النظام العائلي ودور الاسرة في البناء الاجتماعي الاسلامي

النظام العائلي ودور الاسرة في البناء الاجتماعي الاسلامي0%

النظام العائلي ودور الاسرة في البناء الاجتماعي الاسلامي مؤلف:
تصنيف: الأسرة والطفل
الصفحات: 194

النظام العائلي ودور الاسرة في البناء الاجتماعي الاسلامي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور زهير الأعرجي
تصنيف: الصفحات: 194
المشاهدات: 46142
تحميل: 6601

توضيحات:

النظام العائلي ودور الاسرة في البناء الاجتماعي الاسلامي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 194 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 46142 / تحميل: 6601
الحجم الحجم الحجم
النظام العائلي ودور الاسرة في البناء الاجتماعي الاسلامي

النظام العائلي ودور الاسرة في البناء الاجتماعي الاسلامي

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

القسمُ الأوّل

النظامُ العائلي في النظرية الرأسمالية

العائلة في النظرية التوفيقية * نقد النظرية التوفيقية * العائلة في نظرية الصراع الاجتماعي * نقد نظرية الصراع * الشكل العائلي الرأسمالي * معنى التغيّر في المؤسّسة العائلية الرأسمالية * العائلة الرأسمالية الأمريكية * الزواج والطلاق في المجتمع الرأسمالي * مشكلة الإسقاط المتعمّد ( الإجهاض ) * هفوات النظام العائلي الرأسمالي.

٢١

٢٢

العائلةُ في النظرية التوفيقية

تجزم النظرية التوفيقية بأنّ الحياة الإنسانية حياة حيوانية، وأنّ البشر ليسوا حيوانات من الناحية البيولوجية فحسب، بل إنّهم حيوانات اجتماعية أيضاً (1) ، ولذلك فلابدّ للمؤسّسة العائلية من القيام بدور فعّال في حفظ المجتمع الإنساني؛ لأنّ أيّ محاولة لفهم الدور الإنساني للمؤسّسة العائلية، يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الوظائف الاجتماعية التي تقوم بها العائلة لخدمة النظام الاجتماعي، على صعيد تنظيم الحياة الخاصة بين الرجل والمرأة، ورفد المجتمع بالأفراد المنتجين، وإحياء الحياة الاجتماعية، وحماية الأفراد المنتمين للعائلة الواحدة ورعايتهم من الناحية العاطفية والاقتصادية.

فجميع المجتمعات الإنسانية - حسب النظرية التوفيقية - لا تسمح للأفراد بإنشاء علاقات خاصة بين الرجال والنساء، دون ضوابط عرفية متفق عليها، بل القاعدة: أنّ المجتمع الإنساني لا ينظر للسلوك الجنسي باعتباره مسألة خاصة بالفرد، وإنّما يسلّط عَيناً فاحصة على هذه الممارسات الغريزية بين الجنسين ويرصدها رصداً تاماً.

فالنظام الاجتماعي إذاً، يُقدّم إطاراً أُسرياً ينظّم بموجبه العلاقة الجنسية بين الذكر والأنثى، ويحدّد من خلاله نوعية الأفراد المتزاوجين من حيث العمر والدخل والكفاءة، ويضع الشروط المناسبة لذلك.

____________________

1 - ( روبرت ميرتون ): النظرية الاجتماعية والتركيب الاجتماعي، نيويورك، المطبعة الحرّة، 1968 م.

٢٣

وترى النظرية التوفيقية: بأنّ المجتمع لا يستطيع أن يقوم بمهامه الحيوية، ما لم يُنشئ نظاماً خاصاً لتعويض الخسائر الاجتماعية التي تحصل نتيجة موت الأفراد، ولولا النظام العائلي لانقرضت البشرية والحياة الإنسانية على وجه هذا الكوكب. فالعائلة ترفد المجتمع بالأفراد المنتجين جيلاً بعد جيل، حيث تُقدّم هذه العائلة المستقرة، المتكوّنة من أب وأم، للنظام الاجتماعي أفضل الخدمات الاجتماعية وأهمّها، وهي: سدّ الأدوار الشاغرة التي يتركها الأفراد حين مغادرتهم الحياة الدنيا خلال الموت.

وعلى هذا الأساس، تقوم العائلة بحماية أفرادها ورعايتهم بتقديم شتّى الأعمال الخَدمية لهم: كالملجأ، والمطعم، والدفء، والحنان، والعناية الشخصية والعاطفية، فهي توفر لهم الأجواء التي تسدّ حاجاتهم الأساسية في الخلود إلى الراحة والاطمئنان للمستقبل، وشحن طاقاتهم العملية، فيكونوا بعدئذٍ أهلاً للعمل والإنتاج.

