قيل: قذر يعاف عند العقول وأفراده لأنّه جنس أو لأنّه خبر للخمر، وخبر المعطوفات محذوف من جنسه، ويدلّ هو عليه، أو المضاف محذوف، وكأنّه قيل إنّما تعاطي الخمر الآية ويحتمل أن يكون خبرا عن كلّ واحد واحد( مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) صفة رجس أو خبر آخر، نسب إليه لأنّه من تزيينه.
( فَاجْتَنِبُوهُ ) يحتمل كون الضمير راجعا إلى كلّ واحد من المذكورات أو المنهيّ عنه المفهوم، أو الرّجس، أو عمل الشيطان، أو التعاطي،( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) لكي تفلحوا بالاجتناب عمّا نهى عنه، وفي الآية مبالغة زائدة من وجوه شتّى في تحريم الخمر والميسر من جهة المقارنة بالأصنام الّتي عبادتها كفر، والحصر بأنّه ليس إلّا الرجس، ثمّ كونه من عمل الشيطان. ثمّ الأمر بالاجتناب بعد ذلك كلّه والتصدير بإنّما والاشعار بأنّ شاربها لا يفلح ثمّ التأكيد ببيان ضررها بقوله( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ ) و( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) (١) وبعده بالأمر بطاعة الله ورسوله فيما أمرا به ونهيا عنه، والحذر. وغير ذلك فتأمل.
وفي الآية دلالة على تحريم تعاطي هذه الأشياء المذكورة في الخمر بالشرب قال في مجمع البيان الخمر عصير العنب المشتدّ وهو العصير الّذي يسكر كثيره، ونقل عن ابن عبّاس أنّ المراد بالخمر جميع الأشربة التي تسكر( وَالْمَيْسِرُ ) أي القمار كلّه بلعبه( وَالْأَنْصابُ ) بالتعظيم والعبادة لها جمع نصب، وهو الصنم( وَالْأَزْلامُ ) بالاستقسام وهي الأقداح والسهام كانوا يستقسمون بها لحوم الجزور في الجاهليّة ونهوا عنه وهو مشهور قال في مجمع البيان في الكلام حذف والمعنى شرب الخمر وتناوله أو التصرّف فيه وعبادة الأنصاب والاستقسام بالأزلام( رِجْسٌ ) أي خبيث إلى قوله: والرجس واقع على الخمر وما ذكر بعدها.
وفي هذه الآية دلالة على تحريم سائر التصرّفات في الخمر من الشرب والبيع
__________________
(١) والآية ذيل الآية السابقة هكذا: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون، وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا الآية.
والشراء والاستعمال على جميع الوجوه ولا دلالة فيها على نجاسة الخمر، ولهذا قال الصدوق: إنّ اللهعزوجل حرّم شربها لا الصلاة في ثوب أصابته فتأمّل والأخبار مختلفة في ذلك، والأصل يؤيّده، نعم إن ثبت كون الرجس بمعنى النجس الشرعيّ فقطّ لدلّت عليها لكن قال في القاموس(١) إنّ الرّجس بالكسر القذر وبحرّك وتفتح الراء وتكسر الجيم والمأثم وكلّ ما استقذر من العمل، والعمل المؤدّي إلى العذاب والشكّ والعقاب والغضب، ورجس كفرح وكرم رجاسة عمل عملا قبيحا.
قال في مجمع البيان قال الزّجاج: الرجس في اللغة اسم لكلّ ما استقذر من عمل يقال رجس يرجس إذا عمل عملا قبيحا فالإجماع الّذي على كون الرجس بمعنى النجس في التهذيب غير معلوم، بل كونه بمعنى النجس الشرعيّ، إذ ما يفهم ذلك إلّا من القذر، وكونه بذلك المعنى غير ظاهر، والظاهر أنّه بمعنى المأثم أو الفعل المؤدّي إلى العقاب أو القبيح كما في آية التطهير ليصحّ كونه خبرا عن الميسر وغيره أيضا وإن سلّم مجيئه بمعنى النجس وبالجملة لا دلالة فيها على نجاسة الخمر وهو ظاهر بل لا دلالة في الأخبار(٢) أيضا لاختلافها والجمع بحمل ما يدلّ على وجوب الغسل على الاستحباب أولى من حمل ما يدلّ على عدمه على التقية(٣) .
العاشرة: ( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) (٤) .
قيل في معناه أمور كثيرة، والمتبادر هو الأمر بتطهير الثياب عن النجاسات مؤيّدا بأنّ الكفّار ما كانوا يتطهّرون من النجاسة بأن لا تنجّسها وإن نجست
__________________
(١) يفهم منه كون القذر ليس بمعنى النجاسة الشرعية فافهم، منهرحمهالله .
(٢) الوسائل الباب ٣٨ من أبواب النجاسات.
(٣) وممن قال بطهارة الخمر: الصدوق وأبوه والجعفي والعماني من المتقدمين وجماعة من المتأخرين كالمحقق الخوانساري وصاحب المدارك وقال به من أهل السنة ربيعة شيخ الامام مالك، وحكى عن حبل المتين أنه قال: أطبق علماؤنا الخاصة والعامة على نجاسة الخمر، إلا شرذمة منا ومنهم لم يعتد الفريقان بمخالفتهم.
(٤) المدثر: ٤.
تطهّرها بالماء المطلق لأنّه المفهوم من التطهير إذ لا عرف في التطهير بغيره، فدلّت على وجوب طهارة الثياب، وكونها بالماء المعروف لا غير، وأنّ صدقه يكفي للطهارة من غير عصر، ولا ورود ولا عدد، إلّا ما أخرجه الدليل من إجماع أو خبر والتفصيل معلوم من كتب الفروع، وإن أريد تقصير الثياب كما قيل ونقل عن الصادقعليهالسلام أيضا فيمكن فهم الطهارة حينئذ أيضا لأنّها المقصود من التقصير كما علّل القائل به، وفي الرواية تشمير الثياب طهور لها، قال الله تعالى( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) أي فشمر(١) ويحتمل أن يكون المراد التنظيف الّذي هو الطهارة لغة، فانّ النظافة مطلوبة للشّارع بإزالة الوسخ ونحوه، ففهم وجوب الطهارة الشرعيّة محلّ تأمّل ولكن ظاهر الأمر الوجوب، ومعلوم عدم الوجوب غير الشرعيّة، ولهذا على تقدير حملها على الشرعيّة ما حملت على الأعمّ من أن يكون فيما يجب إزالة النجاسة فيه مثل الصلاة، أم لا. بل خصّت بالأوّل فتأمل( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) أي خصّ الرجز بوجوب الاجتناب، والحصر إضافيّ أو يكون التقديم لغيره، قيل الرجز بالضمّ والكسر هو الصنم، والمراد عدم عبادته وعدم تعظيمه والثبات على هجره، فإنهصلىاللهعليهوآلهوسلم كان بريئا منه، لم يزل ولا يزال، ويحتمل أن يكون المراد أعمّ، فيدخل غيرهصلىاللهعليهوآله وترك من أهله(٢) ورعيّته أو كسره وإهانته بمهما أمكن لهصلىاللهعليهوآله أو أعمّ، وقيل الرجز هو العذاب والمراد وجوب اجتناب موجبه وهو الشرك وعبادة الأصنام وغيره من المعاصي مطلقا، وقيل بالضمّ الصنم وبالكسر العذاب قال في القاموس الرجز بالكسر والضمّ: القذر وعبادة الأوثان، والعذاب والشرك، فعلى الأوّل يكون تأكيدا لقوله( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) وتفسيرا له وهو هنا المناسب لتكبير الصلاة وطهارة الثياب وعلى هذا حمل في بعض استدلالات الأصحاب وقيل معناه أخرج حبّ الدنيا عن قلبك لأنّه رأس كلّ خطيئة.
__________________
(١) الكافي ج ٦: ٤٥٥.
(٢) عطف على قوله المراد عبادته إلخ.
الحادية عشرة: ( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (١) .
الابتلاء هو الاختبار والامتحان والكلمات هي التكاليف الشاقّة على بعض الاحتمالات مثل ذبح الولد وغيره من تكاليفه المذكورة في التفاسير، وقيل هي السنن الحنيفيّة العشر خمس في الرأس وخمس في البدن أمّا الرأس فالمضمضة، والاستنشاق والفرق، وقصّ الشارب، والسواك، وأمّا البدن فالختان، وحلق العانة، وتقليم الأظفار، ونتف الإبطين والاستنجاء بالماء(٢) ونسخ شريعة نبيّناصلىاللهعليهوآله شريعة من قبلنا لا ينافي إثبات بعض أحكامها لأنّ المراد نسخ المجموع من حيث هو مجموع والإتمام هنا هو فعل التكاليف تامّا، وعلى ما أمر به، والامام: المقتدى به في أفعاله وأقواله، وهو أحد معنيي الإمام في مجمع البيان وفي الكشّاف هو اسم لمن يؤتمّ به كالإزار لما يؤتزر به، يعني يأتمّون بك في دينهم، والذرّية هو النسل ومن يحصل من الشخص من الأولاد، والنيل هو الوصول والإدراك، والعهد هو الإمامة كما هو الظاهر وفي مجمع البيان وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهماالسلام .
والظلم كأنّه الفسق الّذي يصير به الإنسان غير عدل كما يفهم من الكشّاف حيث قال فيه: وإنّما ينال عهدي من كان عادلا بريئا من الظلم، وإذ ظرف اذكر المحذوف في أمثاله، والمخاطب هو نبيّناصلىاللهعليهوآله . وإبراهيم مفعول ابتلى «وربّه» فاعله، والضمير المضاف إليه راجع إلى إبراهيم و «بكلمات» متعلّقة بابتلى وفاء فأتمهنّ للتعقيب وهو فعل ومفعول وفاعله ضمير إبراهيم، وفاعل قال ضمير الربّ والياء اسم إنّ، وجاعل خبره: مضاف إلى الكاف الّذي هو مفعوله الأوّل والثاني إماما، وللناس إمّا متعلّق به أو بمقدّر حال عن إماما، وضمير قال لإبراهيم والواو للاستيناف ومن ابتدائيّة أو زائدة، لوجود زيادتها في المثبت، أو للتبعيض مفعول
__________________
(١) البقرة: ١٢٤.
