زبدة البيان في براهين أحكام القرآن
0%
مؤلف: المحقق الاردبيلي
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 702
مؤلف: المحقق الاردبيلي
تصنيف: الصفحات: 702
المشاهدات: 26479
تحميل: 6099
توضيحات:
مؤلف: المحقق الاردبيلي
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 702
مؤلف: المحقق الاردبيلي
والصلح كغيرهما.
واعلم أنّ في دلالة الكلّ على الصلح الشرعيّ الّذي ذكره الفقهاء في كتاب الصلح تأمّلا واضحا.
الرابع الوكالة
واستدلّ على مشروعيّتها بثلاث آيات:
الأولى: ( إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ) (1) فإنّه شامل للوصيّ والوكيل وسيأتي في الطلاق.
الثانية: ( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها ) الآية(2) .
الثالثة: ( فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا ) (3) ظاهر الثانية لا يخلو عن دلالة مّا وفي الاولى والأخيرة لا دلالة على ما نفهم فافهم.
__________________
(1) البقرة: 237.
(2) الكهف: 19.
(3) الكهف: 63.
(كتاب)
(وفيه جملة من العقود)
وفيه مقدّمة وأبحاث أمّا المقدّمة ففيها آية واحدة مشتملة على أحكام كلّية.
( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) .
الوفاء والإيفاء القيام بمقتضى العقد والعهد، والعقد العهد الموثّق المشدّد بين اثنين، فكلّ عقد عهد دون العكس، لعدم لزوم الشدّة والاثنينيّة، وفي الكشاف العقد العهد الموثّق، وهي عقود الله الّتي عقدها على عباده وألزمها إيّاهم من مواجب التكليف إلخ، ويحتمل كون المراد العقود الشرعيّة الفقهيّة ولعلّ المراد أعمّ من التكاليف والعقود الّتي بين الناس وغيرها كالأيمان، والإيفاء بالكلّ واجب فالآية دليل على وجوب الكلّ فمنها يفهم أنّ الأصل في العقود اللزوم.
( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) يحتمل أن تكون إشارة إلى بعض تفصيل العقود، قاله في الكشاف، فالايفاء بمثل الواجب هو اعتقاد حلّ أكلها، ووجوبه مع الحاجة، ويحتمل أن يكون المراد إباحة أكل لحمها أو مطلق الانتفاع بها قيل البهيمة كلّ حيّ لا تميز له، وقيل كلّ ذات أربع، وإضافتها إلى الأنعام للبيان: أي البهيمة من الأنعام، وهي الأزواج الثمانية، والحق بها الظباء وبقر الوحش وحماره، وقيل هي المراد بالبهيمة وهذا تخصيص غير واضح، فإنّ الظاهر شمولها لجميع ذوات الأربع أو كلّ حيّ لا تميز له، ولا يبعد إرادة ذلك من الأنعام أيضا ويكون ذكرها للتأكيد كما يفهم من مجمع البيان.
فتدلّ على إباحة كلّ ذلك، مثل الحمار والفرس والبغل وغيرها، ويخرج ما علم تحريمه بدليله، مثل( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) ويؤيّد العموم قوله( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) أي إلّا الّذي يتلى عليكم آية تحريمه أو محرّم ما يتلى عليكم، كقوله
__________________
(1) المائدة: 1.
( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) الآية.
( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ ) قيل: حال من كم في لكم، وقيل من ضمير أوفوا وفي تقييد الإيفاء وحلّ البهيمة به تأمّل وقيل استثناء وكأنّه عن بهيمة الأنعام وفيه تعسّف لفظا لعدم إمكان استثناء «محلّي» عن البهيمة( وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) حال عن ضمير «محلّي» والحرم جمع حرام أي المحرم( إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ ) من تحليل وتحريم إشارة إلى عدم السؤال عن اللّمّ والعلّة لا يجاب الوفاء، وإباحة ما أباح، واستثناء ما يحرم لعدم النفع الحاصل بذلك، ففيه إشارة إلى بطلان القياس باستخراج العلّة.
فهذه تدلّ إجمالا على الإيفاء بجميع العقود، فلنذكر ما يدلّ نصّا أو ظاهرا على ذلك وهو أنواع.
الأول الإجارة
وفيها آيتان:
قوله: ( يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ) ، وقوله( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ) (1) .
فيهما دلالة على مشروعيّة الإجارة في الجملة في شرع من قبلنا، وحجيّتهما عندنا موقوفة على كونه حجّة عندنا، وليس بثابت، وتحقيقه في الأصول ولا يكفي «الأصل عدم النسخ» في دلالتهما عليها عندنا وكون ذلك العقد ممّا يتوقّف عليه حفظ النوع إن تمّ فليس بدليل على دلالتهما عليها بل هو دليل عليها، وفي الأخيرة دلالة على جواز جعل المهر عمل الزوج بل جعل نفسه أجيرا وعدم تعيين الزوجة وانعقاده بقوله( أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ ) الآية وفيه تأمّل في شرعنا، دلالة الثانية أخفى.
__________________
(1) القصص: 26 و 27.
(الثاني الشركة)
وفيها ثلاث آيات:
الاولى( فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً ) (1) فإنّها تدلّ على اشتراك الغانمين في الغنيمة.
والثانية( فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ ) (2) وكذا غيرها في المواريث لاقتضائها الشركة التزاما.
والثالثة( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ) (3) على القول بالبسط.
في دلالة الأولى مناقشة، والأخيرة لا دلالة لها، بل لا قائل بها في الزكاة عندنا، لانتفاء لوازم الشركة مثل اختيار المالك في تعيين المخرج، وجواز تصرّفه بغير إذن الفقراء، وعدم حصول النماء لهم وغير ذلك، ولا يدلّ على القول بوجوب البسط أيضا على الشركة، وهو ظاهر، وليس ذلك مبنيّا عليها أيضا، بل لا معنى للقول بأنّها تدلّ عليها على القول بوجوب البسط، نعم الثانية ظاهرة في ذلك ولا يحتاج حصولها إلى الدليل بل أحكامها فتأمّل.