ولا شك أنّ النظام العائلي مبني على أساس أنّ الفرد المنتِج في العائلة الواحدة هو المسؤول عن الآخرين، الذين لا يستطيعون القيام بعمل منتج بسبب السن أو المرض أو العجز الطبيعي، ضمن إطار نفس العائلة.

وبطبيعة الحال، فإنّ العائلة - حسب رأي النظرية التوفيقية - تُساهم في تحقيق طموح الإنسان في التفوّق والنجاح عن طريق الاختلاط الاجتماعي، فالإنسان كائن اجتماعي بالطبع، ومنذ الولادة يسعى في أجواء الحُب والحنان من قِبل الأبوين إلى الانغمار بالنشاطات الاجتماعية، فيتعلّم اللغة، والقيَم، والدين، والعادات الاجتماعية التي يقرّها النظام الاجتماعي.

ومع أنّ المؤسّسة الدينية والتعليمية تُساهم في إنشاء الفرد، إلاّ أنّ المؤسّسة العائلية هي القاعدة التي ينطلق منها الإنسان في بناء حياته الاجتماعية والاقتصادية.

٢٤

وعلى ضوء ذلك: تُقدّم العائلة لأفرادها مقعداً اجتماعياً متميزاً، يتناسب أساساً مع منزلة العائلة الاجتماعي وثروتها، فالأفراد جميعاً يُنسبون إلى عوائلهم من الناحية العرقية، والدينية، والمذهبية، والاقتصادية، والطبقية الاجتماعية بمعنى: أنّ هوية الفرد المذهبية والعرقية تحدّدها العائلة التي ينتمي إليها أكثر ممّا يحدّدها الفرد لنفسه، وبالتالي فإنّ لهذه الهوية تأثيراً حاسماً على احتلال الأفراد لأدوارهم الاجتماعية لاحقاً.

وأهمّ حاجة تُشبعها المؤسّسة العائلية في الفرد هي: الحاجة العاطفية ، فالحُب والحنان والعطف من مصادر الاستقرار النفسي، وإشباع هذه الحاجات العاطفية لا يتم إلاّ ضمن جدران العائلة، التي تَعتبرها النظرية التوفيقية جنّة من الجنان الطبيعية في هذا العالَم المتوحش (1) .

____________________

1 - ( كريستوفر لاش ). جنّة في عالَم لا قلب له: العائلة في حصار، نيويورك، الكتب الأساسية، 1977 م.

٢٥

نقدُ النظرية التوفيقية

وقد ركّزت النظرية التوفيقية في معالجتها لدور المؤسّسة العائلية في حفظ المجتمع الإنساني، على الوظائف الاجتماعية التي تقوم بها تلك المؤسّسة، دون أن تكترث لدراسة دور الرجل والمرأة في إدارة النظام العائلي، وتحليل علاقتهما الزوجية ضمن حدود العرف الاجتماعي، فلم تستطع النظرية أن تُقدّم تصوّراً عاماً حول واجبات الزوجين وحقوقهما، ومسؤوليتهما الشرعية أو القانونية تجاه بعضهما البعض أولاً، وتجاه اليافعين في نظامهما العائلي ثانياً، ولم تتطرّق النظرية أيضاً إلى حقوق الأفراد المنتسبين إلى العائلة الواحدة في الإرث والنفقة والتملّك، ولم تتناول شكل العلاقة الزوجية، ودور الطاعة أو النفقة في تحديد الغريزية بين الرجل والمرأة.

ولو كانت النظرية صادقة ودقيقة في تحليلها، فلماذا إذاً تجاهلت تحليل ظاهرة العنف في العائلة الرأسمالية، مقابل الحُب والحنان في العائلة المثالية التي تزعم بوجودها في كل المجتمعات الإنسانية وبضمنها المجتمع الرأسمالي؟ مع علم النظرية مسبقاً بأنّ الجرائم الواقعة بين أفراد العائلة الواحدة - خصوصاً بين الزوج والزوجة - تُشكّل أكثر من عُشر إجمالي الجرائم الجنائية السنوية في الولايات المتحدة مثلاً (1) ، فإذا كانت العائلة مصدراً للحُب والحنان، فكيف تُفسّر النظرية التوفيقية حوادث الاعتداء

____________________

1 - ( روبرت ) الانفصال الزوجي: نيويورك، الكتب الأساسية، 1975 م.

