النظام العائلي ودور الاسرة في البناء الاجتماعي الاسلامي

النظام العائلي ودور الاسرة في البناء الاجتماعي الاسلامي0%

النظام العائلي ودور الاسرة في البناء الاجتماعي الاسلامي مؤلف:
تصنيف: الأسرة والطفل
الصفحات: 194

النظام العائلي ودور الاسرة في البناء الاجتماعي الاسلامي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور زهير الأعرجي
تصنيف: الصفحات: 194
المشاهدات: 46146
تحميل: 6601

توضيحات:

النظام العائلي ودور الاسرة في البناء الاجتماعي الاسلامي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 194 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 46146 / تحميل: 6601
الحجم الحجم الحجم
النظام العائلي ودور الاسرة في البناء الاجتماعي الاسلامي

النظام العائلي ودور الاسرة في البناء الاجتماعي الاسلامي

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

النظامُ العائلي

ودورُ ( الأُسرة ) في البناء الاجتماعي الإسلامي

الدكتور: زهير الأعرجي

١

٢

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

( وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ) البقرة:120.

٥

٦

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدّمة

لا شك أنّ كل فرد من الأفراد اختبر لوناً من ألوان الحياة العائلية في حياته الاجتماعية، ولذلك فإنّ كلامنا هذا حول المؤسّسة العائلية في المجتمع الإسلامي موجّه في واقع الأمر لكل الأفراد مهما كانت أفكارهم ومعتقداتهم، والسؤال الذي يبرز هنا بشكل صارخ هو: هل إنّ المؤسّسة العائلية ظاهرة تكوينية أم أنّها مختصة بلون معيّن من المجتمعات، فتكون دراستنا المقارنة بين النظرية الإسلامية والنظرية الغربية مجرّد عبث لا ينفع الأجيال؟

وقد جاء الجواب عن طريق المدرسة الاجتماعية الأمريكية، وبالخصوص عن طريق عالِم الاجتماع الأمريكي ( جورج ميردوخ ) (1) ، الذي درسَ العائلة ووظيفتها وتركيبتها الأساسية في أكثر من مئتين وخمسين مجتمعاً من مجتمعات العالَم، وتوصّل إلى نتيجة مهمة وهي: أنّ ظاهرة العائلة النووية الصغيرة إنّما هي ظاهرة تكوينية عالمية، يختبرها كلّ مجتمع إنساني مهما كان تركيبه العلمي أو الديني أو الثقافي.

فالعوائل الإنسانية جميعاً تتحد في صفات مشتركة: كالتعاون الاقتصادي، والسكن المشترك، وعملية الإنجاب، إلاّ أنّ الاختلاف يقع في طبيعة تركيب العائلة الكبيرة، خصوصاً

____________________

(1) ( جورج ميردوخ ). التركيب الاجتماعي. نيويورك: ما كميلان،1949م.

٧

فيما يتعلّق بتعدّد الزوجات، أو الاستقلال الزوجي عن الأبوين والأحفاد، أو الغربة الاجتماعية عن الروابط الإنسانية الطبيعية التي جلبها التصنيع الحديث.

ولو قرأنا تاريخ البشرية منذ البداية، لرَأينا أنّ السيطرة الاجتماعية على السلوك الإنساني تنبثق في أغلب الأحيان من العائلة، فالمجتمع لا يستطيع أن يحيا دون وجود مؤسّسة للسيطرة على السلوك الإنساني، وهذه السيطرة هي التي ولّدت العرف العقلائي الخاص بالسلوك الجنسي المتفق عليه اجتماعياً، ولولا الحقوق والواجبات التي وضِعت على الأفراد أو لهم ضمن المجموع، لمَا تحقق وجود المجتمع والنظام الاجتماعي، بل كان الأفراد مجرّد كائنات حيّة تعيش بانفراد دون نشاط اجتماعي ملحوظ.

