شيعة هم اهل السنّة

شيعة هم اهل السنّة0%

شيعة هم اهل السنّة مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 327

شيعة هم اهل السنّة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور محمد التيجاني السماوي
تصنيف: الصفحات: 327
المشاهدات: 80191
تحميل: 4645

توضيحات:

شيعة هم اهل السنّة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 327 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80191 / تحميل: 4645
الحجم الحجم الحجم
شيعة هم اهل السنّة

شيعة هم اهل السنّة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والمتتبع لسيرة عمر يكتشف بأنه لم يعش مع النبي بعد إسلامه إلا نصف عمر الرسالة أو أقل من ذلك بكثير. فها هو يحدث عن نفسه في هذا الصدد فيقول: « كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته يخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك(١) .

فقوله: كنا نتناوب النزول على رسول الله ينزل يوماً وأنزل يوماً، فيه دلالة واضحة على أنه كان بعيد المسكن عن مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذلك قسم عمر حياته إلى يومين يوم ينزل لرؤية النبي، ويوم لا ينزل ولا يكلف نفسه عناء النزول لبعد المسافة. أو أن المسافة لم تكن بعيدة ولكنه ينزل إلى الأسواق ويشتغل فيها بالصفق والتجارة.

وإذا أضفنا هذا إلى قوله: « ألهاني الصفق بالأسواق عن أحاديث النبي » في قضية أبي موسى الأشعري المتقدم ذكرها ثم أردفنا بقول أبي بن كعب له: « يا عمر، إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق بالأسواق »، كما مر علينا، تأكدنا بأنه لم يقض وقتا طويلاً مع صاحب الرسالةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولعله كان يغيب عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى في المناسبات الكبرى التي يجتمع فيها المسلمون كافة كيوم عيد الفطر وعيد الأضحى، ولذلك نراه يسأل بعض الصحابة الذين لم تشغلهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة يسألهم عما كان يقرأ به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عيد الفطر وعيد الأضحى.

فقد أخرج مسلم في صحيحه في كتاب صلاة العيدين، عن عبيد الله بن عبد الله أن عمر بن الخطاب سأل أبا وافد الليثي، ما كان يقرأ به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأضحى والفطر فقال: كان يقرأ فيهما ب-( ق والقرآن المجيد ) و( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ ) .

____________________

(١) صحيح البخاري ج ١ ص ٣١ من كتاب العلم باب التناوب في العلم.

(٢) صحيح مسلم ج ٣، ص ٦١ كتاب الصلاة باب ما يقرأ به في صلاة العيدين.

٤١

وعن أبي واقد الليثي أنه قال: سألني عمر بن الخطاب عما قرأ به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم العيد فقلت: ب-( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ) و( ق والقرآن المجيد ) (١) .

فشهادة عبيد الله وأبو واقد الليثي على عمر بأنه لم يكن يعرف قراءة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العيدين، إذا أضفنا إليها شهادة أبي بن كعب وشهادته هو على نفسه بأنه كان يشغله عن القرآن والسنة الصفق بالأسواق عرفنا الأسرار والألغاز التي بقيت حتى الآن محيرة للعلماء كفتواه بترك الصلاة للمجنب الذي لا يجد الماء وجهله بأحكام التيمم التي جاء بها القرآن والسنة، وكحكمه في الكلالة التي قضى فيها بعدة أحكام متناقضة، رغم نزولها في كتاب الله ورغم ما جاء فيها من التفصيل والبيان في السنة النبوية فإن عمر لم يفهمها إلى أن فارق الحياة(٢) .

ولو وقف عمر عند حده وحاول التعلم للقضاء على جهله لكان خيرا له وللمسلمين، ولكنه أخذته العزة بالإثم فراح يحرم ما أحل الله ورسوله كمتعة الحج ومتعة النساء وسهم المؤلفة قلوبهم، ويحلل ما حرم الله ورسوله كإمضائه الطلاق الثلاث والتجسس على المسلمين وغير ذلك(٣) .

ومن أجل ذلك عمل هو وصاحبه أبو بكر من أول يوم على منع أحاديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنع تدوينها وكتابتها حتى وصل الأمر بهما إلى حرق كل ما جمعه الصحابة من الأحاديث والسنن النبوية، أولا لطمس حقائق علي وأهل البيت التي نطق بها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وثانيا لكي لا يجدوا في النصوص النبوية معارضة للسياسة التي تبنوها والأحكام التي اجتهدوا بها بآرائهم وثالثاً ؛ لأن عمر بن الخطاب ما كان يعرف من سنة النبي إلا القليل. فقد أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن ابن عباس أن عمر بن

____________________

(١) صحيح مسلم ج ٣ ص ٦١ كتاب الصلاة باب ما يقرأ به في صلاة العيدين.

(٢) أخرج البيهقي في سننه أن عمر سأل النبي عن ميراث الجد مع الاخوة، فقال له النبي: ما سؤالك عن هذا يا عمر ؟ إني أظنك تموت قبل أن تعلمه، قال سعيد بن المسيب: فمات عمر قبل أن يعلمه.

(٣) إقرأ كتاب النص والاجتهاد لشرف الدين الموسوي.