٢٦

الجسدية التي تقع بين الزوجين في النظام العائلي الرأسمالي، والتي قُدّرت في العقد الأخير من القرن العشرين بأكثر من سبعة ملايين حادث سنوياً تقع ضمن ستين مليون عائلة (1) ؟

ومع أنّ النظرية التوفيقية تُقدّم تحليلاً جدّياً لدور العائلة في النظام الاجتماعي، إلاّ أنّها تفشل في تكوين صورة شاملة عن النظام القانوني الذي ينظّم شؤون العائلة الداخلية، ويضعها أمام مسؤوليتها الاجتماعية الكبيرة.

____________________

1 - ( روبرت أمري ) وآخرون. الطلاق، الأطفال، والسياسة الاجتماعية: فصل علمي في كتاب ( السياسة الاجتماعية والأبحاث الخاصة بنمو الطفل ) تحرير: هارولد ستيفنسن والبرتا سيغل، شيكاغو، مطبعة شيكاغو، 1984 م.

٢٧

العائلةُ في نظرية الصراع الاجتماعي

ولا تنكر نظرية الصراع الاجتماعي أهمية دور المؤسّسة العائلية في انجاز الوظائف المناطة بها اجتماعياً، إلاّ أنّ النظرية تؤكد على أنّ المؤسّسة العائلية هي أول مؤسّسة اضطهادية يختبرها الفرد في حياته الاجتماعية، حيث تمثل سيطرة الرجل على المرأة في النظام العائلي، أخطر الأمثلة التي تقدّمها نظرية الصراع وتُدينها من الأساس، وإلى ذلك يشير ( أنجلز ) في كتابه ( أصل العائلة، الملكية الخاصة، والجولة ) قائلاً:

( إنّ الزواج يمثل نموذجاً راقياً للعداوات التي ظهرت في التاريخ، حيث إنّ نمو وازدهار مجموعة معيّنة يتم على حساب مأساة واضطهاد مجموعة أخرى،... إنّ العلاقة بين الزوج والزوجة هي مثال نموذجي لِما يحصل لاحقاً من اضطهاد بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العمّالية ) (1) .

____________________

1 - ( فريدريك أنجلز ) ص: 30، طبع سنة 1884 م.

٢٨

نقدُ نظرية الصراع

ولا شكّ أنّ نظرية الصراع الاجتماعي تنطلق في تحليلها لوضع المرأة في المؤسّسة العائلية، من معاينة المجتمع الأوروبي الغربي في عصر الثورة الصناعية ونشوء النظرية الرأسمالية، وامتدادات ذلك إلى المجتمع الأمريكي الشمالي، وهو تحليل يعكس صدق النظرية في تشخيصها جزءاً مهماً من المشكلة الاجتماعية الأُسرية في النظام الرأسمالي.

فلحدّ الستينيات من القرن العشرين، لم تكن المرأة في النظام الأمريكي والأوروبي قادرة من الناحية القانونية، على المشاركة في إنشاء أيّ عقد من العقود التجارية دون إذن زوجها، وفي النصف من القرن نفسه وصلت حالة العنف بين الزوج والزوجة في المجتمع الأمريكي إلى درجة، بحيث وضِعت المؤسّسة العائلية على قمّة المؤسّسات الاجتماعية الأمريكية التي تمارس العنف والإجرام (1) .

فجرائم القتل بين الأزواج تمثل - كما ذكرنا سابقاً - عُشر إجمالي الجرائم الجنائية السنوية، وفي كلّ عام يحاول أكثر من سبعة ملايين زوج أو زوجة إنزال الأذى بالآخر، قتلاً كان، أو ضرباً مُبرحاً، أو جرحاً بليغاً، ويحاول أكثر من مليوني طفل سنوياً الاعتداء على أمثالهم بسلاح ناري أو نحوه بنيّةٍ وتصميم مسبق للقتل، وفي كلّ عام يهرب أكثر من مليوني مراهق من بيوتهم بسبب الاعتداءات الخُلقية عليهم من قِبل آبائهم، وأكثر المشاكل الزوجية انتشاراً في المجتمع الرأسمالي الأمريكي اليوم هو: الاعتداء الجسدي بين الأزواج مع النيّة المسبقة بإنزال الأذى بالآخر.

____________________

1 - ( ميشيل كوردن ). العائلة الأمريكية من زاوية اجتماعية - تاريخية: نيويورك، سانت مارتن، 1983 م.