(الثالث المضاربة)
وفيها أيضا ثلاث آيات: الاولى( فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ) والثانية( وَإِذا ضَرَبْتُمْ ) الآية. والثالثة( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ ) (4) الآية.
لا دلالة فيها إلّا بعموم بعيد، وآية البيع والتجارة أقرب منها والمضاربة في اصطلاحهم دفع أحد النقدين إلى شخص ليعمل به فتكون له حصّة من الربح.
__________________
(1) الأنفال: 69.
(2) النساء: 11.
(3) براءة: 61.
(4) الجمعة: 10: النساء: 100: المزمل: 20.
(الرابع الإبضاع)
وفي مشروعيّته أيضا ثلاث آيات: الاولى( وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ ) الآية، والثانية( وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) والثالثة( وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ) (1) عدم دلالتها على المطلوب واضح، فإنّه دفع مال إلى أحد ليتّجر له مجّانا، ومعلوم أنّ المراد في الآيات مال إخوة يوسف الّذي اشتروا به طعاما وأنّ هذا لا يحتاج إلى الآيات، وأظنّ أنّ آيات التجارة والوكالة أدلّ.
(الخامس الإيداع)
وفيه أيضا ثلاث آيات: الاولى( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ) ، الثانية( فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ ) ، الثالثة:( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ ) الآية(2) .
فمضمون قوله( أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ ) و( مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) ممّا يدلّ عليه العقل أيضا فإنّ وجوب أداء الأمانات كلّها إلى أهلها ضروريّ والظاهر أنّه فوريّ مع الطلب بغير خلاف، ويمكن تعميمه لأداء جميع الواجبات كما نقل في مجمع البيان وقد مرّ تفسير( فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ ) وأنّه في الرهن لا في الإيداع.
(السادس العارية)
وذكر لمشروعيّتها آيتان:
الاولى: ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) (3) أي فليعاون بعضكم بعضا على الإحسان، واجتناب المعاصي وامتثال الأوامر، والثانية( وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ ) (4)
__________________
(1) يوسف: 62، 88، 65.
(2) النساء: 57، البقرة: 283، آل عمران: 75،
(3) آل عمران: 3.
(4) الماعون: 7.
في الأولى دلالة مّا لعمومها، وفي الثانية: تأكيد عظيم في منع الماعون عن الطالب بحيث لا يمكن حملها على ظاهرها، فإنّه يفهم أنّه شقيق الرياء وصاحب الويل، قيل: المراد بالماعون ما ينتفع به.
(السابع السبق والرماية)
وفيه آيات: الاولى( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) قيل هي الرمي الثانية( قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا ) ، والثالثة:( فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ ) (1) وفي دلالتها على معناهما الشرعيّين تأمّل ظاهر، سيّما الأخيرة.
(الثامن الشفعة)
يمكن أن يستدلّ بها عليها بآيات لأنّه قد يحصل بالشركة ضرر، فيستدلّ بما يدلّ على رفعه كقوله تعالى( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) وقوله:( وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ ) وقوله( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (2) وقد مرّ معناها، وليست في الآيات دلالة عليها على ما يفهم فتأمّل.
(التاسع اللقطة)
ولم يرد ما يدلّ بخصوصه عليها بل عموم( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) (3) يدلّ عليه، لكن حكي عن القرون الماضية كقوله تعالى:( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ) وقوله( يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ) (4) دلالتها على اللقطة بعيدة
__________________
(1) الأنفال: 61: يوسف: 17، الحشر: 60.
(2) الحج: 78: البقرة، 220، 185.
(3) آل عمران: 3، البقرة: 148، والمائدة: 51.
(4) القصص: 8، يوسف: 10.
جدّا فإنّهم ذكروا أنّها في محلّ جوازها مكروهة، فكيف تدخل في الأمر بالتعاون على البرّ ونحوه.
(العاشر الغصب)
ويدلّ عليه عموم قوله تعالى( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) (1) وقوله( إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ) (2) ويدلّ عليه بخصوصه وعلى جواز المقاصّة قوله تعالى( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (3) وقوله( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) وقوله تعالى( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ) (4) المطلوب من فعل الغصب وما يدلّ عليه غير ظاهر، فتأمّل.
(الحادي عشر الإقرار)
وفيه آيات: الاولى( فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ ) الثانية:( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ) ، والثالثة( أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي ) والرابعة( قالُوا أَقْرَرْنا ) ، الخامسة: قوله( كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ) (5) دلالة غير الأخيرة على الإقرار المطلوب غير ظاهرة، نعم الأخيرة ظاهرة فيه، وما كان ينبغي نقل هذه العقود بهذه الأدلّة، ولكن نقلتها اتّباعا، ولإظهار عدم فهم الدلالة على ما فهمت.
__________________
(1) البقرة: 188، والنساء: 28.
(2) براءة: 35.
(3) البقرة: 194.
(4) الشورى: 40 و 41.
(5) الملك: 11، براءة: 105، آل عمران: 81، النساء: 134.
(الثاني عشر الوصية)
وفيها ثلاث آيات:
الاولى: ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) (1) .
