بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٥
0%
مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 632
مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 632
على النار كردناجا ١ .
قلت : لم يذكر المسعودي أنّ المعتضد جعل صاحب الزنج كردناجا على النار حتّى ينافي قول الطبري بقتله في الحرب ، و انّما قال المسعودي انّ المعتضد جعل محمّد بن الحسن بن سهل أوّل من كتب أخبار صاحب الزنج كردناجا على النار ٢ و لكن ابن أبي الحديد خلط .
هذا ، و خرج الزنج بالبصرة مرتين قبل تلك المرّة المعروفة أولاهما في آخر أيام مصعب بن الزبير . فأفسدوا ، و تناولوا الثمار . فشكا الناس ذلك إلى و اليهم فأرسل إليهم جيشا . فتفرّقوا ، و أخذ بعضهم فقتل و صلب .
و الثانية في أيام الحجاج لمّا وثب ابن الجارود مع جمع على الحجّاج لمّا أراد نقص عطائهم . فاجتمع منهم خلق كثير بالفرات و أمرّوا عليهم رجلا ملقبا شير زنج ، فلمّا فرغ الحجّاج من أمر ابن الجارود أمر شرطة البصرة أن يرسل إليهم جيشا فهزمهم و قتلهم . و مراده عليه السّلام تلك المعروفة .
« أنا كابّ الدنيا لوجهها ، و قادرها بقدرها ، و ناظرها بعينها » قال ابن أبي الحديد : هو مثل الكلمات المحكية عن عيسى عليه السّلام : أنا الّذي كببت الدنيا على وجهها ليس لي زوجة تموت ، و لا بيت يخرّب ، وسادي الحجر ، و فراشي المدر ،
و سراجي القمر ٣ .
قلت : كونه مثله غير معلوم . فهو عليه السّلام قال « كابّ الدنيا لوجهها » و كلام عيسى عليه السّلام « كابّ الدنيا على وجهها » فالظاهر أنّه عليه السّلام لمّا قال ذلك بعد اخباره عن المغيبات قال إنّه محيط بظاهر الدنيا و باطنها كمن يقلّب الشيء و يكبّه
ــــــــــــــــ
( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٣٤٠ ، و تاريخ الطبري ٨ : ١٤١ ، سنة ٢٧٠ ، و النقل بتصرف يسير .
( ٢ ) مروج الذهب ٤ : ١٥٥ .
( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٣١١ .
لوجهه . فينظر بعينه إلى جميعه . فالظاهر أنّه نظير ما ورد عن عترته عليه السّلام في إحاطة الإمام بما في الدنيا . فروى الصفار عن حمزة الجعفي قال : دخلت على الرضا عليه السّلام و معي صحيفة أو قرطاس فيه عن جعفر عليه السّلام أنّ الدنيا مثّلت لصاحب هذا الأمر في مثل فلقة الجوز . فقال : يا حمزة ذا و اللّه حقّ ١ .
١٣
من الخطبة ( ١٢٦ ) منها في وصف ؟ الأتراك ؟
كَأَنِّي أَرَاهُمْ قَوْماً كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ اَلْمَجَانُّ اَلْمُطَرَّقَةُ يَلْبَسُونَ اَلسَّرَقَ وَ اَلدِّيبَاجَ وَ يَعْتَقِبُونَ اَلْخَيْلَ اَلْعِتَاقَ وَ يَكُونُ هُنَاكَ اِسْتِحْرَارُ قَتْلٍ حَتَّى يَمْشِيَ اَلْمَجْرُوحُ عَلَى اَلْمَقْتُولِ وَ يَكُونَ اَلْمُفْلِتُ أَقَلَّ مِنَ اَلْمَأْسُورِ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ لَقَدْ أُعْطِيتَ يَا ؟ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ ؟ عِلْمَ اَلْغَيْبِ فَضَحِكَ ع وَ قَالَ لِلرَّجُلِ وَ كَانَ كَلْبِيّاً يَا أَخَا ؟ كَلْبٍ ؟ لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْبٍ وَ إِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْمٍ وَ إِنَّمَا عِلْمُ اَلْغَيْبِ عِلْمُ اَلسَّاعَةِ وَ مَا عَدَّدَهُ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ إِنَّ اَللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسَّاعَةِ ١ ٢٨ ٣١ : ٣٤ اَلْآيَةَ فَيَعْلَمُ سُبْحَانَهُ مَا فِي اَلْأَرْحَامِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَ قَبِيحٍ أَوْ جَمِيلٍ وَ سَخِيٍّ أَوْ بَخِيلٍ وَ شَقِيٍّ أَوْ سَعِيدٍ وَ مَنْ يَكُون فِي النَّارِ حَطَباً أَوْ فِي اَلْجِنَانِ لِلنَّبِيِّينَ مُرَافِقاً فَهَذَا عِلْمُ اَلْغَيْبِ اَلَّذِي لاَ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلاَّ اَللَّهُ وَ مَا سِوَى ذَلِكَ فَعِلْمٌ عَلَّمَهُ اَللَّهُ نَبِيَّهُ ص فَعَلَّمَنِيهِ وَ دَعَا لِي بِأَنْ يَعِيَهُ صَدْرِي وَ تَضْطَمَّ عَلَيْهِ جَوَانِحِي أقول : جميع ما مضى و يأتي من إخباره عليه السّلام عن المستقبل يمكن لمشكّك أن يشكّك فيها ببعض الشبهات بأنّا لم نجده في غير النهج في كتاب
ــــــــــــــــ
( ١ ) بصائر الدرجات : ٤٢٨ ح ٢ .
كان مقدّما على وقوعه ، و أما هذا فلا مجال للتشكيك فيه . ففرغ الرضي من النهج في ( ٤٠٠ ) و توفي في سنة ( ٤٠٦ ) و كان أوّل واقعة التتار في سنة ( ٦١٧ ) .
و مرّ في سابقه أنّ قوله عليه السّلام في ذاك بنقل المصنّف « يثيرون الأرض بأقدامهم كأنّها أقدام النعام » كان جزء هذا لكونهما في خطبة واحدة . فخلطهما الرواة مع تحريف ، و أنّ الأصل « خيولهم تثير الأرض بأقدام كأنّها أقدام النعام » .