٢٩

وهذا الوضع الأُسري في حضارة تدّعي لنفسها الكمال، قد رسّخ أفكار نظرية الصراع الاجتماعي في أذهان المُحدَثين من معتنقي هذه النظرية، وجَعَلهم أكثر تحمّساً في الدفاع عن مقولة ( فريدريك أنجلز ) حول الاضطهاد الأُسري، الذي يؤدي لاحقاً إلى الاضطهاد الاجتماعي.

ولكنّ تفسير نظرية الصراع وربطها الاضطهاد الأسري بالاضطهاد الاجتماعي، هو عرض للمشكلة الاجتماعية دون تقديم حلّ بديل يعالج مشكلة الاضطهاد المزعوم، فإذا كان الصراع الطبقي مستمراً في جميع أطوار تطوّر المجتمع الإنساني، كما تزعم نظرية الصراع، فكيف تستطيع تلك النظرية تصوير شكل العلاقة الزوجية في كلّ مرحلة من مراحل الصراع الاجتماعي؟

فهل أنّ المرحلة التاريخية السابقة التي أباحت للزوج الرأسمالي اضطهاد زوجته البروليتارية، تُبيح للزوجة الرأسمالية اضطهاد زوجها البروليتاري؟ وإذا كانت الثقافة الماركسية في مرحلة الصراع الاجتماعي تجيز للبروليتاريا سحق الطبقة الرأسمالية، فهل يجوز سحق العائلة القائمة على أساس الفهم الرأسمالي؟ بل أين حدود التعامل - حسب نظرية الصراع - في العلاقات الخاصة بين الزوج والزوجة؟ ومَن الذي يحدّد القانون الذي يسمح للزوجين بالاشتراك في الحياة الزوجية السعيدة دون ظلم واضطهاد؟

إنّ نظرية الصراع الاجتماعي تقصر عن تحديد دور الزوجين في التعامل الإنساني، وتعجز عن تشخيص مسؤوليتهما المتبادلة في إشباع حاجاتهما الغريزية ضمن الحدود الطبيعية، وتعجز أيضاً عن تحديد مسؤولية الأبوين تجاه القاصرين من الأبناء والبنات، والعاجزين من بقية

٣٠

أفراد الأسرة كالأجداد والجدات، ولم تتطرّق النظرية أيضاً إلى الولاية الشرعية أو القانونية لأحد الأبوين، ولا إلى دور الوصي في حالة وفاة كِلا الأبوين أو أحدهما.

وبالجملة: فإنّ رأي نظرية الصراع المتعلّق بالفكرة القائلة بأنّ الزواج يمثل نموذجاً للعداوات التي ظهرت في التاريخ، لا يعكس الواقع الحقيقي للنظام الأُسري الإنساني، بل يمثل جزءاً من واقع النظام الأُسري الأوروبي في القرون الماضية وامتداده إلى القرن الحالي، بل إنّ نظرية الصراع لم تُقدّم حلاً للمشكلة الأُسرية، إنّما كان من أهداف روّادها بالأصل: ربط المشكلة الأُسرية بمظالم النظام الرأسمالي ضدّ الطبقة العاملة.

٣١

الشكلُ العائلي الرأسمالي

وتختلف أشكال العلاقات الاجتماعية فيما يتعلّق بالزواج والعائلة والنَسب من مجتمع لآخر، فلكل مجتمع على الأغلب شفرة أخلاقية تشير إلى منع التزاوج بين أفراد العائلة الواحدة، كحرمة التزاوج بين الأخوة والأخوات والأبناء والأمهات مثلاً.

ففي المجتمع الرأسمالي يُحرّم النظام القضائي على الفرد التزوّج من: الأم، والجدّة، والبنت، والأخت، والعمّة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت، وفي تسع وعشرين ولاية من الولايات المتحدة يُحرّم القانون الزواج بين أبناء وبنات الأعمام ويعتبره غشياناً للمحارم (1) .

والقاعدة في التزاوج في المجتمع الصناعي: أنّ قضية الزواج والمعاشرة بين الرجال والنساء قضية شخصية مبنية على أساس الحُب الرومانتيكي، فللفرد مطلق الخيار في البحث عن شريكة لحياته، عن طريق الإعجاب المتبادل بينهما، وعلى ضوء ذلك، فإنّ روّاد النظرية الرأسمالية يُدينون الزواج المبني على أساس اقتصادي، كما يحصل غالباً في المجتمعات الريفية ويوصِمونه بالتخلّف والبدائية، ولكنّهم يتجاهلون تناقض فكرتهم التي تدعو من جانب إلى التنافس الاقتصادي في الإنتاج وجمع الثروة، ومن جانب آخر إلى إهمال الجانب الاقتصادي الذي تدرّه المؤسّسة العائلية عن طريق التزاوج!