الحضور وجود الشيء بحيث يمكن أن يدرك، والخير هو المال لغة، واختلف في تقديره هنا فنقل في مجمع البيان عن بعض أنّه المال قليلا كان أو كثيرا ثمّ نقل عن أمير المؤمنينعليهالسلام أنّه دخل على مولى له وله سبعمائة درهم أو ستّمائة، فقال: ألا أوصى؟ فقال: لا، إنّما قال الله سبحانه( إِنْ تَرَكَ خَيْراً ) وليس لك كثير مال وهذا هو المأخوذ به عندنا، لأنّ قوله حجّة، وأنت تعلم أنّه إذا قيل المراد بالآية وجوب الوصيّة كما قيل إنّها كانت واجبة ونسخت أو المراد الاستحباب الخاصّ فالأخذ به جيّد إن ثبت وأما إذا لم يكن كذلك فالعمل به مشكل فإنّ الوصيّة ليست مقيّدة بمقدار من المال، ولهذا ما نجد تقييدها به في الفقه.
نعم بحثوا عن استحبابها، هل هو بالثلث أو الخمس أو السدس، وقالوا: الربع أولى من الثلث والخمس أولى منه، وتدلّ عليه روايات ليس هذا محلّها والتفصيل بوجود الدّين وعدمه، وبوجود الوارث المحتاج وعدمه غير بعيد، فيثبت في البعض، ويبقى في الآخر على ما يقتضيه العقل والدليل الشرعيّ، والمعروف هو العدل الّذي لا يجوز أن ينكر، ولا حيف فيه ولا جور، والمعنى على الظاهر فرض عليكم يا أيّها الّذين آمنوا أو كلّ من يصلح للخطاب، إذا ظهر عندكم أسباب الموت وأمارته بالمرض والهوامّ والوبا وغير ذلك ممّا يظنّ الموت عنده، إن كان لكم مال أن توصوا للوالدين وسائر الأقارب بشيء منه حقّ ذلك حقّا بوجه
__________________
(1) البقرة: 180.
لا تخرجون عن الشرع كالوصيّة لهم قبل إخراج جميع الواجبات، وحرمان الصغار فإذا ظرف «حضر» و «الوصيّة» مرفوعة بكتب، والتذكير لأنّه بتأويل أن توصوا أو الإيصاء أو أنّه مصدر. ولهذا ذكّر الضمير في قوله( فَمَنْ بَدَّلَهُ ) و( يُبَدِّلُونَهُ ) أو لكون التأنيث غير حقيقيّ وأمّا ما قاله القاضي من أنّ سبب تذكير الفعل يعني «كتب» وقوع الفصل بينه وبين الوصيّة، فقد علمت أنّه ممّا لا يحتاج إليه، على أنّه يوهم أنّه لو لم يكن الفصل لم يصحّ التذكير مع أنّه يصحّ لما مرّ.
وقيل: معناه فرض عليكم الوصيّة في حال الصحّة أن تقولوا إذا حضرنا الموت فافعلوا كذا وكذا وهو بعيد، و «حقّا» مفعول مطلق للمفهوم من مضمون الجملة للتأكيد يعني ثبت ذلك ووجب وحقّ حقّا وواجبا وثابتا على الّذين يتّقون من عذاب الله، ويتّقون معاصيه، فكأنّهم خصّوا بعد فهم التعميم من «عليكم» لشرفهم وكثرة انتفاعهم وصلاحيتهم لمخاطبة الله تعالى، وبالمعروف إمّا متعلّق بالوصيّة أو بمقدّر حال عنها.
ثمّ اعلم أنّه قال في الكشّاف: إنّ الوصيّة كانت في بدو الإسلام واجبة، فنسخت بآية المواريث، وبقولهعليهالسلام إنّ الله أعطى كلّ ذي حقّ حقّه، ألا لا وصيّة لوارث وتلقّاه الأمّة بالقبول، حتّى لحق بالمتواتر، وإن كان من الآحاد، وفيه نظر إذ لا منافاة بين الإرث والوصيّة كما أنّه لا منافاة بينه وبين الدّين فيخرج أوّلا الدّين ثمّ الوصيّة، ثمّ يعطى الإرث، وأيضا قد يكون من الأقارب غير وارث، فكيف ينسخ بالخبر، وأيضا قد ينسخ الوجوب ويبقى الجواز الأصلي أو الشرعيّ على ما قيل، فلا يحرم الوصيّة لهم كما يقولون، وأيضا كون الخبر صحيحا أو متواترا غير ظاهر، ويفهم من كلامه أيضا وتلقّى جميع الأمّة له بالقبول غير ظاهر، بل الأكثر بل الظاهر عدمه أيضا مع أنّه ليس بحجّة ينسخ بها القرآن القطعيّ فيمكن حينئذ حمله على تقدير ثبوته على الوصيّة الغير الجائزة كما إذا زاد على الثلث كما قيل، فحملها على الاستحباب غير بعيد، فيكون الحكم باقيا وسبب التخصيص بالآباء والأقارب، تأكيد الحكم فيهم، و «كتب» بمعنى ندب، بدليل الإجماع
على عدم الوجوب، وأصل عدم النسخ والروايات، فيفهم حينئذ منها الاستحباب المؤكّد للمذكورين.
فيفهم من الآية الّتي بعدها وهي( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) تحريم تبديل تلك الوصيّة كما هو الظاهر لا تحريم جميع الوصايا ويحتمل التعميم للعلّة الظاهرة وعدم القائل بالفصل ولكنّ الأول قد يمنع، وإذا كان الإجماع ثابتا فلا يحتاج إلى ضمّ هذه الآية بل يستدلّ به أوّلا فاستدلال الأصحاب بهما سيّما المحقّق الثاني على تحريم تبديل الوصايا مطلقا والحبس والوقف وغير ذلك محلّ التأمّل، بعد بقاء حكمها وعدم نسخها أيضا.
