شيعة هم اهل السنّة

شيعة هم اهل السنّة0%

شيعة هم اهل السنّة مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 327

شيعة هم اهل السنّة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور محمد التيجاني السماوي
تصنيف: الصفحات: 327
المشاهدات: 80218
تحميل: 4645

توضيحات:

شيعة هم اهل السنّة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 327 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80218 / تحميل: 4645
الحجم الحجم الحجم
شيعة هم اهل السنّة

شيعة هم اهل السنّة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ويقصدون بأهل البدع « الشيعة الذين قالوا بإمامة علي » ؛ لأنها عندهم بدعة، إذ خالفت ما عليه الصحابة والخلفاء الراشدين و « السلف الصالح » من إبعاده وعدم الاعتراف بإمامته ووصايته.

والشواهد التاريخية على إقامة هذا الدليل كثيرة جداً ولكن ما ذكرناه فيه الكفاية لمن أراد البحث والتحقيق وقد رمنا الاختصار كالعادة، وعلى الباحثين أن يدركوا أضعاف ذلك إن شاؤوا.

( وَ الَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ‌ ) (العنكبوت: ٦٩ ).

٨١

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي عين أئمة الشيعة

لا يشك باحث درس السيرة النبوية وعرف التاريخ الإسلامي بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي عين الأئمة الاثني عشر ونص عليهم ليكونوا خلفاءه من بعده وأوصياءه على أمته.

وقد جاء ذكر عددهم في صحاح أهل السنة وأنهم اثنا عشر وكلهم من قريش وقد أخرج ذلك البخاري ومسلم وغيرهما. كما جاء في بعض المصادر السنية ذكرهم بأسمائهم موضحاًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن أولهم علي بن أبي طالب وبعده ابنه الحسن، ثم أخوه الحسين ثم تسعة من ذرية الحسين آخرهم المهدي.

أخرج صاحب ينابيع المودة في كتابه قال: قدم يهودي يقال له: «الأعتل » فقال: يا محمد، أسألك عن أشياء تلجلج في صدري منذ حين فإن أجبتني عنها أسلمت على يديك. قال: ( سل يا أبا عمارة )، فسأله عن أشياء إلى أن قال: ( صدقت )، ثم قال: فأخبرني عن وصيك من هو ؟ فما من نبي إلا وله وصي وإن نبينا موسى بن عمران أوصى يوشع بن نون.

فقال: ( إن وصيي علي بن أبي طالب وبعده سبطاي الحسن والحسين تتلوه تسعة أئمة من صلب الحسين ).

قال: يا محمد، فسمهم لي. قال: ( إذا مضى الحسين فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه محمد، فإذا مضى

٨٢

محمد فابنه جعفر، فإذا مضى جعفر فابنه موسى، فإذا مضى موسى فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه محمد، فإذا مضى محمد فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه الحسن، فإذا مضى الحسن فابنه الحجة محمد المهدي فهؤلاء اثنا عشر )، قال: فأسلم اليهودي وحمد الله على الهداية(١) . ولو أردنا تصفح كتب الشيعة وما فيها من الحقائق يخصوص هذا الموضوع لوجدنا أضعاف ذلك.

ولكن يكفينا دليلاً أن علماء « السنة والجماعة » يعترفون بعدد الأئمة الاثني عشرة، ولا وجود لهؤلاء الأئمة غير علي وبنيه الطاهرين. ومما يزيدنا يقيناً أن الأئمة الاثني عشر من أهل البيت لم يتتلمذوا على أي واحد من علماء الأمة، فلم يرو لنا أصحاب التواريخ ولا المحدثون وأصحاب السير بأن أحد الأئمة من أهل البيت تلقى علمه من بعض الصحابة أو التابعين، كما هو الحال بالنسبة لكل علماء الأمة وأئمتهم. فأبو حنيفة تتلمذ على جعفر الصادق ومالك تتلمذ على أبي حنيفة، والشافعي تلقى عن مالك وأخذ عنه وهكذا أحمد.

أما أئمة أهل البيت فعلمهم موهوب من الله سبحانه وتعالى يتوارثونه أبا عن جد، فهم الذين خصهم الله بقوله:

( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) ( فاطر: ٣٢ ).

وقد عبر الإمام جعفر الصادق عن هذه الحقيقة مرة بقوله: ( عجباً للناس يقولون بأنهم أخذوا علمهم كله عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعملوا به واهتدوا ! ويروون أنا أهل البيت لم نأخذ علمه ولم نهتد به ونحن أهله وذريته، في منازلنا أنزل الوحي، ومن عندنا خرج العلم إلى الناس، أفتراهم علموا واهتدوا وجهلنا وضللنا ؟ ! )

نعم، كيف لا يتعجب الإمام الصادق من أولئك الذين يدعون أنهم أخذوا العلم من رسول الله، وهم يعادون أهل بيته وباب علمه الذي منه يؤتى ،

____________________

(١) القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ص ٤٤٠ وفرائد السبطين للحمويني بسنده عن مجاهد عن ابن عباس.