____________________

1 - ( ميشيل غوردن ). العائلة الأمريكية: الماضي، الحاضر، والمستقبل. نيويورك: راندوم هاوس، 1978 م.

٣٢

وتتهم النظرية الاجتماعية الرأسمالية التزاوج في المجتمعات غير الصناعية بالقصور والعجز عن تحريك العواطف الإنسانية؛ لأنّ ذلك اللون من التزاوج لا يتولّد نتيجة علاقة حُب بين الرجل والمرأة قبل الزواج، بل إنّه ينشأ بسبب التقاليد والأعراف الاجتماعية.

ولذلك، فإنّ زواجاً بهذا الشكل لن يُنتج حُباً متبادلاً بين الزوجين بعد الزواج أيضاً، ولكنّ التزاوج المنعقد بين الأفراد في المجتمع الرأسمالي - حسب زعمها - غالباً ما يُبنى على الحُب؛ لأنّ هذا المجتمع أكثر تطوّراً من الناحية الاجتماعية والفكرية من المجتمعات غير الصناعية، ولذلك فإنّ الزواج في المجتمع الرأسمالي أكثر نجاحاً من الزواج في المجتمعات غير الرأسمالية.

ويرد على هذا الرأي: أنّه لو كان هذا الزعم صحيحاً، فلماذا إذاً يعيش المجتمع الصناعي الرأسمالي اليوم أشدّ أزماته العائلية؟ فكيف تُفسِّر النظرية الاجتماعية الرأسمالية انتهاء نصف عدد الحالات الزوجية في الولايات المتحدة إلى الطلاق (1) ؟ فلو كان الحُب والإعجاب الأساس في التزاوج، فكيف يُفسّر انتهاء ذلك الزواج الرومانتيكي بالانفصال ثمّ الطلاق؟ ألا يناقض هذا الانفصال والطلاق قواعد الزوجية السعيدة والحياة العائلية الطبيعية؟

ويزعم روّاد النظرية الاجتماعية الرأسمالية أيضاً: أنّ من أعظم خصائص النظام العائلي الرأسمالي هو: إقرار النظام بحرمة تعدّد الزوجات، أي أنّه لا يجوز للفرد التزوّج بأكثر من امرأة في نفس الفترة، وهذا الزعم يتناسب مع الفكرة الرأسمالية التي تؤكد على دور الفرد في الحياة الاجتماعية والإنتاجية؛ لأنّ إباحة تعدّد الزوجات يناقض مفهوم ( المذهب الفردي ) الذي تنادي به النظرية الرأسمالية، وتعتبره سرّ نجاحها الاقتصادي.

____________________________

1 - ( وليام غود ). العائلة: انجلوود كليفز، نيوجرسي، برنستون - هول 1982 م.

٣٣

ولكنّ هذه النظرية تتجاهل الأزمات الاجتماعية التي تمرّ بها الإنسانية بعد الحروب الطاحنة مثلاً، وما يترتّب عليها من خسائر عظيمة في عدد الرجال، فيكون نظام تعدّد الزوجات من أفضل الأنظمة الاجتماعية التي تساعد على إعادة بناء الأُسر المحطّمة بعد الحرب.

وليس الإسلام الدين الوحيد الذي يجيز تعدّد الزوجات، بل إنّ اليهودية وبعض المذاهب النصرانية تجيز تعدّد الزوجات أيضاً، وأهمّ المذاهب النصرانية التي تؤمن بتعدّد الزوجات هو: مذهب المورمن النصراني المتمركز في ولاية يوتا الأمريكية، الذي يبيح تعدّد الزوجات دون حدود.

وهذا التعارض بين النظرية الاجتماعية الرأسمالية والنظرية اليهودية النصرانية في فكرة تعدّد الزوجات، ليس الأول ولا الأخير؛ لأنّ النظريتين متعارضتان أيضاً في قضية التغشّي بين الرجل والمرأة قبل الزواج، فالنصرانية تؤكد على ضرورة عذرية المرأة قبل الزواج تأسياً بمريم العذراء ( ع )، بينما تدعو النظرية الاجتماعية الرأسمالية إلى احترام حرّية الفرد في إنشاء علاقات خاصة مع الجنس الآخر، وهذا الصراع بين العذرية والحرّية الغريزية يعكس التناقض الفلسفي، بخصوص دور المؤسّسة العائلية، بين الفكرة الدينية والمذهب الرأسمالي.