(٢) راجع تفسير البرهان ذيل الآية الشريفة، الوسائل ب ١ من أبواب السواك الحديث ٢٣.
فعل مقدّر، والتقدير واجعل أو تجعل ذرّيتي أو بعض ذرّيتي إماما أيضا على طريق السؤال، ويحتمل [كون] العطف على محذوف والتقدير واجعلني إماما واجعل بعض ذرّيتي أيضا كذلك.
وأمّا عطفه على الكاف في «جاعلك» كما قاله صاحب الكشّاف والقاضي البيضاويّ فممّا لا أعرف له وجه صحّة لأنه حينئذ يصير بعض الذرية مفعولا أوّلا للجعل الّذي أخبر الله تعالى بفعله، فيكون من تتمّة قوله، فيلزم أن يكون ذلك البعض أيضا إماما مخبرا بجعله كذلك مع أنّه من كلام إبراهيم وسؤاله الإمامة فكأنّ مقصودهما أنّه يسأل الله تعالى أن يجعل البعض أيضا مفعول الجعل مثله، كما قلناه، والعبارة وقعت قاصرة عنه، ومفيدة لغيره كما ترى.
وقد قال صاحب الكشّاف مثله في قوله تعالى بعد هذه الآية( وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ ) فإنّه قال( وَمَنْ كَفَرَ ) عطف على( مَنْ آمَنَ ) كما عطف ومن ذرّيتي على الكاف في «جاعلك» فزادنا الحيرة و( لا يَنالُ ) فعل فاعله عهدي والظالمين مفعوله، ولا شكّ أنّه أولى من العكس كما قرئ على ما نقل(١) إذ إسناد النيل إلى العهد أولى فإنّه النائل، لا أنّهم يصلون إليه وينالونه، وإن صحّ ذلك أيضا لأنّه من الجانبين.
ثمّ اعلم أنّ صاحب الكشاف استدلّ بهذه الآية على اعتبار العدالة في الإمام حيث قال: وقالوا في هذا دليل على أنّ الفاسق لا يصلح للإمامة، وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته، ولا تجب طاعته، ولا يقبل خبره، ولا يقدّم للصلاة انتهى فيفهم منه المبالغة في ذلك الاشتراط، ونقل عن أبي حنيفة أيضا ما يدلّ عليه، حيث قال: كان يعني أبا حنيفة يقول في المنصور وأشياعه لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على عدّ أجره لما فعلت، وعن ابن عيينة لا يكون الظالم إماما قطّ وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة والامام إنّما هو لكفّ الظلمة، فإذا نصب من كان ظالما في نفسه فقد جاء المثل السائر «من استرعي الذّئب ظلم» انتهى. وأيضا
__________________
(١) نقل عن ابن مسعود أنه قرأ: لا ينال عهدي الظالمون.
يفهم من كلامه اشتراط العدالة في القاضي والشاهد والراوي وإمام الجماعة مع أنّه حنفيّ المذهب كما هو المشهور والظاهر من كلامه، وخلاف ذلك كلّه مشهور عنه، والمعمول عندهم.
وفي الاستدلال تأمّل إذا الواسطة بين الظلم والعدل ثابتة، فلا يلزم من مانعية الأوّل(١) للإمامة اشتراط الثاني لها، وهو ظاهر ولعلّه يريد به غيره أو يضمّ معه عدم القول بالواسطة أي كلّ من لم يجوّزها للفاسق لم يجوّزها لغير العدل ويمكن الاستدلال بها على اشتراطها في إمام الجماعة، بمعنى عدم تجويز إمامة الفاسق لصدق الامام عليه بالتفسير الماضي، وإن كان المقصود بالسؤال هو الخلافة والإمامة المطلقة إذ لا يبعد كون المراد بالعهد ما هو الأعمّ منها أي ما اجوّز تفويض أمري إلى الظالم، فإنّه غير معقول، بل ظلم كما يفهم من الكشّاف، ولا شكّ في كون تجويز إمامة الفاسق للجماعة تفويض أمر عظيم إليه، وقد فسّر عهد الله بأمره ووصيّته في مجمع البيان، حيث قال في تفسير( وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ ) وعهد الله وصيّته وأمره يقال عهد الخليفة إلى فلان كذا أي أمره وأوصى به ولاشتراك(٢) علّيّة منع الفاسق من مطلق الإمامة فيه، كما يظهر من كلام صاحب الكشّاف وكذا في القاضي والشاهد والراوي فتأمّل فإنّ الغرض إظهار الإشعار في الآية بما ذكرناه، وإنّما الاعتماد على غيرها من الآيات والروايات وإجماع الأصحاب والاحتياط.
وقال القاضي: وفيه دليل على عصمة الأنبياء من الكبائر قبل البعثة، وأنّ الفاسق لا يصلح للإمامة(٣) والأولى أن يقول: ولو قبل البعثة، ولعلّ وجه الدلالة أنّ فاعل الكبيرة وقتا ما يصدق عليه أنّه ظالم في الجملة، وقد نفى الله العهد الّذي هو الإمامة مطلقا عمّن صدق عليه أنّه ظالم في الجملة، وهو ظاهر على تقدير كون
__________________
(١) فلا يلزم من نفى ما نفيه الأول خ. من نفى مانعية الأول خ. من نفيه الأول: ظ.
(٢) عود إلى كلامه قبل ذلك «لصدق الامام عليه» إلخ.
(٣) تفسير البيضاوي: ٤١.
المشتقّ حقيقة لمن اتّصف به وقتا ما، وكذا على تقدير كونه حقيقة حين اتّصاف المشتقّ بالمبدء فقطّ: فانّ ذلك ليس بمراد هاهنا، فيتعيّن الأوّل.
[فقد نفى الله العهد الّذي هو الإمامة عمّن صدق عليه أنّه ظالم في الجملة](١) .
فحاصله أنّ الّذي اتّصف أو يتّصف بالظلم بالفعل أي وقتا مّا أو بالإمكان على الخلاف بين المنطقيّين لا تناله الإمامة، وتخصيصه بوقت دون وقت آخر يخرجه عن ظاهره ولا يجوز ذلك إلّا بدليل يجوّز تخصيص مثله بمثله وليس، وكذا الكلام في الامام والخليفة فلزم من كلامه عدم جواز كون من اتّصف بفسق مّا وقتا مّا نبيّا وإماما فلا بدّ من كونهم معصومين من أوّل عمرهم إلى آخره من الكبائر على زعمه أيضا وهو خلاف مذهب الأشاعرة بل خلاف معتقده، فإنّه يعتقد وقوع الكبائر منهم مثل ما وقع من آدم على نبيّنا وآله وعليهالسلام فإنّه سمّي بالعصيان والظلم أيضا في قوله تعالى: «وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ .فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٢) » بل بوقوع الكفر ممّن يعتقد إمامته إلّا أن يؤوّل ذلك بالصغائر وتختصّ الآية بالنبوّة، وهو بعيد، إذ الظاهر أنّ العهد هو الإمامة وهي أعمّ كما ذهب إليه صاحب الكشّاف كما مرّ وفهم من كلام القاضي أيضا حيث قال: وإنّ الفاسق لا يصلح للإمامة بعد إثبات العصمة للأنبياء قبل البعثة، وأيضا للعلّة الظاهرة من الآية وهي الظلم.
وكذا استدلال الأصحاب بها على وجوب العصمة عن الذنوب مطلقا للنبيّصلىاللهعليهوآله والإمام، فكأنّهم نظروا إلى أنّ الظلم في الأصل هو انتقاص الحقّ، وقيل وضع الشيء في غير موضعه من قولهم «ومن أشبه أباه فما ظلم(٣) » أي فما وضع الشبه في غير موضعه كذا في مجمع البيان أو التعدّي عن حدود الله كما يفهم من قوله تعالى( وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) (٤) وغيره إذ لا شكّ أنّ فعل الصغيرة خروج عن الاستقامة والطاعة، وأنّه نقص ووضع في غير المحلّ، وتعدّ عن
__________________
(١) تكرر هذه العبارة هنا في كل النسخ، والظاهر أنها سهو.
(٢) طه: ١٢١ والآية الثانية في البقرة، ٣٥، الأعراف: ١٩.
(٣) كقول الشاعر
وبأبه اقتدى عدي في الكرم |
ومن يشابه أبه فما ظلم |
(٤) الطلاق: ١.
الحدود، إذ حدود الله هي الأوامر والنواهي وأيضا ترك حكم الله ورفضه لا يتفاوت فيه الحال بالكبر والصّغر، فإنّه يكون عاصيا سيّما بالنسبة إلى الأنبياء والأئمّة [المعصومين] عليهم أفضل الصّلوات والتسليمات على أنّ البعض لم يقل بالصغيرة، بل يقول: الذنوب كلّها كبائر.
وبالجملة الّذي نقلته عن القاضي ههنا مع عدم انطباقه على مذهبه، وبعض قوانين الأصول عندهم مثل مجازيّة صدق المشتقّ على من انقضى عنه المبدء، وإلّا يلزم صدق الكافر حقيقة على أكابر الصّحابة، وتعليق الحكم على المشتقّ يفيد علّيّة المبدء له حين الاتّصاف، وأنّ الحكم حين وجود العلّة مثل أكرم العلماء، يدلّ على صدوره عنه بغير رويّة وإجرائه على لسانه ليكون حجّة عليه، وفضيحة له عند الله وعند الناس، كما هو الموجود مثله في غير هذا المحلّ أيضا منه ومن غيره أيضا كثيرا كما سيظهر لك إذا تأملت كلامهم وسيجيء بعضه إنشاء الله وقد أشرت إليها في مواضع [شتّى] سأجمعها إنشاء الله.
كتاب الصلاة
وهو يتنوّع أنواعا الأوّل في البحث عنها بقول مطلق وفيه آيات:
الاولى:( إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ) (١) .