٨٣

وكيف لا يتعجب من انتحالهم اسم « أهل السنة » وهم يخالفون هذه السنة ؟ ؟ ! وإذا كان الشيعة كما يشهد التاريخ قد اختصوا بعلي فناصروه ووقفوا ضد عده، وحاربوا حربه وسالموا سلمه وأخذوا كل علومهم منه.

فأهل السنة والجماعة لم يتشيعوا له ولم ينصروه، بل حاربوه وأرادوا القضاء عليه، وقد تتبعوا أولاده من بعده قتلا وسجناً وتشريداً، وخالفوه في أكر الأحكام باتباعهم أدعياء العلم الذين اختلفوا ببآرائهم واجتهاداتهم في أحكام الله فبدلوها حسب أهوائهم وما اقتضته مصالحهم.

وكيف لا نعجب نحن اليوم من الذين يدعون ابتاع السنة النبوية ويشهدون على أنفسهم أنهم تركوا سنة النبي ؛ لأنها أصبحت شعاراً للشيعة(١) أليس ذلك عجيباً ؟ !

كيف لا نعجب من الذين يزعمون بأنهم « أهل السنة والجماعة » وهم جماعات متعددة مالكية وحنفية وشافعية وحنبلية يخالون بعضهم في الأحكام الفقهية ويدعون بأن ذلك الاختلاف هو رحمة لهم، فيصبح بذلك دين الله أهواء وآراء وما تشتهيه أنفسهم.

نعم إنهم جماعات متعددة تفرقوا في أحكام الله ورسوله، ولكنهم اجتمعوا واتفقوا على تصحيح خلافة السقيفة الجائرة وترك وإبعاد العترة الطاهرة.

كيف لا نعجب من هولاء الذين يتبجحون بأنهم « أهل السنة » وقد تركوا أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتمسك بالثقلين كتاب الله العترة رغم إخراجهم هذا الحديث وتصحيحه ؟ فإنهم لم يتمسكوا لا بالقرآن ولا بالعترة ؛ لأنهم يتركهم للعترة الطاهرة فقد تركوا القرآن ؛ لأن الحديث الشريف مفاده أن القرآن والعترة لا يفترقان أبداً كما أخبر بذلك رسول الله بقوله: ( وقد أنبأني اللطيف الخبير بأنهما

____________________

(١) يراجع في ذلك كتاب « مع الصادقين » صفحة ١٥٩ - ١٦٠ ليعرف بأن ابن تيمية يقول بترك السنة النبوية إذا أصبحت شعاراً للشيعة ومع ذلك يسمونه مجدد السنة.

منهاج السنة لابن تيمية ج ٢ ص ١٤٣، وشرح المواهب للزرقاني ج ٥ ص ١٣، وكتاب الهداية.

٨٤

( القرآن والعترة ) لن يفترقا حتى يرد ا علي الحوض )(١) .

وكيف لا تعجب من قوم يدعون أنهم « أهل السنة » وهم يخالفون ما ثبت في صحاحهم من فعل النبي وأوامره ونواهيه(٢) ؟

أما إذا اعتقدنا وصححنا حديث: « تركت فيكم كتاب الله وسنتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً » كما يحلو لبعض « أهل السنة » أن يثبتوه اليوم، فإن العجب سيكون أكبر والفضيحة أظهر. إذ ان كبراءهم وأئمتهم هم الذين أحرقوا السنة التي تركها رسول الله فيهم، ومنعوا من نقلها وتدوينها كما عرفنا ذلك في ما تقدم من أبحاث سابقة. وقد قال عمر بن الخطاب بصريح اللفظ: « حسبنا كتاب الله يكفينا ». وهو رد صريح على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والزاد على رسول الله راد على الله كما لا يخفى.

وقول عمر بن الخطاب هذا أخرجه كل صحاح « أهل السنة » بما فيهم البخاري ومسلم، فإذا كان النبي قد قال: ( تركت فيكم كتاب الله وسنتي )، فعمر قال له: حسبنا كتاب الله ولا حاجة لنا بسنتك وإذا كان عمر قد قال بمحضر النبي حسبنا كتاب الله، فإن أبا بكر أكد على تنفيذ رأي صاحبه فقال عندا أصبح خليفة: « لا تحدثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه »(٣) . كيف لا تعجب من قوم تركوا سنة نبيهم ونبذوها وراء ظهورهم، وأحلوا محلها بدعاً ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان، ثم يسمون أنفسهم وأتباعهم « أهل السنة والجماعة » ؟

____________________

(١) أخرجه الإمام أحمد ج ٥ ص ١٨٩ من مسنده والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ١٤٨. وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصححه الذهبي في تلخيصه معترفاً بصحته على شرط الشيخين.

(٢) أخرج البخاري في صحيحه بأن النبي نهى عن صلاة التراويح في رمضان جماعة وقال: «صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته ما عدا الصلاة المكتوبة ». ولكن أهل السنة تركوا نهي الرسول واتبعوا بدعة عمر بن الخطاب.