وعلى الصعيد التاريخي، فإنّ للزواج وللعائلة دوراً حيوياً في السيطرة على السلوك الاجتماعي، فقد طَوّرت المجتمعات الإنسانية - عبر رسالة الدين والفلسفة الاجتماعية - العلاقات التفاعلية في الزواج، ومسؤولية رعاية مصلحة القاصرين من الأطفال، والعَجزة، وانتقال الملكية، والحقوق المدنية، والمنزلة الاجتماعية، وانتقال العلوم المتراكمة من جيلٍ لآخر.

إلاّ أنّ تطوّر المجتمع عبر الأحقاب الزمنية المتعاقبة، جعلَ السيطرة الاجتماعية المنبثقة عن العائلة وحدها بعيدة المنال، وجعلَ الدولة والمؤسّسة السياسية الحديثة تقوم بتبنّي دور السيطرة الاجتماعية، فكان من مباني هذا الدور الاجتماعي للدولة: أنّ القوانين إنّما جاءت لتلزم الأفراد بالانصياع للتشريعات الاجتماعية أو الدينية.

٨

والفرقُ بين القانون والعرف الاجتماعي هو: إنّ القانون أو التشريع يُكتب، بينما يبقى العرف الاجتماعي أمراً معنوياً متغيّراً مع تغيّر الأحداث والأفراد، ولذلك فإنّ القانون أو التشريع له خاصية الديمومة والاستمرار أكثر من العرف الاجتماعي.

ولا ريبَ أنّ القوانين والتشريعات بأجمعها تُقدّم للمجتمع - نظرياً على الأقل - شكلاً عادلاً من أشكال السيطرة الاجتماعية لكل الأفراد، وعندها يعرف الفرد حدود حقوقه المدنية، ويتوقّع الأزمَات التي فرضها المجتمع أو الدين عليه.

وفي الواقع، فإنّ النظام القانوني أو التشريعي - بالتضامن مع السيطرة الاجتماعية - يُقدّم للعائلة نظاماً محكماً يجهّز الفرد - وهو يكدح في حياته اليومية - بقابلية فريدة على توقّع صحيح ودقيق لسلوك الأفراد، وعلى ضوء ذلك التوقّع يتمّ تفاعله مع هؤلاء الأفراد، إلاّ أنّ القانون الذي يصنعه الأفراد لأنفسهم يختلف عن التشريع الذي يشرّعه الخالق عزّ وجل؛ لأنّ قوّة القانون تتناسب مع كفاءة فهم الأفراد للمتطلبات الاجتماعية في زمن ومكان محدّد، إلاّ أنّ التشريع الإلهي محكم باعتبار صدوره من جهة المولوية المطلقة أوّلاً، وباعتبار أنّه لم يُحدَّد بزمان معيّن أو مكان محدّد ثانياً.

ومن المتسالم به عند العقلاء: أنّ القانون أو التشريع لا يمكن ضمان نجاحه ما لم ينزل إلى الساحة الاجتماعية مع نظام متكامل للعقوبات، وقد تناولنا موضوع العقوبات في كتاب ( الانحراف الاجتماعي وأساليب العلاج في الإسلام ) .

إنّ الفرق ما بين التشريع الإسلامي الخاص بالعائلة وبين القانون الغربي الخاص بها: أنّ القوانين المعاصرة التي وضعها الإنسان ما هي إلاّ

٩

أحكام مثالية لا تتطابق مع الواقع المتغيّر في أغلب الأحيان، على عكس أحكام الشريعة التي أخذت الطبيعة البشرية بقطبيها ووضعت القوانين التي تتناغم مع كلّ أمواج الطبيعة الإنسانية، وأغلب القوانين المدنية والحقوقية الخاصة بالعائلة - والمعمول بها اليوم في الغرب - مستمَدّة من أفكار الثورة الفرنسية والأمريكية والقانون العرفي الانكليزي، وهي قوانين يصعب تطبيق عُشرها على الوضع الاجتماعي المعاصر (1) .