مفروضة أو موقّتة فلا تضيّعوها ولا تخلّوا بشرائطها وأوقاتها، وسيأتي تتمّة البحث فيها إنشاء الله تعالى.
الثانية:( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ ) (٢) .
كأنّ الأمر بمحافظة الصّلوات بالأداء لوقتها، والمداومة عليها، بعد بيان أحكام الأزواج والأولاد لئلّا يلهيهم الاشتغال بهم عنها و «الوسطى» تأنيث الأوسط من الوسط أي البين أو الفضل، وخصّها بعد العموم للاهتمام بحفظها، لأفضليّتها قيل: هي الظهر، وهو المرويّ عن الباقر والصادق(٣) عليهماالسلام كذا في مجمع البيان وقيل: العصر يدلّ عليه الرواية عنهصلىاللهعليهوآله : شغلونا عن الصّلاة الوسطى صلاة العصر(٤) وقيل: كلّ واحدة من الصلوات الخمس، ولكنّ وجه ظاهر، وقيل هي مخفيّة مثل ليلة القدر، وساعة الإجابة، واسم الله الأعظم، لأن يهتمّوا بالكلّ غاية الاهتمام، ويدركوا الفضيلة في الكلّ، فهي تدلّ على جواز العمل المعيّن لوقت من غير جزم بوجوده، مثل عمل ليلة القدر، والعيد، وأوّل رجب وغيرها مع عدم ثبوت الهلال، وقد صرّح بذلك في الأخبار فلا يشترط الجزم في النيّة، ولهذا جاز الترديد فيها ليلة الشكّ فافهم.
( وَقُومُوا لِلَّهِ ) في الصّلاة( قانِتِينَ ) ذاكرين لله في قيامكم، والقنوت أن يذكر
__________________
(١) النساء: ١٠٢.
(٢) البقرة: ٢٣٨.
(٣) وراجع الوسائل الباب ٥ من أبواب أعداد الفرائض، تفسير العياشي ج ١ ص ١٢٧.
(٤) سنن أبى داود ج ١ ص ٩٧.
الله قائما وقيل كانوا يتكلّمون في الصّلاة فنهوا عنه وقيل هو الركود وكفّ الأيدي والبصر كذا في الكشّاف.
قال في مجمع البيان( وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ ) قال ابن عبّاس معناه داعين والقنوت هو الدعاء في الصلاة حال القيام، وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهماالسلام (١) وقيل طائعين وقيل خاشعين وقيل ساكتين والذكر أنسب من الدعاء فإنّه أعمّ والأصحاب لا يشترطون الدعاء في القنوت فإنّهم يجعلون كلمات الفرج أفضله، وليس فيها دعاء فدلّت الآية على وجوب محافظة الصّلوات خرج ما ليس بواجبة منها إجماعا بقي الباقي منها تحت العموم فلا يبعد الاستدلال بها على وجوب الجمعة والعيدين والآيات أيضا.
واستدلّ بها على وجوب القنوت فيها، وفيه تأمّل، لاحتمال معان أخر كما مرّ، وعدم ثبوت كونه بالمعنى المتعارف عند الفقهاء واحتمال كونه مخصوصا بالوسطى كما قيل، ولأنّه أمر بالقيام فهو إمّا قيام حقيقيّ أو كناية عن الاشتغال بالعبادة لله تعالى في حال القنوت فالواجب حينئذ هو القيام حال القنوت لا القنوت، وإن احتمل حينئذ وجوب القنوت أيضا إذ على تقدير تركه ما وجد المأمور به، وهو القيام حال القنوت فوجوبه يستلزم وجوبه، لكن وجوبه غير معلوم القائل، وعلى تقديره يكون مشروطا أي إن قنتّم فقوموا، والأصل عدم الوجوب وهو مذهب الأكثر، وأنّه ليس في روايتي تعليم النبيّصلىاللهعليهوآله صلاة الأعرابيّ والصادقعليهالسلام حمّاد بن عيسى وغيرهما(٢) من الروايات، فالاستحباب غير بعيد، ويمكن حمل الآية عليه فتأمّل.
الثالثة: ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى ) (٣) .
أي أقبل أنت مع أهلك على عبادة الله والصلاة، واستعينوا بها على حاجتكم
__________________
(١) الكافي ج ٣ ص ٣٤٠.
(٢) الفقيه ج ١ ص ١٠٦، التهذيب ج ١ ص ١٥٧.
(٣) طه: ١٣٢.
ولا تهتمّ بأمر الرزق والمعيشة، فانّ رزقك يأتيك من عندنا، ونحن رازقوك، ولا نسألك إن ترزق نفسك ولا أهلك، ففرّغ بالك لأمر الآخرة، وعن عروة بن الزبير أنّه كان إذا رأى ما عند السلاطين قرأ «وَلا تَمُدَّنَ الآية»(١) ثم ينادي الصلاة الصلاة رحمكم الله، وعن بكر بن عبد الله المزنيّ كان إذا أصاب أهله خصاصة قال: قوموا وصلّوا، بهذا أمر الله رسولهصلىاللهعليهوآله ثمّ يتلو هذه الآية.
ثمّ ظاهر الآية وجوب أمر أهله بالصلاة فقطّ ولعلّ المراد وجوبها على الآمر بها أيضا وترك للظهور إذ هو مأمور بالصّبر عليها، وعدم جعل طلب الرزق وكسبه مانعا عن ذلك، معلّلا بأنّه يأتيه من عند الله ما يحتاج إليه هو وأهله من غير سبب وكسب، وتخصيص الأهل يحتمل لكثرة الاهتمام، وكونه معهم دائما وكون رزقهم مانعا.
فيحتمل المضمون ترك الكسب للرزق بالكلّية، والتوجّه إلى الأمر بالمعروف والتصبّر على مشاقّة الصلاة والأمر بها، وعدم تكليفه برزق نفسه وعياله، ويكون ذلك من خصائصه، ويحتمل العموم إن توجّه إليها غيرهصلىاللهعليهوآله مثل توجّهه إليها كما في آيات أخر(٢) ولهذا قيل من كان في عمل الله كان الله في عمله، وقال بعض الفقهاء: طالب العلم المتّقي لا يحتاج إلى الكسب للرزق فإنّه يأتيه من عند الله بغير كسب من حيث لا يحتسب.
وفي مجمع البيان: واءمر يا محمّد أهل بيتك وأهل دينك بالصّلاة وروى أبو سعيد الخدري قال: لمّا نزلت هذه الآية كان رسول اللهصلىاللهعليهوآله يأتي باب فاطمة وعليّعليهماالسلام تسعة أشهر عند كلّ صلاة فيقول: الصلاة الصلاة رحمكم الله إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا، ورواه ابن عقدة بإسناده بطرق كثيرة عن أهل البيت عليهم الصلاة والسلام وغيرهم، مثل أبي برذة وأبي رافع(٣) وقال أبو جعفر عليه الصلاة والسلام أمره الله تعالى أن يخصّ أهله دون الناس ليعلم الناس أنّ لأهله
__________________
(١) طه: ١٣١.
(٢) قوله تعالى.( وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) .
(٣) وقد أخرج جميعها في البحار في تاريخ أمير المؤمنينعليهالسلام الباب الخامس.
عند الله منزلة ليست للناس، فأمرهم مع الناس، ثمّ أمرهم خاصّة(١) هذا يدلّ على أنّ المراد بأهلك من يختصّ به من أهله لا أهل دينه أيضا.
( وَاصْطَبِرْ عَلَيْها ) أي على فعلها وعلى أمرهم بها، وعلى مشاقّ ذلك( لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً ) لا لخلقنا ولا لنفسك، بل كلّفناك العبادة وأداء الرسالة وضمنّا رزق الجميع( نَحْنُ نَرْزُقُكَ ) الخطاب للنبيّصلىاللهعليهوآله والمراد به الجميع أي نرزق الخلق جميعهم، ولا نسترزقهم وننفعهم ولا ننتفع بهم، فيكون أبلغ في الامتنان عليهم( وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى ) أي العاقبة المحمودة لأهل التقوى.
واعلم أنّ هذا التفسير لا يناسب رواية أبي جعفر عليه الصلاة والسلام وهو الظاهر، وأنّه خلاف الظاهر، وأنّ ظاهرها اختصاصه بعدم طلب الرزق وأنّه يرزقه، وكذا أهل بيته لا كلّ خلقه، فإنه لا يفهم كعدم فهم أهل دينك من أهلك وهي تدلّ على وجوب الأمر بها والصبر عليها، ولا يبعد فهم الأمر بكلّ المأمور [به] والصبر على التكاليف الشاقّة، وعدم جعل الرزق مانعا عنها، وعدم الاعتداد بالدّنيا وجعلها محمودة، وكون التقوى هي العاقبة المحمودة.
الرابعة: ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ) (٢) .
في مجمع البيان أي خاضعون متواضعون متذلّلون لا يرفعون أبصارهم عن مواضع سجودهم، ولا يلتفتون يمينا ولا شمالا، وروي أنّ النبيّصلىاللهعليهوآله رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال أما إنّه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه، وفي هذا دلالة على أنّ الخشوع في الصلاة يكون بالقلب والجوارح. أمّا بالقلب فهو أن يفرغ قلبه بجميع همّه لها، والاعراض عمّا سواها، فلا يكون فيه غير العبادة والمعبود وأمّا بالجوارح فبغضّ البصر والإقبال إليها، وترك الالتفات والعبث، وفيما ذكر من
__________________
(١) رواه في المجمع ج ٧ ص ٣٧ -
(٢) المؤمنون ١ و ٢ وما بعدها ذيلها.
غضّ البصر، مطلقا تأمل(١) إذ المستحبّ النظر إلى موضع السجدة حال القيام إلى آخر ما هو المشهور. نعم، ورد غضّ البصر حال الركوع، في رواية حمّاد(٢) وفي رواية زرارة النظر إلى ما بين الرجلين(٣) وحمل الشيخ الأولى على الثانية بأنّه إذا لم ينظر إلّا إلى ما بين رجليه كأنّه غضّ بصره ويحتمل العمل بهما، فيكون كلّ واحد من الغضّ والنظر مستحبّا تخييريّا وأيضا كون الإقبال إليها من الجوارح غير ظاهر فتأمّل.
