بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٤
0%
مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 597
مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 597
« من المثلات » جمع المثلة بالفتح فالضم أي : العقوبة .
« حجزته » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : « حجزه » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) ١ : أي : منعه .
« التقوى عن تقحّم الشبهات » التقحّم من تقحّم به المركب إذا لم يضبطه .
قال الشاعر :
أقول و الناقة بي تقحم ٢ هذا ، و ليس من أوّل العنوان إلى هنا في ( مداركه ) ، و إنّما الجملة الاولى إلى « زعيم » من كلامه عليه السلام في البدع كما في ( الإرشاد ) ٣ ، و أمّا الجملة الثانية فلم أقف على موضعها .
« ألا و انّ بليّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث اللّه نبيّكم صلّى اللّه عليه و آله و سلم » هذا الكلام يدلّ على أنّ الإمامة كالنبوّة ، و أنّه عليه السلام مثل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في امتحان اللّه تعالى الخلق به . ففي بعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم سبق جمع كانوا قصّروا ، و قصّر جمع كانوا سبقوا . فاليهود كانوا يبشّرون الناس بظهور النبي الخاتم ، و يوعدون الأوس و الخزرج به ، فلمّا بعث النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم كفر به اليهود ، و آمن به الأوس و الخزرج كما ورد في تفسير قوله تعالى و لمّا جاءهم كتاب من عند اللّه مصدّق لما معهم و كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ، فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به . فلعنة اللّه على الكافرين بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل اللّه بغيا أن ينزّل اللّه من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب و للكافرين عذاب مهين ٤ .
ــــــــــــــــــ
( ١ ) لفظ شرح ابن أبي الحديد ١ : ٩٠ و شرح ابن ميثم ١ : ٢٩٦ مثل المصرية أيضا .
( ٢ ) أورده في لسان العرب ١٢ : ٤٦٤ ، مادة ( قحم ) و أساس البلاغة : ٣٥٦ ، مادة ( قحم ) .
( ٣ ) الارشاد : ١٢٣ .
( ٤ ) البقرة : ٨٩ ٩٠ .
و كان اميّة بن أبي الصلت ، و عبد اللّه بن جحش ، و أبو عامر الأوسي ممّن آمن باللّه في الجاهلية ، و لكن في الاسلام كفروا .
و كذلك بليّة الناس و امتحانهم كانت تعود عند قيام كلّ إمام من أئمّة الهدى عليهم السلام قال النوبختي في ( فرقه ) : فلمّا قتل علي عليه السلام افترقت الفرقة الّتي ثبتت على إمامته ، و انّها فرض من اللّه تعالى و رسوله فصاروا فرقا ثلاثا : فرقة قالت : إنّ عليّا عليه السلام لم يقتل و لم يمت ، و لا يقتل و لا يموت حتّى يملأ الأرض عدلا و قسطا و هي السبائية ، و فرقة قالت بامامة محمّد بن الحنفية لأنّه كان صاحب راية أبيه يوم البصرة دون أخويه و هي الكيسانية ، و فرقة لزمت القول بإمامة الحسن عليه السلام ثم بعده بإمامة الحسين عليه السلام حتّى قتل فحارب فرقة من أصحابه ،
و قالت : اختلف فعل الحسن و فعل الحسين لأنّه إن كان الّذي فعله الحسن حقّا واجبا صوابا من موادعته مع معاوية مع كثرة أنصاره فما فعله الحسين من محاربة يزيد مع قلّة أنصاره كان باطلا ، و إن كان ما فعله الحسين حقّا صوابا فقعود الحسن كان باطلا فشكّوا في امامتهما و رجعوا .
و اختلف القائلون بامامته بعد أبيه و أخيه . فقالت فرقة بامامة علي بن الحسين عليه السلام ، و فرقة قالت : انقطعت الإمامة بعد الحسين عليه السلام انّما كانوا ثلاثة مسمّين بأسمائهم استخلفهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و فرقة قالت : انّ الإمامة صارت بعد الحسين عليه السلام في ولد الحسن و الحسين ، من قام منهم و دعا إلى نفسه فهو الإمام و هم السرحوبية .
و لمّا توفي علي بن الحسين عليه السلام قال القائلون بإمامته بإمامة ابنه الباقر عليه السلام غير نفر يسير أصحاب عمر بن رباح .
و لمّا توفّي الباقر عليه السلام قالت فرقة بإمامة محمّد بن عبد اللّه المحض ، و هم المغيرية ، و قالت فرقة منهم بإمامة ابنه الصادق عليه السلام .
و لمّا توفي الصادق عليه السلام افترقت شيعته ستّ فرق : فرقة قالت : إنّه لم يمت و لا يموت و هم الناووسية ، و فرقة قالت : الإمام بعده ابنه إسماعيل ، و انّه لم يمت في حياة أبيه ، و فرقة قالت : الإمام بعده محمّد بن إسماعيل لأنّ إسماعيل مات في حياته و هم المباركية ، و قالت فرقة : إنّ الإمام بعده محمّد بن جعفر و هم السمطية ، و قالت فرقة منهم : انّ الإمام بعده ابنه عبد اللّه الأفطح و هم الفطحية ، و قالت فرقة : إنّ الإمام بعده ابنه الكاظم عليه السلام .
و لمّا توفّي الكاظم عليه السلام صارت الشيعة خمس فرق : فرقه قالت : إنّ الإمام بعده ابنه الرضا عليه السلام ، و هم القطعية ، لأنّها قطعت بوفاة أبيه ، و قالت فرقة : إنّ الكاظم عليه السلام لم يمت و إنّه اختفى ، و بعضهم قال : مات و رجع ، و بعضهم قال : لا يرجع إلاّ وقت قيامه ، و بعضهم قال : مات و رفعه اللّه ، و ينزل عند قيامه . و كلهم الواقفة ، و فرقة قالت : غاب ، و استخلف محمّد بن بشير إلى أن يرجع و هم البشيرية .