و مرّ في سابقه أيضا أنّ قوله عليه السّلام في عنوان آخر « فتن كقطع الليل المظلم لا تقوم لها قائمة ، و لا ترد لها راية . تأتيكم مزمومة مرحولة . يحفزها قائدها و يجهدها راكبها . أهلها قوم شديد كلبهم ، قليل سلبهم » ينطبق على التتار .
قول المصنّف « منها » أي : من خطبة الملاحم ، و لكن في ( ابن أبي الحديد و الخطية ) « و منه » و في ( ابن ميثم ) « و من كلام له عليه السّلام » ١ .
« و يومئ بذلك الى وصف التتار » و في ( ابن ميثم و ابن أبي الحديد ) :
« يومئ به إلى وصف الأتراك » ٢ .
قال الجزري : كان طائفة عظيمة من التتر قد خرجوا من بلادهم حدود الصين قديما ، و نزلوا وراء بلاد تركستان ، و كان بينهم و بين الخطا عداوة و حروب . فلمّا سمعوا بما فعله خوارزمشاه بالخطا قصدوهم مع ملكهم كشليخان إلى أن قال بعد ذكر الاختلاف بين كشليخان و خوارزمشاه و إرادته حربه ثمّ اتّفق خروج هؤلاء التتر الآخر الّذين خربوا الدنيا و ملكهم جنگيزخان النهرجي على كشليخان التتري الأوّل . فاشتغل بهم كشليخان عن خوارزم شاه ٣ .
ــــــــــــــــ
( ١ ) كذا في شرح ابن ميثم ٣ : ١٣٨ ، لكن في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٣٤١ « منها » .
( ٢ ) كذا في شرح ابن ميثم ٣ : ١٣٨ ، لكن في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٣٤١ « في وصف الأتراك » .
( ٣ ) الكامل ١٢ : ٢٦٩ ٢٧١ ، سنة ٦٠٤ .
و للجاحظ رسالة في الترك قال فيها نقلا عن حميد بن عبد الحميد قال :
التركي يرمي بعشرة أسهم قبل أن يفوّق الخارجي سهما واحدا ، و تركض دابته منحدرا من جبل أو مستفلا إلى بطن واد بأكثر ممّا يمكن الخارجي على بسيط الأرض .
و للتركي أربعة أعين عينان في وجهه ، و عينان في قفاه ، و إذا أدبر فهو السم الناقع لأنّه يصيب بسهمه و هو مدبر كما يصيب به و هو مقبل ، و لو حصّلت مدّة عمر التركي ، و حسبت أيامه لوجدت جلوسه على ظهر دابته أكثر من جلوسه على ظهر الأرض ، و ليس في الأرض أحد إلاّ و بدنه ينتقص على اقيتات اللحم وحده غيره ، و كذلك دابته تكتفي بالعنقر و العشب و الشجر لا يظلّها من شمس ، و لا يكنّها من برد .
و التركي هو الراعي ، و هو السائس ، و هو الرائض ، و هو النخّاس ، و هو البيطار ، و هو الفارس .
فالتركي الواحد امّة على حدة ، و إذا سار في غير عساكره و ساروا عشرة أميال سار عشرين ، لأنّه ينقطع عن العسكر يمنة و يسرة ، و يصعد في ذرى الجبال و يستبطن قعور الأودية في طلب الصيد ، و هو في ذلك يرمي كلّ ما دبّ ، و درج ، و طار و وقع ، و إنّ بلغوا و اديا . فازدحموا على مسلكه أو قنطرته بطن التركي برذونه فأقحمه . ثمّ طلع من الجانب الآخر كأنّه كوكب ، و إن انتهوا إلى عقبه صعبة ترك السنن ، و ذهب في الحبل صعدا ثمّ تدلّى من موضع يعجز عنه الوعل .
و ليس في الأرض قوم إلاّ و التساند في الحروب و الاشتراك في الرياسة ضار لهم إلاّ الأتراك . فإنّهم إذا صادفوا جيشا فإن كان في القوم موضع عنوة فكلّهم قد أبصرها و عرفها ، و إن لم يكن هناك عورة ، و لم يكن فيهم مطمع و كان الرأي الانصراف فكلّهم قد رأى ذلك الرأي ، و عرف الصواب فيه ،
و خواطرهم واحدة ، و دواعيهم مستوية باقبالهم ، و ليس لبدن التركي على ظهر الدابة ثقل ، و لا لمشيه على الأرض وقع ، و إنّه ليرى و هو مدبر ما لا يرى الفارس منّا ، و هو مقبل ، و هو يرى الفارس منّا صيدا ، و يعدّ نفسه فهدا ، و يعدّ غيره ظبيا ، و انّه لو رمي به في قعر بئر مكتوفا لما أعجزته الحيلة .
و التركي ينال الكفاف غصبا ، أحبّ إليه من أن ينال الملك عفوا ، و لم يتهنّ تركي بطعام قط إلاّ أن يكون صيدا أو مغنما .
و قال ثمامة بن أشرس : « التركي لا يخاف إلاّ مخوفا ، و لا يطمع في غير مطمع ، و لا يكفّه عن الطلب إلاّ اليأس صرفا ، و لا يدع القليل حتّى يصيب أكثر منه ، و إن قدر أن يجمعهما لم يفرط في واحد منهما ، و الباب الّذي لا يحسنه لا يحسن منه شيئا ، و الباب الّذي يحسنه قد أحكمه بأسره ، و خفيّه عنده كظاهره ،
و لا يتشاغل بشيء ليس فيه شيء ، و نومه مشوب باليقظة ، و يقظته سليمة من الوسنة ١ .
و في المأثور من الخبر : « اتركوا الترك ما تركوكم » ٢ و بقوله :
« اتركوهم » سمّوا الترك ، و ما ظنك بقوم لم يعرض لهم ذو القرنين بعد أن غلب على جميع الأرض قسرا و عنوة و قهرا .
قوله عليه السّلام : « كأنّي أراهم قوما كأنّ وجوههم المجانّ » جمع المجنّ و هو الترس .