وفي الكشاف: الخشوع في الصلاة خشية القلب، وإلزام البصر موضع السجود ولعلّ مراده حال القيام، وبالجملة الظاهر أنّه حضور القلب وتأثّره وخوفه وطمعه، ويظهر ذلك بالتوجّه بالكلّية إلى الصلاة وإلى الله، بحيث يظهر أثر البكاء في العين، والاضطراب في القلب، واستعمال الأعضاء الظاهرة على الوجه المندوب وترك المكروهات مثل العبث بجسده وثيابه، والالتفات يمينا وشمالا، بل النظر إلى غير المسجد حال القيام، والتمطّي والتثاؤب والفرقعة وغير ذلك ممّا بيّن في الفروع وورد في الأصول(٤) يعني لا يفعل المكروهات، ويفعل المندوبات في الصلاة.
( وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) واللّغو ما لا يعنيك من قول أو فعل، كاللّعب والهزل، وما يوجب المروّة إلقاءه وإطراحه، يعني أنّ لهم من الجدّ في العبادة ما يشغلهم عن الهزل وقال في الكشاف: ولمّا وصفهم بالخشوع في الصلاة، أنبأه الوصف بالإعراض عن اللّغو ليجمع لهم الفعل والترك الشاقّين على الأنفس اللّذين هما قاعدتا بناء التكليف، وأنت تعلم أنّ الخشوع في الصلاة كان مشتملا على الفعل والترك، وترك اللّغو أي مالا يعني مطلقا فعلا كان أو تركا، فترك الترك الّذي
__________________
(١) أقول: لا منافاة فإن الغض دون الغمض، فإذا غض الإنسان بصره، وقع نظره في القيام على موضع السجدة، وفي الركوع بين رجليه، وفي الجلوس على ذيله.
(٢) الكافي ج ٣ ص ٣١١.
(٣) الكافي ج ٣ ص ٣٢٠.
(٤) الكافي ج ٣: ٢٩٩.
هو ما لا ينفع(١) أيضا داخل في الاعراض عن اللغو فكأنّه للتأكيد وبالجملة هو شامل لكلّ من الفعل والترك اللّذين لا ينفعان، ولا يحصل الاعراض عن ذلك إلّا بترك المباحات أيضا فعلا وتركا، فيوجب ذلك الاشتغال بالعبادة دائما فتأمّل.
فدلّت على الترغيب بالخشوع بالمعنى المتقدّم [فيها] حتّى كاد أن يكون له دخل عظيم في الايمان، أي في كماله فدلّت على استحباب بعض الأفعال في الصلاة وكراهية البعض على الإجمال، وتفصيله يعلم من الأخبار، ومذكور في الفروع وكذا دلّت على الترغيب بالإعراض عن اللّغو، بل يفهم وجوب ذلك حيث إنّ له دخلا في الايمان أي في كماله، وقارنه بفعل الزكاة، وترك الزنا ودلّت أيضا على أنّ فعل الزكاة وترك الزنا كذلك حيث قال عاطفا على الّذين( وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ) الآية، المراد بالزكاة هنا المصدر فيكون مثل ما يقال «فاعل الضرب» بإضافة الفاعل إلى الأحداث كما هو المتعارف مثل أن يقال «من فاعل هذا» يقال: «زيد أو الله أو خلق الله.
قوله( وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ ) في مجمع البيان أي يقيمونها في أوقاتها ولا يضيّعونها، وإنّما أعاد ذكر الصّلاة تنبيها على عظم قدرها وعلوّ رتبتها عنده تعالى( أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ ) معناه أنّ من كان بهذه الصفات واجتمعت فيه هذه الخلال، هم الوارثون يوم القيامة منازل أهل النّار من الجنّة، فقد روي عن النبيّصلىاللهعليهوآله قال ما منكم من أحد إلّا وله منزلان منزل في الجنّة ومنزل في النار فان مات ودخل النار ورث أهل الجنّة منزلة، وقيل إنّ معنى الميراث هنا أنّهم يصيرون إلى الجنّة بعد الأحوال المتقدّمة، وينتهي أمرهم إليها كالميراث الّذي يصير الوارث إليه، ثمّ وصف الوارثين فقال( الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) الفردوس اسم من أسماء الجنّة، وقيل هو اسم لرياض الجنّة، وقيل هي جنّة مخصوصة، قال في الكشّاف: ليس ذكر الصلاة هنا مكرّرا بل لأنّهما مختلفان إذ وصفوا أوّلا بالخشوع في صلاتهم وآخرا بالمحافظة عليها، وذلك بأن لا يسهو
__________________
(١) فترك الذي هو قوله ما لا ينفع خ.
عنها، ويؤدّوها في أوقاتها، ويقيموا أركانها، ويوكّلوا نفوسهم بالاهتمام بها، وبما ينبغي أن يتمّ به أوصافها. وأيضا قد وحّدت أوّلا لتفاد الخشوع في جنس الصلاة أيّ صلاة كانت وجمعت آخرا لتفاد المحافظة على أعدادها، وهي الصلوات الخمس، والوتر والسّنن المرتّبة مع كلّ صلاة، وصلاة الجمعة، والعيدين والجنازة، والاستسقاء، والكسوف، والخسوف، وصلاة الضحى، والتهجّد، وصلاة التسبيح، وصلاة الحاجة وغيرها من النوافل أي أولئك الجامعون لهذه الأوصاف، هم الوارثون الأحقّاء بأن يسمّوا ورّاثا دون من عداهم ثمّ ترجم الوارثين بقوله( الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ ) فجاء بفخامة وجزالة لارثهم لا يخفى على الناظر ومعنى الإرث ما مرّ في سورة مريم(١) . أنّث الفردوس على تأويل الجنّة وهي البستان الواسع الجامع لأنواع الثمر، وروي أنّ الله تعالى بنى جنّة الفردوس لبنة من ذهب، ولبنة من فضّة، وجعل خلالها المسك الأذفر وفي رواية لبنة من مسك مذرى، وغرس فيها من جيّد الفاكهة، وجيّد الريحان.
ففيها دلالة على الترغيب بمحافظة الصلوات بالمعنى المتقدّم، وأنّه لا بدّ من محافظة جميعها حتّى يكون موجبة لحصر إرث الفردوس، والخلود في المتّصف بها بخلاف الخشوع، فإنّه يكفي في الواحدة أيّها كانت كما ذكره صاحب الكشاف وإنّ جميع ما ذكره من الصلوات مرغوبة إلّا صلاة الضحى فإنّها بدعة عندنا.
(النوع الثاني)
في دلائل الصلوات الخمس وأوقاتها وفيه آيات:
الاولى: ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ
__________________
(١) قال في سورة مريم في تفسير قوله تعالى( تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا ) استعارة أى نبقي عليه الجنة كما يبقى على الوارث مال الموروث، ولأن الأتقياء يلقون ربهم يوم القيامة قد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية وهي الجنة، فإذا أدخلهم الله الجنة فقد أورثهم من تقواهم كما يورث الوارث المال من المتوفى. منهرحمهالله .
قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ) (١) .
في الكشاف: دلكت الشمس غربت وقيل زالت وروي عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم . «أتاني جبرئيل لدلوك الشمس فصلّى بي الظهر(٢) » واشتقاقه من الدّلك لأنّ الإنسان يدلك عينيه عند النظر إليها، فإن كان الدلوك الزوال، فالآية جامعة لأوقات الصلوات الخمس والظاهر ذلك كما يدلّ عليه اللّغة والرواية المتقدّمة، وكذا روايات الخاصّة، ولكن يتوقّف مع ذلك على كون الغسق غير دخول أوّل اللّيل، بل الظلمة الشديدة، وهو نصف اللّيل كما يدلّ عليه بعض روايات الخاصة ففيها دلالة على سعة وقت جميع الصلوات الخمس على الإجمال، فيخصّص ويتعيّن بضمّ الأخبار أو الإجماع على الوجه المقرّر فيتمّ المطلوب فتأمل.
قال في الكشّاف: والغسق الظلمة، وهو وقت صلاة العشاء، وفيه إجمال من حيث عدم معلوميّة آخر الوقت بل أوّله أيضا وقال فيه أيضا( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) صلاة الفجر، سمّيت قرآنا، وهو القراءة لأنّها ركن كما سمّيت ركوعا وسجودا وقنوتا، لعلّ مراده بالركن هو الواجب الّذي بتركه عمدا تبطل الصلاة لا سهوا أيضا كما هو اصطلاح الأصحاب( مَشْهُوداً ) تشهده ملائكة الليل والنهار، هذا إن فعلت في أوّل وقتها، ففيه إشارة إلى المبالغة في فعلها أوّل الوقت، وعند بعض الفقهاء ليس الوقت إلّا الآخر في جميع الصلوات الموسّعة، ومن يفعلها في أوّل الوقت فهو مقدّمها، ويجزئ، فهو خروج عن النصّ بالهوى فتأمل.
قال في مجمع البيان في الدلوك: فقال قوم زوالها وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما الصلاة والسلام(٣) ومعنى( لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) عند دلوكها. وقيل غسق اللّيل هو أوّل بدوّ اللّيل عن ابن عبّاس، وقيل هو انتصاف اللّيل
__________________
(١) أسرى: ٧٨ و ٧٩.
(٢) سنن ابى داود ج ١ ص ٩٣، ومثله في سيرة ابن هشام ج ١ ص ٢٤٥.