(٣) تذكرة الحفاظ للذهبي ج ١ ص ٣.

٨٥

ولكن العجب يزول عندما نعرف بأن أبابكر وعمر وعثمان ما كانوا يعرفون هذه التسمية أبداً، فهذا أبوبكر يقول: « لئن أخذتموني بسنة نبيكم لا أطيقها »(١) . كيف لا يطيق أبو بكر سنة النبي ؟ فهل كانت سنتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمراً مستحيلاً حتى لا يطيقها أبوبكر ؟

وكيف يدعي « أهل السنة » أنهم متمسكون بها إذا كان إمامهم الأول ومؤسس مذاهبهم لا يطيقها ؟ ؟ !

ألم يقل الله سبحانه في حقها:( لَکُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (الأحزاب: ٢١ ) ؟ وقال في حقها أيضاً:( لاَ يُکَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا ) ( الطلاق: ٧ ) وقال أيضاً:( وَ مَا جَعَلَ عَلَيْکُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (الحج: ٧٨ ).

فهل يرى أبوبكر وصاحبه عمر أن رسول الله ابتدع ديناً غير الذي أنزل الله، فأمر المسلمين بما لا يطاق وكلفهم عسراً ؟ حاشاه فقد كان كثيراً ما يقول: بشروا ولا تنفروا، يسروا ولا تعسروا، إن الله أتاكم رخصة فلا تشددوا على أنفسكم. ولكن اعتراف أبي بكر بأنه لا يطيق سنة النبي يؤكد ما ذهبنا إليه من أنه أحدث بدعة يطيقها حسب هواه وتتماشى وسياسة الدولة التي ترأسها.

ولعل عمر بن الخطاب كان يرى هو الآخر بأن أحكام القرآن والسنة لا تطاق فعمد إلى ترك الصلاة إذا أجنب ولم يجد الماء وأفتى بذلك أيام خلافته وقد عرف ذلك الخاص والعام وأخرج ذلك عنه كل المحدثين.

وبما أن عمر كان مولعاً بكثرة الجماع وهو الذي نزل فيه قوله تعالى:( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم ) ( البقرة: ١٦٧ ) ؛ لأنه لم يصبر على الجماع وقت الصيام وبما أن الماء كان قليلاً رأى عمر أنه من الأسهل أن يترك الصلاة ويرتاح إلى أن يتوفر لديه الماء الكافي للغسل عند ذلك يعود إلى الصلاة. أما عثمان فقد خالف السنة النبوية كما هو معروف حتى أخرجت عائشة قميص النبي وقالت: لقد أبلى عثمان سنة النبي قبل أن يبلي قميصه، وحتى

____________________

(١) مسند الإمام أحمد بن حنبل ج ١ ص ٤ وكنز العمال ج ٣ ص ١٢٦.

٨٦

عابه الصحابة بأنه خالف سنة النبي وسنة الشيخين وقتلوه من أجل ذلك.

أما معاوية فحدث ولا حرج فإنه عاند القرآن والسنة وتحداهما، فبينما يقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( علي مني وأنا من علي من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله )(١) ، نجد معاوية قد أمعن في سبه ولعنه ولم يكتف بذلك حتى أمر كل ولاته وعماله أن يسبوه ويلعنوه ومن امتنع منهم عزله وقتله. وإذا عرفنا بأن معاوية هو الذي سمى نفسه وأتباعه - ب- « أهل السنة والجماعة » في مقابل تسمية الشيعة بأتباع الحق.

وينقل بعض المؤرخين بأن العام الذي استولى فيه معاوية على الخلافة الإسلامية بعد صلح الحسن بن علي، قد سمي ذلك العام بعام الجماعة.

ويزول العجب عندما نفهم بأن كلمة « السنة » لا يقصد بها معاوية وجماعته إلا لعن علي بن أبي طالب من فوق المنابر الإسلامية في أيام الجمعة والأعياد. وإذا كانت « السنة والجماعة » من ابتكار معاوية بن أبي سفيان فنسأله سبحانه أن يميتنا على بدعة الرفض التي أسسها علي بن أبي طالب وأهل البيتعليهم‌السلام !!.

ولا تستغرب أيها القارئ العزيز أن يصبح أهل البدعة والضلالة هم «أهل السنة والجماعة » ويصبح الأئمة الطاهرون من أهل البيت هم أهل البدعة. فها هو العلامة ابن خلدون من مشاهير علماء « أهل السنة والجماعة » يقولها بكل وقاحة بعد أن عدد مذاهب الجمهور قال: « وشذ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به وبنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح»(٢) .

ألم أقل لك أيها القارئ من البداية: « لو عكست لأصبت » فإذا كان الفساق من بني أمية هم « أهل السنة » وأهل البيت هم أهل البدعة كما يقول ابن خلدون فعلى الإسلام السلام وعلى الدنيا العفا.