٤٢

الخطاب تحير في حكم الشك في الصلاة، فقال له: يا غلام هل سمعت من رسول الله أو من أحد أصحابه إذا شك الرجل في صلاته ماذا يصنع(١) ؟ عجبت والله أمر عمر بن الخطاب خليفة المسلمين لا يعرف كيف يرقع صلاته فيسأل عن ذلك صبيان الصحابة وهو أمر يعرفه عامة المسلمين والأميون منهم حتى في يومنا الحاضر والأعجب من ذلك قول « أهل السنة والجماعة » بأن عمر كان أعلم الصحابة فإذا كان أعلمهم على هذا النمط فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر.

نعم تبقى فقط بعض المعارضة الطفيفة التي لاتغير من أحكامهم واجتهاداتهم شيئاً ولا تهدد مصالح الخلافة، كقضية استئذان أبي موسى أو استدلال أبي بن كعب بقراءة لا يعرفها عمر، عند ذلك يفتخر عمر بالرجوع إلى الاعتراف وهو فضيلة فيقول: لقد ألهاني عن ذلك الصفق بالأسواق.

فأين هذا من قول علي بن أبي طالب الذي يقول: ( كان لي مدخل خاص على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كل يوم مرتين مرة في الصباح وأخرى في المساء ) ؟

فهذه المجالس كانت خاصة بعلي في كل صباح ومساء أضف إلى ذلك حضوره دائماً مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مجالسه العامة.

فكان علي أقرب الناس للنبي وأشدهم لصوقا به وأخصهم لديه من يوم ولادته، فقد تربى في حجره حتى شب فكان يتبعه اتباع الفصيل إثر أمه في كل مكان، وفي غار حراء عند نزول الوحي عليه وقد رضع حليب الرسالة وترعرع على معارف السنة النبوية من أول مهدها. فمن أولى بالسنة منه، وهل لأحد غيره أن يدعيها لو أنصف المنصفون ورجع إلى الحق المعاندون ؟ وهذا أكبر دليل على أنه ( سلام الله عليه ) وشيعته الذين اتبعوه هم رمز السنة المحمدية

____________________

(١) مسند الإمام أحمد بن حنبل ج ١ ص ١٩٠.

٤٣

وأعلامها. أما غيرهم ممن لم يهتدوا بهديه ويسيروا على دربه فهم أبعد ما يكونون عن السنة النبوية، ولو أنهم سموا أنفسهم « بأهل السنة » غفلة وتقليداً. وسنبين ذلك بنحو أكثر وضوحاً في ما يأتي من أبحاث في مضمون هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَکُمْ أَعْمَالَکُمْ وَ يَغْفِرْ لَکُمْ ذُنُوبَکُمْ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ) ( الأحزاب: ٧٠ - ٧١ ).

٤٤

أهل السنة لا يعرفون السنة النبوية

أيها القاريء العزيز، لا يستفزك هذا العنوان، فأنت بحمد الله تمشي على طريق الحق لتصل في النهاية إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى. فلا تدع وساوس الشيطان، ولا الغرور بالنفس، ولا التعصب المقيت يستولي عليك ويصدك عن الوصول إلى الهدف المنشود والحق المفقود وجنة الخلود. وكما قدمنا في ما سبق بأن المتسمين « بأهل السنة والجماعة » هم القائلون بخلافة الخلفاء الراشدين الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. هذا ما يعرفه الناس اليوم.

ولكن الحقيقة المؤلمة هي أن علي بن أبي طالب لم يكن معدوداً عند «أهل السنة» من الخلفاء الراشدين، لا ولم يعترفوا حتى بشرعية خلافته.

وإنما ألحق علي بالخلفاء الثلاثة في زمن متأخر جداً، وذلك في سنة ثلاثين ومائتين للهجرة في زمن أحمد بن حنبل.

أما الصحابة من غير الشيعة والخلفاء والملوك والأمراء الذين حكموا المسلمين من عهد أبي بكر وحتى عهد الخليفة العباسي محمد بن الرشيد المعتصم، لم يكونوا يعترفون بخلافة علي بن أبي طالب أبداً، بل منهم من كان يلعنه ولا يعتبره حتى من المسلمين وإلا كيف يجوز لهم سبه ولعنه على المنابر ؟ وقد عرفنا سياسة أبي بكر وعمر في إقصائه وعزله كما قدمنا، ثم جاء عثمان بعدهما فأمعن في احتقاره أكثر من صاحبيه والتقليل من شأنه حتى هدده مرة بالنفي كما نفى أبا ذر الغفاري. ولما ولي معاوية أمعن في سبه ولعنه وحمل

٤٥

الناس على ذلك فدأب حكام بني أمية على ذلك في كل مدينة وقرية ودام ذلك ثمانين عاماً(١) .

بل وتواصل ذلك اللعن والطعن والبراءة منه ومن شيعته أكثر من ذلك بكثير، فهذا المتوكل الخليفة العباسي يصل به الحقد إلى نبش قبر علي وقبر الحسين بن علي وذلك سنة أربعين ومائتين للهجرة. وهذا الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين في عهده، يخطب الناس يوم الجمعة فيقول لهم من فوق المنبر: « إن الحديث الذي روي عن رسول الله أنت مني بمنزلة هارون من موسى صحيح ولكنه محرف ؛ لأن رسول الله قال له: أنت مني بمنزلة قارون من موسى » فاشتبه على السامع(٢) .