(٣) تفسير العياشي ج ٢ ص ٣٠٨
عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهماالسلام (١) ثمّ قال واستدلّ قوم من أصحابنا بالآية على أنّ وقت الظهرين موسّع إلى آخر النهار، لأنّه سبحانه أوجب إقامة الصلاة من وقت دلوكها إلى غسق اللّيل وذلك يقتضي أنّ بينهما وقتا، ولم يرتضه الشيخ أبو جعفر قدّس الله روحه(٢) قال إنّ الدلوك هو غروب الشفق(٣) ومن قال إنّ الدلوك هو الزوال أمكنه أن يقول إنّ المراد بيان وجوب الصلوات الخمس، على ما ذكره الحسن لا لبيان وقت صلاة واحدة.
وأفول: إنّه يمكن الاستدلال بالآية على ذلك أي على سعة الوقت على الوجه المشهور بأن يقال: إنّ الله سبحانه جعل دلوك الشمس الّذي هو الزوال إلى غسق الليل وقتا للصّلوات الأربع إلّا أنّ الظهر والعصر اشتركا في الوقت من الزوال إلى الغروب، والمغرب والعشاء الآخرة اشتركا في الوقت من المغرب إلى الغسق وأفرد صلاة الفجر بالذكر في قوله تعالى( إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ ) ففي الآية بيان وجوب الصلوات الخمس، وبيان أوقاتها، ويؤيّد ذلك ما رواه العيّاشيّ بالإسناد عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) قال: إنّ الله افترض أربع صلوات أوّل وقتها من
__________________
(١) الوسائل الباب ٢١ من أبواب المواقيت الحديث ٢.
(٢) المصرح من كلامه في الخلاف أن الدلوك عندنا هو الزوال وبه قال ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة والشافعي وأصحابه، ورووا عن علىعليهالسلام وابن مسعود أنهما قالا: الدلوك هو الغروب، فالاية عندنا محمولة على صلاة الظهر وعند من خالف على صلاة المغرب، دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم.
وما نقله الطبرسي عن الشيخ ليس هكذا ولفظه: ولم يرتضه الشيخ أبو جعفر رحمهالله وقال: إن من قال: إن الدلوك هو الغروب فلا دلالة فيها عنده، بل يقول أوجب الله سبحانه إقامة المغرب من عند المغرب الى وقت اختلاط الظلام الذي هو غروب الشفق ومن قال إن الدلوك إلخ.
وهكذا لفظه في تفسير التبيان ج ٦ ص ٥١٠ فالظاهر أن المصنف نقل كلام المجمع عن نسخة سقيمة.
(٣) الشمس خ ل ظ.
زوال الشمس إلى انتصاف الليل، منها صلاتان أوّل وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروب الشمس إلّا أنّ هذه قبل هذه، ومنها صلاتان أوّل وقتهما من عند غروب الشمس إلى انتصاف اللّيل إلّا أنّ هذه قبل هذه، وإلى ذلك ذهب المرتضى علم الهدى قدّس الله روحه في أوقات الصلوات وهذه الرواية(١) موجودة في الأصول ويوجد غيرها أيضا ونقلها الشيخ أيضا في كتبه(٢) وقال بها.
وقال الزجّاج إنّ في قوله تعالى «أقم الصلاة وأقم قرآن الفجر» فائدة عظيمة هي أنّها تدلّ على أنّ الصّلاة لا تكون إلّا بقراءة لأنّ قوله أقم الصلاة وأقم قرآن الفجر قد أمر فيه أن يقيم الصلاة بالقراءة حتّى سمّيت الصلاة قرآنا فلا تكون صلاة إلّا بقرآن فيه تأمّل كما في قول الكشّاف خصوصا في قوله: «وقنوتا» فإنّه ليس بمشروع إلّا في بعض الصلوات عندهم الوتر والصبح، وجزء مستحبّ فتأمّل.
قوله( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ ) الآية تدلّ على وجوب صلاة اللّيل واختصاصه بهصلىاللهعليهوآله يمنع من التأسّي فيه.
الثانية: ( أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ ) (٣) .
قيل إنّ طرفي النهار وقت صلاة الفجر والمغرب، وقيل غدوة وعشيّة، وهي صلاتا الصبح والعصر وقيل والظهر أيضا لأنّ بعد الزوال كلّه عشيّة ومساء عند العرب، فتدلّ على سعة وقتهما في الجملة، وينبغي إدخال العشاءين أيضا.
( وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) .
قيل العشاءين وقيل أي ساعات من اللّيل وهي ساعاته القريبة من آخر النّهار، وقيل: زلفا من الليل أي قربا من الليل، وحقّها على هذا التفسير أن يعطف على الصّلاة أي أقم الصّلوة وأقم زلفا من الليل على معنى وأقم صلوات يتقرّب بها إلى اللهعزوجل في بعض اللّيل فيمكن أن يكون إشارة إلى صلاة
__________________
(١) تفسير العياشي ج ٢ ص ٣١٠.
(٢) التهذيب ج ٢ ص ٢٤ و ٢٥، تحت الرقم ٦٨، و ٧٢.
(٣) هود: ١١٥.
اللّيل المشهورة.( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) يحتمل وجهين تكفير الذنوب بالطاعات، فهي صريحة في وقوع التكفير وكذا غيرها من الآيات والأخبار واللّطف يعني أنّ الطاعات موجب لترك المعصيات بالخاصيّة أو بسبب لطفه تعالى كقوله تعالى( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (١) ( ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ ) أي ما ذكر من قوله( فَاسْتَقِمْ ) (٢) إلى ههنا عظة للمتّعظين، ثمّ رجع إلى ذلك للتذكير بالصبر بقوله( وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) وهو دليل على الحثّ والتحريض والترغيب على الوعظ والاتّعاظ، وعلى الصبر والإحسان وهو ظاهر.
الثالثة: ( فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ) (٣) .
سئل ابن عبّاس هل تجد الصّلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم، وقرأ هذه الآية فالتسبيح حين تمسون صلاة المغرب والعشاء وحين تصبحون صلاة الفجر وعشيّا صلاة العصر، وحين تظهرون صلاة الظهر، ويحتمل أن يراد بالأوّل المغرب وبعشيّا العشاء وبتظهرون الظهرين وغير ذلك مثل أن يراد بعشيّا المغرب والعشاء وبتمسون العصر وبتظهرون الظهر فقطّ. وعشيّا عطف على حين فيكون وله الحمد معترضة ويحتمل عطفه على السّموات ولكن يبعد حينئذ فهم الصّلاة ويحتمل أن يراد من الحمد الصّلات إلّا أنّه حينئذ الصّلوات في السّموات غير ظاهرة وعطف «عَشِيًّا » «وَحِينَ تُظْهِرُونَ » أيضا على السّموات غير مناسب، وحين تظهرون مشعر بعطفه على الأوّل وترك حين في عشيّا كأنّه لعدم مجيء الفعل منه فتأمل.
الرابعة: ( فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها ) (٤) .
__________________
(١) العنكبوت: ٣٥.
(٢) أى فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون وأقم الصلاة طرفي النهار الآية.
(٣) الروم: ٢٧.
(٤) طه: ١٣٠
معناه في الكشّاف: فكأنّه قال: صلّ لله قبل طلوع الشمس، يعني صلاة الفجر: وقبل غروبها يعني الظهر والعصر لأنّهما واقعتان في النصف الأخير من النّهار فحينئذ فيها دلالة على وجوب الصّلوات الثلاث وسعة وقتها، وعدم اختصاصها بأوّل الوقت، فالقول بأنّ وقت صلاة الفجر إلى الإسفار والتنوير كما هو قول بعض أصحابنا غير واضح وكذا اختصاص الظهر بأوّل الوقت وكذا العصر بأوّل وقتها. وهو ظاهر بناء على تقسير التسبيح بالصّلاة، وأمّا على الاحتمال بكون المراد هو التسبيح حقيقة فلا دلالة، بل المراد هو الترغيب والتحريض، على تسبيحه تعالى وتنزيهه في هذه الأوقات الشريفة.
( وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى ) قدّم الظرف ههنا على الفعل عكس الأوّل، للاهتمام بفعلها ليلا لعدم شغل النفس حينئذ ولأنّها أشقّ ويحتمل كون «من» بمعنى «في» وابتدائيّة، وقال في الكشّاف: وقد تناول التسبيح في آناء اللّيل صلاة العتمة، وفي أطراف النهار صلاة المغرب، وصلاة الفجر على الكرار إرادة الاختصاص كما اختصّت في قوله( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) عند بعض المفسّرين.
ويحتمل( مِنْ آناءِ اللَّيْلِ ) إرادة صلاة الليل المشهورة أيضا أو مطلق الصلاة ليلا فإنّها عبادة مطلوبة جدّا وإرادة نافلة الفجر أيضا، وكذا من أطراف النهار أيضا بحمل الأمر على الرجحان المطلق فتأمل.
الخامسة: ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ ) (١) .
أي سبّح حامدا ربّك قبل الطّلوع وقبل الغروب وسبّحه أيضا في بعض اللّيل وفي أدبار السّجود، والتسبيح، إمّا محمول على ظاهره، أو على الصّلاة
__________________
(١) ق: ٣٩ و ٤٠.
فالصّلوة قبل طلوع الشمس الفجر، وقبل الغروب الظهر والعصر، ومن اللّيل العشاء ان، فيها دلالة على سعة وقتها، وأدبار السّجود التسبيح في آثار الصّلوات والسجود والركوع يعبر بهما عن الصّلاة، وقيل النوافل بعد المكتوبات، وعن عليّ عليه الصّلوة والسّلام الركعتان بعد المغرب وروي عن النبيّصلىاللهعليهوآله من صلّى بعد المغرب قبل أن يتكلّم كتبت صلاته في علّيّين ومثلها موجودة من طرقنا أيضا(1) .