« المطرّقة » هذا صفة مطلق الترك قال المبرد في ( كامله ) في خبر رأيت عليّا ( يعني ابن عبد اللّه بن عباس ) مضروبا بالسوط يدار به على بعير و وجهه ممّا يلي ذنب البعير ، و صائح يصيح عليه هذا عليّ بن عبد اللّه الكذّاب . فأتيته
ــــــــــــــــ
( ١ ) مناقب الأتراك : ٢٥ ٣٦ ، و النقل بتلخيص .
( ٢ ) اخرجه الطبراني في معجمه الكبير ، عنه الجامع الصغير ١ : ٨ .
فقلت : ما هذا الّذي نسبوك فيه إلى الكذب ؟ قال : بلغهم قوله « إنّ هذا الأمر سيكون في ولدي . و اللّه ليكوننّ فيهم حتّى يملكهم عبيدهم الصغار العيون ،
العراض الوجوه الذين كأنّ وجوههم المجانّ المطرقة . . . ١ و كان يقول ذلك عن اخباره عليه السّلام .
فروى المبرد : أنّه لمّا ولد على ذاك أتى به أبوه ابن عباس إليه . فأخذه و ردّه إلى أبيه ، و قال له : خذه إليك أبا الأملاك ٢ .
و في ( التنبيه و الاشراف للمسعودي ) : من كان من الترك و اغلا في الشمال فلبعدهم من مدار الشمس في حال طلوعها و غروبها كثرت الثلوج فيهم ، و غلبت البرودة و الرطوبة على مساكنهم . فاسترخت أجسامهم ،
و غلظت و لانت فقارات ظهورهم ، و خرز أعناقهم حتّى تأتّى لهم الرمي بالنشاب في كرّهم و فرّهم ، و غارت مفاصلهم لكثرة لحومهم . فاستدارت وجوههم و صغرت أعينهم لاجتماع الحرارة في الوجه حين تمكّنت البرودة من أجسادهم ٣ .
و مراده عليه السّلام هنا ترك التتار ، و ما صدر منهم مع الناس الّذي أثبته التاريخ . قال الجزري في عنوان سنة ( ٦١٧ ) و خروج التتار إلى بلاد الإسلام :
لقد بقيت عدّة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها كارها لذكرها . فأنا اقدّم إليه رجلا ، و أؤخّر اخرى . فمن الّذي يسهل عليه أن يكتب نعي الاسلام و المسلمين ، و من الّذي يهون عليه ذكر ذلك . فياليت امّي لم تلدني ،
و يا ليتني متّ قبل هذا ، و كنت نسيا منسيّا إلاّ أنني حثّني جماعة من الأصدقاء
ــــــــــــــــ
( ١ ) كامل المبرد ٥ : ١٩٨ .
( ٢ ) كامل المبرد ٥ : ١٩٦ .
( ٣ ) التنبيه و الاشراف : ٢٢ .
على تسطيرها ، و أنا متوقف ثم رأيت أنّ ترك ذلك لا يجدي نفعا . فنقول : هذا الفصل يتضمّن ذكر الحادثة العظمى ، و المصيبة الكبرى التي عقمت الأيّام و الليالي عن مثلها ، عمّت الخلائق و خصّت المسلمين . فلو قال قائل إنّ العالم مذ خلق اللّه تعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا . فإنّ التواريخ لم تتضمّن ما يقاربها ، و لا ما يدانيها .
و من أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بختنصر ببني اسرائيل من القتل و تخريب بيت المقدس ، و ما بيت المقدس بالنسبة إلى ما خرّب هؤلاء من البلاد الّتي كلّ مدينة منها أضعاف بيت المقدس ، و ما بنو بني إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا . فإنّ أهل مدينة واحدة ممّن قتلوا أكثر من بني إسرائيل ، و لعلّ الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم ، و تفنى الدنيا إلاّ يأجوج و مأجوج . و أما الدجّال فإنّه يبقي على من اتّبعه ، و يهلك من خالفه ، و هؤلاء لم يبقوا على أحد بل قتلوا النساء و الرجال ، و الأطفال و شقّوا بطون الحوامل ،
و قتلوا الأجنّة فإنّا لله و إنّا إليه راجعون لهذه الحادثة التي استطال شررها ،
و عمّ ضررها ، و سارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح . فإنّ قوما خرجوا من أطراف الصين . فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر ، و بلاساغون ثمّ منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل سمرقند ، و بخارا ، و غيرهما فيملكونها و يفعلون بأهلها ما نذكره ثمّ تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكا و تخريبا و قتلا و نهبا ثمّ يتجاوزونها إلى الري ، و همدان ، و بلد الجبل ، و ما فيه من البلاد إلى حدّ العراق . ثمّ يقصدون بلاد آذربيجان و أرانية ، و يخربونها ،
و يقتلون أكثر أهلها ، و لم ينج إلاّ الشريد النادر في أقلّ من سنة . هذا ما لم يسمع بمثله ، ثمّ لما فرغوا من آذربيجان و أرانية ساروا إلى دربند شروان . فملكوا مدنه ، و لم يسلم غير القلعة الّتي بها ملكهم ، و عبروا عندها إلى بلد اللان و اللكز ،
و من في ذلك الصقع من الامم المختلفة فأوسعوهم قتلا و نهبا و تخريبا ، ثمّ
قصدوا إلى بلاد قفجاق و هم من أكثر الترك عددا . فقتلوا كلّ من وقف لهم فهرب الباقون إلى الغياض ، و رؤوس الجبال ، و فارقوا بلادهم ، و استولى هؤلاء التتر عليها . فعلوا هذا في أسرع زمان لم يلبثوا إلاّ بمقدار مسيرهم لا غير ، و مضى طائفة اخرى غير هذا الطائفة إلى غزنة و أعمالها ، و ما يجاورها من بلاد الهند ، و سجستان ، و كرمان . ففعلوا فيها مثل فعل هؤلاء ، و أشدّ هذا ما لم يطرق الأسماع مثله . فإنّ الإسكندر الّذي اتفق المؤرّخون على أنّه ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة إنّما ملكها في نحو عشر سنين ، و لم يقتل أحدا إنّما رضي من الناس بالطاعة ، و هؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض ،
و أحسنه و أكثره عمارة و أهلا ، و أعدل أهل الأرض أخلاقا و سيرة ، في نحو سنة ، و لم يبت أحد في البلاد الّتي لم يطرقوها إلاّ و هو خائف يتوقعهم ،
و يترقب و صولهم . ثمّ إنّهم لم يحتاجوا إلى ميرة و مدد يأتيهم فإنّهم معهم الأغنام ، و البقر و الخيل ، و غير ذلك من الدواب يأكلون لحومها لا غير . و أما دوابهم الّتي يركبونها فإنّها تحفر الأرض بحوافرها ، و تأكل عروق النبات لا تعرف الشعير . فهم إذا نزلوا منزلا لا يحتاجون إلى شيء من خارج .