ولما كان عهد المعتصم الذي كثر فيه الزنادقة والملحدون والمتكلمون وولى عهد الخلافة الراشدة واشتغل الناس بمشاكل هامشية وكانت محنة أحمد بن حنبل في قوله بقدم القرآن وأصبح الناس يدينون بدين ملوكهم وبأن القرآن مخلوق. ولما تراجع أحمد بن حنبل عن قوله الأول خوفاً من المعتصم وخرج من محنته واشتهر بعد ذلك ولمع نجمه في عهد المتوكل بين أهل الحديث(٣) عند ذلك ألحق علي بن أبي طالب بالخلفاء الثلاثة.

ولعل أحمد بن حنبل بهرته الأحاديث الصحيحة الواردة في فضائل علي والتي ظهرت رغم أنف الحكام، فهو القائل: « لم يرد في أحد من الناس من الفضائل بالأحاديث الحسان مثل ما ورد في علي بن أبي طالب ».

عند ذلك ربع بخلافته واعتبرها صحيحة بعد ما كانت عندهم منكورة.

الدليل على ذلك:

جاء في طبقات الحنابلة - وهو الكتاب الصحيح والمشهور عندهم -: عن ابن أبي يعلى بالإسناد عن وديزة الحمصي قال:

____________________

(١) كلهم باستثناء عمر بن عبد العزيزرحمه‌الله .

(٢) تاريخ بغداد ج ٨ ص ٢٦٦.

(٣) أهل الحديث هم أنفسهم أهل السنة والجماعة.

٤٦

دخلت على أحمد بن حنبل حين أظهر التربيع بعليرضي‌الله‌عنه (١) فقلت له: يا أبا عبد الله إن هذا الطعن على طلحة و الزبير فقال: بئسما قلت، وما نحن وحرب الجمل وذكرها ؟ أصلحك الله إنما ذكرناها حين ربعت بعلي وأوجبت له الخلافة وما يجب للأئمة قبله !

فقال لي: وما يمنعني من ذلك ؟ ! قلت: حديث ابن عمر فقال لي: عمر خير من ابنه فقد رضي علياً للخلافة على المسلمين وأدخله في الشورى، وعلي قد سمى نفسه أمير المؤمنين، فأقول أنا ليس للمؤمنين بأمير ؟ ! قال: فانصرفت عنه(٢) .

ومن هذه القصة يتبين لنا بأن « أهل السنة » لم يقبلوا بخلافة علي ويقولوا بصحتها إلا بعد أحمد بن حنبل بكثير كما لا يخفى. ويظهر جليا من هذا المحدث أنه زعيم « أهل السنة والجماعة » ومتكلمهم ؛ لأنهم يرفضون خلافة علي محتجين على ذلك بحديث عبد الله بن عمر - ففيه أهل السنة - والذي أخرجه البخاري في صحيحه وبما أنهم يقولون بأن البخاري هو أصح الكتب بعد كتاب الله، فكان لزاماً عليهم رفض خلافة علي وعدم الاعتراف بها.

وقد ذكرنا هذا الحديث في كتاب « فاسألوا أهل الذكر » ولا بأس بإعاته لتعميم الفائدة، فإن في الإعادة إفادة. أخرج البخاري في صحيحة عن عبد الله ابن عمر، قال: « كنا نخير بين الناس في زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان ( رضي الله عنهم)(٣) .

كما أخرج البخاري في صحيحه حديثا آخر لابن عمر أكثر صراحة من الأول إذ قال عبد الله بن عمر:

____________________

(١) أنظر إلى هذا الحديث رغم أنه لا يسب عليا ولا يلعنه بل يقول:رضي‌الله‌عنه ولكنه لا يقبل بأ، يكون علي معدوداً من الخلفاء وينكر ذلك على أحمد بن حنبل، وقوله: إنما ذكرناها يدل على أنه يتكلم باسم الجماعة وهم أهل السنة الذين بعثوه إلى أحمد بن حنبل منكرين عليه.

(٢) كتاب طبقات الحنابلة ج ١ ص ٢٩٢.

(٣) صحيح البخاري ج ٤ ص ١٩١ كتاب بدء الخلق، باب فضل أبي بكر بعد النبي.

٤٧

« كنا في زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا نفاضل بينهم »(١) . ومن أجل هذا الحديث الذي ليس لرسول الله فيه رأي ولا عمل، إنما هو من خيال عبد الله بن عمر وآرائه الفاسدة وحقده وبغضه المعروف لعلي، بنى « أهل السنة والجماعة » مذهبهم على عدم الاعتراف بخلافة علي. وبأمثال هذه الأحاديث استباح بنو أمية سب علي ولعنه وشتمه وانتقاصه، ودأب الحكام من عهد معاوية إلى أيام مروان بن محمد بن مروان سنة ١٣٢ للهجرة يلعنون علياً على المنابر ويقتلون من تشيع له أو من أنكر عليهم ذلك »(٢) . ثم قامت دولة العباسيين من عهد العباس السفاح سنة ١٣٢ للهجرة وإلى عهد المتوكل سنة ٢٤٧ للهجرة، تواصلت خلالها البراءة من علي ومن تشيع له بأساليب مختلفة ومتعددة حسب الظروف والملابسات ؛ لأن دولة العباسيين قامت على أنقاض أهل البيت والمتشيعين لهم، فكان الحكام لا يجهرون بلعن علي عندما تقتضي مصلحة الدولة ولكنهم يعملون في الخفاء أكثر من عمل الأمويين وقد استفادوا من التجربة التاريخية التي أبرزت مظلومية أهل البيت وشيعتهم وعطف الناس عليهم، فعمل الحكام بدهاء لكسب الموقف لصالحهم وتقربوا إلى أئمة أهل البيت لا حباً فيهم ولا اعترافاً بحقهم وإنما لاحتواء الثورات الشعبية التي تقوم في أطراف الدولة وتهدد كيانها، ذلك ما فعله المأمون بن هارون الرشيد مع الإمام علي بن موسى الرضا، أما إذا سطرت الدولة وقضت على الثورات الداخلية فإنها تمعن في إهانة الأئمة وشيعتهم كما فعل المتوكل الخليفة العباسي الذي اشتهر ببغض علي وشتمه حتى نبش قبره وقبر الحسين. ولكل ذلك قلنا بأن « أهل السنة والجماعة » لم يقبلوا بخلافة علي إلا بعد زمن أحمد بن حنبل بكثير.