و لمّا مات الرضا عليه السلام قالت فرقة : إنّ الامام بعده ابنه الجواد عليه السلام ،
و فرقة قالت : أخوه أحمد لكون الجواد عليه السلام إذ ذاك ابن سبع .
و لمّا توفّي الجواد عليه السلام قالت شيعته بامامة ابنه الهادي عليه السلام سوى شرذمة قالوا بإمامة أخيه موسى بن محمّد مدّة ثمّ رجعوا إليه عليه السلام .
و لمّا توفي الهادي عليه السلام قالت فرقة : إنّ الامام بعده ابنه محمّد ، و إنّه لم يمت في حياة أبيه ، و قالت فرقة : إنّ الإمام بعده الحسن ابنه عليه السلام ، و قال نفر يسير بإمامة أخيه جعفر .
و لمّا توفّي الحسن عليه السلام افترق أصحابه أربع عشرة فرقة : الأولى : أنّه لم يمت ، و الثانية : أنّه مات و عاش ، و الثالثة : أنّ الامام بعده أخوه جعفر منه
و الرابعة : أنّه جعفر من قبل أبيه الخ ١ .
كما أنّه تعود بلية الناس عند قيام القائم عليه السلام . فعن الصادق عليه السلام : إذا خرج القائم عليه السلام خرج من هذا الأمر من كان يرى أنه من أهله ، و دخل فيه شبه عبدة الشمس و القمر ٢ .
كما أنّ بلية الناس في أمير المؤمنين عليه السلام كانت مرّتين : وقت قيامه كما قاله هنا ، و بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و بيعة أبي بكر .
« و الّذي بعثه » أي : النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم .
« بالحق لتبلبلنّ بلبلة » بالفتح قال الجوهري : تبلبلت الألسن أي :
اختلطت ٣ .
« و لتغربلنّ غربلة » أي : تجعلون في الغربال كالدقيق يغربل .
« و لتساطنّ » أيّ : تقلّبنّ .
« سوط » أي : تقلب .
« القدر » يقال نحن نسوط هذا الأمر أي : نقلّبه ظهرا لبطن .
« حتى يعود أسفلكم أعلاكم و أعلاكم أسفلكم » في حياته عليه السلام و بعده .
روي عن الصادق عليه السلام قال : و اللّه لتكسّرنّ تكسر الزجاج ، و انّ الزجاج ليعاد فيعود ، و اللّه لتكسّرنّ تكسرّ الفخار ، و إنّ الفخار ليكسرن و لا يعود كما كان ، و و اللّه لتغربلن ، و و اللّه لتميّزن ، و و اللّه لتمحّصن حتّى لا يبقى منكم إلاّ الأقل .
و عن الباقر عليه السلام لتمحصن يا شيعة آل محمّد تمحيص الكحل في العين ،
ــــــــــــــــــ
( ١ ) هذا حاصل كلام النوبختي في كل الكتاب فرق الشيعة .
( ٢ ) أخرجه النعماني في الغيبة : ٢١٧ .
( ٣ ) صحاح اللغة ٤ : ١٦٤٠ ، مادة ( بلل ) .
و إنّ صاحب الكحل يدري متى يقع الكحل في عينه ، و لا يعلم متى يخرج منها و كذلك يصبح الرجل على شريعة من أمرنا ، و يمسي و قد خرج منها ، و يمسي على شريعة من أمرنا ، و يصبح و قد خرج منها .
و عن أمير المؤمنين عليه السلام قال لشيعته : كونوا كالنحل في الطير . ليس شيء من الطير إلاّ و هو يستضعفها ، و لو علمت الطير ما في أجوافها من البركة لم تفعل بها ذلك . خالطوا الناس بالسنتكم و أبدانكم ، و زايلوهم بقلوبكم و أعمالكم ، فو الّذي نفسي بيده ما ترون ما تحبّون حتّى يتفل بعضكم في وجوه بعض ، و حتى يسمّي بعضكم بعضا كذّابين ، و حتى لا يبقى منكم إلاّ كالكحل في العين ، و الملح في الطعام . و سأضرب لكم مثلا و هو مثل رجل كان له طعام فنقّاه و طيّبه ثم أدخله بيتا ، و تركه فيه ما شاء اللّه . ثم عاد إليه فإذا هو قد أصابه السوس . فأخرجه و نقّاه و طيّبه ثم أعاده إلى البيت . فتركه ما شاء اللّه ثم عاد إليه فإذا هو قد أصابته طائفة من السوس . فأخرجه و نقّاه و طيّبه و أعاده ، و لم يزل كذلك حتّى بقيت منه رزمة كرزمة الأندر لا يضرّه السوس شيئا ، و كذلك أنتم تميّزون حتّى لا يبقى منكم إلاّ عصابة لا تضرّها الفتنة شيئا ١ .
« و ليسبقنّ سابقون كانوا قصّروا » أي : يسبق إلى إمامته حين توليته أمر الخلافة جمع كانوا قصّروا بعد رحلة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في حقّه .
و في رجال الكشي ، قال الفضل بن شاذان : إنّ من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام أبو الهيثم بن التيهان ، و أبو ايّواب ، و خزيمة بن ثابت ، و جابر بن عبد اللّه ، و زيد بن أرقم ، و أبو سعيد الخدري ، و سهل بن حنيف ،
و البراء بن مالك ، و عثمان بن حنيف ، و عبادة بن الصامت . ثم ممّن دونهم قيس
ــــــــــــــــــ
( ١ ) الاحاديث الثلاثة اخرجها النعماني في الغيبة : ١٣٨ ١٤٠ .