و أمّا ديانتهم فإنّهم يسجدون للشمس عند طلوعها ، و لا يحرّمون شيئا .
فإنّهم يأكلون جميع الدواب حتّى الخنازير و الكلاب ، و لا يعروفون نكاحا بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال . فإذا جاء الولد لا يعرف أباه إلى أن قال و استقام لهم هذا الأمر لعدم المانع لأنّ خوارزمشاه محمّدا كان قد استولى على البلاد ، و قتل ملوكها ، و أفناهم ، و بقي هو وحده سلطان البلاد جميعها . فلمّا انهزم منهم لم يبق في البلاد من يمنعهم ، و كان مدّة ملك خوارزمشاه ( ٢١ ) سنة ، و شهورا و اتّسع ملكه ، و أطاعه العالم بأسره ، و لم يملك بعد السلجوقية أحد مثل ملكه ملك من حدّ العراق إلى تركستان ، و ملك بلاد غزنة ، و بعض الهند ، و ملك سجستان ، و كرمان و طبرستان ، و جرجان ،
و بلاد الجبال ، و خراسان ، و بعض فارس ، و فعل بالخطا الأفاعيل العظيمة ،
و ملك بلادهم . و لمّا ملك التتار خوارزم و قتلوا كلّ من فيه و نهبوا كلّ ما فيه فتحو السكر الّذي يمنع ماء جيحون عن البلد . فدخله الماء . فغرق البلد جميعه ،
و تهدمت الأبنية ، و بقي موضعه ماء ، و لم يسلم من أهله أحد . فمن اختفى أغرقه الماء أو قتله الهدم ١ .
و قال ابن أبي الحديد : إنّ جنگيز خان سيّر عشرين ألفا في طلب خوارزمشاه ، و قال لهم اطلبوه و لو تعلّق بالسماء . ففرّ منهم فوصل إلى بحر طبرستان . فنزل هو و أصحابه في سفن ، و وصل التتار . فلمّا عرفوا نزوله البحر آيسوا .
و اختلف في أمره فقوم يحكون أنّه أقام بقلعة له في بحر طبرستان منيعة . فتوفّي بها ، و قوم يحكون أنّه غرق في البحر . فهلك ، و قوم يحكون أنّه غرق و نجا عريانا . فصعد إلى قرية من طبرستان فعرفوه . فقال : إحملوني في مركب إلى الهند إلى شمس الدين الملك نسيبه من جهة زوجته . فيقال : وصل إليه و قد تغير عقله ممّا اعتراه من خوف التتار . فكان يقول : هاهم قد خرجوا من هذا الباب . . . قد هجموا من هذه الدرجة ، و يرعد و تحوّل لونه .
و حكي انّه لمّا تغيّر عقله لهج بأن يقول : « قراتتر كلدي » أي : جاء التتر السود .
و في التتر صنف سود يشبهون الزنوج لهم سيوف عريضة جدّا على غير صورة هذه السيوف يأكلون لحوم الناس و رقى به شمس الدين إلى قلعة من قلاع الهند شاهقة لا يعلوها الغيم أبدا ، و إنّما يمطر السحاب من تحتها ، و قال له كن آمنا . قال : لا أقدر على المقام لأنّ التتر يطلبونني و يقدمون إلى
ــــــــــــــــ
( ١ ) الكامل ١٢ : ٣٥٨ ٣٧٢ و ٣٩٤ ، سنة ٦١٧ ، و النقل بتلخيص .
هاهنا ، و لو شاء و الوضعوا سروج خيلهم واحدا على واحد تحت القلعة ، فبلغت إلى ذروتها ، و صعدوا عليها فأخذوني قبضا باليد ، فعلم الملك أنّ عقله قد تغيّر .
فقال : فما الّذي تريد ؟ قال : تحملني في البحر الى كرمان فحمله ثمّ خرج إلى أطراف بلاد فارس . فمات هناك ، و اخفي موته لئلاّ يقصده التتر ١ .
« يلبسون السرق و الديباج » في ( الكامل ) في وقايع سنة ( ٦٢٨ ) و هي آخر تاريخه أنّ في تلك السنة أطاع جميع أهل بلاد آذربيجان للتتر و حملوا إليهم الأموال و الثياب الخطائي ، و الخوئي ، و العتابي ، و أرسل الملك إلى تبريز و هو أصل بلاد آذربيجان يهدّدهم إن امتنعوا عليه . فأرسلوا إليه المال الكثير و التحف من أنواع الثياب الأبريسمي ، و غيرها .
ثمّ طلب أن يحضروا عنده من صنّاع الثياب الخطائي ، و غيرها ليستعمل لملكهم الأعظم . فأحضروا الصناع فاستعملوهم في ما أرادوا ، و طلب أيضا خركاه لملكهم فعلموا له خركاه لم يعمل مثلها ، و عملوا غشاءها من الأطلس الجيد الزركش ، و عملوا من داخلها السمور ، و القندر فجاءت عليهم بجملة كثيرة ٢ .
هذا و في ( الكامل ) أيضا : لم يبقوا على مدينة إلاّ خرّبوا كلّ ما مرّوا عليه و أحرقوه و نهبوه ، و ما لا يصلح لهم أحرقوه . فكانوا يجمعون الأبريسم تلالا ،
و يلقون فيه النار ٣ .
