى بيعة عثمان ، فبايعت مستكرها ، و صبرت محستبا ، و علّمت أهل القنوت أن يقولوا : « اللّهمّ لك أخلصت القلوب ، و إليك شخصت الأبصار و أنت دعيت بالألسن ، و إليك تحوكم في الأعمال . فافتح بيننا و بين قومنا بالحق .
اللهم إنّا نشكوا اليك غيبة نبيّنا ، و كثرة عدوّنا ، و قلّة عددنا ، و هواننا على الناس ،
و شدّة الزمان ، و وقوع الفتن بنا . اللّهمّ ففرّج ذلك بعدل تظهره ، و سلطان حق تعرفه » .
فقال عبد الرحمن بن عوف : يا ابن أبي طالب إنّك على هذا الأمر لحريص .
فقلت : لست عليه حريصا . إنّما أطلب ميراث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و حقّه ، و أنّ ولاء أمّته لي من بعده ، و أنتم أحرص عليه منّي إذ تحولون بيني و بينه ، و تصرفون وجهي دونه بالسيف . اللّهمّ إنّي أستعديك على قريش . فإنّهم قطعوا رحمي ،
و أضاعوا أيّامي ، و دفعوا حقّي ، و صغّروا قدري ، و عظيم منزلتي ، و أجمعوا على منازعتي حقّا كنت أولى به منهم فاستلبونيه ثم قالوا : إصبر مغموما أو مت متأسّفا . و ايم اللّه لو استطاعوا أن يدفعوا قرابتي كما قطعوا سببي فعلوا ،
و لكنّهم لا يجدون إلى ذلك سبيلا إلى أن قال :
فقال ( لي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ) : يا ابن أبي طالب لك ولاء امّتي . فإن ولّوك في عافية و أجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم . و إن اختلفوا عليك فدعهم و ما هم فيه . فإنّ اللّه سيجعل لك مخرجا . فنظرت فإذا ليس لي رافد ، و لا معي مساعد ، إلاّ أهل بيتي ، فضننت بهم عن الهلاك ، و لو كان لي بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم عمّي حمزة ، و اخي جعفر ، لم ابايع كرها ، و لكنّني بليت برجلين حديثي عهد بالاسلام العباس و عقيل . فأغضيت عيني على القذى ، و تجرّعت ريقي على الشجا ، و صبرت على أمرّ من العلقم و آلم للقلب من حزّ الشفار . و مثله قال ابن رستم الطبري مع اختلاف يسير .
و أما العنوان الرابع فذكره ابن قتيبة في جواب كتاب أخيه عقيل ، و قد كان وصل إليه كتابه في الطريق لمّا شخص عليه السلام من المدينة إلى البصرة .
و في كتاب عقيل إليه عليه السلام و انّي خرجت معتمرا فلقيت عائشة معها طلحة و الزبير و ذووهما و هم متوجّهون إلى البصرة . قد أظهروا الخلاف ،
و نكثوا البيعة ، و ركّبوا عليك قتل عثمان ، و تبعهم على ذلك كثير من الناس من طغاتهم و أوباشهم . ثم مرّ عبد اللّه بن أبي سرح في نحو من أربعين راكبا من أبناء الطلقاء من بني اميّة . فقلت لهم و عرفت المنكر في وجوههم أ بمعاوية تلحقون عداوة للّه ، و اللّه إنّها منكم ظاهرة غير مستنكرة تريدون بها اطفاء نور اللّه و تغيير أمر اللّه إلى أن قال :
فكتب علي عليه السلام في جوابه : « تذكر في كتابك انّك لقيت ابن أبي سرح في
أربعين من أبناء الطلقاء من بني اميّة متوجّهين إلى الغرب ، و ابن أبي سرح يا أخي طالما كاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و صدّ عن كتابه و سنته و بغاهما عوجا . فدع ابن أبي سرح و قريشا و تركاضهم في الضلال . فإنّ قريشا قد اجتمعت على حرب أخيك اجتماعها على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قبل اليوم ، و جهلوا حقّي ،
و جحدوا فضلي و نصبوا لي الحرب ، و جدّوا في إطفاء نور اللّه . اللّهمّ فاجز قريشا عنّي بفعالها ، فقد قطعت رحمي ، و ظاهرت علي ، و سلبتني سلطان ابن عمّي ، و سلّمت ذلك لمن ليس في قرابتي ، و حقّي فى الاسلام ، و سابقتي الّتي لا يدّعي مثلها مدّع إلاّ أن يدّعي ما لا أعرف ، و لا أظن اللّه يعرفه » ١ .