ثمّ الفاء للتعقيب و «من» مبتدأ موصولة متضمّنة لمعنى الشرط، و «بعد» ظرف التبديل مضافة إلى ما المصدرية ويحتمل الموصولة، وتكون عبارة عن الوصيّة المسموعة، وهو تغيير الحقّ عن موضعه والفاء جزائيّة و «ما» كافّة مانعة عن العمل كما في حيثما ومهما، و «على الّذين» متعلّقة بمقدّر خبر «إثمه» وهو مبتدأ، والضمائر البارزة كلّها للوصيّة إلّا ضمير إثمه فإنّه راجع إلى «من» لأنّ الجملة خبر له، ولا بدّ فيه من عائد، وليس غيره، أو راجع إلى تبديله أي إلى تبديل من فبهذا الاعتبار يصحّ، أو أنّه راجع أيضا إلى الوصيّة أي الإيصاء المغيّر، ويكون «على الّذين» عائدا لأنّه ذكر في الرّضي أنّ العائد قد يكون وضع المظهر موضع المضمر وهنا الّذين هي بعينها «من» فكأنّه قال فإنّما إثمه عليهم أي المغيّرين، ولعلّه أتى بالّذين للتصريح ووصف التغيير والتبديل وجمعه لأنّ المبدّل كثير إذ قد يكون وارثا ووصيّا وشاهدا وغيرهم( إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) وعد ووعيد للعامل بالوصيّة بل سائر العبادات وتاركها، فإنّه يعلم السرّ وأخفى وما يستحقّانه فيجازي بما عملاه، ولعلّ في قوله( بَعْدَ ما سَمِعَهُ ) تنبيه على عدم جواز التكليف والإثم، قبل العلم، كما يدلّ عليه العقل أيضا.
ثمّ اعلم أنّه قال في مجمع البيان: في هذه الآية دلالة على أنّ الوصيّ أو الوارث إذا أفرط في الوصيّة أو غيّرها لا يأثم الموصي بذلك، ولم ينقص من أجره
شيء، وأنّه لا يجازى أحد على عمل غيره، وفيها أيضا دلالة على بطلان قول من يقول إنّ الوارث إذا لم يقض دين الميّت فإنّه يؤاخذ به في قبره وفي الآخرة، لما قلناه من أنّه يدلّ على أنّ العبد لا يؤاخذ بجرم غيره، إذ لا إثم عليه بتبديل غيره، وكذلك لو قضى عنه الوارث من غير أن يوصي لم يزل بذلك عقابه إلّا أن يتفضّل الله عليه بإسقاط عقابه. وأنت تعلم أنّ الدلالة غير واضحة، فإنّ مضمونها - الله يعلم - انحصار إثم التبديل على المبدّل، وذلك لا يدلّ على أنّ أثم الموصى به من الأموال للزّكوة أو الدّين أو الحجّ أو الصلاة أو الصوم وغير ذلك من الوصايا الواجبة بالأصل وغيره من النذور والعهود وغير ذلك، مثل التحمّل عن الغير من العبادات بالإجارة ونحوها ومات الأجير قبل الفعل وأوصى وغير ذلك ممّا لا يعدّ ولا يحصى على المبدّل، لا على الموصي.
وأيضا يبعد أن لو قصّر شخص في إخراج الأموال من الحقوق الواجبة كالزكاة والخمس وأكل أموال النّاس، غصبا وظلما بقطع الطريق والسرقة وغير ذلك ثمّ أوصى، يخرج من تلك الحقوق بالكليّة ولا يبقى عليه شيء وكذا من قصّر في إعطاء النفقة لمن وجب له القضاء مثل الزّوجة ومن أكل الربا ومن قصّر وأخذ الزكاة والخمس بغير استحقاق وغير ذلك ثمّ أوصى، لا يكون عليه إثم ذلك كلّه فإنّه بعيد جدّا.
وأيضا قد يتعمّد ويقول: أنا أفعل هذه المذكورات كلّها، ثمّ اخلف مالا واوصي به، فمن لم يخرج يكون الإثم عليه لا عليّ، وهكذا يفعل الآخر فلا يصل الحقّ إلى أهله ويبطل حقوق الناس من الأموال بل العبادات الموصى بها، أيضا فإنّه على ذلك التقدير أيضا إنّما الإيفاء واجب على الوارث، فهو المغيّر والمبدّل ولا يجازى أحد بفعل غيره، إلّا أن يريد عدم العقاب على التبديل لا غير، وهو ظاهر فحينئذ يصحّ، ولكنّه بعيد من كلامه.
وكذا يريد(1) بقوله: وفيها أيضا دلالة إلخ أنّه يسقط عنه عقاب التقصير بعدم
__________________
(1) يعنى الطبرسي صاحب مجمع البيان.
إعطاء الدين لا أصل الدين فتأمّل، بل ظاهر كلامه يدلّ على عدم الاحتياج إلى الإيصاء وهو أبعد.
ثمّ الظاهر أنّه يعاقب بالتأخير، ويؤخذ منه ما يقابل المال لأصحابه الأول لو بقي على ملكهم، ويؤخذ عوض الحيلولة بينهم وبين أموالهم، على تقدير الانتقال إلى الوارث، وكذا للوارث إلى أن ينتهي، نعم قد يكون المبدّل أيضا معاقبا ومؤاخذا على مقدار تقصيره، سواء كان شاهدا أو وارثا أو وصيّا أو مانعا من إخراج الوصايا على أيّ وجه كان، ولو كان باعتبار النظارة أو عدم تعيين الوصيّ لمن لا وصيّ له، أو عدم بيان الحكم للفاعل، بل كلّ من يقدر على وجه ولم يفعل من باب الحسبة، وكان موقوفا عليه، فالظاهر أنّه مؤاخذ في قبره وفي الآخرة، نعوذ بالله من عذاب الآخرة.