ولا شك أنّ اتساع وتفصيل دقة النظام العائلي وشموله لجزئيات عديدة ومعقّدة، لا يشجّع أيّ نظرية وضعية على الخوض في غمار مناقشة الدور الاجتماعي للعائلة، وليست النظرية الرأسمالية استثناء من هذه القاعدة، فهي تفتقد الصورة الواضحة والمنهاج الدقيق الذي يعالج مشاكل المجتمع الرأسمالي الزوجية المتمثلة بالأسئلة التالية:

٣٤

أيهما أحقّ بالولاية القانونية العائلية، الزوج أم الزوجة؟ وأيهما أفضل للنظام الاجتماعي، نظام تعدّد الزوجات أم نظام الزواج المتعدّد؟ وأيهما أفضل للنظام الاجتماعي، زواج الأقارب أم زواج الأباعد؟ وأيهما أكثر اقتصاداً للأزواج الجُدد، السكن مع عوائلهم أم إنشاء وحدات سكنية جديدة بهم؟ وأيهما أولى بالميراث، الأحفاد من جانب الأم أو الأحفاد من طرف الأب؟ وأيهما أفضل وأكثر إنتاجاً للمجتمع الإنساني، العوائل النووية الصغيرة أو العوائل الممتدة الكبيرة التي تضمّ - إضافة إلى الزوجين - الأجداد والأولاد وأحفادهما؟

وهذا الفشل في الإجابة على هذه الأسئلة المهمة على الصعيد الاجتماعي، يُعطي للعقيدة الدينية تفوّقاً واضحاً على العقائد الوضعية في التعامل مع القضايا العائلية.

٣٥

معنى التغيّر في المؤسّسة العائلية الرأسمالية

ولم يكن التأثير الذي أحدَثته الفكرة الرأسمالية في القرن الثامن عشر منحصراً بالجانب الاقتصادي من المجتمع الأوروبي، بل تعدّى بشكل مباشر إلى المؤسّسة العائلية بكل تشكيلاتها الاجتماعية، فكان من أهمّ التأثيرات التي عصفت بالمؤسّسة العائلية الرأسمالية هو: تغيّر ولاء الأفراد تجاه بعضهم البعض؛ حيث أصبحَ الأفراد يحصرون جُلّ اهتماماتهم العملية على تحقيق رغباتهم الشخصية، دون الاكتراث لمسؤولياتهم الاجتماعية تجاه عوائلهم الكبيرة وأقاربهم وأرحامهم، وهذا التغيّر في الولاء أفرزَ نتائج لها تَبعات خطيرة على الحياة العائلية، تُصوّرها كتابة ( بتي يوربيرك ) في كتاب ( دور الغريزة الجنسية في التغيّر الاجتماعي ) :

( يبحث الأفراد عن فُرص للعمل حتى لو كان ذلك البحث يكلّفهم كسر العلاقات الأُسرية مع أرحامهم، النساء المتزوجات من الطبقة المتوسطة والعليا يذهبن للعمل حتى مع معارضة أزواجهن، وبعد ذلك يتركن زواجهنّ المليء بالتعاسة، وأحياناً يتركن أطفالهنّ مع أزواجهنّ ويذهبن للبحث عن حياة جديدة فيها عمل وظيفي، الأزواج يتركون زوجاتهم اللاتي بذلن حياتهنّ كربّات للبيوت، ووجود الأطفال لا يردع الزوجين عن التفكير بالطلاق،... والابن الأكبر لا يترك الجامعة لمساعدة أبويه أو إخوته المحتاجين، بل يتركهم وحاجاتهم ويذهب لتأسيس

٣٦

مستقبله بعيداً عن العائلة، الشباب يختارون حياة زوجية أو حياة منحرفة حتى لو عارض الأبوان ذلك ) (1) .

وهذه الحياة الجديدة - التي أفرَزتها التجربة الرأسمالية - غيّرت النظرة الإنسانية في المجتمع الصناعي تجاه الزواج والأسرة، فالعوائل الكبيرة التي كان يرأسها جدّ الأسرة تحوّلت إلى عوائل صغيرة تضمّ الأب والأُمّ وطفليهما، ونظام تعدّد الزوجات استُبدل بنظام الزوجة الواحدة، والبيوت الكبيرة التي كانت تضم بين جدرانها عوائل متعدّدة استُبدلت بوحدات سكنية تضم عوائل صغيرة، والتزاوج بين الأقارب استُبدل بالتزاوج عن طريق العمل والمؤسّسات التعليمية.