والظاهر أنّ المراد قبل أن يتكلّم بكلام أجنبيّ لا التعقيب، وهو مفسّر في الرواية الصّحيحة به والأدبار جمع دبر وقرئ بكسر الهمزة مصدرا والكلّ من أدبرت الصّلاة: إذا انقضت وتمّت، ومعناه وقت قضاء السّجود كقولهم أتيتك خفوق النجم، ويقرب من الآية ما في الطّور( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ) (2) أي سبّح بحمد ربّك حين تقوم من أيّ مكان، وقيل: من نومك، وقيل تقوم: إلى الصّلاة المفروضة، فقل سبحانك اللهمّ وبحمدك وقيل: وصلّ بأمر ربّك حين تقوم من مقامك، قيل: الركعتان قبل صلاة الفجر، وقيل حين تقوم من المجلس فقل سبحانك اللهمّ وبحمدك لا إله إلّا أنت اغفر لي وتب عليّ وقد روي مرفوعا أنّه كفّارة المجلس(3) وروي عن عليّ عليه الصّلاة والسّلام من أحبّ أن يكتال بالمكيال الأوفى فليكن آخر كلامه من مجلسه: سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين(4) .
وقيل اذكر الله بلسانك حين تقوم إلى الصلاة إلى أن تدخل في الصّلاة( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ ) بالكسر قيل المراد الأمر بقول: سبحان الله وبحمدك في هذه الأوقات وقيل يعني صلاة اللّيل، وروى زرارة وحمران ومحمّد بن مسلم عن
__________________
(1) تفسير الكشاف ومجمع البيان ذيل الآية الشريفة.
(2) الطور: 49.
(3) رواه مرفوعا في المجمع، وكنز العرفان ج 1 ص 78، ورواه مسندا السجستاني في سننه ص 563 و 564 في حديثين فراجع.
(4) الوسائل الباب 24 من أبواب التعقيب الحديث 11.
أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهماالسلام في هذه الآية قالا إنّ رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم كان يقوم من اللّيل ثلاث مرّات فينظر في آفاق السماء فيقرأ خمس آيات من آل عمران «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ - إلى قوله تعالى -إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ » ثمّ يفتح صلاة اللّيل الخبر(1) .
وقيل: معناه صلاة المغرب والعشاء الآخرة، وإدبار النجوم يعني الركعتين قبل صلاة الفجر وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهماالسلام (2) وذلك حين تدبر النجوم أي حين تغيب بضوء الصّبح، وقيل معناه صلاة الفجر المفروضة وقيل معناه لا تغفل عن ذكر ربّك صباحا ومساء ونزّهه في جميع أحوالك ليلا ونهارا فإنّه لا يغفل عنك وعن حفظك، وفي هذه الآية دلالة على أنّه سبحانه قد ضمن حفظه وكلايته حتّى بلّغ الرسالة، الله يعلم بحقيقة كلامه وغيره.
ويدلّ على رجحان القيام للصّلاة عن المضاجع، والصّلاة بالليل ودعاء الربّ خوفا من العقاب، وطمعا في الثواب، والإنفاق ممّا رزقه الله تعالى قوله تعالى:( تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) (3) ترتفع جنوبهم عن مواضع اضطجاعهم لصلاة اللّيل وهم المتهجّدون باللّيل الّذين يقومون عن فرشهم للصّلوة، وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهماالسلام ، فهو القيام في اللّيل لصلاة اللّيل والتهجّد المشهور، وظاهر الآية أنّهم يقومون للدعاء خوفا من عدم الإجابة وطمعا لها، كأنّه الدّعاء في الوتر وغيره، وقيل هم الّذين لا ينامون حتّى يصلّوا العشاء الآخرة، قال أنس نزلت فينا معاشر الأنصار كنّا نصلّي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتّى نصلّي مع النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم صلاة العشاء وقيل هم الّذين يصلّون ما بين المغرب والعشاء الآخرة وهي صلاة الأوّابين، وقيل هم الّذين يصلّون العشآء والفجر في جماعة( يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً ) من عذاب الله
__________________
(1) الوسائل الباب 53 من أبواب المواقيت ح 1 - 4.
(2) ذكر في مجمع البيان مرسلا ورواء الكليني في الكافي مسندا ج 3 ص 444.
(3) السجدة: 16:
وطمعا في رحمة الله وممّا رزقهم الله ينفقون في سبيل الله وطاعته(1) .
واعلم أنّ وجوب الصلوات ليس من الفقه فإنّه من ضروريات الدّين، مع أنّ الآيات الدالّة عليها في غاية الإجمال فكان تركها أليق، ولكن ذكرنا بعض الآيات في ذلك لبيان الوقت، وبعض الفوائد الأخر.
تذنيب
( سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) (2) قيل تدلّ على أنّ المراد بالأمر الفور، وذلك غير ظاهر، فإنّه يحتمل أن يقال: المراد استحباب المسارعة فإنّه إنّما يقال مثل هذا الكلام عرفا إذا لم يكن واجبا فتأمل ويؤيّده دخول المستحبّات أيضا فيه فتدلّ على استحباب فعل العبادات أوّل وقتها كما تقدّم.
(النوع الثالث)
في القبلة وفيه آيات:
منها: ( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) (3) .
الرؤية هنا بمعنى العلم، والتقلّب التحوّل والتحرّك في الجهات، والقبلة هي الكعبة للقادر على المشاهدة على سبيل العادة، وللبعيد الجهة على ما هو المشهور الرضا هو المحبّة والتولية هو التصيير والتصريف والشطر هو الجانب والنحو والجهة والحرام هو المحرّم كالكتاب بمعنى المكتوب، والحقّ هو وضع الشيء موضعه، والغفلة هي السّهو عن بعض الأشياء.
__________________
(1) راجع في ذلك مجمع البيان للطبرسي.
(2) الحديد: 21.
(3) البقرة: 142.
المقصود [من الآية] أنّ الله تعالى: يقول للنّبيّصلىاللهعليهوآله إنّا قد نعلم تردّد وجهك في جهة السّماء أي توجّهك نحوها انتظارا لتحويل القبلة، النازل منها نحوك، إلى قبلة تحبّها وتتشوّق إليها لأغراضك الصحيحة الّتي في نفسك، ووافقت في ذلك مشيّة الله وحكمته، وهي قبلة أبيك إبراهيم عليه وآله السلام وأدعى إلى الإيمان لأنّها مفخرتهم ومطافهم، فلنعطينّك تلك القبلة المرضيّة.
ثمّ بيّنها بقوله( فَوَلِّ ) أي فاجعل تولية وجهك في جهة المسجد وسمته، واصرفه نحو المسجد المحرّم فيه القتال، وإخراج الملتجئ والمصيد، وباقي ما يحرم على المحرم يعني اجعل قبلتك الّتي تتوجّه إليها للصّلاة وغيرها تلك الجهة ثمّ أشار إلى وجوب ذلك على كلّ مكلّف في كلّ مكان بقوله تعالى( وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) ولعلّ في التعبير بالنحو والمسجد دون البيت دلالة على وسعة أمر القبلة، وأنّها الجهة الواسعة، لا البيت كما هو للقريب واختيار المسجد دون الحرم مع أنها أدلّ لئلّا يتوهّم كون الحرم قبلة للبعيد كما قيل، على أنّه يحتمل أن يكون المراد الحرم ويكون التعبير عنه باسم أشرف أجزائه، فيكون تسمية للكلّ باسم الجزء، أو على أنّ حكمه حكم المسجد في وجوب التعظيم ويؤيّده وصفه بالحرام ويحتمل أن يكون التعبير عن البيت بالمسجد الحرام، تسمية للجزء باسم الكلّ فيكون القبلة للقريب نفسه، وللبعيد جهته كما هو مذهب أكثر الأصحاب، وعلى التقادير لا تفاوت في القبلة المتعيّنة للبعيد فإنّها مبيّنة إمّا على العلامات الموضوعة لها شرعا على ما ذكره الفقهاء، مثل جعل الجدي خلف المنكب الأيمن، وهو مجمع الكتف والعضد، وقال المحقّق الثاني وهو الكتف، وذلك غير ظاهر بحسب اللغة والشرع والدليل، وإمّا على المقدّمات الهيويّة كما بيّنها أهلها لكلّ إقليم إقليم، فالجهة حينئذ هي السمت والجانب المأخوذ للتوجّه إلى القبلة المعتبرة في الأمور المعيّنة على الوجه المقرّر من العلامات المتعيّنة له إمّا من دليل شرعيّ أو عقليّ كما أشير إليه وقد ذكر أصحابنا تعاريف كثيرة لها وكاد أن لا يكون واحد منها سالما مع أنّه لا اعتداد بتحقيقها إذا لواجب استعمال العلامات فقط وليست الجهة واقعة في النصّ
بحيث ما لم تتحقّق لم يجز لنا التوجّه إلى القبلة، وهو أمر ظاهر.
ثمّ اعلم أنّه قال في مجمع البيان ذكر أبو إسحاق الثعلبيّ عن كنانة(1) عن ابن عبّاس أنّه قال: البيت كلّه قبلة، وقبلة البيت الباب، والبيت قبلة أهل المسجد، والمسجد قبلة أهل الحرم، والحرم قبلة أهل الأرض، وهذا موافق لما قاله أصحابنا أنّ الحرم قبلة من نأى عن الحرم من أهل الآفاق انتهى(2) لعلّه يريد بعض الأصحاب وهو الشيخ ومن تبعه وقد ضعّفه المتأخّرون إذ دليله بعض الروايات الغير الصّحيحة، ويدلّ على كون القبلة هي البيت نفسه للقريب وجهته للبعيد أدلّة صحيحة وإن كان في إفادتها تأمّل إلّا أنّها تتمّ بضمّ أمور أخر، مع أنّه يلزمه خروج الصفّ عن القبلة إذا زاد عن الحرم إلّا أن يؤول بجهة الحرم، فيبقى النزاع في القريب حيث يجوّز الشيخ مع قدرة التوجّه إلى البيت التوجّه إلى الحرم مع العلم بأنّه غير موافق للبيت وكذا المسجد على أنّه ينبغي أن يقول من خرج بدل من نأى وأيضا كون الباب فقط قبلة البيت غير واضح، ولا مطابق لكلام أصحابنا بل للأدلّة أيضا، فكلام ابن عبّاس غير واضح، ولعلّ الإسناد إليه غير صحيح أو محمول على الأفضليّة.