بن سعد بن عبادة ، و عدى بن حاتم ، و عمرو بن الحمق ، و عمران بن الحصين ،
و بريدة الأسلمي و بشر كثير ١ .
« و ليقصّرنّ سبّاقون كانوا سبقوا » كالزبير فإنّه بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم تخلّف عن بيعة أبي بكر مع أمير المؤمنين عليه السلام و سلّ سيفه قائلا لا يبايع إلاّ علي بن أبي طالب عليه السلام حتّى أخذوا سيفه و كسروه ، و كان يعدّ في عداد الهاشميين و لكن بعد قيامه عليه السلام بالأمر كان أوّل من نكث بيعته مع صاحبه طلحة ، و قال عليه السلام : ما زال الزبير منّا أهل البيت حتّى نشأ ابنه المشؤوم ٢ أي :
عبد اللّه ابن الزبير .
كما أنّ تميم البصرة كانوا في حرب الجمل معه عليه السلام ، و أزدها مع عائشة ، و في فتنة ابن الحضرمي الّذي بعثه معاوية إلى البصرة صاروا بالعكس .
و قال الخوئي المراد بقوله عليه السلام « و ليقصّرن سبّاقون كانوا سبقوا » أهل الجمل ، و أهل الشام ، و أهل النهروان ٣ و هو كما ترى بلا ربط .
هذا ، و ممّن قصّر في أمر الدين بعد سبقه لا معه عليه السلام محمد بن مناذر الشاعر اللغوي قالوا : كان في أوّل أمره ناسكا يتألّه . ثم ترك ذلك ، و هجا الناس و تهتّك ، و عن يحيى بن معين أنّه كان يرسل العقارب في المسجد بالبصرة حتّى تلسع الناس : و كان يصبّ المداد بالليل في اماكن الوضوء حتّى تسودّ وجوههم .
« و اللّه ما كتمت » بصيغة المجهول : أي : من قبل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم .
ــــــــــــــــــ
( ١ ) اختيار معرفة الرجال : ٣٨ .
( ٢ ) رواه الجوهري في السقيفة : ٦٠ و عاصم بن حميد في اصله : ٢٣ و ابن عبد البر في الاستيعاب ٢ : ٣٠٢ و غيرهم .
( ٣ ) شرح الخوئي ١ : ٣٥٠ .
« وشمة » أي : كلمة كما عن ابن السكّيت ١ ، و الأصل فيه شيء حقير كلمة أو غيرها يقال « ما أصابتنا العام وشمة » أي : قطرة ، و يقال « ما عصيتك وشمة » أي : أدنى معصية .
« و لا كذبت » أيضا مجهولا .
« كذبة » أي : من طرف النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في ما أخبرني .
و في ( تاريخ بغداد ) : عن أبي جحيفة قال علي عليه السلام حين فرغنا من الحرورية : « إنّ فيهم رجلا محدجا ليس في عضده عظم أو في عضده حلمة كحلمة الثدي عليها شعرات طوال عقف فالتمسوه . فلم يوجد ، و أنا في من يلتمس ، فما رأيت عليا جزع جزعا قطّ أشدّ من جزعه يومئذ . فقالوا : ما نجده يا أمير المؤمنين قال : ويلكم ما اسم هذا المكان ؟ قالوا : النهروان . قال : كذبتم . إنّه لفيهم فالتمسوه إلى أن قال فالتمسناه في ساقية . فوجدناه فجئنا به . فنظرت إلى عضده ليس فيها عظم ، و عليها حلمة كحلمة ثدي المرأة عليها شعرات طوال عقف ٢ .
و روى عن أبي الأحوص قال : كنّا مع علي يوم النهروان ، فجاءت الحرورية فكانت من وراء النهر ، فقال علي : و اللّه لا يقتل اليوم رجل ، من وراء النهر ثمّ نزلوا فقالوا لعليّ : قد نزلوا قال : و اللّه لا يقتل اليوم رجل من وراء النهر فأعادوا عليه هذه المقالة ثلاثا كلّ ذلك يقول لهم على مثل قوله الأوّل .
فقالت الحرورية بعضهم لبعض : يرى علي أنّا نخافه ، فأجازوا فقال علي لأصحابه : لا تحرّكوا هم حتّى يحدثوا حدثا إلى أن قال بعد ذكر إخراجهم عبد اللّه بن خباب من منزله على شطّ النهر ، و ذبحهم له كالشاة ،
ــــــــــــــــــ
( ١ ) رواه عنه الجوهري في صحاح اللغة ٥ : ٢٠٥٢ ، مادة ( وشم ) .
( ٢ ) تاريخ بغداد ١ : ١٩٩ .
و سيلان دمه في الماء كالشراك ما اختلط ، و طلبه منهم قاتله ، و جوابهم أنّ كلّهم قاتله فقال علي عليه السلام لأصحابه : دونكم القوم . فما لبثوا أن قتلوهم . فقال علي : اطلبوا في القوم رجلا يده كثدي . المرأة فطلبوه . فقالوا : ما وجدنا . فقال :
و اللّه ما كذبت و لا كذبت ، و إنّه لفي القوم الخبر ١ .
« و لقد نبّئت بهذا المقام و هذا اليوم » أي : أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ما كتم عنّي شيئا و أخبرني بكلّ ما يجرى علي ، و قتل الناس لعثمان ، و بيعتهم له ، و إن كانت قريش غير راضيه بذلك ، و كان المتقدّمون عليه من صدّيقهم و فاروقهم أسّسوا لهم ذلك بنصب عثمان لئلاّ يرجع الأمر إليه أبدا ، و يكون متداولا بين بطون قريش و بني اميّة .