ثمّ الظاهر أيضا أنّه لو أدّى عنه الوارث بل الأجنبيّ أيضا ما عليه من الحقوق الّتي يصحّ أداؤها عنه أو أخرج وصاياه الّتي يصحّ الإخراج عنه تبرأ ذمّته من تلك الحقوق والوصايا من غير شكّ، ولا عقاب عليه، ويرث الأموال المتروكة وارثه إذ ما بقي لأهل الحقّ عنده شيء، فلم يعاقب ولم يؤاخذ؟
نعم لو قصّر في الأداء والوصيّة الواجبة يعاقب حينئذ وإلّا فلا، وبالجملة ما ذكره قدّس الله روحه غير واضح إلّا قوله أحد لا يجزى بفعل غيره، وذلك صحيح وهو ممّا دلّ عليه العقل والنقل مثل( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) وهو واضح، وأمّا دلالة هذه الآية عليه أيضا فغير واضح، فانّ دلالتها أن ليس إثم التغيير لهذه الوصيّة الخاصّة إلّا على مبدّلها فلا يدلّ على الكلّيّة إلّا بضمّ مقدّمة أخرى، وأمّا دلالة هذه الآية على إبراء ذمّة المديون وغيره بالوصيّة، وكذا على عقاب كلّ مبدّل ومغيّر فغير واضح كما مرّ، إذ مرجع ضمير( بَدَّلَهُ ) الوصيّة الخاصّة وهي الوصيّة المندوبة للأقارب فإنّه هنا ما كان على الموصي إثم وذنب، فلا جرم أن لا يكون هنا إثم إلّا على مبدّلها وهو ظاهر، مع ما مرّ من الاستبعادات وغيرها من الأمور الواضحة.
ثمّ إنّه ينبغي التحقيق والتفصيل أيضا بأنّ الموصي هل كان مقصّرا أولا وكذا المبدّل، وظاهره أنّه لو لم يقصّر المبدّل لم يكن عليه إثم وضمان، كما يعلم من التقييد في الآية، وفي كلامه أيضا، ومعلوم عدم الإثم على الموصي أيضا على تقدير عدم التقصير والتفريط، ولكن يحتمل الضمان بحيث يعطي العوض كما أنّه يقع في الدنيا كثيرا الضمان مع عدم الإثم، وهذا في الموصي أيضا متصوّر بعد التصرّف ولكن تضمينهما بعيد، فإنّه يبعد تضمين شيء في الآخرة مع عدم التكليف فيها، ولا يقاس أمور الآخرة بالدّنيا لنصوص بخصوصها من غير تعقّل علّة بل لمحض نصّ وتعبّد لمصالح يعلمها الله فقط، فينبغي حينئذ إلّا يضيّع حقّ صاحب الحقّ أيضا بأن يعطيه الله العوض الله يعلم.
( فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) الجنف الجور وهو الميل عن الحقّ قاله في مجمع البيان وقال أيضا إنّ من متعلّق بمقدّر حال عن جنفا أي جنفا حال كونه كائنا من موص، وكأنّه ليس بصفة للتقديم، ويحتمل أيضا تعلّفه بخاف، والمعنى على الظاهر أنّ من علم - لأنّ خاف جاء بمعنى علم كما قيل في التفاسير - من موص أن يفعل جورا وغير مشروع في الوصيّة خطأ أو إثما يعني يفعل ذلك عمدا فأصلح بين الموصى لهم، وهم الوالدان والأقرباء في الوصيّة المذكورة، ويحتمل أن يكون المراد من يتوقّع ويظنّ حين وصيّة الموصي أنّه يجوز في الوصيّة فأصلح، لكنّه قال في مجمع البيان: الأوّل عليه أكثر المفسّرين ونقله عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهماالسلام - فلا إثم عليه ولا ذنب ولا عصيان على المصلح المبدّل من الباطل إلى الحقّ فإنّ الله غفور للمذنب، فكيف لمن لا ذنب له، فكأنّه لمّا كان مبدّلا والتبديل حراما وإثما، دفع هذا الوهم، وذكر أنّ الإثم على التبديل الباطل لا الحقّ، فذكر عدمه والمغفرة والرحمة لذلك لا لمقابلة الذنب، لمشاكلته، وإلّا، المصلح له أجر وثواب على ذلك، بل لو لم يفعله كان عليه إثم، ثمّ قال في مجمع البيان: وروي عن رسول اللهصلىاللهعليهوآله أنّه قال: من حضره الموت فوضع وصيّته على كتاب الله كان كفّارة لما صنع من ذنوبه في
حياته، ولعلّ المراد حقوق الله وأمّا سقوط حقوق النّاس بالكلّيّة بمجرّد ذلك فمحلّ التأمّل، ولعلّ هذا الخبر وأمثاله مؤيّد لما تقدّم من سقوط العقاب عن الموصي بمجرّد الوصيّة فتأمّل.
الثانية( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ ) أي الإشهاد الّذي شرع بينكم وأمرتم به فهي مبتدأ( إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) أي وقت حضور الموت وإشرافه عليكم قبل أن تموتوا وتفارقكم الروح والقدرة على التكلّم والوصيّة( حِينَ الْوَصِيَّةِ ) يمكن كونه بدلا من إذا حضر. قيل أو ظرف حضر، فيه شيء، والأوّل أولى، ويمكن كونه ظرفا آخر للإشهاد( اثْنانِ ) خبر الشهادة أو فاعل سادّ مسدّ الخبر، على حذف المضاف، على التقديرين، أي شهادة اثنين فخذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وأعرب بإعرابه( ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) أي صاحبا عدالة حال كونهما بعضكم أيّها المؤمنون، فهو صفة اثنان، ويحتمل أن يكون «منكم» صفة «ذوا عدل» وهذا كالصريح في اعتبار التعدّد والعدالة في الشهود، فلا يكفي المجهول ولا حسن الظنّ إذ لم يصدق حينئذ إشهاد ذوي عدل الّذي هو شرط في سماع الشهادة وواجب.
( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) ولعلّ المراد أو آخران كذلك أي ذوا عدل من غيركم فهو عطف على اثنان مع التزام حذف للعلم به، ولكن مع كون العدل المعتبر في مذهب الآخر، ولعدم حسن التصريح بتلك العدالة ويحتمل جعله عطفا على منكم وهو أنسب بحسب المعنى، ولكن يصير الآخران كالزائد ويحتمل كونه للتصريح والمبالغة في عدم ترك التعدّد، وإن ترك العدالة الحقيقيّة، ويحتمل الاكتفاء بغير العدل من الغير، بأن لا يقيّد آخران بكذلك، وهو بعيد، وإن كان للضرورة، لأنّ المسلم الغير العدل لا يكفي معها، فغيره بالطريق الأولى، وخصّ الآخران بأهل الذّمة كما قيل في سبب النزول، للإجماع على عدم سماع شهادة الحربيّ على المسلم، بل مطلق الكافر إلّا في هذه المسئلة عند أصحابنا، وأمّا عند غيرهم فمنهم من يقول: إنّ المراد من «غيركم» هو البعيد أي الأجنبيّ «ومنكم» الأقارب، وهو بعيد لسبب النزول وغيره.
أو أنّه منسوخ لدعواهم الإجماع على عدم سماع شهادة الكفّار مطلقا على المسلم، قاله القاضي، والأصل والاستصحاب يقتضي العدم، والإجماع ممنوع لقول علماء الإماميّة ورواياتهم، ولكن مشروط بعدم إمكان المسلم العدل كما يشعر به( إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ) أي سافرتم فيها( فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ) أي قاربكم الأجل فليس بشرط لمطلق هذه الشهادة، بل إشارة إلى اشتراط الانتقال من شهادة العدلين من المسلمين إلى شهادة غيرهما بعدمهما، ولما كان السفر مع حضور الموت غالبا سببا لذلك اكتفى به، وذلك يعلم من قول الأصحاب كأنّ لهم دليلا على ذلك، والفاء للعطف والخبر محذوف من جنس قوله( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) أو هو جزاء مقدّم واعتراض الشرط بين الموصوف والصفة أي( تَحْبِسُونَهُما ) فإنّه صفة لآخران أي تقفونها وتصبّرونهما للإشارة إلى ما قلناه: إنّ سماع شهادة الغير مشروط بالتعذر قاله القاضي أيضا، فهو صريح في عدم كون معنى منكم القريب، ومن غيركم البعيد وفي عدم نسخ الآية فتأمّل، إذ السبب المجوّز هو الضرورة. فيعمل به ما دام وجد فهو إشارة إلى كيفيّة استشهاد الغير.
( مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ ) قيل: صلاة العصر لأنّه وقت اجتماع الناس وقيل مطلق الصلاة وهو الظاهر من الآية «فَيُقْسِمانِ بِاللهِ » أي الآخران( إِنِ ارْتَبْتُمْ ) أي إن ارتاب وشكّ الورّاث في صدقهم أو الحكّام، فهو اعتراض، بناء على قاعدتهم، بين القسم والمقسم عليه أي( لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً ) أي قليلا، يعني لا نستبدل بالقسم أو بالله عوضا من الدنيا، وهو المراد بالثمن القليل، فانّ كلّ ما في الدنيا فهو قليل بالنسبة إلى الآخرة وعقابها، حاصله لا نحلف بالله كاذبين لطمع في الدنيا، للإشارة إلى أنّ القسم إنّما هو مع الارتياب والشكّ فتأمّل.
( وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ) يعني يقسمان ويقولان لا نحلف بالله كاذبا ولو كان المحلوف له قريبا منّا، وقال القاضي جوابه أيضا محذوف أي لا نشتري، وفيه أنّه وصلّي فلا يحتاج إلى تقدير الجزاء، ولعلّه بناء على عادته أنّه دائما يجعل الجزاء محذوفا لا مقدّما، وهنا تقديره سواء كان المحلوف له بعيدا منّا أو قريبا فتأمّل «وَلا نَكْتُمُ
شَهادَةَ اللهِ » أي لا نكتم الشهادة الّتي أمر الله بإقامتها، يحتمل عطفه على المحلوف عليه أي لا نشتري ويحتمل الاستيناف، والأوّل أظهر( إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ ) إن كتمنا الشهادة أو اشترينا بها ثمنا كأنّهم يقولون هذا أيضا في قسمهم.
( فَإِنْ عُثِرَ ) أي اطّلع وحصل العلم( عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً ) أي الآخران استحقّا إثما بسبب تحريف في الشهادة، فيعزلان ولا يسمع شهادتهما( فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ ) أي يقوم اثنان من الورثة الّتي جني عليهم، فعليهم يقوم مقام فاعل استحقّ، «الأوليان» أي الأحقّان بالشهادة للقرابة والمعرفة والإسلام، هو خبر مبتدأ محذوف أي هما الأوليان أو بدل من ضمير يقومان( فَيُقْسِمانِ ) الأوليان( بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ ) بالقبول( مِنْ شَهادَتِهِما ) أي من شهادة الآخران من الغير،( وَ ) إنّا( مَا اعْتَدَيْنا ) وما تجاوزنا الحقّ في الشهادة( إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) إن اعتدينا، فنحن الظالمون بوضع الباطل موضع الحقّ أو ظالمين لأنفسنا، قال القاضي: معنى الآيتين أنّ المحتضر إذا أراد الوصيّة ينبغي أن يشهد عدلين من ذوي نسبه أو دينه على وصيّته، أو يوصي إليهما احتياطا، فان لم يجدهما بأن كان في سفر فآخران من غيرهم.