وأصبحت القاعدة في الزواج في المجتمع الرأسمالي: الميول نحو الاختيار الشخصي القائم على الإعجاب، والكفاءة، والثقافة، والجمال، وبذلك انحسرَ العامل الاقتصادي الذي كان محور التزاوج في المجتمع الريفي الأوربي.

وتبدُّلُ الشكل العائلي في المجتمع الرأسمالي من العصر الزراعي إلى العصر الصناعي، لهُ عوامله الخاصة التي جعلت فكرة التغيير سبباً أساسياً حسماً في تثبيت أُسس النظام الاقتصادي الرأسمالي، ولولا ضعف الأسرة الكبيرة وانفراط عَقدها لمَا نجح النظام الرأسمالي في تنويع وزيادة الإنتاج، فالأُسر الصغيرة أيسر للانتقال الجغرافي من منطقة إلى أخرى حسبما يقتضيه العمل في حقول الإنتاج، والعامل في المجتمع الرأسمالي ينتقل حيثما وجدَ عملاً مناسباً يهيئ له عيشة رغيدة، فإذا كان ذلك العامل مرتبطاً بأسرة كبيرة، أصبحَ ارتباطه عائقاً في التكسّب، ولذلك مالَت الكفّة الاجتماعية نحو

____________________

1 - ( بتي يوربيرك ). دور الغريزة الجنسية في التغيّر الاجتماعي: نيويورك، وايلي،1974 م. ص 53.

٣٧

إنشاء العوائل الصغيرة القادرة على الانتقال الجغرافي بيسر؛ بحثاً عن ظروف أنسَب للعمل.

وطالما كان المجتمع الرأسمالي يوفر فُرصاً أكبر للعمّال لتطوير شخصياتهم، وفرصاً أكبر للنجاح والصعود إلى الطبقات الاجتماعية العليا، فإنّ الأفراد الطامحين للصعود الاجتماعي لا يلزمون أنفسهم بالالتزام بالقيَم والتقاليد التي تفرضها عليهم الأُسر الكبيرة؛ لأنّ الأسرة الكبيرة المتكوّنة من أجيال متعدّدة تحترم لوناً معيّناً من القيَم الاجتماعية الصارمة.

ولكنّ الحركة الاجتماعية التي تنقل الفرد من طبقة إلى طبقة أعلى، تحمل في طيّاتها قيَماً تختلف عن قيَم الطبقة الأخرى نحو العلم والتحصيل والأخلاق والمورد المالي، والأصل في الفكرة التي تعتنقها النظرية الرأسمالية هو: إنّ الدرب الأساس نحو الصعود الاجتماعي إلى طبقة اقتصادية أرقى من الطبقة الأولى للفرد، لا يتم إلاّ عن طريق تحطيم الأواصر الاجتماعية مع العائلة الكبيرة.

وعندما بدأ النظام الرأسمالي بتقديم شتّى الخدمات الاجتماعية التي كانت العوائل الكبيرة تُقدّمها لأفرادها، بدأت الحاجة إلى استمرار وجود تلك العوائل الصغيرة تنتفي تدريجياً، حسب زعم النظرية الرأسمالية، فالنظام الرأسمالي يُقدّم لأفراد العوائل الصغيرة: الخدمات التعليمية، والطبّية، وإعانة العَجزة، ورعاية الأطفال، وكوبونات الطعام للمحتاجين.

وإذا كان النظام الرأسمالي يُقدّم كلّ هذه الخدمات، فما هو الداعي في الاعتماد على الأقارب أو الأرحام بخصوص المساعدات المالية وقت الأزمات؟ وما هو اللزوم في عيش الزوجين مع آبائهما إذا كانت الحاجة المالية والأخلاقية منتفية؟

٣٨

وهذا التوجّه نحو تغيّر الولاء من العشيرة والأقارب إلى الدولة والنظام، ساهمَ في إنشاء وانتشار العوائل الصغيرة القائمة على قاعدة ( الزوجين وأطفالهما ) فقط، وبذلك تَحقّق حلم النظام الرأسمالي بزيادة الإنتاج الصناعي عن طريق تحطيم الأواصر العائلية في العشيرة والعائلة الكبيرة، واستبدالها بنظام العوائل الصغيرة التي تستطيع الانتقال جغرافياً بسرعة من مكان لآخر حسبما تتطلبه العملية الإنتاجية.