و لقد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أخبره بالكلّ و الجزء ، و غدر الامّة به بعده ثم انتقال الأمر إليه بعد ثالثهم حتّى بخصوصيات من ينصره ، و يلحق بعسكره في معاركه . ففي ( الطبري ) : روى الشعبي عن أبي الطفيل قال : قال علي عليه السلام ( بالربذة لمّا أراد البصرة ) : يأتيكم من الكوفة إثنا عشر ألف رجل و رجل » فقعدت على نجفة ذى قار . فاحصيتهم . فما زادوا رجلا ، و لا نقصوا رجلا ٢ .
و هذا أيضا دليل على بطلان أمر من تقدّم عليه ، و حقّية خلافته ، و كان أبو بكر تمنّى في حال احتضاره في ما تمنّى كما روى ابن قتيبة و غيره أنّه ليت سأل النبي هل كان له في الأمر نصيب ٣ .
و قد قال عمر كما رووا أنفسهم في يوم من أيّام خلافته : و اللّه ما أدرى
ــــــــــــــــــ
( ١ ) رواه جمع كثير منهم المدائني في الكتاب الخوارج عنه شرح ابن أبي الحديد ١ : ٢٠٣ ، شرح الخطبة ٣٦ لكن لم أظفر به في تاريخ بغداد .
( ٢ ) تاريخ الطبري ٣ : ٥١٣ ، سنة ٣٦ .
( ٣ ) جاء هذا في الإمامة و السياسة المنسوب الى ابن قتيبة ١ : ١٩ و تاريخ الطبري ٢ : ٦٢٠ ، سنة ١٣ و مروج الذهب للمسعودي ٢ : ٣٠٢ .
أخليفة أنا أم ملك ؟ فإن كنت ملكا فقد ورطت في أمر عظيم ١ . و روى ( تاريخ بغداد ) : أنّ عتبة بن غزوان كان يعتقده ملكا . فدعا اللّه أن يميته لئلاّ يكون واليا له فاستجيب له ٢ .
و قد روى أبو أحمد العسكري أنّ عمر كان يخرج مع الوليد بن المغيرة في تجارة للوليد إلى الشام ، و عمر يومئذ ابن ثماني عشرة سنة ، و كان يرعى للوليد إبله ، و يرفع أحماله ، و يحفظ متاعه . فلمّا كان بالبلقاء لقيه رجل من علماء الروم فجعل ينظر إليه ، و يطيل النظر . ثم قال : أظن يا غلام اسمك عامر أو عمران أو نحو ذلك . قال : إسمي عمر . قال : إكشف عن فخذيك . فكشف . فإذا على أحدهما شامة سوداء في قدر راحة . الكف فسأله أن يكشف عن رأسه .
فإذا هو أصلع .
فسأله أن يعتمد بيده . فإذا هو أعسر أيسر . فقال : له : أنت ملك العرب فضحك عمر مستهزئا فقال : أو تضحك ؟ و حقّ مريم البتول أنت ملك العرب ،
و ملك الفرس و الروم . فتركه عمر و انصرف مستهينا بكلامه . فكان عمر بعد ذلك يحدّث و يقول : تبعني ذلك الرومي راكب حمار . فلم يزل معي حتّى باع الوليد متاعه و قفل ٣ .
و إنّما أخبر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بتصدّيهما للخلافة كما أخبر بتصدّي بني اميّة الشجرة الملعونة للخلافة أخبر بذلك بنتيهما ، و اشترط عليهما عدم إظهاره فأظهرتا سرّه ، قال البلاذري في ( تاريخه ) : حدّث هشام الكلبي عن أبيه عن أبي صالح ، عن ابن عباس في قوله تعالى و إذ أسرّ النبي إلى بعض ازواجه
ــــــــــــــــــ
( ١ ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ١١٠ ، شرح الخطبة ٢٢٦ و الطبري في تاريخه ٣ : ٢٧٩ ، سنة ٢٣ .
( ٢ ) تاريخ بغداد ١ : ١٥٦ .
( ٣ ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ١٤٣ ، شرح الخطبة ٢٢٦ ، و النقل بتصرف يسير .
حديثا . فلمّا نبّأت به و أظهره اللّه عليه عرّف بعضه و أعرض عن بعض قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير إن تتوبا إلى اللّه فقد صغت قلوبكما و إن تظاهرا عليه فإنّ اللّه هو مولاه و جبرئيل و صالح المؤمنين و الملائكة بعد ذلك ظهير ١ انّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم أسرّ إلى حفصة أنّ أبا بكر يلي الأمر بعده ، و أنّ عمر و إليه بعد أبي بكر ، فأخبرت بذلك عائشة الخبر ٢ .
و في ( الكشّاف ) في تفسير الآية ، روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم خلا بمارية في يوم عائشة و علمت بذلك حفصة . فقال لها : اكتمي عليّ ، و قد حرّمت مارية على نفسي ، و ابشّرك أنّ أبا بكر و عمر يملكان بعدي أمر أمّتي . فأخبرت به عائشة ،
و كانتا متصادقتين و قيل : خلا بها في يوم حفصة فأرضاها بذلك ،
و استكتمها فلم تكتم إلى أن قال و روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم قال لها : ألم أقل لك اكتمي عليّ ؟ قالت : و الّذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي فرحا الخ ٣ .
فلو كان ملكهما حقا كان الواجب على النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم إعلانه ، لا أن يشترط كتمانه و هو صار سببا لتكالبهما في طلب الأمر ، و لو بإحراق فاطمة و الحسنين عليهم السلام و ضرب رقبة أمير المؤمنين عليه السّلام لو لم يستسلم .