و نقله ( الأغاني ) في عنوان ذكر الخبر في مقتل ابني عبيد اللّه بن العباس راويا له باسناده عن أبي مخنف ، عن سليمان بن أبي راشد ، عن ابن أبي الكنود عبد الرحمن بن عبيد ٢ .
و رواه ( غارات الثقفي ) كما نقله ابن أبي الحديد عند ذكر خطبته عليه السلام « أيّها الناس المجتمعة أبدانهم » ٣ .
قوله عليه السلام في العنوان الأوّل « فنظرت فإذا ليس لي معين إلاّ أهل بيتي .
فضننت بهم عن الموت » . و في العنوان الثالث « فنظرت فإذا ليس لي رافد ، و لا ذابّ و لا مساعد إلاّ أهل بيتي . فضننت بهم عن المنية » الأصل فيهما واحد و قد عرفت أنّه عليه السلام قاله لمّا اتفق قريش الطلقاء مع عبد الرحمن بن عوف حكم عمر على صرف الامر عنه عليه السلام إلى عثمان ، و أنّهم قالوا له إن لا تبايع عثمان نقاتلك ،
و قد كان عمر أيضا دعا قبل موته أبا طلحة الأنصاري ، و قال له : كن في
ــــــــــــــــــ
( ١ ) الإمامة و السياسة ١ : ٥٤ ٥٦ ، و النقل بتلخيص .
( ٢ ) الأغاني ١٦ : ٢٦٨ .
( ٣ ) الغارات ٢ : ٤٢٨ ، و شرح ابن أبي الحديد ١ : ١٥٥ ، شرح الخطبة ٢٩ .
خمسين رجلا من قومك فاقتل من أبى من ستّة الشورى حكمي و حكمية ابن عوف ، و قد كان علم أنّ الآبي منهم إنّما هو أمير المؤمنين عليه السلام فنظر عليه السلام فلم ير له رافدا و معينا ، و لا ذابّا و مدافعا عنه ، و لا مساعدا له و ناصرا إلاّ أهل بيته . فان أرادوا الدفاع عنه عليه السلام قتلوا كما قتل أهل بيت الحسين عليه السلام يوم الطف لمّا ساعدوه . فضنّ عليه السلام أي بخل بهم لنفاسهتم عن المنية أي الموت ، و الأصل في الضنّة البخل عن شيء نفيس يقال « علق مضنّة » : أي شيء نفيس علق القلب به فلا يرضى ببذله .
و نفاسة أهل بيته عليهم السلام معلومة ، و قد أخبر اللّه سبحانه عن نفاستهم في قوله عزّ اسمه إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا ١ .
و كذلك أخبر رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن نفاستهم في قوله « مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا و من تخلّف عنها غرق » ٢ ، و في قوله « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي و لن يفترقا حتّى يردا علي الحوض و إن تمسّكتم بهما لن تضلوا أبدا » ٣ .
و لأنّ بهم قوام الأرض كما بالكواكب قوام السماء ، و لو هلكوا لهلك أهل الأرض ، و لأنّهم كانوا حججه على عباده ، و لا يخلي عزّ اسمه أرضه من حجّة طرفة عين .
و قوله عليه السلام في الأوّل « و أغضيت على القذى » و أمّا ما في ( المصرية )
ــــــــــــــــــ
( ١ ) الاحزاب : ٣٣ .
( ٢ ) حديث السقيفة أخرجه الحاكم في المستدرك ٢ : ٣٤٣ ، و ابو يعلى في مسنده ، و عنه المطالب العالية ٤ : ٧٥ ح ٤٠٠٣ و ٤٠٠٤ ، و غيرهم عن أبي ذر و علي عليه السلام و ابن عباس و أبي سعيد و غيرهم .