« و يتعقبون الخيل العتاق » قد عرفت في ما تقدّم قول الجزري « معهم الأغنام و البقر و الخيل و غير ذلك . . . » و لعله محرّف « يعتقبون الخول العتاق »
ــــــــــــــــ
( ١ ) شرح ابن ابي الحديد ٢ : ٣٤٥ ٣٤٦ ، و النقل بتلخيص .
( ٢ ) الكامل ١٢ : ٥٠٢ ٥٠٣ ، سنة ٦٢٨ ، و النقل بتلخيص .
( ٣ ) الكامل ١٢ : ٣٧٦ ، سنة ٦١٧ .
أي يجيئون معهم باسارى يجعلونها خولا لهم . فقال الجزري : و كانت عادتهم إذا قاتلوا مدينة قدّموا من معهم من اسارى المسملين بين أيديهم يزحفون و يقاتلون فإن عادوا قتلوهم فكانوا يقاتلون كرها و هم المساكين كما قيل كالأشقر إن تقدّم ينحر ، و إن تأخّر يعقر ، و كانوا هم يقاتلون وراء المسلمين .
فيكون القتل في المسلمين الاسارى و هم بنجوة منه ١ .
و قال بعد ذكر فتح بخارى إستصحبوا معهم من سلم من أهل بخارى اسارى فساروا بهم مشاة على أقبح صورة فكلّ من أعيا و عجز قتلوه .
فلمّا قاربوا سمرقند قدّموا الخيّالة و تركوا الرجّالة ، و الاسارى و الأثقال وراءهم حتّى تقدّموا شيئا فشيئا فيكون أرعب لقلوب المسلمين . فلما رأى أهل البلد سوادهم استعظموه فلما كان اليوم الثاني وصل الاسارى و الرجالة و الأثقال و مع كلّ عشرة من الاسارى علم . فظنّ أهل البلد أنّ الجميع عساكر ٢ .
« و يكون هناك استحرار قتل » كان استحرار القتل أوّلا في الطرفين لما ذهب خوارزمشاه إليهم قبل أن يعلم حقيقة الأمر . فوصل إلى بيوتهم ، و لم يكن فيها غير نسائهم و أطفالهم و كانوا ساروا إلى محاربة كشلوخان فسبى النساء و الأطفال فأدركوهم كما في ( الكامل ) قبل أن يخرج من بيوتهم ،
و تصافّوا و بقوا في الحرب ثلاثة أيّام بلياليها . فقتل من الطائفتين ما لا يعدّ ،
و اشتدّ بهم الأمر حتّى أن أحدهم كان ينزل عن فرسه و يقاتل قرنه راجلا ،
و يتضاربون بالسكاكين ، و جرى الدم على الأرض حتى صارت الخيل تزلق من كثرة الدم ، و أحصى من قتل من المسلمين فكانوا عشرين ألفا ٣ .
ــــــــــــــــ
( ١ ) الكامل ١٢ : ٣٧٧ ، سنة ٦١٧ .
( ٢ ) الكامل ١٢ : ٣٦٧ ، سنة ٦١٧ .
( ٣ ) الكامل ١٢ : ٣٦٤ سنة ٦١٧ .
هذا ، و قال ابن أبي الحديد : قد لاح لي من فحوى كلامه عليه السّلام أنّه لا بأس على بغداد و العراق منهم ، و أنّ اللّه تعالى يكفي هذه المملكة شرّهم و يرّد عنها كيدهم ، و ذلك من قوله عليه السّلام « و يكون هناك استحرار قتل » فأتى بالكاف ، و لو كان لهم استحرار قتل في العراق لما قال « هناك » بل كان يقول « هنا » لأنّه عليه السّلام خطب بهذه الخطبة في البصرة و معلوم أنّ البصرة و بغداد شيء واحد ،
و كانوا جاءوا إلى بغداد ، و رجعوا ، و كان ما جرى من دلائل النبوّة لأنّه عليه السّلام وعد هذه الملة بالظهور إلى يوم القيامة ، و لو حدث على بغداد منهم حادثة كما جرى على غيرها لانقرضت ملّة الإسلام ١ .
قلت : ما ذكره خطأ فإنّ « هناك » في قوله عليه السّلام نحو « هنا لك » في قوله تعالى هنالك تبلوا كلّ نفس ما أسلفت ٢ و الإسلام ليس بسلطنة بل ديانة و قد وعد صلّى اللّه عليه و آله و سلم امتّه ببقاء دينه لا سلطنة المسلمين ، و كيف ، و قد تسلّط هولاكو حفيد جنگيز خان على بغداد ، و قتل خليفتهم و ختم بسلطنتهم .
و نظيره في الخطأ قول الجزري المتقدّم « و من الّذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام و المسلمين » فعلى قوله لم يكن إسلام أيام كون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم في مكّة قبل هجرته بل صار دخول اولئك التتار الّذين وصفهم في بلاد الاسلام سببا إلى دخولهم في الاسلام كمحمّد خدابنده منهم ، و جمع آخر منهم ، و إنّما كان فعلهم ما فعل عقوبة من اللّه تعالى للناس بتركهم حقيقة الاسلام و اكتفائهم باسمه ، بل إتيانهم بكلّ منكر باسم الاسلام ، و كونهم خلفاء الاسلام مع انّهم لم يكونوا إلاّ جبابرة لئاما . و قد وصف عليه السّلام صاحب الزنج ،
و ما عمل أصحابه بكونهم جيشا من نقم اللّه تعالى كما مرّ ، و قد قال تعالى لبني
ــــــــــــــــ
( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٣٥١ ، و النقل بتصرف .
( ٢ ) يونس : ٣٠ .
إسرائيل و قضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرّتين و لتعلنّ علوّا كبيرا فإذا جاء وعد اولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا اولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار و كان وعدا مفعولا إلى أن قال فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة و ليتبّروا ما علو تتبيرا ١ .
و من الغريب أنّ هذا الرجل ذكر في تاريخه ما فعل بنو اميّة أعداء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم يوم الطفّ بأهل بيت نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قتلا لرجالهم و سبيا لنسائهم و إرادتهم استيصالهم ، و لا يقول : ياليت امّي لم تلدني ، و يقوله هنا لكن لم يقل ثمّة لأنّه أسس لهم ذلك صدّيقهم و فاروقهم .