____________________

(١) صحيح البخاري ج ٤ ص ٢٠٣ باب مناقب عثمان بن عفان من كتاب بدء الخلق.

(٢) باستثناء سنتين تولى خلالهما عمر بن عبد العزيز فأبطل اللعن، ولكن بعد قتله عادوا إلى اللعن وإلى أكثر من اللعن حتى نبشوا قبره وحرموا أن يتسمى أحد باسمه.

٤٨

صحيح أن أحمد بن حنبل هو أول من قال بها، ولكنه لم يقنع بها أهل الحديث كما قدمنا، لاقتدائهم بعبد الله بن عمر. فلابد لذلك من وقت طويل حتى يقتنع الناس ويقبلوا الفكرة التي ظهر بها أحمد بن حنبل، والتي قد يظهر الحنابلة بمظهر المنصفين والمتقربين لأهل البيت فتميزهم عن المذاهب السنية الأخرى من المالكية والحنفية والشافعية والذين كانوا يتنافسون لكسب المؤيدين. فلابد إذا من قبول الفكرة وتبنيها.

وبمرور الزمن قال « أهل السنة والجماعة » كلهم بمقولة أحمد بن حنبل وقبلوا بتربيع الخلافة بعلي وأوجبوا له ما أوجبوه للخلفاء الثلاثة من الاحترام والترضي.

أليس هذا أكبر دليل على أن « أهل السنة والجماعة » كانوا من النواصب الذين يبغضون علياً ويعملون على انتقاصه وإسقاطه.

ولقائل أن يقول: كيف يصح ذلك ونحن نرى اليوم « أهل السنة والجماعة» يحبون الإمام علياً ويترضون عنه ؟ فنقول نعم، لما قدم العهد ومات الأئمة من أهل البيت ولم يعد هناك ما يخيف الحكام ويهدد ملكهم، وتلاشت هيبة الخلافة الإسلامية واستولى عليها المماليك والمغول والتتار، وضعف الدين وأصبح أكثر المسلمين يشغلهم الفن والطرب واللهو والمجون والخمر والجواري، وخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وأصبح المعروف عندهم منكراً والمنكر عندهم معروفاً وعم الفساد البر والبحر، عند ذلك بكى المسلمون على أسلافهم وتغنوا بأمجادهم وتذاكروا أيامهم فسموها بالعصور الذهبية وبما أن أفضل العصور عندهم هو عصر الصحابة فهم الذين فتحوا الأمصار ووسعوا المملكة الإسلامية شرقا وغربا ودان لهم الأكاسرة والقياصرة فترضوا على الصحابة جميعاً بما فيهم علي بن أبي طالب، وإذا كان « أهل السنة والجماعة » يقولون بعدالتهم جميعاً فلا يمكنهم عند ذلك أن يخرجوا علياً من بين الصحابة.

ولو قالوا بإخراجه لافتضحوا وكشف أمرهم عند كل عاقل وباحث، فموهوا

٤٩

على العامة بأنه رابع الخلفاء الراشدين وهو باب مدينة العلم رضي الله عنه وكرم الله وجهه. ونحن نقول لهم: فلماذا لا تقلدوه في أمور دينكم ودنياكم إن كان اعتقادكم فيه صحيحاً بأنه باب مدينة العلم ؟

لماذا تركتم الباب عمداً وقلدتم أبا حنيفة ومالكاً، والشافعي وابن حنبل وابن تيمية، الذين لا يدانوه في علم ولا عمل ولا فضل ولا شرف، فأين الثرى من الثريا وأين السيف من المنجل وأين معاوية من علي لو كنتم تعقلون؟ هذا بقطع النظر عن كل النصوص الواردة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي توجب على كل المسلمين اتباع الإمام علي من بعده والاقتداء به، ولقائل من « أهل السنة » أن يقول: إن فضل علي وسابقته وجهاده في سبيل الإسلام وعلمه الغزير وشرفه العظيم وزهده الكبير يعرفه الناس جميعاً، بل إن أهل السنة يعرفون علياً ويحبونه أكثر من الشيعة ( هذا ما يردده الكثير منهم اليوم ).