وأيضا إنّ أمر القبلة على ما أفهم من قلّة أدلّته مع اهتمام الشارع ببيان أحكام الشرع حتّى مستحبّات الخلاء واسع جدّا، وليس أمر القبلة يضيق بل فيه وسعة وقناعة بأدنى التوجّه المناسب إلى جهة البيت كما يفهم من كلام بعض الأصحاب مثل المحقّق الثاني من أنّه لا بدّ من حصول زاويتين قائمتين من الخطّ الخارج من بين عيني المصلّي الواصل إلى الخطّ الّذي هو الجهة مع أنّه ما بيّن الخطّ الجهتيّ وكلام الذكرى من أنّه لا يجوز الانحراف ولو قليلا.
أمّا قلّة الأدلّة فظاهرة إذ الآية الكريمة في غاية الإجمال، إذ من يعرف أنّ نحو المسجد أين؟ مع أنّه ورد في المدينة المشرّفة، فإذا علم ذلك هناك ببيان مثلا فمن أين يفهم حال جميع الآفاق مع الاحتياج إليه للكلّ للصّلاة ليلا ونهارا بل
__________________
(1) في المصدر: في كتابه، وهو سهو.
(2) مجمع البيان ج 1 ص 228.
دائما لمن يصلّي والذّبح والاحتضار والدفن وللمستحبّات من الجلوس والدعاء والانحراف في الخلإ وغير ذلك، وليس من الأخبار الآن إلّا خبر واحد في التهذيب(1) في نهاية ما يكون من ضعف السند فإنّه قال عن الطاطريّ بغير واسطة عن جعفر بن سماعة عن علاء بن رزين عن محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما الصّلاة وو السّلام قال سألته عن القبلة قال: ضع الجدي على قفاك وصلّ، وطريقه إليه غير واضح، وهو ضعيف جدّا على ما ذكروه وفي الطريق جعفر بن سماعة، وهو أيضا من الضعفاء وآخر في الفقيه(2) بغير إسناد قال رجل للصادق عليه الصلاة والسّلام: إنّي أكون في السفر ولا أهتدي للقبلة باللّيل، فقال أتعرف الكوكب الّذي يقال له الجدي؟ قلت: نعم، قال: اجعله على يمينك وإذا كنت في طريق الحجّ فاجعله بين كتفيك، وهما مع ما في سندهما في غاية الإجمال كما ترى واستبعد من الحكيم العالم أن يكلّف بمثل هذا التكليف الشاقّ بهذه الأدلّة فقط.
وأمّا ما يدلّ على عدم الضيق فهو بعض الأخبار الصّحيحة أيضا مثل قولهم عليهم الصّلاة والسّلام: بين المشرق والمغرب قبلة(3) كما يظهر من قوله تعالى: أيضا( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ) (4) الآية على الظاهر.
وإن كان سبب ترك الأدلّة المفصّلة تفويض أمر القبلة إلى علم الهيئة فعلى تقدير التسليم فذلك أيضا علم دقيق كثير المقدّمات على ما يفهم من لسان أهله، ولا يمكن الوصول إلى التحقيق به إلّا بمشقّة كثيرة في زمان طويل، والتكليف به أيضا بعيد عن الشرع وقوانينه ولطفه، وكونه شريعة سهلة سمحة، والتفويض إلى تقليد أهل ذلك العلم أيضا بعيد، إذ تقليدهم مع عدم عدالتهم، ليس من قوانين الشرع، إذ الظاهر أنّه لا بدّ من الانتهاء إلى قول بعض الحكماء الّذي لا نعلم إسلامه فضلا عن العدالة وإن أمكن وجود من يعلم عدالته مع علمه به من غير أخذ ممّن تقدّم من الحكماء فهو نادر جدّا.
__________________
(1) التهذيب ج 1 ص 244.
(2) فقيه من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 181.
(3) الفقيه ج 1 ص 179.
(4) البقرة: 116، وسيأتي الكلام فيه.
ومع ذلك كلّه لا يحصل العلم بالبيت، بل ولا مكّة بل ولا الحرم أيضا، نعم يدّعي بعضهم القدرة عليه، مع وجود آلات كثيرة بحيث لا يمكن استحصاله إلّا لمثل السلطان، ومع ذلك كيف يمكن في البراري والقرى الّتي لا يعلم عرضها وما رصدوها بل في البلد المرصد أيضا فإنّهم يعيّنون عرض البلد من موضع معيّن من البلد، مثل وسط البلد فيبقى نهاية البلد غير مرصد، فيتفاوت الحال فلا يفيد إلّا تخمينا مع أنّه في الأصل تخمينيّ إذ التحقيق على ما يظهر من كلامهم ممّا يعسر جدّا، بل لا يمكن لعدم مساعدة الآلات.
على أنّا نجد الاختلاف فيما بينهم أيضا في المسائل والتحقيقات، نعم يقرب ذلك للمهرة في الجملة، ولكن لا يسمن ولا يغني من جوع، وأيضا ما نعرف وجه ضمّ الأصحاب مشرق الاعتدال ومغربه، إلى علامة العراق، مع أنّ الظاهر أنّ قبلتهم ليست نقطة الجنوب كما يظهر من المشاهدة في مكة وتعيين الجدي خلف المنكب مع أنّهم يقولون حين كونه علامة هو واقع على النقطة الشماليّة الّتي يوافق خطّ نصف النّهار والقطب، فيكون حينئذ بين الكتفين فكأنّه بالنسبة إلى بعض البلدان.
وأيضا جعل النجم الصغير الّذي بينه وبين الفرقدين قطبا لكونه عنده كما يظهر من كلام العلّامة أيضا على ما رأيت في حاشيته على المحرّر غير واضح، على ما سمعت من بعض أهل هذا العلم الّذي هو خالي الّذي لا نظير له اليوم في هذا العلم بل يقول إنّ القطب قريب من الجديّ جدّا وأيضا شاهدته كما قال فانّي نظرت وعلّمت علامة ورأيت هذا النجم الصغير يتحرّك كثيرا ويقطع دائرة كبيرة، وحركة الجدي كانت قليلة جدّا، ودائرته أقلّ من دائرة تلك النجم بكثير، إذ رأيته كأنه ما يتحرّك من أوّل اللّيل إلى نصفه تخمينا ثمّ تبيّن له حركة قليلة وأيضا كلام أكثر الأصحاب خال عن تسميته قطبا وما رأيته إلّا في شرح الإرشاد للشيخ زين الدّينرحمهالله .
ثمّ جعلهم قبلة خراسان مثلا مثل قبلة العراق كالكوفة بعيد أيضا لأنّه شرقيّ بالنسبة إلى الكوفة من مكّة، مع أنّهم يقولون إنّ قبلتها يقينيّة، إذ ثبت بالتواتر صلاة المعصوم فيه بتلك القبلة، والعجب أنّا نرى الجديّ في الكوفة خلف المنكب
لا خلف الكنف كما قاله المحقّق الثاني وجعل قبلة خراسان وأكثر بلاد العجم على وضع الجدّي خلف الكتف، وغيّر ما كان على غير ذلك إليه(1) والظاهر خلاف ذلك وأنّ ما فعله بعيد جدّا خصوصا في الخراسان. الله يعلم.
ومنها: ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ ) (2) .
«المشرق» مبتدأ «لله» متعلّق بمقدّر خبره، و «المغرب» عطف عليه والفاء للتفريع وأين للمكان و «ما» زائدة كما في حيثما وكيفما، متضمّن لمعنى الشرط، وهو مفعول فيه لتولّوا، وهو فعل شرط حذف نونه بالجزم وفاء «فثمّ» للجزاء و «وجه الله» مبتدأ و «ثمّ» ظرف لمقدّر خبره، والجملة جزاؤه، والمقصود من الآية على ما يفهم من الكشّاف أنّ البلاد والأرض المنقسمة إلى المشرق أي النصف الّذي فيه محلّ طلوعها، والمغرب أي النصف الّذي فيه محلّ غروبها كلّها ملك لله، ففي أيّ مكان فعلتم التولية بمعنى تولية وجوهكم شطر المسجد الحرام بدليل قوله تعالى( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) فثمّ وجه الله أي ثمّ جهته الّتي جعلها قبلة لكم، وأمركم أن تجعلوا وجوهكم إليها حيث ما كنتم أو فثمّ ذاته تعالى يعني عالم بما فعلتم فيه، فيقبل منكم ويثيبكم مثل ما أثابكم في المسجد الحرام وبيت المقدس.
يعني أنّكم إذا منعتم أن تصلّوا في المسجد الحرام أو في بيت المقدس كما فهم من الآية السّابقة، وهي( وَمَنْ أَظْلَمُ ) الآية(3) فإنّها قبلها بلا فصل فقد جعلت لكم الأرض مسجدا فصلّوا في أيّ بقعة وأيّ جزء منها أردتم فإنّ الكلّ لله، وافعلوا التولية، أي ولّوا وجوهكم شطر المسجد الحرام فانّ ذلك ممكن في كلّ مكان، و
__________________
(1) اى غير ما كان لفظه على غير الكتف إلى الكتف.
(2) البقرة: 116.
(3) والآية هكذا: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها وسعى إلى خرابها إلخ.
ليست بمخصوصة بمكان دون مكان، ويريد الله أن يدفع بذلك وهم من يتوهّم عدم إمكان التوجّه إلى جهة واحدة من جميع الأمكنة.
( إِنَّ اللهَ واسِعٌ ) الرّحمة يريد التوسعة واليسر لعباده( عَلِيمٌ ) بمصالحهم فإنّ المصلحة الحاصلة للصّلاة في المساجد حاصلة لهم في أيّ مكان كان مع التولية وحصول سائر الشرائط، وليست هذه بمنسوخة ولا مخصوصة بحال الضرورة ولا بالنوافل مطلقا أو حال السفر كما يفهم من سائر التفاسير.