كما أنّ الصادق عليه السّلام لمّا أخبر المنصور ، و أخاه السفاح بنيلهما الأمر دون بني الحسن ٤ صار سببا لتكالبه في الأمر و حبسه لبني الحسن و قتله لهم .
« ألا و إنّ الخطايا خيل شمس » جمع شموس .
« حمل عليها أهلها و خلعت لجمها » جمع لجام .
ــــــــــــــــــ
( ١ ) التحريم : ٣ و ٤ .
( ٢ ) أنساب الأشراف ١ : ٤٢٤ .
( ٣ ) الكشاف ٤ : ٥٦٢ و ٥٦٦ .
( ٤ ) رواه أبو الفرج في المقاتل : ١٧٢ .
« فتقمّحت بهم » أي : طرحتهم .
« في النار » أي : نار جهنم .
روى ( الكافي ) عن الصادق عليه السّلام قال : كان أبي عليه السّلام يقول : ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة . إن القلب ليواقع الخطيئة ، فما تزال به حتّى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله .
و عنه عليه السّلام في قوله اللّه تعالى فما أصبرهم على النار ١ قال : ما أصبرهم على فعل ما يعلمون أنّه يصيّرهم إلى النار .
و عنه عليه السّلام : كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول : « لا تبدين عن واضحة ، و قد عملت الأعمال الفاضحة ، و لا يأمن البيات من عمل السيّئات » .
و عنه عليه السّلام : « من همّ بسيّئة فلا يعملها فإنّه ربّما عمل العبد السيّئة فيراه الربّ تبارك تعالى فيقول : و عزّتي و جلالي لا أغفر لك بعد ذلك أبدا » .
و عن الكاظم عليه السّلام : « حقّ على اللّه ألاّ يعصى في دار إلاّ أضحاها للشمس حتّى تطهّرها ، و كلّما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعلمون أحدث للّه لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون ، و أنّ للّه تعالى في كلّ يوم و ليلة مناديا ينادي مهلا مهلا عباد اللّه عن معاصي اللّه . فلو لا بهائم رتّع ، و صبية رضّع ،
و شيوخ ركّع لصبّ عليكم العذاب صبّا ، ترضّون به رضّا » .
و عن الباقر عليه السّلام : « انّه ما من سنة أقل مطرا من سنة ، و لكن اللّه يضعه حيث يشاء . إن اللّه عزّ و جلّ إذا عمل قوم بالمعاصي صرف عنهم ما كان قدّر لهم من المطر في تلك السنة إلى غيرهم ، و إلى الفياض و البحار و الجبال ، و إنّ اللّه ليعذّب الجعل في جحرها بحبس المطر عن الأرض الّتي هي بمحلها بخطايا من بحضرتها و قد جعل اللّه لها السبيل في سلك سوى محلة أهل المعاصي » .
ــــــــــــــــــ
( ١ ) البقرة : ١٧٥ .
و عن الرضا عليه السّلام : « أوحى اللّه تعالى إلى نبي من الأنبياء إذا اطعت رضيت ، و إذا رضيت باركت ، و ليس لبركتي نهاية ، و إذا عصيت غضبت ، و إذا غضبت لعنت ، و لعنتي تبلغ السابع من الورى » .
و عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى : قالوا ربّنا باعد بين أسفارنا ١ الآية : « هؤلاء قوم كانت لهم قرى متّصلة ينظر بعضهم إلى بعض ، و أنهار جارية و أموال ظاهرة . فكفروا نعم اللّه تعالى . فأرسل اللّه عليهم سيل العرم فغرّق قراهم ، و خرّب ديارهم ، و أذهب أموالهم ، و أبدل مكان جنّاتهم جنّتين ذواتي أكل خمط ، و أقل و شيء من سدر قليل ، و قال تعالى ذلك جزيناهم بما كفروا و هل نجازي إلاّ الكفور » ٢ .
و الخمط : ضرب من الأراك له حمل يؤكل ، و الأثل : شجر نوع من الطرفاء .
و عنه عليه السّلام قال اللّه عزّ و جلّ : « إذا عصاني من عرفني سلّطت عليه من لا يعرفني ، و انّ الرجل يذنب الذنب . فيحرم صلاة الليل ، و انّ العمل السيىء أسرع في صاحبه من السكّين في اللحم » ، و قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم : « إنّ العبد ليحبس على ذنب من ذنوبه مائة عام ، و إنّه لينظر إلى أزواجه في الجنّة يتنعّمن » .
و عن الباقر عليه السّلام : « ما من عبد إلاّ و في قلبه نكتة بيضاء . فإذا أذنب ذنبا خرج في النكتة نكتة سوداء . فإن تاب ذهب ذلك السواد ، و إن تمادى في الذنوب زاد ذاك السواد حتّى يغطّي البياض . فإذا تغطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا و هو قوله تعالى : كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون » ٣ .
ــــــــــــــــــ
( ١ ) سبأ : ١٩ .
( ٢ ) سبأ : ١٧ .
( ٣ ) هذه الأحاديث أخرجها الكليني في الكافي ٢ : ٢٦٨ ٢٧٦ و ما رواه عن الامام الكاظم عليه السّلام فهو تلفيق ثلاثة أحاديث ثانيها للامام الرضا عليه السّلام ، و الآية ١٤ من سورة المطففين .
« ألا و إنّ التقوى مطايا » أي : مراكب .
« ذلل » جمع ذلول .
« حمل عليها أهلها و اعطوا ازمّتها » الأزمة : جمع الزمام .
« فاوردتهم الجنّة » قال جلّ و علا : و اما من خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى فانّ الجنّة هي المأوى ١ .