فنقول هؤلاء: أين كنتم(١) وأين كان أسلافكم وعلماؤكم عندما كان علي يلعن على المنابر مئات السنين ؟ فلم نسمع ولم يحدثنا التاريخ أن أحداً منهم أنكر ذلك أو منع من ذلك أو قتل من أجل ولائه وحبه لعلي، فلا ولن نجد من علماء أهل السنة من فعل ذلك بل كانوا مقربين للسلاطين والأمراء والولاة لما اعطوهم من البيعة والرضا وأفتوا لهم بقتل الرافضة الذين يوالون علياً وذريته، وهؤلاء موجودون حتى في عصرنا الحاضر.

لقد دأب النصارى على معاداة اليهود غير القرون واعتبروهم مجرمين وحملوهم مسؤولية قتل السيد المسيح عيسى بن مريم، ولكن لما ضعف أمر النصارى وتلاشت أمور العقيدة عندهم واعتنق أكثرهم مذهب الإلحاد وأصحبت الكنيسة في سلة المهملات للموقف المعادي الذي وقفته ضد العلم والعلماء ،

____________________

(١) لقد تعمدت القول: أين كنتم، وأقصد بها المعاصرين من « أهل السنة والجماعة » اليوم، فإنهم يقرأون في صحيح مسلم بأن معاوية كان يسب علياً ويأمر الصحابة بذلك، فلا ينكرون، بل إليهم يترضون على سيدهم معاوية كاتب الوحي عندهم، فدل ذلك على أن حبهم لعلي حب مزيف حال عن كل اعتبار.

٥٠

وفي المقابل قوي أمر اليهود واستفحل واستشرى حتى احتلوا الأراضي العربية والإسلامية بالقوة، وامتد نفوذهم في الشرق والغرب وأقاموا دولة إسرائيل، عند ذلك اجتمع البابا يوحنا بولس الثاني مع أحبار اليهود وبرأهم من جريمة قتل المسيح.

« فالناس ناس والزمان زمان ».

٥١

« أهل السنة » ومحق السنة

نريد في هذا الفصل توضيح شيء مهم لا غنى للباحث أن يتعمق فيه، ليكشف بدون لبس بأن الذين يتسمون « بأهل السنة » ليس لهم في الحقيقة من سنة النبي شيء يذكر.

وذلك لأنهم، أو بالأحرى ؛ لأن أسلافهم من الصحابة والخلفاء الراشدين عندهم الذين يقتدون بهم ويتقربون إلى الله بحبهم وولائهم قد وفقوا من السنة النبوية موقفاً سلبياً إلى درجة أنهم أحرقوها ومنعوا من كتابتها والتحدث بها(١) .

وإضافة لما سبق توضحيه، لابد لنا من كشف الستار عن تلك المؤامرة الخسيسة التي حبكت ضد السنة النبوية المطهرة لمنع انتشارها والقضاء عليها في المهد، وإبدالها ببدع الحكام واجتهاداتهم وآراء الصحابة وتأويلاتهم. وقد عمل الحكام الأولون:

أولاً: على وضع الأحاديث المكذوبة التي تؤيد مذهبهم في منع الكتاب لعموم السنة النبوية والأحاديث الشريفة. فها هو الإمام مسلم يخرج في صحيحه، عن هداب بن خالد الأزدي عن همام عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال:

____________________

(١) يراجع في هذا الصدد كتاب « فاسألوا أهل الذكر » من صفحة ٢٠٠ وما بعدها.

٥٢

( لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج … )(١) .

والغرض من وضع هذا الكتاب هو تبرير ما فعله أبو بكر وعمر تجاه الأحاديث النبوية التي كتبها بعض الصحابة ودونوها، وقد وضع هذا الحديث في زمن متأخر عن الخلفاء الراشدين، وغفل الوضاعون الكاذبون عن الأمور التالية:

أ: لو قال هذا الحديث صاحب الرسالة لامتثل أمره الصحابة الذين كتبوا عنه ولمحوه قبل أن يتولى أبو بكر وعمر حرقها بعد سنوات عديدة من وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ب: لو كان هذا الحديث صحيحاً لاستدل به أبو بكر أولا، ثم عمر ثانيا، لتبرير منعهما كتابة الأحاديث ومحوها، ولاعتذر أولئك الصحابة الذين كتبوها إما جهلاً وإما نسياناً.

ت: لو كان هذا الحديث صحيحاً لوجب على أبي بكر وعلى عمر أن يمحوا الأحاديث محواً لا يحرقاها حرقاً.

ث: لو صح هذا الحديث فالمسلمون من عهد عمر بن عبد العزيز الى يوم الناس هذا كلهم آثمون لأنهم خالفوا نهي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى رأسهم عمر بن عبد العزيز الذي أمر العلماء في عهده بتدوين الأحاديث وكتابتها، والبخاري ومسلم اللذان يصححان هذا الحديث ثم بعصيانه ويكتبان ألوف الأحاديث عن النبي.

ج: وأخيراً لو صح هذا الحديث لما غاب عن باب مدينة العلم علي بن أبي طالب الذي جمع أحاديث النبي في صحيفة طولها سبعون ذراعاً ويسميها الجامعة ( وسيأتي الكلام عنها لاحقاً بحول الله ).

ثانياً: عمل الحكام الأمويون على التأكيد بأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير معصوم عن الخطأ وهو كغيره من البشر الذين يخطئون ويصيبون، ويروون في

____________________

(١) صحيح مسلم ج ٨، ص ٢٢٩ كتاب الزهد والرقائق باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم.