____________________

(١) مستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٢١ مسند أحمد ج ٦ ص ١٢٣ خصائص النسائي ص ١٧.

(٢) مقدمة ابن خلدون ص ٤٩٤ في فصل علم الفقه وما يتبعه من الفرائض.

٨٧

حكام الجور هم الذين نصبوا أئمة « أهل السنة »

ومما يدلنا على أن أئمة المذاهب الأربعة من « أهل السنة » هم أيضاً خالفوا كتاب الله وسنة النبي الذي أمرهم بالاقتداء بالعترة الطاهرة، فلم نجد واحداً منهم لوى عنقه وركب سفينتهم وعرف إمام زمانه. فهذا أبو حنيفة الذي تتلمذ على الإمام الصادق والذي اشتهر عنه قوله: « لولا السنتان لهلك النعمان » نجده قد ابتدع مذهباً يقوم على القياس والعمل بالرأي مقابل النصوص الصريحة.

وهذا مالك الذي تلقى هو الآخر عن الإمام الصادق، ويروى عنه قوله: ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفقه وأعلم من جعفر الصادق، نجده قد ابتدع مذهباً في الإسلام وترك إمام زمانه الذي يشهد بنفسه أنه أعلم وأفقه الشر في عصره. فقد نفخ في روعه الحكام العباسيون وسموه « إمام دار الهجرة » فأصبح مالك بعدها صاحب الجاه والسلطان والحول والطول.

وهذا الشافعي الذي يتهم بأنه كان يتشيع لأهل البيت فقد قال في حقهم تلك الأبيات المشهورة:

يا أهل بيت رسول اله حبكم

فرض من الله في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم الشأن أنكم

من لم يصل عليكم لا صلاة له

٨٨

ولما رأيت الناس قد ذهبت بهم

مذاهبهم في أبحر الغي والجهل

ركبت على اسم الله في سفن النجا

وهم أهل بيت المصطفى خاتم الرسل

وأمسكت حبل الله وهو ولاؤكم

كما قد أمرنا بالتمسك بالحبل

ويشتهر عنه قوله:

إن كان رفضاً حب آل محمد

فليشهد الثقلان أني رافضي

وإذا يشهد الثقلان أن رافضي فلماذا لم يرفض المذهب التي قامت ضد أهل البيت بل ابتدع هو الآخر مذهباً يحمل اسمه، وترك أئمة أهل البيت الذين عاصرهم ؟ وهذا أحمد بن حنبل الذي ربع الخلافة بعلي وألحقه بالراشدين بعدما كان منكوراً، وألف فيه كتاب الفضائل، واشتهر عنه قوله: « ما لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثلما لعليرضي‌الله‌عنه ». إلا أنه ابتدع له مذهباً في الإسلام اسمه المذهب الحنبلي، رغم شهادة العلماء من معاصريه بأنه ليس فقيهاً، قال الشيخ أبو زهرة: « إن كثيراً من الأقدمين لم يعدوا أحمد بن حنبل من الفقهاء، كابن قتيبة وهو قريب من عصره جداً وكذلك ابن جرير الطبري وغيرهما »(١) .

وجاء ابن تيمية فرفع لواء المذهب الحنبلي وأدخل عليه بعض النظريات الجديدة التي تحرم زيارة القبور والبناء عليها، والتوسل بالنبي وأهل البيت فكل ذلك عنده شركاً. فهذه هي المذاهب الأربعة وهؤلاء هم أئمتها وما ينسب إليهم من أقوال في حق العترة الطاهرة من آل البيت.

فإما أنهم يقولون ما لا يفعلون وهو مقت كبير عند الله، أو أنهم لم يبتدعوا تلك المذاهب، ولكن أتباعهم من أذناب الأمويين والعباسيين هم الذين

____________________

(١) كتاب احمد بن حنبل لأبي زهرة ص ١٧٠.

٨٩

أسسوا تلك المذاهب بإعانة الحكام الجائرين ثم نسبوها إليهم بعد وفاتهم، وهذا ما سنعرفه إن شاء الله في الأبحاث القادمة، أفلا تعجبون من هؤلاء الأئمة الذين عاصروا أئمة الهدى من أهل البيت، ثم تنكبوا صراطهم المستقيم ولم يهتدوا بهديهم، ولا اقتبسوا من نورهم، ولا قدموا حديثهم عن جهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل قدموا عليهم كعب الأحبار اليهودي، وأبا هريرة الدوسي الذي قال في شأنه أمير المؤمنين علي ( ع ): ( إن أكذب الناس على رسول الله لأبو هريرة الدوسي ) كما قالت فيه عائشة بنت أبي بكر نفس الكلام. ويقدمون عليهم عبد الله بن عمر الناصبي الذي اشتهر ببغضه للإمام علي وامتنع عن مبايعته وبايع إمام الضلالة الحجاج بن يوسف. ويقدمون عليهم عمرو بن العاص وزير معاوية على الغش والنفاق.