و في ( الكافي ) : عن الصادق عليه السّلام : « إذا كان يوم القيامة يقوم عنق من الناس فيأتون باب الجنّة . فيضربونه . فيقال لهم : من أنتم ؟ فيقولون : نحن أهل الصبر . فيقال لهم : على ما صبرتم ؟ فيقولون : كنّا نصبر على طاعة اللّه ، و نصبر عن معاصي اللّه . فيقول اللّه تعالى : صدقوا . أدخلوهم الجنّة ، و هو قول اللّه تعالى :
انّما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب ٢ .
و عن الباقر عليه السّلام : أعينونا بالورع . يقول تعالى : من يطع اللّه و الرسول فاولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيّين و الصّدّيقين و الشهداء و الصالحين و حسن اولئك رفيقا ٣ و منّا النبيّ ، و منّا الصّدّيق ، و الشهداء ، و الصالحون ٤ .
« حق و باطل » قد تواتر قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم : « عليّ مع الحقّ ، و الحقّ مع عليّ ،
و لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » ٥ .
و حيث لا واسطة بينهما . فلا بد أنّ من تقدّم عليه كان باطلا ، و صرّح به في الخطبة على رواية الروضة و نقل ابن ميثم من قوله عليه السّلام : « ألا و قد سبقني إلى هذا الأمر من لم أشركه فيه ، و من لم أهبه له ، و من ليست له منه توبة إلا
ــــــــــــــــــ
( ١ ) النازعات : ٤٠ و ٤١ .
( ٢ ) الزمر : ١٠ .
( ٣ ) النساء : ٦٩ .
( ٤ ) أخرجهما الكليني في الكافي ٢ : ٧٥ و ٧٨ ، ح ٤ و ١٢ ، و النقل بتصرف يسير .
( ٥ ) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد ١٤ : ٣٢١ و البيهقي عنه فرائد السمطين ١ : ١٧٧ ، ح ١٤٠ غيرها عن ام سلمة .
بنبيّ يبعث ، و لا نبي بعد محمّد صلى اللّه عليه و آله ، أشرف منه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم » ١ .
« و لكلّ » من الحق و الباطل .
« أهل » كذلك كان من أوّل الدنيا ، و كذلك يكون إلى الأبد ذلك بأنّ الذين كفروا اتّبعوا الباطل و أنّ الذين آمنوا اتّبعوا الحقّ من ربّهم كذلك يضرب اللّه للناس أمثالهم ٢ .
« فلئن أمر الباطل ( حالا ) لقديما فعل » أي : من القديم تصدّى للأمارة .
و المراد أنّ الثلاثة إن تقدّموا عليه ، و استقرّ أمرهم و تزلزل أمره فليس بغرو لأنّه كان كذلك في جميع الأعصار بفرار الناس من أهل الحق ، و اتّباعهم أهل الباطل ، و لذا كان عليه السّلام يقول : « أيّها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله . فانّ الناس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير و جوعها طويل » ٣ .
و كان عليه السّلام يحمل سيّدة النساء صلوات اللّه عليها على دابّة ليلا في مجالس الأنصار تسألهم النصرة . فما أجابه أحد ، مع سماعهم أقوال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم فيه و فيها عليه السّلام ، و لمّا خرجت بنت أبي بكر على أمير المؤمنين عليه السّلام أجابها آلاف ، من الناس مع قول اللّه عزّ و جلّ فيها : و قرن في بيوتكن و لا تبرّجن تبرّج الجاهلية الاولى ٤ و ضرب اللّه تعالى لها و لصاحبتها مثل امرأة نوح و امرأة لوط .
« و لئن قل الحقّ فلربّما و لعلّ » يكثر بعد ذلك .
« و قلّما أدبر شيء فأقبل » فإنّه و إن رجع الأمر إليه عليه السّلام و قرّ الحقّ مقرّه إلاّ
ــــــــــــــــــ
( ١ ) الكافي ٨ : ٦٨ و شرح ابن ميثم ١ : ٢٩٧ .
( ٢ ) محمّد : ٣ .
( ٣ ) نهج البلاغة ٢ : ١٨١ ، الخطبة ١٩٩ .
( ٤ ) الاحزاب : ٣٣ .
أنّه كان محض صورة . فلم يتمكن عليه السّلام من ردع الناس عن بدع من تقدّم عليه ،
و لذا كان عليه السّلام يقول : « لو استقرّت قدماي لغيّرت أشياء » ١ و لم يتمكّن عليه السّلام من عزل عمالهم كمعاوية ، و لم يستطع صدّ من أراد الخروج عليه كالزبير و طلحة حتّى أنّه عليه السّلام لمّا أراد منعهم عن صلاة النوافل بالليل جماعة في شهر رمضان لعدم فعل النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم له ، و انّما أحدثه لهم عمر ، لم يقبلوا و صاحوا و اعمراه .
و قول المصنّف : « أقول : قال الشريف » هكذا في ( المصرية ) ، و كلّه زائد و ليس من النهج أما « أقول » فليس في ( ابن أبي الحديد ، و ابن ميثم ) رأسا ، و أما « قال الشريف » : فإنّما قال ابن أبي الحديد إنشاء من نفسه « قال الرضي أبو الحسن » و قال ابن ميثم : « قال السيّد » ٢ .
« إنّ في هذا الكلام الأدنى » أي : الأقرب ، و الظاهر كونه إشارة إلى كلامه عليه السّلام الأخير « فلئن أمر الباطل لقديما فعل ، و لئن قلّ الحق فلربما و لعل و لقلّما أدبر شيء فأقبل » و يحتمل أن يكون إشارة إلى قوله قبله « الا و إنّ الخطايا . . . » . فإنّه أيضا يصدق عليه الأدنى بالنسبة إلى أوّل الكلام .
« من مواقع الاحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان » و المراد لا يستطاع وصف حسنه .