( ٣ ) حديث الثقلين أخرجه مسلم في صحيحه ٤ : ١٨٧٣ و ١٨٧٤ ح ٣٦ ، و ٣٧ و الترمذي في سننه ٥ : ٦٦٣ ، ح ٣٧٨٨ و الحاكم في المستدرك ٣ : ١٤٨ ، و جماعة كثيرة اخرى .
« عن القذى » بدل « على القذى » فتصحيف ١ .
« و شربت على الشجا ، و صبرت على أخذ الكظم ، و على أمرّ من طعم العلقم » و في ( ابن ميثم ) الّذي نسخته بخط مصنّفه « من العلقم » بدل « من طعم العلقم » ٢ و قوله عليه السلام في الثالث : « فأعضيت على القذى ، و جرعت ريقي على الشجار و صبرت من كظم الغيظ على أمرّ من العلقم ، و آلم للقلب من حزّ الشفار » أيضا الأصل فيهما واحد كما عرفت .
و الإغضاء على القذى الّذي معناه غضّ البصر على ما دخل فيه من التراب كرها ، و كان عليه السلام في إكراههم له على بيعة عثمان مصداق ما قيل « الكريم ربّما أغضى و بين جنبيه نار الغضا » « و الشرب على الشّجا » و « جرع الريق على الشجا » معناه أن يكون اعترض في حلقه شيء حتى يجفّ لعابه .
فيكون شربه ، و طلب الرطوبة لحلقه حتّى يتنفّس في غاية الشدّة و كان عليه السلام في ذلك مصداق ما قيل « عليك بالكظم ، و ان شجيت بالعظم » .
و صبر عليه السلام من كظم الغيظ على أمرّ من العلقم و العلقم شجر مرّ و يقال للحنظل و كلّ شيء مرّ علقم . و قال في ذلك السيّد الحميري :
لم يشكروا لمحمّد إنعامه
أفيشكرون لغيره إن أنعما
اللّه منّ عليهم بمحمّد
و هداهم و كسا الجلود و أطعما
ثم انهروا لوصيّه و وليّه
بالمنكرات فجرّعوه العلقما
و صبر عليه السلام في ذلك على ما هو آلم للقلب من حزّ الشفار : أي قطع السكّين . روى الجوهري و الثقفي في ( سقيفتيهما ) و عوانة في ( شوراه ) عن الشعبي عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه قال : كنت جالسا بالمسجد حين
ــــــــــــــــــ
( ١ ) لفظ نهج البلاغة ١ : ٦٧ ، و شرح ابن أبي الحديد ١ : ١٢٢ ، و شرح ابن ميثم ٢ : ٢٦ ، « على القذى » .
( ٢ ) شرح ابن ميثم ٢ : ٢٦ .
بويع عثمان فجئت إلى المقداد . فسمعته يقول : « و اللّه ما رأيت مثل ما اتى إلى أهل هذا البيت » و كان عبد الرحمن بن عوف جالسا فقال : و ما أنت و ذاك يا مقداد . قال المقداد : « إنّي و اللّه احبّهم بحبّ رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم و إنّي لأعجب من قريش و تطاولهم بفضل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و انتزاعهم سلطانه من أهله » قال عبد الرحمن : اما و اللّه لقد أجهدت نفسي لكم . قال المقداد : « أما و اللّه لقد تركت رجلا من الّذين يأمرون بالحقّ و به يعدلون ، أما و اللّه لو أنّ لي على قريش أعوانا لقاتلتهم قتالي ايّاهم ببدر واحد » فقال له عبد الرحمن : ثكلتك امّك لا يسمعنّ هذا الكلام الناس . فإنّي أخاف أن تكون صاحب فتنة و فرقة . و تربدّ وجهه . ثم قال : « لو أعلم أنّك إيّاي تعني لكان لي و لك شأن . قال المقداد : « إيّاي تهدّد يا ابن ام عبد الرحمن ؟ » ثم قام فانصرف . قال جندب : فاتّبعته و قلت له : يا عبد اللّه أنا من أعوانك . فقال : رحمك اللّه إنّ هذا الأمر لا يغني فيه الرجلان و لا الثلاثة فدخلت من فوري ذلك على علي عليه السلام . فلمّا جلست إليه قلت : يا أبا الحسن و اللّه ما أصاب قومك بصرف هذا الأمر عنك . فقال : صبر جميل و اللّه المستعان . فقلت : و اللّه انّك لصبور قال : فإن لم أصبر فماذا أصنع . قلت : « إنّي جلست إلى المقداد و عبد الرحمن بن عوف ، فقالا كذا و كذا ، ثم قام المقداد فاتّبعته فقلت له كذا فقال لي كذا » . فقال علي عليه السلام : صدق المقداد . فما اصنع ؟