أفلا تعجبون كيف أباح هؤلاء الأئمة لأنفسهم حق التشريع في دين الله بآرائهم واجتهاداتهم حتى قضوا على السنة النبوية بما أحدثوه من قياس واستصحاب وسد باب الذرائع والمصالح المرسلة وغير ذلك من بدعهم التي ما أنزل اله بها من سلطان ؟

وهل غفل الله ورسوله عن إكمال الدين، وأباح لهم أن يكملوه باجتهاداتهم فيحللوا ويحرموا كما يحلو لهم ؟ !

أفلا تعجبون من المسلمين الذين يدعون التمسك ب- « السنة » كيف يقلدون رجلاً لم يعرفوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يعرفهم ؟ !

فهل عندهم دليل من كتاب الله، أو من سنة رسوله على اتباع وتقليد أولئك الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب ؟ !

فأنا أتحدى الثقلين من الإنس والجن أن يأتوا بدليل واحد على ذلك من كتاب الله أو من سنة رسوله. فلا والله، لا ولن يأتوا به ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.

٩٠

لا والله، ليس هناك دليل في كتاب الله وسنة رسوله إلا على أتباع وتقليد الأئمة الطاهرين من عترة النبي ( صلى الله عليه وعليهم ). أما هذا فهناك أدلة كثيرة وحجج دامغة وحقائق ساطعة.

( فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ) ( الحشر: ٢ ).

( فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَ لٰکِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (الحج: ٤٦ ).

٩١

السر في انتشار المذاهب السنية

إن المتتبع في كتب التاريخ وما دونه الأسلاف يجد بما لا شك فيه بأن شيوع المذاهب «السنية» الأربعة في تلك العصور كان بإرادة السلطة الحاكمة وإدارتها، ولذلك كثر أتباعها فالناس على دين ملوكهم. كما يجد الباحث بأن هناك عشرات المذاهب التي انقرضت وذابت ؛ لأن الحاكم لم يكن راض عليها، كمذهب الأوزاعي ومذهب حسن البصري، وأبو عيينة وابن أبي ذؤيب، وسفيان الثوري، وابن أبي داود، وليث بن سعد وغيرهم كثير.

وعلى سبيل المثال، فإن ليث بن سعد كان صديق مالك بن أنس وكان أعلم منه وأفقه كما اعترف بذلك الشافعي(١) . ولكن مذهبه انقرض وفقهه ذاب واندرس ؛ لأن السلطة لم تكن عنه راضية. وقال أحمد بن حنبل: كان ابن أبي ذؤيب أفضل من مالك بن أنس إلا أنآ مالكاً أشد تنقية للرجال(٢) . وإذا راجعنا التاريخ، فإننا نجد مالكاً صاحب المذهب قد تقرب إلى السلطة والحكام وسالمهم ومشى في ركابهم، فأصبح بذلك الرجل المهاب والعالم المشهور، وانتشر مذهبه بوسائل الترهيب والترغيب خصوصاً في الأندلس حيث

____________________

(١) مناقب الشافعي ص ٥٢٤.

(٢) تذكرة الحفاظ ج ١ ص ١٧٦.

٩٢

عمل تلميذه يحيى بن يحيى على موالاة حاكم الأندلس، فأصبح من المقربين وأعطاه الحاكم مسؤولية تعيين القضاة فكان لا يولي على القضاء إلا أصحابه من المالكية فقط.

كذلك نجد أن سبب انتشار مذهب أبي حنيفة بعد موته هو أن أبا يوسف والشيباني وهما من أتباع أبي حنيفة ومن أخلص تلاميذه، كانا في نفس الوقت من أقرب المقربين لهارون « الرشيد » الخليفة العباسي، وقد كان لهما الدور الكبير في تثبيت ملكه وتأييده ومناصرته، فلم يسمح هارون « الجواري والمجون » لأحد أن يتولى القضاء والفتيا إلا بعد موافقتهما.

فلم ينصبا قاضياً إلا إذا كان على مذهب أبي حنيفة، فصار أبو حنيفة أعظم العلماء ومذهبه أعظم المذاهب الفقهية المتبعة، رغم أن علماء عصره كفروه وأعتبروه زنديقاً، ومن هؤلاء الإمام أ؛مد بن حنبل والإمام أبو الحسن الأشعري. كما أن المذهب الشافعي انتشر وقوي بعدما كاد يندرس، وذلك عندما أيدته السلطة الغاشمة، وبعدما كانت مصر كلها شيعة فاطمية، انقلبت إلى شافعية في عهد صلاح الدين الأيوبي الذي قتل الشيعة وذبحهم ذبح النعاج.

كما أن المذهب الحنبلي ما كان ليعرف لولا تأييد السلطات العباسية في عصر المعتصم عندما تراجع ابن حنبل عن قوله بخلق القرآن ولمع نجمه في عهد المتوكل « الناصبي ». وقوي وانتشر عندما أبدت السلطات الاستعمارية الشيخ محمد بن عبد الوهاب في القرن الماضي وتعامل هذا الأخير مع آل سعود فأيدوه فوراً وناصروه وعملوا على نشر مذهبه في الحجاز والحزيرة العربية.