ثمّ إن وقع نزاع وارتياب أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ، في الوقت فان اطّلع على أنّهما كذبا بأمارة ومظنّة حلف آخران من أولياء الميّت، والحكم منسوخ إن كان الاثنان شاهدين فإنّه لا يحلف الشاهد ولا يعارض يمينه بيمين الوارث وثابت إن كانا وصيّين، وردّ اليمين إلى الورثة إما لظهور خيانة الوصيّين، فانّ تصديق الوصيّ باليمين لأمانته، أو لتغيير الدعوى [اه] وفيه أنّ الظاهر من الآية الإشهاد على الوجه المذكور لا أنّه إن أراد الوصيّة يفعل ذلك احتياطا، ويقول الأصحاب إنّ الوصيّة واجبة، ويدلّ عليه الرواية عنهمعليهمالسلام ولأنّه قد يكون عليه شيء أوله شيء فبترك الوصيّة يضيع ويتلف وذلك غير جائز.
فأمّا النسخ الّذي ذكره فقد ذكر أوّلا أنّها منسوخة على تقدير كون المراد بآخر أن الكفّار، وهنا ذكر أنّه منسوخ على تقدير كونهما شاهدين مطلقا، لعدم
الحلف على الشاهد، وأيضا ظاهر الآية أنّهما شاهدان كما هو أيضا فسّرها به لا أن يوصي إليهما احتياطا، وحلف الشاهد لنصّ خاصّ في صورة كونه كافرا ليس ببعيد، كما كان ثمّ نسخ على قوله، وليس بمعارض لحلف الوارث إذ مع حلف الشهود لا حلف للورثة وثبوت الحكم [وهو الحلف] في الوصيّين أيضا غير ظاهر إذا الوصيّ أيضا لا حلف عليه، لأنّه ليس ممّن لو لم يحلف يلزمه شيء، وهو ضابط اليمين إلّا ما خرج بدليل، ولا يعارض به يمين الوارث، فإنّه جوّز ذلك لدليل وهو الآية فيمكن جوازه في الشاهد أيضا للآية، بل هو أولى لظهورها في الشاهد، ثمّ قال بعد قوله أو لتغيير الدعوى: إذ روي أنّ تميما الداريّ وعدىّ بن بندي خرجا إلى الشام للتجارة، وكانا حينئذ نصرانيّين ومعهما بديل مولى عمرو ابن العاص، وكان مسلما، فلمّا قدم الشام مرض بديل فدوّن ما معه في صحيفة وطرحها في متاعه، ولم يخبرهما به، وأوصى إليهما أن يدفعا متاعه إلى أهله ومات ففتّشاه وأخذا منه إناء من فضّة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذهب فغيّباه، فأصاب أهله الصحيفة وطالبوهما بالإناء فجحدا، فترافعوا إلى رسول اللهصلىاللهعليهوآله فنزلت فحلّفهما رسول اللهصلىاللهعليهوآله بعد صلاة العصر عند المنبر وخلّى سبيلهما، ثمّ وجد الإناء في أيديهما فأتاهم بنو سهم في ذلك فقالا قد اشترينا منه، ولكن لم يكن لنا عليه بيّنة فكرهنا أن نقرّ به، فرفعوهما إلى رسول اللهصلىاللهعليهوآله فنزلت( فَإِنْ عُثِرَ ) فقام عمرو بن العاص والمطّلب بن أبي رفاعة السهميّان وحلفا(1) ولعلّ تخصيص العدد لخصوص الواقعة، وفيه مخالفة بعض القواعد الفقهيّة مثل تجديد الدعوى بعد الإحلاف، وأخذ المال. فتأمّل فيه، فإنّه يمكن انطباقه عليها، وحلف المدّعي، ويمكن جعله منكرا، للشراء، ولكن كيف يمكن الحلف عليه مع غيبتهم عن الميّت، فكأنّهم اكتفوا بالخطّ والقرائن أو على نفي العلم.
( ذلِكَ ) قال القاضي أي الحكم الّذي تقدّم أو تحليف الشاهدين( أَدْنى )
__________________
(1) راجع الكافي ج 7 ص 5، مجمع البيان ج 3 ص 256 و 259، الإصابة ج 2 ص 460 وج 1 ص 186، سنن أبى داود ج 2 ص 276.
أي أقرب إلى( أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها ) على نحو ما حمّلوها من غير تحريف وخيانة فيها( أَوْ يَخافُوا ) أقرب إلى أن يخافوا( أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ) أن يردّوا اليمين على المدّعين بعد أيمانهم، فيفتضحوا بظهور الخيانة واليمين الكاذبة وإنّما جمع الضمير لأنّه حكم يعمّ الشهود كلّهم، وهذا تصريح منه بأنّ المراد الشهود لا الأوصياء.
( وَاتَّقُوا اللهَ ) في معاصيه بارتكاب أوامره وترك نواهيه، وأقبلوا ما توصون به وأسمعوه بسمع إجابة( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) أي فان لم تتّقوا ولم تسمعوا كنتم قوما فاسقين، والله لا يهديهم إلى حجّة أو إلى طريق الجنّة، بمعنى أنّه يتركهم وأنفسهم حتّى لا يختارون تلك الهداية بل الضلالة.
وليتبع به النظر في حال أولاده وحفظ أموالهم، وهو البحث عن اليتامى وفيه آيات:
الاولى: ( وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً ) (1) .