٥٣

ذلك عدة أحاديث. والغرض من وضع تلك الأحاديث هو التأكيد على أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يجتهد برأيه فكان كثراً ما يخطئ مما حدا ببعض الصحابة أن يصوب رأيه، كما جاء ذلك في قضية تأبير النخل ونزول آية الحجاب، والاستغفار للمنافقين، وقبول الفدية من اسرى بدر، وغير ذلك مما يدعيه « أهل السنة والجماعة » في صحاحهم وما يعتقدونه في صاحب الرسالة ( عليه وآله أفضل الصلاة وأزكى السلام ).

ونحن نقول لأهل السنة والجماعة:

إذا كان هذا هو ديدنكم وهذا هو اعتقادكم في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف تدعون التمسك بسنته، وسنته عندكم وعند أسلافكم غير معصومة، بل غير معلومة ولا مكتوبة ؟(١) على أننا نرد على هذه المزاعم والأكاذيب وندجضها من نفس كتبكم وصحاحكم(٢) .

فهذا الإمام البخاري يخرج في صحيحه من كتاب العلم وفي باب كتابة العلم، عن أبي هريرة قال: ما من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد أكثر حديثاً عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب(٣) .

ويستفاد من هذه الرواية بأن هناك من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كان يكتب أحاديثه، وإذا كان أبو هريرة يروي أكثر من ستة آلاف حديث عن النبي شفاهياً فإن عبد الله بن عمرو بن العاص فاق هذا العدد كتابياً ولذلك اعترف أبو هريرة بأن عبد الله بن عمرو أكثر منه أحاديث عن النبي ؛ لأنه كان يكتب ولا شك بأن هناك في الصحابة كثيرين ممن كانوا يكتبون عن النبي أحاديثه، ولم يذكرهم أبو هريرة لعدم اشتهارهم بكثرة الرواية عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

____________________

(١) لأن تدوين السنة النبوية تأخر إلى زمن عمر بن عبد العزيز أو بعده، أما الخلفاء والحكام الذين حكموا قبله فقد أحرقوها ومنعوا من كتابتها والتحدث بها.

(٢) الغريب أن أهل السنة كثراً ما يروون الحديث ونقيضه في نفس الكتاب، والأغرب من ذلك أنهم كثيراً ما يعملون بما هو مكذوب ويهملون ما هو صحيح.

(٣) صحيح البخاري ج ١ ص ٣٦ باب كتابة العلم.

٥٤

وإذا أضفنا إلى هؤلاء الإمام علي بن أبي طالب الذي كان ينشر من فوق المنبر صحيفة يسميها الجامعة، جمع فيها كل ما يحتاجه الناس من أحاديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد توارثها الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام وكثراً ما تحدثوا عنها.

فقد قال الإمام جعفر الصادق:

( إن عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعاً، إملاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخط علي بيده، ما من حلال ولا حرام وما من شيء يحتاج إليه الناس وليس قضية إلا وهي فيها حتى أرش الخدش ).

وقد أشار البخاري نفسه في صحيحه إلى هذه الصحيفة التي كانت عند علي في عدة أبواب من كتابه، ولكنه وكما عودنا البخاري فإنه أبتر الكثير من خصائصها ومضمونها.

قال البخاري في باب كتابة العلم:

« عن الشعبي عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي هل عندكم كتاب ؟

قال: لا إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجلاً مسلماً أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: وما في هذه الصحيفة ؟ قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر ».

كما جاء في صحيح البخاري في موضع آخر قوله:

« عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي قال: ما عندنا شيء إلا كتاب الله وهذه الصحيفة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

كما جاء في موضع آخر من صحيح البخاري قوله:

٥٥

عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: خطبنا علي فقال: « ما عندنا كتاب نقرأه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة »(١) .

وينقل البخاري في باب آخر من صحيحه قوله:

عن عليرضي‌الله‌عنه قال: « ما كتبنا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا القرآن وما في هذه الصحيفة »(٢) .

كما أخرج البخاري في موضع آخر من صحيحه قوله:

عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: خطبنا عليرضي‌الله‌عنه على منبر من أجر وعليه سيف فيه صحيفة معلقة، فقال: ( والله ما عندنا كتاب يقرأ إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة )(٣) .

ولم ينقل البخاري ما قاله الإمام جعفر الصادق من أن الصحيفة تسمى الجامعة ؛ لأنها جمعت كل حلال وكل حرام، وفيها كل ما يحتاجه الناس حتى أرش الخدش بإملاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخط علي بن أبي طالب. فاختصرها بقوله مرة: بأن فيها العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر، ومرة أخرى بقوله: فنشرها علي فإذا فيها أسنان الإبل، وإذا فيها المدينة حرم … وإذا فيها ذمة المسلمين واحدة … وإذا فيها من والى قوماً بغير إذن مواليه..

إنه التزوير والتعتيم على الحقائق، وإلا هل يعقل أن يكتب علي هذه الكلمات الأربعة في صحيفة ويعلقها على سيفه وتلازمه عندما يخطب من فوق المنبر ويجعل منها المرجع الثاني بعد كتاب الله فيقول للناس: ما كتبنا عن النبي إلا القرآن وما في هذه الصحيفة ؟ ؟ !