إنّ الأبعاد القانونية الخاصة بالعائلة في النظرية الغربية تشمل تشريعات في: قانون الزواج، وحقوق الأطفال، والإرث، ففكرة الزواج تستند على مبدأ كونه عَقداً من العقود، إلاّ أنّه يختلف عن العقود التجارية لاعتبارين:

الأوّل: هو أنّ العلاقة الزوجية لا يمكن فسخها بنفس الطريقة التي يمكن بها فسخ العقد التجاري في الحالات الاختيارية. والثاني: إنّ المتطلبات القانونية للدخول في عقد الزواج تختلف عن المتطلبات اللازمة للدخول في العقود التجارية، ومن الطبيعي أنّ الزواج في القانون الغربي ينبغي أن يسدّ حاجتين:

الأولى: سدّ الحاجة المالية للعائلة الجديدة، بمعنى أنّ الدولة غير مسؤولة عن مساعدة الزوجة والأطفال والقاصرين، بل يتعيّن على العائلة سدّ حاجتها المالية بنفسها.

والثانية: سدّ الحاجة الاجتماعية فيما يتعلّق بإنجاب الذرّية، وتحديد النشاط الجنسي ضمن حدود الزواج القانوني (2) .

____________________

1 - ( هيلين كلارك ). التشريع الاجتماعي: نيويورك، ابلتون - سنچري وكروفتس، 1957 م.

2 - ( هاريت بيلبل ) و( ثيودورا زافين ). ( القوانين الخاصة بالزواج والعائلة ): مقالة علمية في كتاب ( دائرة معارف السلوك الجنسي )، تحرير: البرت اليس والبرت اباربانيل، نيويورك: كتب هاوثورن، 1961 م.

١٠

ومن أهمّ متطلبات الزواج القانونية في النظام الرأسمالي هو: البلوغ، والعقل، وعدم شرعية زواج المحارم، وعدم شرعية الزواج بين الأعراق المختلفة كالعرق القوقازي، والزنجي، والمنغولي .

فسنّ البلوغ القانوني للزواج هو: ثماني عشرة سنة للذَكر، وست عشرة سنة للأنثى بشرط موافقة الأبوين، أمّا سنّ البلوغ القانوني للزواج بدون موافقة الأبوين فهو واحد وعشرين سنة بالنسبة للذكر، وثماني عشرة سنة بالنسبة للأنثى (1) ، ولكن ليس هناك دليل يُثبت على أنّ موافقة أو عدم موافقة الأبوين في النظرية الغربية، تُغيّر من الشروط الردعية التي تنظّم عملية الزواج.

أمّا شرط العقل: فإنّه من الشروط المهمة في إتمام عملية العقد؛ لأنّ المضطرب عقلياً أو المجنون لا يستطيع أن يقوم بمسؤولياته الاقتصادية والاجتماعية الخاصة بالزواج والعائلة، وبذلك فإنّه سيُحمّل الدولة مصاريف نفقات عائلته، ولذلك يُعتبر زواج المجنون أو المضطرب عقلياً بعيداً عن الصفة القانونية والروح الاجتماعية، أمّا البُعد عن الصفة القانونية؛ فلأنّ العَقد يجب أن يتمّ ما بين فردين لهما القابلية على الموافقة الصريحة أو الضمنية، وهذا لا يتم مع المجنون، وأمّا البُعد عن الصفة الاجتماعية أو العملية؛ فلأنّ المجنون ربّما يسبّب حرجاً شديداً لعائلته وللمجتمع الذي يعيش فيه.

ولا يجوز العقد على المحارم في النظرية القانونية الغربية؛ لأنّ الكنيسة في القرون الماضية حرّمت ذلك، ومن المسلّم به أنّ هذا القانون مستمَد من الشرائع السماوية، إلاّ أنّ القانون الحديث البعيد عن روح الدين لم يستطع تغيير ذلك.

____________________

1 - ( وليم كيفارت ). ( الأبعاد القانونية والإجرائية للزواج والطلاق ): مقالة علمية في كتاب ( الزواج والعائلة ) تحرير: هارولد كريستنسن، شيكاغو: راند ميكانالي، 1964 م.

١١

وبطبيعة الحال، فإنّ المحارم في القانون الغربي كانت قد قُسمّت إلى نوعين: المحارم الناتجة عن طريق النسب، والمحارم الناتجة عن طريق السبب، أمّا القانون العرفي الانكليزي المتعلّق بالزواج فهو يشترط شرطين لتحقق الزواج:

أولهما: أن يكون الفردان صالِحَين للعقد، من ناحية سن البلوغ، والخلو من الموانع الزوجية ونحوها.