أمر الله تعالى أوّلا المكلّفين الّذين بأيديهم أموال من لا أب له من الأطفال بأن يعطوهم إمّا بأن يسلموا إلى أوليائهم إن لم يكونوا أولياء، وبأن يطعموهم إن كانوا أولياء، أو إليهم ولكن بعد البلوغ والرشد بالدليل العقليّ والنقليّ، وهو ظاهر، فيكون اليتيم حينئذ مجازا لأنّه في اللغة من مات أبوه مع عدم بلوغه، باعتبار ما كان قبل البلوغ، وعبّر به للإشارة إلى المبالغة في عدم التأخير بعد تحقّقهما ثمّ نهى عن استبدال أموالهم الّتي هو خبيث أي رديء بالنسبة إلى الآخرة يعني به الحرام، وإن كان جيّدا صورة ونفعا في الدنيا، بأموال أنفسهم الحلال الطيّب أي لا تتصرّفوا في أموالهم بدل تصرّفكم في أموالكم.
فهي نهي لتحريم التصرّف في أموالهم، وإشارة إلى أنّ ذلك خبيث، والتصرّف
__________________
(1) النساء: 2.
في أموال أنفسهم طيّب، لأنّ الخبيث والطيّب إنّما يكون باعتبار العاقبة، ويحتمل أن يكون معناه لا تبدّلوا الخبيث بالطيّب، أي لا تعطوا الخبيث من أموالكم بالطيّب من أموالهم، قيل: كانوا يأخذون الطيّب مثل السمين من أموال الأيتام، ويخلّون بدله الخبيث المهزول من أموالهم، فنهوا عن ذلك، ثمّ أكّد التحريم بعدم جواز أكل أموالهم، ولو كان قليلا أو التصرّف مطلقا، ويكون الأكل كناية عنه بانضمام شيء منها إلى أموالكم فيفهم الانفراد بالطريق الأولى، ويحتمل أنّه كان الواقع ذلك فنهى عنه، فأكّد بأنّ ذلك الأكل كان ذنبا عظيما، وهذه مخصّصة فإنّ أكل مقدار اجرة المثل أو ما يحتاج إليه الوصيّ لما دلّ عليه قوله( فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) جائز، وكذا أكل أموالهم بالانضمام مع التخمين، بحيث يعلم عدم أكل زيادة على أموالهم، لما روي أنّه لما نزلت هذه الآية كرهوا مخالطة اليتامى فشقّ ذلك عليهم، فشكوا ذلك إلى رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم فأنزل الله سبحانه( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ) الآية قال في مجمع البيان وهو المرويّ عن السيّدين الباقر والصادقعليهماالسلام فتأمّل.
الثانية: ( وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً ) (1) .
الابتلاء هو الاختبار والامتحان وهو هنا تتبّع أحوال اليتامى حتّى يتبيّن حالهم من الرشد، فان ثبت يعطوا أموالهم وإلّا فيترك حتّى يتبيّن، وقد بيّنا في شرح الإرشاد كون الابتلاء قبل البلوغ أو بعده وظاهر قوله( فَإِنْ آنَسْتُمْ ) إلخ كونه بعد البلوغ لأنّه أوجب الله تعالى دفع الأموال إليهم بعد إيناس الرشد، فلو كان
__________________
(1) النساء: 5.
الامتحان قبله لما جاز ذلك فكيف الوجوب، ولا يدلّ «اليتامى» على كونه قبل البلوغ فإنّ إطلاقه على البالغ خصوصا القريب إلى حال البلوغ الممنوع من التصرّف في ماله باعتبار ما كان شائع ذائع كما مرّ، ولكن يدلّ على كونه قبل البلوغ دلالة واضحة فيقيد الدفع بما بعده أيضا.
قوله تعالى( حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ ) أي حدّ البلوغ بأن يقدروا على الوطي الّذي يحصل معه المني بحصول المنيّ أو السنّ، وهو عند الأصحاب بلوغ خمسة عشر سنة في الذكر وتسعة في الأنثى على المشهور للاستصحاب، ودلالة الآية على عدم البلوغ حتّى يبلغ النكاح أو الحلم، وهو ظاهر في عدم الحصول إلّا بالمنيّ وخرج خمسة عشرة والتسعة بالإجماع كما في حصول المنيّ وبقي الباقي ولكن يدلّ على الأقلّ بعض الأخبار ويمكن الجمع بالحمل على الشروع في الخمسة عشر ولكن ظاهر خبر حصوله بأربعة عشر وثلاثة عشر(1) ، وكأنّه صحيح على تقدير توثيق الحسن بن عليّ الوشاء، وهو لا بأس به، ولكنّ الخروج عمّا تقدم بمجرّد خبر مع عدم توثيق رواية صريحا، ونقل الشيخ في التهذيب أنّه كان واقفيّا ثمّ رجع، مشكل. إلّا أنّه يظهر من كلامهم عدم التوقّف في توثيقه فإنّهم يسمّون الخبر الّذي هو فيه بالصحّة، ولا يذكرون ذكر الشيخ أنّه كان واقفيّا ثمّ رجع، وكأنّه للرجوع تركوه فتأمّل، ويمكن حملها على الشروع في الخمسة عشر، ولا بأس، وعلى ظهور علامة أخرى فتأمّل أو الحيض في الأنثى ولا يلتفت إلى الدور الموهوم لظهور دفعه، ولا إلى أنّه علامة لسبق البلوغ ولا يحصل به البلوغ لأنّ المراد ما يعلم به بلا فصل وهو حاصل، أو الإنبات فيهما على ما ذكروه ويمكن أن يكون المعنى فان آنستم بعد البلوغ بل هو الظاهر منه وإن كان الامتحان قبله والدفع بعد إيناس الرشد ولا يستلزم كون الامتحان بعده لاحتمال أن يكون قبله حتّى علم الرشد بعده، ويؤيّده أنّه لا يلزم حينئذ منع المستحقّ عن حقّه فتأمّل.
__________________
(1) الكافي ج 7 ص 69، الفقيه ج 4 ص 164 والحديث صحيح على اصطلاحهم.