وأصبح المذهب الحنبلي يعود إلى ثلاثة أئمة أولهم أحمد بن حنبل الذي لم يكن يدعي بأنه فقيهاً، وإنما كان من أهل الحديث، ثم ابن تيمية الذي لقبوه بشيخ الإسلام ومجدد « السنة » والذي كفره علماء عصره لأنه حكم على كل المسلمين بالشرك لأنهم يتبركون ويتوسلون بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم جاء في القرن الماضي محمد بن عبد الوهاب صنيعة الاستعمار البريطاني في الشرق الأوسط ،

٩٣

فعمل هو الآخر على تجديد المذهب الحنبلي بما أخذه من فتاوى ابن تيمية، وأصبح أحمد بن حنبل في خبر كان إذ أن المذهب عندهم اليوم يسمى المذهب الوهابي. ومما لا شك فيه أن أنتشار تلك المذاهب وشهرتها وعلو شأنها كان بتأييد ومباركة الحكام. ومما لا شك فيه أيضاً بأن أولئك الحكام كلهم بدون استثناء كانوا يعادون الائمة من أهل البيت لشعورهم الدائم بأن هؤلاء يهددون كيانهم وزوال ملكهم، فكانوا يعملون دائماً على عزلهم عن الأمة وتصغير شأنهم وقتل من يتشيع لهم. فبديهي أن ينصب أولئك الحكام بعض العلماء المتزلفين إليهم والذين يفتونهم بما يتلائم مع حكمهم ووجودهم، وذلك لحاجة الناس المستمرة لوجود الحلول في المسائل الشرعية.

ولما كان الحكام في كل العصور لا يعرفون من الشريعة شيئاً ولا يفهمون الفقه، فكان لابد أن ينصبوا عالماً باسمهم يفتي، ويموهون على الناس بأن السياسة شيء والدين شيء آخر. فكان الخليفة الحاكم هو رجل السياسة والفقيه رجل الدين كما يفعل ذلك اليوم رئيس الجمهورية في كل البلاد الإسلامية، فتراه يعين أحد العلماء المقربين يسميه مفتي الجمهورية أو أي عنوان آخر يعبر عن ذلك، ويكلفه بالنظر في مسائل الفتيا والعبادات والشعائر الدينية. ولكنه في الحقيقة ليس لهذا الرجل أن يفتي أو يحكم إلا بما تمليه عليه السلطة وما يرضي الحاكم، أو على الأقل ما لا يتعارض وسياسة الحكومة وتنفيذ مشاريعها. وهذا الظاهرة برزت في الحقيقة من عهد الخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان، فهم وإن لم يفرقوا بين الدين والدولة إلا أنهم أعطوا أنفسهم حق التشريع بما يتماشى ومصالح الخلافة وضمان هيبتها واستمرارها.

٩٤

ولما كان لهؤلاء الخلفاء الثلاثة حضور مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصحة فقد أخذوا عنه بعض السنن التي لا تتعارض مع سياستهم.

فإن معاوية لم يدخل الإسلام إلا في السنة التاسعة للهجرة على أشهر الروايات الصحيحة، فلم يصحب النبي إلا قليلاً ولم يعرف من سنته شيئاً يذكر، فاضطر إلى تعيين أبي هريرة وعمرو بن العاص وبعض الصحابة الذين كلفهم بالإفتاء على ما يريده.

واتبع بنو أمية العباس بعده هذه « السنة الحميدة » أو هذه البدعة الحسنة، فكل حاكم جلس إلى جانبه قاضي القضاة المكلف بدوره بتعيين القضاة الذين يراهم صالحين للدولة ويعملون على دعمها وتأييدها. وما عليك بعد ذلك إلا أن تعرف ماهية أولئك القضاة الذين يغضبون ربهم في إرضاء سيدهم وولي نعمتهم الذي نصبهم. وتفهم بعد ذلك السر في أبعاد الأئمة المعصومين من العترة الطاهرة فلا تجد منهم أحداً وعلى مر العصور عينوه من قبلهم أو نصبوه قاضياً أو قلدوه وسام الإفتاء.