هذا ، و قال أبو الفضل الميكالي في وصف مكتوب « و كاد فرط التعجب مرة و عظم الإعجاب تارة يقف بي عند أوّل فصل من فصوله ، و يثبّطني من استيفاء غرره و حجوله ، و يوهمني أن المحاسن ما حوته قلائده ، و نظمته فرائده . فليس في قوس احسان وراءها منزع ، و لا لاقتراح جنان فوقها متطلع ،
ــــــــــــــــــ
( ١ ) لفظ نهج البلاغة ٤ : ٦٦ ، و الحكمة ٢٧٢ « لو قد استوت قدماي من هذه المداحض لغيرت أشياء » .
( ٢ ) الموجود في شرح ابن أبي الحديد ١ : ٩١ « أقول » و في شرح ابن ميثم ١ : ٢٩٦ « قال الشريف أقول » .
حتّى إذا جاوزته إلى لفقه و تزيينه ، و أجلت فكري في نكته و عيونه ، رأيت ما يحيّر الطرف و يعجز الوصف ، و يعلو على الأوّل محلا و مكانا ، و يفوته حسنا و إحسانا ، فرتعت كيف شئت في رياضه و حدائقه ، و اقتبست نور الحكمة من مطالعه و مشارقه ، و سلّمت لمعانيه و ألفاظه فضيلة السبق و البراعة ، و تلقّيتها بواجبها من النشر ، و الإذاعة ، فإنّها جمعت إلى حسن الإيحاز درجة الإعجاز ،
و إلى فضيلة الإبداع جلالة الموقع في القلوب ، و الأسماع .
« إنّ حظّ العجب منه أكثر من حظّ العجب به » قال الطائي :
أبدت أسى إن رأتني مخلس القصب
و آل ما كان من عجب إلى عجب
« و فيه مع الحال الّتي وصفنا » من عدم بلوغ مواقع استحسانه . بمواقع إحسانه ، و كون حظّ العجب منه أكثر من حظّ العجب به .
« زوائد من الفصاحة » في اللفظ و المعنى . لأنّ المراد بالفصاحة في كلامه ما يعمّ البلاغة .
« لا يقوم بها لسان » لأدائها .
« و لا يطّلع فجّها » قال الجوهري : الفجّ : الطريق الواسع بين الجبلين ١ .
« انسان » للوقوف عليها .
« و لا يعرف ما أقول » هكذا في ( المصرية ) نسخة ( ابن أبي الحديد ) و لكن في ( ابن ميثم و الخطية ) : « أقوله » : أي في وصف ذاك الكلام الأدنى ٢ .
« إلاّ من ضرب في هذه الصناعة » أي : صناعة البلاغة .
« بحقّ » لا مجرد ظاهر .
« و جرى فيها على عرق » حتّى صار من أهل التعمق فيها .
ــــــــــــــــــ
( ١ ) صحاح اللغة ١ : ٣٣٣ ، مادة ( فجج ) .
( ٢ ) في شرح ابن أبي الحديد ١ : ٩١ و شرح ابن ميثم ١ : ٢٩٧ كليهما « أقول » .
« و ما يعقلها » أي : صفة الضرب فيها بحقّ ، و الجري فيها على عرق .
« إلاّ العالمون » بذاك الفن لا كلّ من ادّعى .
و حيث إنّ المصنّف قال : « لا يعرف ما أقول إلاّ من ضرب في هذه الصناعة بحق » رأيت نقل ما قاله الادباء على لسان أهل الصناعات في وصف صناعة الكلام بمناسبة صناعتهم . قالوا : « قال الصيرفي : خير الكلام ما نقدته يد البصيرة و جلته عين الروية ، و وزنته بمعيار الفصاحة . فلا نظر يزيفه ، و لا سماع يهرجه .
و قال الجوهري : أحسن الكلام نظاما ما ثقبته يد الكفرة . و نظمته الفطنة و وصل جوهر معانيه في سمّو ألفاظه . فاحتملته نحور الرواة .
و قال العطّار : أطيب الكلام ما عجن عنبر الفاظه بمسك معانيه . ففاح نسيم نشقه ، و سطعت رائحة عبقه ، فتعلّقت به الرواة ، و تعطّرت به السراة .
و قال الصائغ : خير الكلام ما أحميته بكير الفكر ، و سبكته بمشاغل النظر ، و خلّصته من خبث الإطناب . فبرز بروز الابريز في معنى و جيز .
و قال الحدّاد : أحسن الكلام ما نصبت عليه منفخة القريحة ، و اشعلت عليه نار البصيرة . ثم أخرجته من فحم الاقحام ، و رققته بفطيس الأفهام .
و قال النجار : خير الكلام ما أحكمت نجر معناه بقدوم التقدير . و انشرته بمنشار التدبير . فصار بابا لبيت البيان ، و عارضة لسقف اللسان .
و قال الخياط : البلاغة قميص فجر بانه البيان ، وجيبه المعرفة ، و كمّاه الوجازة ، و دخاريصه الأفهام ، و دروزه الحلاوة ، و لا بسه جسد اللفظ ، و روح المعنى .
و قال البزاز : أحسن الكلام ما صدق رقم ألفاظه ، و حسن نشر معانيه .
فلم يستعجم عليك نشر ، و لم يستبهم عليك طيّ .
و قال النجّاد : أحسن الكلام ما لطفت رفارف ألفاظه ، و حسنت مطارح معانيه ، فتنزهت في زرابيّ محاسنه عيون الناظرين ، و أصاخت لنمارق بهجته آذان السامعين .
و قال الصبّاغ : أحسن الكلام ما لم تنض بهجة ايجازه ، و لم تكشف صبغة إعجازه . قد صقلته يد الرويّة من كمود الاشكال . فراع كواعب الآداب و أنف عذارى الألباب .