وثانيهما: العيش معاً في سكن واحد والإعلان عن زواجهما للملأ والمجتمع المحيط بهما (1) .

وإلى هذا الحد، فإنّ القانون الغربي ينطبق تماماً في الموارد السابقة مع الشريعة الإسلامية، وليس هناك أدنى شك من أنّ فلاسفة ومقنّني أوروبا وأمريكا، قد اقتبسوا من أحكام الشريعة الإسلامية كل هذه القوانين التي لا يزيد عمرها على أربعة قرون على الأكثر، بينما يبلغ عمر الشريعة الإسلامية أكثر من أربعة عشر قرناً.

ولكنّ أحد أهم القوانين التي تعارضه النظرية الإسلامية تماماً، والمعمول به حتى اليوم في الولايات المتحدة هو: قانون ( حرمة تمازج الأجناس عن طريق التزاوج ) : بمعنى أنّ هذا القانون يُحرّم على الفرد الأبيض التزاوج من الأجناس الأخرى، خصوصاً الجنس الزنجي، بدعوى أنّ التزاوج بين الأجناس المختلفة يساهم في إضعاف الجنس المسيطر على النظام الاجتماعي، ولحد العقد السادس من القرن العشرين كانت إحدى وثلاثون ولاية أمريكية في الجنوب والجنوب الغربي للولايات المتحدة، تُحرّم التزاوج بين الأفراد البيض وبين أفراد الجنس الأصفر أو المنغولي، وأربع

____________________

1 - ( وليم كيفارت ). العائلة، المجتمع، والفرد: بوستن، هوتن ميفلن، 1961 م.

١٢

ولايات في الجنوب الأمريكي تُحرِّم الزواج بين الأفراد البيض وبين الهنود الحمر، وهم أصحاب البلاد الأصليين (1) .

ولا شكّ أنّ مخالفة ذلك القانون تستدعي عقوبات قاسية، فتعتبرهُ الدولة زواجاً باطلاً، والأطفال المتولدين عنه غير شرعيين، وتلك العلاقة الجنسية بين الزوج وزوجته جُنحة مخلّة بالشرف.

إلاّ أنّ هذه القوانين كلّها عُرضة للتغيير والتبديل، وهذا التبديل - الذي يطال هذه القوانين - يعكس قصور الإنسان وفكره البشري على إنشاء قوانين محكمة، تصلح للتطبيق في كلّ الأحوال دون النظر إلى الزمان أو المكان، إلاّ أنّ الرسالة الدينية والإسلامية بالخصوص تُحقق ما عَجزت النظرية القانونية الغربية عن تحقيقه.

إنّ الدين في الدول النصرانية له تأثير كبير على شكل علاقة التغشّي ما بين الرجل والمرأة، فالسلوك الجنسي يعتبر خطيئة وجرماً، إلاّ أنّ الزواج يلغي هذا الإلصاق؛ لأنّ النصرانية تؤمن بأنّ هدف التزاوج هو حفظ النسل الإنساني من الانقراض، وليس مجرّد المتعة الجسدية.

وقد نظَّم مفهوم الدولة الحديثة عملية العلاقة الجسدية ما بين الزوج والزوجة، واعتبرَ البِغاء - ولو نظرياً - جريمة يعاقَب عليها، إلاّ انفصال الدين عن السياسة في النظام الرأسمالي، جعلَ هذه القوانين المتعلّقة بالجرائم الأخلاقية تنحلَّ تدريجياً بتغيّر الوضع الاجتماعي، بحيث أصبحت المشكلة الاجتماعية التي يعاصرها الغرب الرأسمالي هي: كيفية حفظ التصميم العائلي الذي يجرفه التغيّر الاجتماعي المعاصر.

____________________

1 - ( ارفينك مانديل ). قانون الزواج والطلاق: نيويورك، مطبوعات أوشينا، 1957 م.