« حتّى يمشي المجروح على المقتول ، و يكون المفلت » أي : الناجي .
« أقلّ من المأسور » ذكر الجزري في ملك التتار مراغة من آذربيجان : قتل منهم ما يخرج عن الحد و الإحصاء ، و اختفى بعض الناس منهم فكانوا يأخذون الاسارى ، و يقولون لهم : نادوا في الدروب أنّ التتر قد رحلوا . فإذا نادى اولئك خرج من اختفى فيؤخذ و يقتل . و سمعت أنّ رجلا من التتر دخل دربا فيه مئة رجل فما زال يقتلهم واحدا واحدا حتّى أفناهم ، و لم يمدّ أحد يده إليه بسوء ٢ .
و ذكر في دخولهم كرخ : فأخذهم السيف ، فلم يسلم منهم إلاّ الشريد ٣ .
و قال في دربند شروان : صعدوا سورا بالسلاليم و قيل : بل جمعوا كثيرا من الجمال ، و البقر ، و الغنم ، و غير ذلك ، و من قتلى الناس منهم ، و من غيرهم ، و ألقوا
ــــــــــــــــ
( ١ ) الاسراء : ٤ ٧ .
( ٢ ) الكامل ١٢ : ٣٧٨ ، سنة ٦١٧ ، و النقل بتلخيص .
( ٣ ) الكامل ١٢ : ٣٨٣ ، سنة ٦١٧ .
بعضه فوق بعض . فصار مثل التل و صعدوا عليه . فأشرفوا على المدينة ،
و قاتلوا أهلها ١ .
و قال في أهل مرو : و أمر باحصاء القتلى . فكانوا نحو سبعمئة ألف قتيل و قيل لهم : إنّ قتلاهم سلم منهم كثير ، و نجوا إلى بلاد الاسلام ، فأمروا بأهل نيسابور أن تقطع رؤوسهم لئلاّ يسلم من القتل أحد ، و فعلوا بطوس كذلك ،
و خربوا المشهد الذي فيه عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام ٢ .
و قال في خوارزم : لمّا ملكوا البلد قتلوا كلّ من فيه ، و نهبوا كلّ ما فيه و فتحوا السكر الّذي يمنع ماء جيحون عن البلد . فغرق البلد جميعه ، و تهدمت الأبنية ، و بقي موضعه ماء و غير خوارزم قد كان سلم بعض أهله . فمنهم من يختفي و منهم من يهرب ، و منهم من يخرج ثمّ يسلم ، و منهم من يلقي نفسه بين القتلى فينجو ، و أما أهل خوارزم . فمن اختفى أغرقه الماء أو قتله الهدم ٣ .
و قال في دخول التتر ديار بكر : بلغني أنّ إنسانا منهم أخذ رجلا ، و لم يكن مع التتري ما يقتله به . فقال له : ضع رأسك على الأرض و لا تبرح . فوضع رأسه على الأرض و مضى التتري فأحضر سيفا . فقتله به .
قال : و حكى لي رجل قال : كنت أنا و معي سبعة عشر رجلا في طريق فجاءنا فارس من التتر ، و قال لنا حتّى يكتّف بعضنا بعضا . فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم . فقلت لهم : هذا واحد . فلم لا نقتله و نهرب ؟ فقالوا : نخاف .
فقلت : هذا يريد قتلكم الساعة فنحن نقتله فلعلّ اللّه يخلّصنا . فو اللّه ما جسر أحد يفعل . فأخذت سكّينا و قتلته و هربنا فنجونا ٤ .
ــــــــــــــــ
( ١ ) الكامل ١٢ : ٣٨٤ ، سنة ٦١٧ .
( ٢ ) الكامل ١٢ : ٣٩٣ ، سنة ٦١٧ ، و النقل بتلخيص .
( ٣ ) الكامل ١٢ : ٣٩٤ ، سنة ٦١٧ ، و النقل بتصرف يسير .
( ٤ ) الكامل ١٢ : ٥٠١ ، سنة ٦٢٨ .
« فقال له بعض أصحابه عليه السّلام : لقد اعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب فضحك عليه السّلام » قال ابن أبي الحديد : النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم أو الولي إن تجدّدت عنده نعمة لله سبحانه و عرف الناس وجاهته يضحك . و روى أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ضحك في مناسب هذا الحال لما استسقى فسقى و أسرف درور المطر . فسألوه أن يحبسه عنهم . فأشار بيده إلى السحاب . فأنجاب حول المدينة كالإكليل فضحك صلّى اللّه عليه و آله و سلم حتّى بدت نواجذه ، و قال : أشهد أنّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ١ .
« و قال للرجل و كان كلبيا يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب و إنّما هو تعلّم من ذي علم » قال شيخنا المفيد في ( مقالاته ) في عنوان القول في علم الأئمة عليه السّلام بالضمائر و الكائنات و إطلاق القول عليهم بعلم الغيب : « إنّ الأئمة من آل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلم قد كانوا يعرفون ضمائر بعض العباد ، و يعرفون ما يكون قبل كونه ، و ليس ذلك بواجب في صفاتهم ، و لا شرطا في إمامتهم و إنّما أكرمهم اللّه تعالى به ، و أعلمهم إيّاه للطف في طاعتهم ، و التمسك بإمامتهم ، و ليس ذلك بواجب عقلا لكنّه واجب لهم من جهة السماع ، فأمّا إطلاق القول عليهم بأنّهم يعلمون الغيب فهو منكر بيّن الفساد ، لأنّ الوصف بذلك إنّما يستحقّه من علم الأشياء بنفسه لا بعلم مستفاد ، و هذا لا يكون إلاّ للّه عزّ و جلّ و على قولي هذا جماعة أهل الإمامة إلاّ من شذّ منهم من المفوّضة ، و من انتمى اليهم من الغلاة ٢ .
« و إنّما علم الغيب علم الساعة ، و ما عدّد اللّه سبحانه بقوله » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( و ما عدّده اللّه سبحانه بقوله ) : إنّ اللّه عنده علم الساعة . . . هكذا في ( المصرية و ابن أبي الحديد و الخطية ) ، و لكن في ( ابن
ــــــــــــــــ
( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٣٤٢ ، و النقل بتصرف يسير .