وهل كان عقل أبي هريرة أكبر من عقل علي بن أبي طالب إذ كان يحفظ عن رسول الله مائة ألف حديث من غير كتابة ؟

____________________

(١) صحيح البخاري ج ٤، ص ٦٧ وصحيح مسلم ج ٤ ص ١١٥.

(٢) صحيح البخاري ج ٤ ص ٦٩.

(٣) صحيح البخاري ج ٨ ص ١٤٤.

٥٦

عجيب والله أمر هؤلاء الذين يقبلون مائة ألف حديث عن أبي هريرة الذي لم يصحب النبي إلا ثلاث سنوات وكان يجهل القراءة والكتابة ويزعمون بأن عليا باب مدينة العلم الذي تعلم منه الصحابة شتى العلوم والمعارف، كان يحمل صحيفة فيها أربعة أحاديث ظلت تلازمه من حياة الرسول إلى ايام خلافته فيصعد بها على المنبر وهي معلقة على سيفه ؟ كبرت كلمة تخرج من أقواههم إن يقولون إلا كذباً.

على أن في ما أخرجه البخاري كفاية للباحثين والعقلاء، وذلك عندما ذكر بأن فيها العقل، فهو دليل بأن في الصحيفة أشياء كثيرة تخص العقل البشري والفكر الإسلامي. ونحن لا نريد إقامة الدليل على ما في الصحيفة، فأهل مكة أدرى بشعابها وأهل البيت أدرى بما فيه وقد قالوا بأن فيها كل ما يحتاجه الناس من حلال وحرام حتى أرش الخدش.

ولكن الذي يهمنا في هذا البحث هو أن الصحابة كانوا يكتبون أحاديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقول أبي هريرة بأن عبد الله بن عمرو كان يكتب أحاديث النبي، وقول علي بن أبي طالب: ما كتبنا عن رسول الله إلا القرآن وما في هذه الصحيفة، كما جاء في صحيح البخاري، هو دليل قاطع على أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينه عن كتابة أحاديثه أبداً ،بل العكس هو الصحيح، وأن الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه « لا تكبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه » هو حديث مكذوب وضعه أنصار الخلفاء لتأييد وتبرير ما فعله أبو بكر وعمر وعثمان من حرق الأحاديث النبوية ومنع السنة من الانتشار. ومما يزيدنا يقينا بأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينه عن كتابة الأحاديث عنه بل إنه أمر بها، هو ما قاله الإمام علي أقرب الناس للن

بي: « ما كتبنا عنه غير القرآن وما في هذه الصحيفة » والذي صححه البخاري.

وإذا أضفنا إلى هذا قول الإمام جعفر الصادق بأن الصحيفة الجامعة هي من إملاء رسول الله وخط علي فمعناه أن النبي أمر علياً بالكتابة.

٥٧

وحتى لا يبقى عندك شك أيها القارئ العزيز، أزيدك ما يلي:

أخرج الحاكم في مستدركه وأبو داود في صحيحه والإمام أحمد في مسنده والدارمي في سننه، أخرجوا كلهم حديثاً مهماً جداً بخصوص عبد الله بن عمرو الذي ذكره أبو هريرة بأنه كان يكتب عن النبي:

قال عبد الله بن عمرو: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله ( ص)، فنهتني قريش وقالوا: تكتب كل شيء سمعته من رسول الله وهو بشر يتكلم في الغضب والرضا ؟

قال عبد الله: فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأومأ إلى فيه وقال: « أكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج منه إلا الحق(١) . ونلاحظ من خلال هذا الحديث بأن عبد الله بن عمرو كان يكتب كل ما يسمعه من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم ينهه النبي عن ذلك وإنما وقع النهي من قريش، ولم يرد عبد الله التصريح بأسماء الذين نهوه عن الكتابة ؛ لأن في نهيهم طعن على رسول الله، كما لا يخفى فأبهم القول بأنهم قريش، والمقصود بقريش زعماؤها من المهاجرين وعلى رأسهم أبو بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمان بن عوف وأبو عبيدة وطلحة والزبير ومن سار على رأيهم.

كما نلاحظ بأن نهيهم لعبد الله كان في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا ما يؤكد عمق المؤامرة وخطورتها. وإلا لماذا يعمد هؤلاء لنهي عبد الله عن الكتابة بدون الرجوع إلى النبي نفسه ؟ كما يفهم أيضاً من قولهم له: إن رسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا، أن عقيدتهم في النبي كانت هزيلة إلى درجة أنهم يشكون فيه بأنه يقول باطلاً ويحكم ظلماً خصوصاً في حالة الغضب، وما قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما ذكر له عبد اله بن عمرو نهي قريش وما قالوه في شأنه فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

____________________

(١) مستدرك الحاكم ج ١ ص ١٠٥.

(٢) سنن أبي داود ج٢ ص١٢٦.

(٣) سنن الدارمي ج١ ص١٢٥.

(٤) مسند الإمام أحمد بن حنبل ج٢ ص١٦٢.

٥٨

« أكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج منه إلا الحق » - إشارة إلى فمه - لدليل آخر على علم الرسول بشكهم في عدالته، وأنهم يجوزون عليه الخطأ وقول الباطل فأقسم بالله بأنه لا يخرج من فمه إلا الحق.