١٣

ولعلّ جوهر الخلاف بين النصرانية والنظرية الرأسمالية هو: أنّ النصرانية تَعتبر المؤسّسة العائلية مؤسّسة للإنجاب والتناسل، بينما تَعتبر الدولة الرأسمالية العائلة مؤسّسة اجتماعية للمشاركة الجنسية وإشباع الشهوات، ولذلك فإنّ عدم الإنجاب لا يعطي الزوج حقاً في الطلاق، بموجب رأي النظرية الرأسمالية، إلاّ أنّ عدم القدرة على المشاركة الجنسية: كالعَنن، والعفل ونحوها، يعطي الزوج أو الزوجة حقّ الطلاق.

وهناك مشكلة خطيرة تواجه العائلة الحديثة وهي: مشكلة تحديد النسل، فتحديد النسل البشري يتم عبر طريقين:

الأول: استخدام وسائل منع الحمل المصنَّعة.

والثاني: الإجهاض.

والفرق بين الطريقين: أنّ الأول يمنع تخلّق الجنين قبل انعقاد النطفة، والثاني يمنع تخلّق الجنين بعد انعقادها.

فالإجهاض: يُنهي الحمل قبل أن يمنح الجنين فرصة حقيقية للحياة، ولا شكّ أنّ الكنيسة الكاثوليكية، واليهودية الأرثودوكسية حرَّمت - بتاتاً - استخدام كل وسائل تحديد النسل، ميكانيكية كانت، أو كيميائية، أو فسلجية، أو إجهاضاً، إلاّ أنّ الكنيسة البروتستانتية واليهودية الإصلاحية أرجَعتا قضية تحديد النسل إلى الجانب العقلائي، والدافع الذي يدفع الفرد للإقدام على ذلك العمل، فإن كانت هناك مصلحة بهدف الحفاظ على حياة الأُمّ أو تنظيم الأسرة فلا بأس بالتحديد، برأي تلك المدرستين الدينيتين، أمّا الإسلام فقد جعلَ الحرمة مرتبطة بانعقاد النطفة، فإذا انعقدت النطفة فلا يجوز الإجهاض أو قَتل الجنين.

ومشكلة أخرى خطيرة تواجه العائلة الغربية المعاصرة وهي: أنّه فيما إذا كان أحد الزوجين عقيماً، فهل يجوز له سلوك ذلك الطريق الذي يحلّ مشكلته الاجتماعية؟ عِلماً أنّ هناك طريقين لحلّ هذه المشكلة، وهما:

١٤

أولاً: التبنّي. وثانياً: التخصيب الخارجي.

فالتبنّي: هو نسبة فرد من عائلة معيّنة إلى عائلة أخرى بطريق قانوني، وانتقاله للسكن مع تلك العائلة الجديدة بصورة دائمية، فتنتقل - عندئذ - كلّ الحقوق المالية والقانونية إلى الفرد المتبنّى، ولكنّ المشكلة تبرز عندما تطالب العائلة البيولوجية برجوع ابنها إليها من العائلة القانونية المتبنّية لذلك الطفل، ولا شكّ أنّ التبنّي يسبّب اضطراباً عاطفياً واجتماعياً للطفل المتبنّى؛ بسبب العلاقات العائلية والقانونية الجديدة التي استحدثت دون إدراك الصبي لِما يجري، خصوصاً فيما يتعلّق بمصلحته الشخصية.

أمّا التخصيب الخارجي: فهو عملية طبّية لوضع حيامن الزوج في رحم الزوجة، أو وضع حيامن رجل مجهول الهويّة في رحم الزوجة وبموافقة زوجها، وسبب العُقم في هذه الحالات هو: أنّ حيمن الزوج لا يستطيع الوصول إلى بويضة الزوجة ليخصّبها، كما هو في الحالات الطبيعية.