( ٢ ) اوائل المقالات : ٧٧ .
ميثم ) إنّ اللّه عنده علم الساعة و ينزّل الغيث و يعلم ما في الأرحام ١ .
« فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر و انثى » هكذا في ( المصرية ) ،
و الصواب : ( أو اثنى ) كما في ( ابن أبي الحديد و غيره ) ٢ .
« و قبيح أو جميل ، و سخي أو بخيل ، و شقي أو سعيد » و هو معنى الخبر « السعيد سعيد في بطن امّه ، و الشقي شقيّ في بطن امّه » ٣ بمعنى أنّه تعالى يعلم أنّه يكون سعيدا أو يكون شقيّا .
« و من يكون في النار حطبا » إشارة إلى قوله تعالى : و أمّا القاسطون فكانوا لجهنّم حطبا ٤ .
« أو في الجنان للنبيّين مرافقا » إشارة إلى قوله تعالى : و من يطع اللّه و الرسول فاولئك مع الّذين أنعم اللّه عليهم من النبيّين و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين و حسن اولئك رفيقا ٥ .
« فهذا علم الغيب الّذي لا يعلمه أحد إلاّ اللّه » و لكن ورد في أخبار إخبارهم عليه السّلام بكون الحمل ذكرا أو انثى ، و غير ذلك ٦ .
« و ما سوى ذلك » من علم الساعة و غيرها الّذي ذكر معها .
« فعلم علّمه اللّه نبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلم » و سقطت التصلية من ( المصرية ) .
« فعلّمنيه و دعا لي بأن يعيه » أي : يجعل له و عاء .
ــــــــــــــــ
( ١ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٣٤١ ، لكن في شرح ابن ميثم ٣ : ١٣٩ مثل المصرية أيضا .
( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٣٤١ ، و شرح ابن ميثم ٣ : ١٣٩ .
( ٣ ) اخرجه الطبراني في المعجم الصغير ، عنه الجامع الصغير ٢ : ٣٧ . و ابن قتيبة في تأويل المختلف : ١٢٨ ، و الكليني في الكافي ٨ : ٨١ ح ٣٩ ، و الصدوق في التوحيد : ٣٥٦ ح ٣ و غيرهم بفرق يسير بين الألفاظ .
( ٤ ) الجن : ١٥ .
( ٥ ) النساء : ٦٩ .
( ٦ ) روى احاديث في علومهم ( ع ) بالغيب المجلسي في بحار الأنوار ٢٦ : ١٨ ٢٢٦ .
« صدري » في ( مناقب الكنجي الشافعي ) روى الحاكم عن بريدة الأسلمي قال : قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم لعليّ عليه السّلام : انّ اللّه تعالى أمرني أن ادنيك ، و لا اقصيك ، و أن اعلّمك ، و أن تعي ، و حقّ على اللّه أن تعي . فنزل قوله تعالى : و تعيها اذن واعية ١ .
« و تضطمّ » افتعال من الضم .
« عليه جوانحي » في ( الصحاح ) : الجوانح الأضلاع الّتي تحت الترائب ،
و هي ممّا يلي الصدر كالضلوع ممّا يلي الظهر ، الواحدة : جانحة ٢ .
١٤
الخطبة ( ٤٧ ) و من كلام له ع في ذكر ؟ الكوفة ؟ :
كَأَنِّي بِكِ يَا ؟ كُوفَةُ ؟ تُمَدِّينَ مَدَّ اَلْأَدِيمِ اَلْعُكَاظِيِّ تُعْرَكِينَ بِالنَّوَازِلِ وَ تُرْكَبِينَ بِالزَّلاَزِلِ وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِكِ جَبَّارٌ سُوءاً إِلاَّ اِبْتَلاَهُ اَللَّهُ بِشَاغِلٍ وَ رَمَاهُ بِقَاتِلٍ « كأنّي بك يا كوفة » في ( المعجم ) : قال ابن الكلبي : سمّيت الكوفة كوفة بجبل صغير في وسطها كان يقال له : كوفان ، و عليه اختطّت مهرة موضعها ،
و قيل : سمّيت بموضعها لأنّ كلّ رملة يخالطها حصباء تسمّى كوفة ، و قيل :
لأنّ جبل ساتيد ما يحيط بها كالكفاف عليها ، و قيل : لاجتماع الناس بها من قولهم « تكوّف الرّمل » و قيل : لاستدارتها من قولهم رأيت كوفانا و كوفانا للرملة المستديرة ٣ .
ــــــــــــــــ
( ١ ) رواه الكنجي في كفاية الطالب : ٤٠ ، و الحديث لم يخرجه الحاكم النيسابوري في المستدرك بل أخرجه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ٢ : ٢٨١ ح ١٠٢٠ . و الآية ١٢ من سورة الحاقة .
( ٢ ) صحاح اللغة ١ : ٣٦٠ ، مادة ( جنح ) .
( ٣ ) معجم البلدان ٤ : ٤٩٠ ٤٩١ ، و النقل بتصرف .
و في ( الفتوح ) : قال بشر القرشي : كان قدر الكوفة ستّة عشر ميلا و ثلثي ميل . و في ( المعجم ) : كان ظهر الكوفة يدعى خدّ العذراء ينبت الخزامى ،
و الأقحوان ، و الشيح ، و القيصوم ، و الشقائق ١ .
و في ( المروج و المعجم ) : لمّا فرغ الحجّاج من دير الجماجم و فد على عبد الملك و معه أشراف أهل الكوفة و البصرة فتذاكروا البلدان . فقال محمّد بن عمير بن عطارد : إنّ الكوفة أرض ارتفعت عن البصرة و حرّها و عمقها ، و سفلت عن الشام ، و وبائها ، و جاورها الفرات . فعذب ماؤها ، و طاب ثمرها إذا أتتنا الشمال ذهبت مسيرة شهر على مثل رضراض الكافور ، و إذا هبّت الجنوب جاءتنا ريح السواد و ورده و ياسمينه و اترنجه . ماؤنا عذب و عيشنا خصب . فقال خالد بن صفوان : نحن أوسع منهم برية ، و أسرع منهم في السرية ، و أكثر منهم قندا ، و عاجا ، و ساجا . ماؤنا صفو ، و خيرنا عفو لا يخرج من عندنا إلاّ قائد أو سائق أو ناعق .