وإذا أردنا مزيد التجقيق حول كيفية انتشار المذاهب « السنية » الأربعة بواسطة الحكام، فلما أن يأخذ لذلك مثالاً واحداً من خلال كشف الستار عن مذهب الإمام مالك الذي يعد من أكبر المذاهب وأعظمها قدراً وأوسعها فقهاً، فقد اشتهر مالك بالخصوص بالموطأ الذي كتبه بنفسه ويقال عند أهل السنة بأنه أصح الكتب بعد كتاب الله، وهناك بعض العلماء الذين يقدمونه ويفضلونه على صحيح البخاري. كما أن شهرة مالك فاقت كل الحدود، حتى قيل: « أيفتى ومالك في المدينة » ؟ ولقبوه بإمام دار الهجرة. ولا يفوتا أن نذكر بأن مالكاً أفتى بحرمة بيعة الإكراه فضربه جعفر بن سليمان والي المدينة سبعين سوطاً. وهذا ما يحتج به المالكية دائماً على معاداة مالك للسلطة وهو غير صحيح

٩٥

إذ ان الذين رووا هذه القصة، هم أنفسهم الذين رووا ما بعدها، فإليك البيان والتفصيل. قال ابن قتيبة: « وذكروا أنه لما بلغ أبا جعفر المنصور ضرب مالك بن أنس وما أنزل به جعفر بن سليمان، أعظم ذلك إعظاماً شديداً وأنكره ولم يرضه، وكتب بعزل جعفر بن سليمان عن المدينة وأمر أن يؤتى به إلى بغداد على قتب. ثم كتب إلى مالك بن أنيس ليستقدمه إلى نفسه ببغداد، فأبى مالك، وكتب إلى أبي جعفر يستعفيه من ذلك ويعتذر له بعض العذر إليه، فكتب أبو جعفر إليه أن وافني بالموسم العام القابل إن شاء الله فإنى خارج إلى الموسم »(١) .

فإذا كان أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي يعزل ابن عمه جعفر بن سليمان بن العباس عن ولاية المدينة من أجل ضرب مالك فهذا يبعث على الشك والتأمل. إذ أن ضرب جعفر بن سليمان لمالك لم يكن إلا لتأييد خلافة ابن عمه وتدعيم ملكه وسلطانه، فكان الواجب على أبي جعفر المنصور إكرام الوالي وترقيته، لا عزله وإهانته بتلك الطريقة، فقد عزله وأمر بإقدامه على شر حال مكبلاً بالأغلال على قتب، ثم يبعث الخليفة بنفسه اعتذاره إلى مالك لكي يسترضيه ! إنه أمر عجيب ! ويفهم من ذلك بأن والي المدينة جعفر بن سليمان تصرف الحمقى الذين لا يعرفون من السياسة ودهائها شيئاً، ولم يفهم بأن مالكاً هو عمدة الخليفة وركيزته في الحرمين الشريفين، وإلا ما كان ليعزل ابن عمه من الولاية ؛ لأنه ضرب مالكاً الذي استحق ذلك من أجل فتواه بحرمة بيعة الإكراه. وهذا ما يقع اليوم أيضاً بين ظهرانينا وأمام أعيننا عندما يحاول بعض الولاة إهانة شخص ما وسجنه لتدعيم هيبة الدولة وسلامة أمنها، فإذا بذلك الشخص يكشف عن هويته وإذا به من أقارب السيد الوزير أو من معارف

____________________

(١) تاريخ الخلفاء لابن قتيبة ج ٢ ص ١٤٩.

٩٦

زوجة الرئيس فإذا بالوالي قد أعفي من منصبه ودعي لمهام أخرى قد لا يعرفها حتى الوالي نفسه. وهذا يذكرني بحادثة وقعت زمن الاحتلال الفرنسي للبلاد التونسية، فكان شيخ الطريقة العيساوية وجماعته يضربون البنادير ويرفعون أصواتهم بالمدائح في الليل مروراً ببعض الشوارع وحتى يصلوا إلى محل الحضرة كما هي عادتهم.

وبمرورهم أمام مسكن ضابط الشرطة الفرنسي، خرج إليهم هذا الأخير مغضباً فكسر بناديرهم وفرق جمعهم ؛ لأنهم لم يعملوا بقانون احترام الجار والتزام الهدوء بعد العاشرة ليلاً. ولما علم المراقب المدني بالحادثة وهو بمثابة الوالي عندنا، غضب غضباً شديداً على ضابط الشرطة فعزله من منصبه وأعطاه ثلاثة أيام لمغادرة مدينة قفصة، ثم استدعى شيخ الطريقة العيساوية واعتذر إليه باسم الحكومة الفرنسية، واسترضاه بأموال كثيرة كي يشتري بها بنادير وأثاثاً جديداً ويعوض كل ما كسر لهم. وعندما سأله أحد المقربين إليه لماذا فعل كل ذلك ؟ أجابه بأن الأفضل لنا أن يتلهى هؤلاء الوحوش بضرب البنادير وينشغلوا بالشطحات وأكل العقارب وإلا سوف يتفرغوا لنا ويأكلونا نحن ؛ لأنا غاصبين حقوقهم. ونعود إلى الإمام مالك لنستمع إليه يروي بنفسه كيف كان لقاؤه بالخليفة أبي جعفر المنصور.

٩٧

لقاء مالك مع أبي جعفر المنصور

هذه الرواية التي يرويها ابن قتيبة المؤرخ الكبير في كتابه تاريخ الخلفاء منقولة عن مالك نفسه، فبلابد من هذه الملاحظة وأخذها بعين الاعتبار.