ومن أسباب التبدّل في شكل الأسرة الرأسمالية أيضاً: أنّ الأبناء الذين كانوا في المجتمع الزراعي رصيداً اقتصادياً للعمل والإنتاج، أصبحوا في الأسرة الرأسمالية عبئاً اقتصادياً على الأبوين، فالأبوان مكلّفان بإطعام وكسوة وتعليم أبنائهما من الطفولة وحتى البلوغ وبعد البلوغ، وعندما يصبح الفرد قادراً على التكسّب والاستقلال، يُمسي همّه الأكبر الانفصال عن أبويه لإنشاء أسرة صغيرة جديدة.

وهذا التوجّه العام يفسر سبب ميول الأبوين نحو إنشاء أُسر صغيرة ذات عدد محدود من الأبناء؛ لأنّ كثرة الأبناء ليس لها مردود اقتصادي على الأسرة، فالأبناء المنتجون ينفصلون عن أبويهم بعد بلوغهم ومباشرتهم العمل خارج البيت، وهذا التوجّه الرأسمالي الحديث يناقض الفكرة الكاثوليكية القائلة بحرمة تحديد النسل.

وفوق كل ذلك، فإنّ السبب الرئيسي الحاسم في تبدّل شكل الأسرة الرأسمالية هو: فكرة ( الحرّية الفردية ) ، فالفرد مكلّف بإشباع حاجاته وتحقيق طموحاته الشخصية، وليس مكلّفاً بإشباع حاجات الآخرين.

وهذه ( الفردية ): هي أساس الفكرة الرأسمالية في العمل والإنتاج، فالفرد هو محور كلّ الأفكار والتوجّهات الاجتماعية، بل إنّ كل الخدمات الاجتماعية ينبغي أن تتوجّه - حسب رأي النظرية الرأسمالية - نحو تسهيل حياة ذلك

٣٩

الإنسان وترفيهه، حتى لو كان ذلك على حساب التقاليد والالتزامات الاجتماعية، فإن كانت القضية التي تواجه الفرد قضية مالية، أو عناية صحّية، أو قضية زواج أو طلاق، فذلك الفرد الرأسمالي غالباً ما يَسأل: ( ما هو نفعي وربحي من هذه القضية؟ )، على عكس الفرد في المجتمع غير الرأسمالي الذي يسأل: ( ماذا يتوقّع أرحامي وإخواني منّي أن أعملهُ لهم؟ )، وهذا الفارق في السؤال يعكس الفارق بين المذهب الفردي الذي جاءت به الرأسمالية، والفكرة الجماعية التي كانت سائدة في العالَم قبل مجيء الرأسمالية.

ولا ريب أنّ شكل العائلة الصغيرة - التي هي إحدى ثمار سيطرة النظام الرأسمالي على المقدّرات الاجتماعية - لها مساوئها وعيوبها، فقد كان الفرد في العوائل الكبيرة يستند على دعم عائلته في الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، فوجود العائلة الكبيرة هو مولّد اطمئنان الفرد نحو سدّ حاجاته اقتصادياً وعاطفياً، دون الاضطرار إلى استجداء الآخرين من خارج الحدود العائلية.

أمّا الفرد الرأسمالي، فإنّه لا يملك إلاّ زوجته وقت الأزمات، وإذا كانت الزوجة لا تعمل إلاّ في حدود واجباتها البيتية، فإنّ الأسرة لا تصمد أمام الهزّات الاقتصادية التي تعصف بالفرد المعيل: كالبطالة، وترك العمل، والعجز الصحي، والتقاعد.

بمعنى: أنّ الفرد في الأسرة الكبيرة إذا عجز عن احتلال دوره الطبيعي في النظام الاجتماعي والأُسري، فإنّ بقيّة أفراد الأسرة يساهمون في إشغال ذلك الدور، دون أن يؤثر ذلك على وضع الأسرة اقتصادياً أو اجتماعياً.

أمّا في الأُسر الصغيرة، فإنّ عَجْز أحد الأبوين عن أداء دوره الإنتاجي قد يؤدي إلى تحطيم الأسرة من الناحية الاقتصادية، وتتحقّق نفس النتيجة إذا مات ربّ الأسرة، أو مرض مرضاً مزمناً، فإنّ كلّ ذلك يضع الأسرة الصغيرة في أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة.

٤٠