فقال الحجّاج : إنّي بالبلدين خبير و قد وطئتهما جميعا .
فقال له عبد الملك : قل . فأنت عندنا مصدّق .
فقال : أمّا البصرة فعجوز شمطاء ، دفراء بخراء ، اوتيت من كلّ حليّ و زينة ، و أمّا الكوفة فشابة حسناء جميلة لا حليّ لها ، و لا زينة .
فقال عبد الملك : فضّلت الكوفة على البصرة ٢ و أمّا قول زياد « لو ضلّت البصرة لجعلت الكوفة لمن دلّني عليها » فعصبية .
و في ( الكامل ) : لمّا أراد عمر طوف البلدان بعد طاعون عمواس قال :
أشيروا عليّ . فقال له عليّ عليه السّلام : إنّ الكوفة للهجرة بعد الهجرة ، و إنّما هي لقبة
ــــــــــــــــ
( ١ ) اشتبه على الشارح بل ما نقله عن الفتوح فهو في معجم البلدان ٤ : ٤٩٢ ، و ما عن المعجم ففي فتوح البلدان : ٢٧٧ .
( ٢ ) مروج الذهب ٣ : ١٥١ ، و معجم البلدان ٤ : ٤٩٢ .
الإسلام ليأتينها يوم لا يبقى مسلم إلاّ و حنّ عليها ، و لينتصرن بأهلها كما انتصر بالحجارة من قوم لوط ١ .
و في ( أخبار الدينوري ) : سار عليّ عليه السّلام من البصرة إلى الكوفة . فلمّا أشرف عليها قال : و يحك يا كوفان ما أطيب هواءك ، و أغذى تربتك ، الخارج منك بذنب و الداخل إليك برحمة . لا تذهب الأيام و الليالي حتى يجيء اليك كل مؤمن ، و يبغض المقام بك كلّ فاجر ، و تعمرين حتّى أنّ الرجل من أهلك ليبكر الى الجمعة فلا يلحقها من بعد المسافة ٢ .
و في ( المعجم ) كان عليّ عليه السّلام يقول : الكوفة كنز الايمان ، و حجّة الإسلام ،
و سيف اللّه و رمحه يضعه حيث يشاء ، و الّذي نفسي بيده لينتصرن اللّه بأهلها في شرق الأرض و غربها كما انتصر بالحجاز ، و كان إذا أشرف على الكوفة قال :
يا حبذا مقامنا بالكوفة
أرض سواء سهلة معروفة
تعرفها جمالنا العلوفة
و كان سلمان الفارسي يقول : أهل الكوفة أهل اللّه ، و هي قبّة الإسلام » ٣ .
و في ( صفين نصر بن مزاحم ) : قال عليّ عليه السّلام و أشار إلى قبر عظيم في النخيلة يدفن اليهود موتاهم حوله ما يقول الناس فيه ؟ فقال الحسن عليه السّلام :
يقولون هذا قبر هود النبيّ عليه السّلام لمّا أن عصاه قومه جاء فمات هاهنا فقال عليه السّلام :
كذبوا لأنا أعلم به منهم هذا قبر يهودا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بكر يعقوب ثمّ قال : هاهنا أحد من مهرة . قال فاتي بشيخ كبير . فقال : أين منزلك ؟
ــــــــــــــــ
( ١ ) الكامل ٢ : ٥٦١ ، سنة ١٨ .
( ٢ ) الاخبار الطوال : ١٦١ .
( ٣ ) معجم البلدان ٤ : ٤٩٢ ٤٩٣ .
قال : على شاطئ البحر . قال : أين من الجبل الأحمر ؟ قال : قريب منه . قال : فما يقول قومك فيه ؟ قال : يقولون : قبر ساحر . قال : كذبوا ذاك قبر هود عليه السّلام ، و هذا قبر يهودا بن يعقوب بكره ، يحشر من ظهر الكوفة سبعون ألفا على غرة الشمس يدخلون الجنّة بغير حساب ١ .
و قال ابن أبي الحديد : قال أمير المؤمنين عليه السّلام : الكوفة مدينتنا و مقرّ شيعتنا ، يحشر من ظهرها يوم القيامة سبعون ألفا وجوههم على صورة القمر ٢ .
و في ( المعجم ) : ورد في مسجد الكوفة فضائل روى حبة العرني قال :
كنت جالسا عند عليّ عليه السّلام فأتاه رجل . فقال : يا أمير المؤمنين هذه راحلتي و زادي اريد هذا البيت يعني بيت المقدس فقال عليه السّلام : كل زادك ، و بع راحلتك ،
و عليك بهذا المسجد يعني مسجد الكوفة فإنّه أحد المساجد الأربعة ركعتان فيه تعدلان عشرا في ما سواه من المساجد ، و البركة منه إلى اثني عشر ميلا من حيث ما أتيته ، و هي نازلة من كذا ألف ذراع ، و في زاويته فار التنور ، و عند الاسطوانة الخامسة صلّى إبراهيم عليه السّلام ، و قد صلّى فيه ألف نبيّ ،
و ألف وصي ، و فيه عصا موسى ، و الشجرة اليقطين ، و فيه هلك يغوث ،
و يعوق ، و هو الفاروق ، و فيه مسير لجبل الأهواز ، و فيه مصلّى نوح عليه السّلام ،
و يحشر منه يوم القيامة سبعون ألفا ليس عليهم حساب ، و وسطه على روضة من رياض الجنّة ، و فيه ثلاث أعين من الجنّة تذهب الرجس ، و تطهّر المؤمنين ،
لو علم الناس ما فيه من الفضل لأتوه حبوا ٣ .
ــــــــــــــــ
( ١ ) وقعة صفين : ١٢٦ .
( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١ : ٢٨٦ . و النقل بتصرف .
( ٣ ) معجم البلدان ٤ : ٤٩٢ .