قال مالك: لما صرت بمنى أتيت السرادقات، فأذنت بنفسي، فأذن لي، ثم خرج إلي الآذن من عنده فأدخلني، فقلت للأذن: إذا انتهيت بي إلى القبة التي يكون فيها أمير المؤمنين فأعلمني، فمر بي من سرادق إلى سرادق، ومن قبة إلى أخرى، في كلها أصناف من الرجال بأيديهم السيوف المشهورة والأجزرة المرفوعة، حتى قال لي الآذن: هو في تلك القبة، ثم تركني الأذن وتأخر عني.

فمشيت حتى انتهيت إلى القبة التي هو فيها، فإذا هو قد نزل عن مجلسه الذي يكون فيه إلى البساط الذي دونه، وإذا هو قد لبس ثياباً قصدة لا تشبه ثياب مثله تواضعاً لدخولي عليه، وليس معه في القبة إلا قائم على رأسه بسيف صليت. فلما دنوت منه، رحب بي وقرب، ثم قال: ها هنا إلي فأوميت للجلوس فقال: ها هنا، فلم يزل يدنيني حتى أجلسني إليه ولصقت ركبتي بركبتيه. ثم كان أول ما تكلم به أن قال: والله الذي لا إله إلا هو يا أبا عبد الله، ما أمرت بالذي كان ولا علمته قبل أن يكون، ولا رضيته إذ بلغني ( يعني الضرب ). قال مالك: فحمدت الله تعالى على كل حال وصليت على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

٩٨

ثم نزهته عن الأمر بذلك والرضا به، ثم قال: يا أبا عبد الله، لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنت بين أظهرهم، وإني أخالك أمانا لهم من عذاب الله وسطوته ولقد دفع الله بك عنهم وقعة عظيمة، فإنهم ما علمت أسرع الناس إلى الفتن وأضعفهم عنها، قاتلهم الله أنى يؤفكون.

وقد أمرت أن يؤتى بعدو الله(١) من المدينة على قتب، وأمرت بضيق مجلسه والمبالغة في امتهانه، ولابد أن أنزل به من العقوبة أضعاف ما نالك منه. فقلت له: عافى الله أمير المؤمنين، وأكرم مثواه، قد عفوت عنه لقرابته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم منك. قال أبو جعفر: وأنت فعفى الله عنك ووصلك. قال مالك: ثم فاتحني فيمن مضى من السلف والعلماء، فوجدته أعلم الناس بالناس، ثم فاتحني في العلم والفقه، فوجدته أعلم الناس بما اجتمعوا عليه، وأعرفهم بما اختلفوا فيه، حافظاً لما روي واعياً لما سمع. ثم قال لي: يا أبا عبد الله، ضع هذا العلم ودونه، ودون منه كتبا، وتجنب شدائد عبد الله بن عمر ورخص عبد الله بن عباس، وشواذ عبد الله بن مسعود، واقصد إلى أواسط الأمور، وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة ( رضي الله عنهم )، لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك ونبثها في الأمصار، ونعهد إليهم أن لا يخالفوها ولا يقضوا سواها.

فقلت له: أصلح الله الأمير، إن أهل العراق لا يرضون علمنا ولا يرون في عملهم رأينا. فقال أبو جعفر: يحملون عليه ونضرب عليه هاماتهم بالسيف ونقطع طي ظهورهم بالسياط، فتعجل بذلك وضعها فسيأتيك محمد المهدي ابني العام القابل إن شاء الله إلى المدينة ليسمعها منك، فيجدك وقد فرغت من ذلك إن شاء الله.

____________________

(١) يقصد ابن عمه جعفر بن سليمان بن العباس واليه على المدينة.

٩٩

قال مالك: فبينما نحن قعود إذ طلع بني له صغير من قبة بظهر القبة التي كنا فيها، فلما نظر إلي الصبي فزع ثم تقهقر فلم يتقدم، فقال له أبو جعفر: تقدم يا حبيبي إنما هو أبو عبد الله فقيه أهل الحجاز، ثم التفت إلي فقال: يا أبا عبد الله، أتدري لم فزع الصبي ولم يتقدم ؟ فقلت: لا !

فقال: والله استنكر قرب مجلسك مني إذ لم ير به أحداً غيرك قط، فلذلك تقهقر.

قال مالك: ثم أمر لي بألف دينار عيناً ذهباً، وكسوة عظيمة، وأمر لابني بألف دينار، ثم استأذنته فأذن لي، فقمت فودعني ودعا لي، ثم مشيت منطلقاً، فلحقني الخصي بالكسوة فوضعها على منكي وكذلك يفعلون بمن كسوه وإن عظم قدره، فيخرج بالكسوة على الناس فيحملها ثم يسلمها إلى غلامه. فلما وضع الخصي الكسوة على منكبي انحنيت عنها بمنكبي كراهة احتمالها، تبرؤا من ذلك.

فناداه أبو جعفر: بلغها رحل أبي عبد الله … إنتهي.

١٠٠