ولا شكّ أنّ التخصيب الخارجي الذي يقوم به الزوج لا يتعارض إطلاقاً مع الارتكاز العقلائي، باعتبار أنّ الطب يقوم لإيصال حيمن الزوج بطريق تقني متقدّم لملاقاة بويضة الزوجة، فيكون انعقاد النطفة في الرحم، ولكنّ المشكلة تكمن في التخصيب الخارجي من قِبل رجل مجهول الهويّة، وهو ما يرفضه الدين والعرف العقلائي تماماً؛ لأنّ فيه اختلاطاً عظيماً للأنساب وكآبة أعظم للزوج الذي حُرِم من إمضاء بصماته الجينية على الجنين المخلَق من قِبل رجل مجهول الهويّة، وهذه المشاكل التي تواجهها الأسرة المعاصرة تستحقّ - على أقل تقدير - نقاشاً وردّاً على الآراء الغربية الوافدة.

١٥

إنّ هذا الكتاب يعبِّر عن محاولة ابتدائية لفهم دور الأسرة في البناء الاجتماعي، وقد قسّمنا البحث في الكتاب إلى قسمين: الأول: ناقشنا فيه آراء النظرية الاجتماعية الرأسمالية الغربية فيما يخصّ المؤسّسة العائلية، ونَقَدنا أهمّ مبانيها الفلسفية والاجتماعية.

الثاني: النظرية الاجتماعية الإسلامية التي تناولت أهمية دور الأسرة في البناء الاجتماعي من خلال أحكامها الشرعية الفريدة، وقد عَقدنا في نهاية الكتاب مقارنة بين النظريتين لاكتشاف عناصر الكمال في النظرية الاجتماعية الإلهية، ومعرفة ضُعف مقالة النظرية الاجتماعية الرأسمالية، التي لا تعدو كونها مجرّد فرضية صمّمها الإنسان الغربي لتنظيم حياته الاجتماعية، قد يُكتب لها النجاح وقد يُكتب لها الفشل.

ربّي أنت المستعان، ولك الحمد في الأُولى والآخرة، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلتُ واليه أُنيب.

زهير الأعرجي

قم المشرّفة / ذو الحجة 1413 هـ -

١٦

أُطروحة الكتاب

تحتل النظرة الفلسفية لموقع ( العائلة ) في المجتمع الإنساني دوراً مهماً في الفكرة الاجتماعية الغربية، خصوصاً على صعيدَي النظرية التوفيقية بزعامة ( هربت سبنسر ) و ( أميلي ديركهايم )، ونظرية الصراع الاجتماعي بزعامة ( كارل ماركس ) و ( فريدريك انجلز ).

فللمؤسّسة العائلية - حسب آراء ( سبنسر ) و ( ديركهايم ) - دور حيوي خطير في حفظ المجتمع الإنساني وسدّ الأدوار الشاغرة التي يتركها الأفراد حين الموت، إلاّ أنّ نظرية الصراع الاجتماعي تُصر - حسب رأي ( فريدريك أنجلز ) - على أنّ المؤسّسة العائلية هي أول مؤسّسة اضطهادية يختبرها الفرد في حياته الاجتماعية.

وتُعارضُ النظرية الاجتماعية الرأسمالية فكرة تعدّد الزوجات، باعتبارها نقيضاً صارخاً لمفهوم ( المذهب الفردي ) الذي قامت على أساسه أركان النظام الاقتصادي الرأسمالي الحديث، وهي تعارض أيضاً فكرة الأُسر العشائرية الكبيرة التي تضمّ - بالإضافة إلى الزوجين - الأجداد، والأحفاد، والأقارب، باعتبارها عائقاً من عوائق زيادة الإنتاج الاجتماعي.

وقد كان نَقدُنا للنظريتين التوفيقية والصراع الاجتماعي يتلخّص في: أنّ العنف الذي يقع بين أفراد العائلة الواحدة، وخصوصاً في المجتمع الصناعي الحديث، يناقض ادّعاءات النظرية التوفيقية: بأنّ المؤسّسة العائلية في

١٧

النظام الرأسمالي تُشبع جميع الحاجات العاطفية للأفراد، وتكون مصدراً من مصادر الاستقرار النفسي، وخَلصنا إلى نتيجة مفادها: أنّ المجتمع الرأسمالي الصناعي لا يوفِّر - في أيّ حال من الأحوال - قاعدة عائلية تمنح الاستقرار النفسي والحاجة العاطفية للأفراد، وكان اعتراضنا على نظرية الصراع الاجتماعي منبثقاً من فكرة أنّ مجرّد ربط الاضطهاد الأسري بالاضطهاد الاجتماعي ومظالم النظام الرأسمالي، لا يتعدّى مجرّد عرض للمشكلة الاجتماعية دون تقديم حل بديل يعالج ذلك الاضطهاد المزعوم.