وهذا هو التفسير الصحيح لما جاء في قوله سبحانه وتعالى:

( وَ مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى‌* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى‌ ) ( النجم: ٣ - ٤ ).

وأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوم عن الخطأ وقول الباطل وبهذا فإننا نجزم بأن كل الأحاديث والروايات التي وضعت في زمن الأمويين والتي يستفاد منها بأنه غير معصوم لا يصح شيء منها، كما أن الحديث المذكور يشعرنا بأن تأثيرهم على عبد الله بن عمرو كان كبيراً حتى أمسك عن الكتابة كما صرح هو بنفسه إذ قال: « فأمسكت عن الكتابة » وبقي على ذلك إلى أن جاءت مناسبة تدخل فيها رسول الله بنفسه لإزالة الشكوك التي تثار حول عصمته وعدالته، وكانت كثراً ما تشار حتى بمحضرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقولهم له صراحة: أأنت نبي الله حقاً ؟(١) أو: أنت الذي تزعم أنك نبي(٢) ، أو والله ما قصد بهذه القسمة وجه الله(٣) .

أو كقول عائشة للنبي: إن ربك يسارع في هواك(٤) أو قولها له: أقصد إلى غير ذلك من العبارات النابية التي تعرب عن شكهم في عصمته واعتقادهم بأنه يحيف ويظلم ويخطئ ويكذب والعياذ بالله.

فكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاحب الخلق العظيم رؤوفاً رحيماً كثيراً ما يزيح تلك الشبهات بقوله مرة: ما أنا إلا عبد مأمور، ومرة يقول: والله إني لأبر لله وأتقى، وأخرى يقول: والذي نفسي بيده ما خرج منه إلا الحق، وكثيراً ما كان يقول: رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر.

فلم تكن هذه الكلمات النابية التي تطعن في عصمته وتشكك في نبوته

____________________

(١) قاله عمر بن الخطاب في صلح الحديبية أخرجه البخاري ج ٢ ص ١٢٢.

(٢) قالته عائشة بنت أبي بكر للنبي كتاب إحياء العلوم للغزالي ج ٢ ص ٢٩.

(٣) قاله صحابي من الأنصار للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخرجه البخاري ج ٤ ص ٤٧.

(٤) صحيح البخاري ج ٦ ص ٢٤ وكذلك في صفحة ١٢٨ من الجزء السادس.

٥٩

صادرة عن أناس متروكين أو عن المنافقين، ولكنها مع الأسف صدرت عن عظماء الصحابة وعن أم المؤمنين والذين هم عند « أهل السنة والجماعة » قدوة وأسوة حسنة فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ومما يزيدنا يقينا بأن حديث « لا تكتبوا عني » هو حديث موضوع لا أساس له من الصحة ولم ينطق به رسول الله إطلاقاً، أن أبا بكر نفسه كان يكتب عن رسول الله بعض الأحاديث التي جمعها في عهد النبي، ثم بعد ما تولى الخلافة بدا له أن يحرقها لأمر قد لا يخفى على الباحثين.

فها هي اينته عائشة تقول: جمع أبي الحديث عن رسول اله فكانت خمسمائة حديث فبات يتقلب، فقلت: يتقلب لشكوى أو لشيء بلغه، فلما أصبح قال: أي بنية هلمي بالأحاديث التي عندك، فجئته بها فأحرقها(١) .

وهذا عمر بن الخطاب أيضاً في خلافته يخطب يوماً في الناس قائلاً: ( لا يبقين أحد عنده كتاباً إلا أتاني به فأرى فيه رأيي ) فظنوا أنه يريد النظر فيها ليقومها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه يكتبهم فأحرقها بالنار(٢) .

كما بعث في الأمصار يأمرهم: من كان عنده شيء فليمحه(٣) . فهذا أكبر دليل على أن الصحابة عامة سواء منهم المقيمين في المدينة أو في بقية الأمصار الإسلامية الأخرى كلهم عندهم كتب جمعوا فيها الأحاديث النبوية التي كتبوها على عهدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأحرقت كلها بفعل أبي بكر أولا ثم عمر ثانياً ومحيت بقية الكتب التي في الأمصار بأمر عمر في خلافته(٤) .

وعلى هذا فلا يمكن لنا ولا لأي عاقل أن يصدق بأن رسول الله نهاهم عن

____________________

(١) كنز العمال ج ٥ ص ٢٣٧، وابن كثير في البداية والنهاية، وتذكرة الحفاظ للذهبي ج ١ ص ٥.

(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٥ ص ١٨٨ والخطيب البغدادي في تقييد العلم.

(٣) جامع بيان العلم لابن عبد البر.

(٤) انظر رعاك الله إلى هذا العمل الشنيع الذي فعله الخلفاء أبو بكر وعمر تجاه السنة النبوية، والخسارة العظمى التي لا تقدر والتي تسببا فيها للأمة الإسلامية التي كانت في أشد الحاجة للأحاديث النبوية لفهم القرآن وفهم أحكام الله تعالى، وإنها لعمري أحاديث صحيحة ؛ لأنهم كتبوها عنه مباشرة وبدون واسطة، أما الأحاديث التي جمعت في ما بعد أغلبها أحاديث موضوعة ؛ لأن الفتنة وقعت وقتل المسلمون بعضهم، وكتبت بأمر الحكام الجائرين.

٦٠