فقلت : « تقوم في الناس فتدعوهم إلى نفسك و تخبرهم أنّك أولى بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و تسألهم النصر على هؤلاء المتظاهرين عليك . فإن أجابك عشرة من مائة شددت بهم على الباقين . فإن دانوا لك فذاك و إلاّ قاتلتهم ، و كنت أولى بالعذر قتلت أو بقيت و كنت عند اللّه على حجّة » . فقال « أ ترجو يا جندب أن يبايعني من كلّ عشرة واحد » ؟ قلت : أرجو ذلك . قال « لكنّي لا أرجو ذلك لا و اللّه ، و لا من المائة واحد ، و ساخبرك أنّ الناس إنّما ينظرون إلى قريش فيقولون : هم قوم
محمّد و قبيلته ، و أمّا قريش فتقول : إنّ آل محمّد يرون على الناس بنبوّته فضلا يرون أنّهم أولياء هذا الأمر دون قريش ، و دون غيرهم من الناس ، و أنّهم إن ولّوه لم يخرج السلطان منهم إلى أحد أبدا ، و متى كان في غيرهم تداولته قريش بينها . لا و اللّه لا يدفع الناس إلينا هذا الأمر طائعين أبدا » . فقلت : جعلت فداك يا ابن عم رسول اللّه ، لقد صدعت قلبي بهذا القول . أفلا أرجع إلى المصر فأوذن الناس بمقالتك ، و أدعو الناس إليك . فقال : يا جندب ليس هذا زمان ذاك ،
فانصرفت إلى العراق فكنت أذكر فضل علي عليه السلام على الناس . فلا أعدم رجلا يقول لي ما أكره ، و أحسن من أسمعه قولا من يقول : دع عنك هذا و خذ في ما ينفعك فاقول : « إنّ هذا مما ينفعني و ينفعك » . فيقوم عنّي و يدعني .
و زاد الجوهري في خبره : « حتّى رفع ذلك من قولي إلى الوليد بن عقبة أيّام ولينا فبعث إلىّ فحبسني حتّى كلّم فيّ فخلّى سبيلي » ١ .
و في ( سقيفة الجوهري ) و ( شورى عوانة ) عن الشعبي بعد ذكر بيعة ابن عوف لعثمان و أقبل عمّار ينادي :
يا ناعي الاسلام قم فانعه
قد مات عرف و بدا نكر
أما و اللّه لو أنّ لي أعوانا لقاتلتهم ، و اللّه لئن قاتلهم واحد لأكونن له ثانيا .
فقال علي عليه السلام « يا ابا اليقظان و اللّه لا أجد عليهم أعوانا ، و لا احبّ أن أعرضكم لما لا تطيقون » و بقي عليه السلام في داره ، و عنده نفر من أهل بيته ، و ليس يدخل إليه أحد مخافة عثمان ٢ .
و روى الخليل بن أحمد أنّ أعرابيا ورد على الوليد بن يزيد بن عبد الملك
ــــــــــــــــــ
( ١ ) رواه الجوهري في السقيفة : ٨٨ ، و الثقفي ، و عنه امالي المفيد : ١٦٩ ح ٥ ، المجلس ٢١ ، و عوانة في الشورى ، و عنه شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٣٩١ ، شرح الخطبة ١٣٧ ، و النقل بتصرف .
( ٢ ) رواه الجوهري في السقيفة : ٨٧ ، و عوانة في الشورى ، و عنه شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٣٩١ ، شرح الخطبة ١٣٧ .
إلى أن قال بعد ذكره لمقامات علي عليه السلام طلب منه الوليد هجاءه . فقال له : أمثل هذا يستحق الهجاء ، و عزمه الحاذق ، و قوله الصادق ، و سيفه الفالق و إنّما يستحق الهجاء من سامه عليه ، و أخذ الخلافة ، و أزالها من الوراثة ، و صاحبها ينظر إلى فيئه ، و كأنّ الشبادع تلسعه الخبر و الشبادع : العقارب .