و قال الحائك : أحسن الكلام ما اتصلت لحمة ألفاظه بسدى معانيه .
فخرج مفوّفا منيّرا ، و موشّى محرّرا .
و قال الماتح : أبين الكلام ما علقت و ذم ألفاظه ببكرة معانيه . ثم أرسلته في قليب الفطن . فامتحت به سقاء يكشف الشبهات . و استنبطت به معنى يروي من ظمأ المشكلات .
و قال الرائض : خير الكلام ما لم يخرج عن حدّ التخليع إلى منزلة التقريب إلاّ بعد الرياضة ، و كان كالمهر الّذي أطمع أوّل رياضته في تمام ثقافته .
و قال الجمّال : البليغ من أخذ بخطام كلامه . فأناخه في مبرك المعنى ثم جعل الاختصار له عقالا ، و الإيحاز له مجالا . فلم يندّ عن الآذان ، و لم يشذّ عن الأذهان .
و قال المخنّث : خير الكلام ما تكسّرت أطرافه ، و تثّنت أعطافه ، و كان لفظه حلّة ، و معناه حلية .
و قال الخمّار : أبلغ الكلام ما طبخته مراجل العلم ، و صفّاه راوق الفهم و ضمّته ، دنان الحكمة . فتمشّت في المفاصل عذوبته ، و في الافكار رقّته ، و في العقول حدّته .
و قال الفقاعي : خير الكلام ما روّحت ألفاظه غباوة الشك ، و رفعت رقّته فظاظة الجهل . فطاب حساء فتنته ، و عذب مصّ جرعته .
و قال الطبيب : خير الكلام ما إذا باشر دواء بيانه سقم الشبهة . استطلقت طبيعة الغباوة . فشفي من سوء التفهّم ، و اورث صحّة التوهّم .
و قال الكحّال : كما أنّ الرمدقذى الأبصار . فكذا الشبهة قذى البصائر فاكحل عين اللكنة بميل البلاغة ، و اجل رمص الغفلة بمرود اليقظة .
و أجمعوا كلهم على أن أبلغ الكلام ما إذا أشرقت شمسه . انكشف لبسه ،
و إذا صدقت أنواؤه . أخضرت أنحاؤه .
قول المصنّف : « و من هذه الخطبة شغل » أي : عن الاهتمام بالامور الراجعة إلى الدنيا .
« من » أي : الذي .
« الجنّة و النار أمامه » فيجعل همّه في حيازة الجنّة ، و الاحتراز عن النار . و عن الباقر عليه السّلام بكى أبو ذر من خشية اللّه عزّ و جلّ حتى اشتكى بصره . فقيل له : يا اباذر لو دعوت اللّه أن يشفي بصرك . فقال : إنّي عنه لمشغول في ما هو أكبر منه همّي . قالوا : و ما يشغلك عنه . قال : العظيمتان الجنّة و النار ١ .
و قال عليه السّلام : لا تنسوا الموجبتين في دبر كلّ صلاة قيل : و ما الموجبتان ؟
قال : تسأل اللّه الجنّة و تعوذ باللّه من النار ٢ و في خبر آخر ما معناه أن المصلّي لو لم يسأل اللّه الجنّة بعد صلاته و لم يستعذ به من النار . قالتا أي
ــــــــــــــــــ
( ١ ) أخرجه الصدوق في الخصال ١ : ٣٩ ، ح ٢٥ ، باب الاثنين عن الباقر عليه السّلام و أخرجه الكشي في معرفة الرجال ، اختياره : ٢٨ ، ح ٥٤ و غيره عن الكاظم عليه السّلام .
( ٢ ) أخرجه الكليني في الكافي ٣ : ٣٤٣ ، ح ١٩ و الصدوق في معانى الاخبار : ١٨٣ ، ح ١ و غيرهما .
بلسان الحال ما أجهله بنعمي ، و ما أغفله عن نقمي ١ .
و في ( الطبري ) بعد ذكر أنّ الحر سأل ابن سعد هل أنت مقاتل الحسين ؟ فقال له : نعم أنّ الحر أخذ يدنو من الحسين عليه السّلام قليلا قليلا . فقال له رجل من قومه يقال له المهاجر بن أوس : ما تريد ؟ أتريد أن تحمل ؟ فسكت و أخذه مثل العرواء . فقال له المهاجر : و اللّه إنّ أمرك لمريب . و اللّه ما رأيت منك في موقف قطّ مثل شيء أراه الآن ، و لو قيل لي : من أشجع أهل الكوفة ما عدوتك . فما هذا الّذي أرى منك ؟ قال : إنّي و اللّه اخيّر نفسي بين الجنّة و النار ،
و و اللّه لا أختار على الجنّة شيئا ، و لو قطّعت و حرّقت . ثم ضرب فرسه فلحق بالحسين عليه السّلام ٢ .
« ساع » في أمر الآخرة .
« سريع » في العمل .
« نجا » من النار .
قال جلّ و علا : و الذين يؤتون ما آتوا و قلوبهم و جلة أنّهم إلى ربّهم راجعون اولئك يسارعون في الخيرات و هم لها سابقون ٣ .
« و طالب » لأمر الآخرة .
« بطيء » في العمل .
« رجا » أن تكون له نجاة و ليس بحتم .
قال تعالى : و آخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر
ــــــــــــــــــ
( ١ ) روى هذا المعنى من طرق عديدة الحر العاملي في الوسائل ٤ : ١٠٣٩ ، باب ٢٢ و المحدث النوري في المستدرك ١ : ٣٤٢ ، باب ٢٠ .
( ٢ ) تاريخ الطبري ٤ : ٣٢٥ ، سنة ٦١ .
( ٣ ) المؤمنون : ٦١ .