ولا شك أنّ أهم المشاكل التي أفرزتها الحضارة الغربية المعاصرة هو: تغيّر ولاء الأفراد تجاه بعضهم الآخر، فأصبحَ الفرد الرأسمالي يحصر جُلَّ اهتماماته العملية على تحقيق رغباته الشخصية، دون الاكتراث لمسؤوليته الاجتماعية تجاه المؤسّسة العائلية، وغَدا الولاء الاجتماعي يتحوّل تدريجياً من العشيرة والأقارب إلى الدولة والنظام السياسي؛ لأنّ الدولة أصبحت تقوم بتقديم أغلب الخَدمات التي كانت تقدّمها العشيرة للفرد: كالخدمات التعليمية، والطبّية، وإعانة العَجَزة، ورعاية الأطفال.

إلاّ أنّ النظرية الاجتماعية الرأسمالية أُصيبت بخيبة أمل شديدة في العقود الثلاثة الماضية؛ لأنّ هذا التحوّل في الولاء الاجتماعي أنشأ مشاكل جديدة فيما يتعلّق باستقرار القاعدة الاقتصادية والعاطفية للعائلة الصغيرة، وخصوصاً على أصعدة الطلاق والإجهاض والاعتداء الجسدي، ولا ريب أنّ المشاكل العائلية الخطيرة التي يواجهها المجتمع الصناعي الرأسمالي الحديث، يجعلنا نتوجّه بكل ثقل نحو الرسالة الدينية لنستلهم منها أفكارنا فيما يتعلّق بدور وإطار عمل المؤسّسة العائلية في النظام الاجتماعي.

فالإسلام ينظر إلى المؤسّسة العائلية باعتبارها نقطة استقرار لعالَم متحرك، تنتقل من خلالها ممتلكات الجيل السابق إلى الجيل اللاحق عن طريق الإرث والوصية الشرعية، ومؤسّسة اجتماعية لتعويض الخسائر البشرية الحاصلة نتيجة موت الأفراد، ومحطّة فحص وتثبيت أنساب الأفراد عن طريق الزواج والإقرار بالنسب، ومركز حماية الأفراد فيما يتعلّق بالحُب، والحنان، والدفء، والمطعم، والملجأ، ومكاناً لتهذيب السلوك الجنسي، ومسرحاً لتعلّم

١٨

المعارف قبل الخروج للساحة الاجتماعية، وموضعاً عظيماً لتعلّم وممارسة النشاطات الروحية والدينية.

وقد قدّم الإسلام في نظريته الفقهية الاجتماعية عَرضاً مفصّلاً لحقوق الزوجة المالية والمدنية، وحقوق الأبوين والأجداد والأحفاد، وحق إلحاق المولود على أساس قاعدة ( إمكان الإلحاق ) التي تسالمَ عليها الفقهاء، وحقوق الرضاعة والحضانة، وأحكام الصبي، والوصية الشرعية، والإرث.

والأصل في النظرية الإسلامية: أن يكون للعائلة ولي يدير شؤونها المالية والعاطفية والتربوية، أو وصي يدير شؤونها المالية ويرعى مصلحة أفرادها، وبكلمة فإنّ العائلة الإسلامية تُساهم في خلق الفرد الاجتماعي المؤمن بالنظرية الأخلاقية الدينية، الصالح للعمل والإنتاج، المُجدّ في سبيل بناء النظام الاقتصادي والسياسي للمجتمع الإسلامي.

وبذلك، فإنّ النظرية الإسلامية تطرح للعالَم المعاصر قاعدة عائلية تمنح الأفراد كلّ مَواطن الاستقرار النفسي، والحاجات العاطفية التي حرمتهم منها التطبيقات الرأسمالية الغربية الحديثة.

١٩

٢٠