قول المصنّف : « و قد مضى هذا الكلام في أثناء خطبة متقدّمة إلاّ أنّي كرّرته هنا لاختلاف الروايتين » أقول : لم يمض الكلام كله في موضع واحد بل صدره : « اللّهمّ إنّي أستعديك على قريش إلى و في الحق أن تمنعه » مضى في ذيل العنوان الثاني ، و ذيله « فنظرت » إلخ مضى في العنوان الأوّل .
قوله عليه السلام في الثاني : « و قد قال قائل : إنّك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ما في ( ابن ميثم ) و كذا ( ابن أبي الحديد و الخطيّة ) « و قال لي قائل إنّك يا ابن أبي طالب على هذا الأمر لحريص » ١ .
قال ابن أبي الحديد : قال عليه السلام : هذا الكلام يوم الشورى ، و القائل الّذي قال له « إنّك على هذا الأمر لحريص » سعد بن أبي وقاص مع روايته فيه « أنت بمنزلة هارون من موسى » و هذا عجب ، و قالت الامامية : قال يوم السقيفة و القائل أبو عبيدة بن الجراح ٢ .
قلت : كيف نسب ما قاله إلى الامامية ، و قد روى محمّد بن يعقوب الكليني و محمّد بن جرير بن رستم الطبري و هما من قدماء الامامية : إنّه عليه السلام قاله يوم الشورى ، و قد عرفت من خبرهما أنّ القائل كان عبد الرحمن بن عوف لا أبو عبيدة الّذي قال .
ــــــــــــــــــ
( ١ ) لفظ شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٤٧٥ ، و شرح ابن ميثم ٣ : ٣٢٩ ، أيضا نحو المصرية .
( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٤٧٥ ، و النقل بتلخيص .
ثم أيّ شيء يغني عنه في كونه كلامه عليه السلام يوم الشورى في صحة أمر يوم السقيفة ، و قد تضمّن قوله عليه السلام يوم الشورى بطلان أمر السقيفة ، و أنّه الأساس فمرّ في رواياتهم عن الثقفي ، و ابن قتيبة قوله عليه السلام يوم الشورى « فما كانوا لولاية أحد منهم بأكره منهم لولايتي ، لأنّهم كانوا يسمعونني و أنا أحاجّ أبا بكر فأقول : يا معشر قريش ، إنّا أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم إلى آخر ما مرّ ١ .
ثم لم ادر إلى أي شيء استند في قوله : إن القائل كان سعدا ، و خبر الثقفي الوارد من طريقهم و قد نقله نفسه في شرح قوله عليه السلام « و من كلام له عليه السلام لمّا قلّد محمّد بن أبي بكر مصر » خال من اسم القائل كخبر ابن قتيبة ، و المجمل يحمل على المفصل خبر الكليني و الطبري المصرّح بعبد الرحمن ٢ .
و أيضا الجريء منهم على أن يقول له هذا الكلام ، و يخاطبه بذاك الخطاب إنّما كان عبد الرحمن لكونه حكم عمر في اختيار من شاء منهم .
« فقلت : بل انتم و اللّه أحرص و أبعد ، و أنا أخص و أقرب » إنّما قال عليه السلام « بل أنتم » مع أنّ القائل له « انّك لحريص » إنما كان واحدا لقوله عليه السلام قبل « و قال لي قائل » لكون باقيهم على رأيه . فيصحّ النسبة إلى جميعهم كما في قوله تعالى :
فعقروها ٣ مع أنّ العاقر كان واحدا .
ثم الأصل في قول عبد الرحمن له عليه السلام « انّك على هذا الأمر لحريص » قول فاروقهم فقال له عليه السلام في مال قال للستّة كما قال ابن قتيبة « و ما يمنعني
ــــــــــــــــــ
( ١ ) مر في اوائل هذا العنوان .
( ٢ ) جاء في الغارات ١ : ٣١٨ ، و عنه ابن أبي الحديد في شرحه ٢ : ٣٦ ، شرح الخطبة ٦٩ ، و الإمامة و السياسة ١ : ١٥٥ ، و رسائل الكليني ، عنه كشف المحجة : ١٧٩ .
( ٣ ) الشمس : ١٤ .