أمّا سبب النزول فقيل كان اليهود أنكروا تحويل القبلة إلى الكعبة عن بيت المقدس، وقيل نزلت في [صلاة] التطوّع على الراحلة، حيث توجّهت حال السفر قاله في مجمع البيان ثمّ قال: هذا مرويّ عن أئمّتناعليهمالسلام روي عن جابر أنّه قال: بعث النبيّصلىاللهعليهوآله سريّة(1) كنت فيها وأصابتنا ظلمة، فلم نعرف القبلة، فقال طائفة منّا قد عرفنا القبلة هي هنا قبل الشمال فصلّوا وخطّوا خطوطا، وقال بعضنا القبلة هي ههنا قبل الجنوب فخطّوا خطوطا فلمّا أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة، فلمّا رجعنا من سفرنا سألنا النبيّصلىاللهعليهوآله عن ذلك فسكت فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقيل كان للمسلمين التوجّه حيث شاؤا في صلاتهم، وفيه نزلت الآية ثمّ نسخت بقوله تعالى( فَوَلِّ ) الآية ويفهم من رواية جابر أنّه لا تجب الصّلاة حال الحيرة إلى أكثر من جانب واحد ويكفي الظنّ إلى جهته، وإن لم يكن عن علامات شرعيّة وأنّ العلم قبل الفعل ليس بشرط بل إذا حصل الظنّ وفعل وكان موافقا لغرضه كان مجزيا لا يحتاج إلى الإعادة، كما يفهم من عبارات الأصحاب.
وأمّا الحكم المستفاد من الآية بناء على الأوّل فهو إباحة الصلاة في أيّ مكان كان، وعموم التوجّه إلى المسجد الحرام، وأمّا على ما يستفاد من ظاهرها قبل التأمّل فهو عدم اشتراط القبلة مطلقا ويقيّد بحال الضرورة، أو النافلة على الراحلة سفرا لما مرّ، وغير ذلك، ويحتمل عموم النافلة فتأمّل.
__________________
(1) السرية العسكر الذي لم يكن فيها النبيصلىاللهعليهوآله
(النوع الرابع)
في مقدّمات أخر للصلاة وفيه آيات:
الاولى: ( يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً ) (1) .
أي خلقناه لكم بتدبيرات سماويّة وأسباب نازلة منه، ونظيره قوله تعالى:( وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ) (2) وقوله تعالى( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ ) (3) فأشار إلى أنّ للأمور السماويّة مثل المطر دخلا في حصول اللّباس، وقد تكون إشارة إلى الرتبة فقطّ، فانّ حصول اللّباس لمّا كان بأمر الله وحكمته، وكان عاليا، فصار نازلا من الأعلى إلى الأسفل( يُوارِي سَوْآتِكُمْ ) صفة( لِباساً ) يستر عورتكم وروي أنّ العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون لا نطوف في ثياب عصانا الله فيها( وَرِيشاً ) عطف على لباسا، وهو لباس التجمّل.
ففي الأوّل إشارة إلى وجوب ستر العورة باللّباس مطلقا لقوله يواري سوءاتكم فإنّه يدلّ على قبح الكشف وأنّ الستر مراد الله تعالى، وفي الثاني إلى استحباب التجمّل باللّباس ويمكن فهم اشتراط كون اللّباس مباحا لأنّ الله تعالى لا يمنّ بإعطاء الحرام( وَلِباسُ التَّقْوى ) أي خشية الله أو الايمان أو لباس يقصد به العبادة والخشية من الله تعالى والتواضع له كالصوف والشعر، أو مطلق اللّباس الذي يتّقى به من الضرر، كالحرّ والبرد والجرح، مبتدأ( ذلِكَ خَيْرٌ ) خبره بأن يكون «ذلك» مبتدأ ثان(4) وخبره «خير» والجملة خبر لباس، أو «ذلك» صفته وخير خبره أي لباس التقوى المشار إليه خير، وقرئ بالنصب(5) عطفا على لباسا كأنّه يريد على الأخير لباس يتّقى به عن الحرّ والبرد والجرح والقتل دون اللّباس الّذي
__________________
(1) الأعراف: 25. وما بعدها ذيلها.
(2) الزمر: 6.
(3) الحديد: 25.
(4) مبتدأ ثانيا.
(5) قرأ ابن عامر والكسائي وهكذا أهل المدينة( لِباسُ التَّقْوى ) بنصب اللباس.
يستر عورته أو يتجمّل به، فاللباس ثلاثة قد امتنّ الله على عباده بخلقه. وحينئذ في( ذلِكَ خَيْرٌ ) تأمّل ويمكن كونه خيرا لأنّه يحصل به الستر والحفظ عن الحرّ والبرد والجرح بخلافهما، ويحتمل رجوعه إلى اللباس مطلقا
ثمّ أشار بقوله( ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) إلى أنّ إنزال اللباس من آيات الله ليتذكّر الإنسان ويتّعظ، وأوصى إلى بني آدم أن لا يمتحنه الشيطان ويبتليه ببليّة، بأن يوقعه في ذنب يوجب دخوله النار وينزع لباسه ويبدو عورته، كما فعل بأبويه، وأنّه يراهم وهم لا يرونه، فالحذر كلّ الحذر منه، ولا بدّ من عدم الغفلة، وقال إنّ الشيطان(1) هو [وقبيله] ظ أولياء الّذين لا يؤمنون فلا يجوز للمؤمن أن يأخذه وليا.
( وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها ) كأنّ المراد بالفاحشة الذنب الفاحش قال القاضي: فعلة متناهية في القبح والفحش، كعبادة الصنم وكشف العورة إذا فعلوها يعتذرون باتّباع الآباء وأنّ الله أمرهم بها فردّه الله تعالى بأن قال( قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ) أي الله لا يأمر بالفحش والقبح فإنّه قبيح ومنهيّ عنه. كأنّه ترك الأوّل لظهور قبحه وعدم صلاحيّته للعذر(2) ومثله في القرآن كثير، ففيه دلالة على عدم جواز التقليد، وأنّ الله لا يأمر بالقبح، وأنّه قبيح، وأنّه لا يفعل القبيح، وأنّ الفعل في نفسه قبيح، من غير أمر الشارع، وأمثالها كثيرة في القرآن العزيز مثل( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (3) فقول الأشعريّ إنّ الحسن محض قول الشارع افعل، والقبح قوله لا تفعل، باطل، وهو واضح.
وأكّد نفي صدور القبح عن الله تعالى بقوله «أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ
__________________
(1) لفظ الآية( إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ ) إلخ.
(2) الأول قولهم( إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا ) والثاني( وَاللهُ أَمَرَنا بِها ) .
(3) النحل: 90.
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ » ومعلوم قبح الأمر بالفحش، وأنّ الآمر به ليس بمقسط ففيها تأكيدات على نفي القبح عن الله تعالى، وكون الفعل قبيحا في نفسه فهو حجّة على النافي من الأشعريّ.
الثانية: ( يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ ) (1) .
أي لباسكم، حيث إنّه ساتر للعورة، فهو زينة( عِنْدَ ) دخول( كُلِّ مَسْجِدٍ ) لطواف أو صلاة أو مطلق دخول المساجد، ويحتمل أن يريد أخذ ثياب التجمّل فيهما فإنّ الزينة أخذت لله تعالى، فعلى الأوّل دليل وجوب ستر العورة في الصلاة والطواف. وعلى الثاني استحباب الزينة فيهما، أو مطلق المسجد، وقد فسّر بالمشط والسواك والخاتم والسجّادة والسبحة، ثمّ عقّب الأمر بالستر الأمر بالأكل والشرب وعدم التنزّه عن ذلك، بقوله( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ) ما طاب أو أبيح أو استلذّ ممّا خلقه الله لكم كاللبس( وَ ) لكن( لا تُسْرِفُوا ) بتعدّي حدود الله مطلقا بتحريم الحلال، وبالعكس، أو في المأكل والمشرب والملبس، فلا يجوز أكل وشرب ولبس ما لا يجوز، ولا ينبغي ما لا يليق بحاله، وعدم لبس لباس التجمّل وقت النوم والخدمة، ونحو ذلك كما بيّن في محلّ تفصيله أو في الأكل والشرب حتّى يكون إشارة إلى كراهة وتحريم كثرة الأكل المؤدّي إلى المرض ولهذا قيل(2) جمع الله الطبّ في نصف آية( كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) أي يبغضه، فينبغي حمل( وَلا تُسْرِفُوا ) على الإسراف الحرام، ثمّ أكّد ما تقدّم بقوله( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ ) أي قل يا محمّد ما حرّم الله زينته أي الأمور الّتي خلقها الله تعالى لزينة عباده( الَّتِي أَخْرَجَ ) الله( لِعِبادِهِ ) أي خلقها لعباده وأخرجها من النبات كالقطن والكتّان ومن الحيوانات كالصوف والسفر آلات( وَالطَّيِّباتِ
__________________
(1) الأعراف: 30.
(2) القائل هو على بن الحسين بن واقد للطبيب النصراني بمحضر هارون الرشيد العباسي راجع الكشاف ج 2 ص 60 مجمع البيان ج 4 ص 413.
مِنَ الرِّزْقِ ) المستلذّات من المأكل والمشرب أو المباحات، ففيها دلالة واضحة على أنّ الأشياء خلقت على الإباحة دون الحرمة، كما في غيرها، كما صرّح به صاحب الكشاف في أوّل سورة البقرة في قوله تعالى( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (1) أي لانتفاعكم بجميع ما خلق فيها بل هي وما فيها كما دلّ عليه العقل فاجتمع الآن العقل والنقل على أنّ الأصل في الأمور هو الإباحة، وغيرها يحتاج إلى الدليل فتأمل.( قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) أي الطيّبات ثابتة ومباحة للمؤمنين مع مشاركة الكفّار لهم( فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً ) للمؤمنين مختصّة بهم( يَوْمَ الْقِيامَةِ ) ففي الحياة الدنيا، متعلّقة بمتعلّق «للّذين» ويحتمل بآمنوا، وخالصة حال عن ضمير الطّيبات في متعلّق «للّذين» ويوم القيمة ظرف لخالصة.
ثمّ أشار مرّة أخرى إلى حصر المحرّمات الإضافيّة بقوله( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ) الفواحش ما زاد فحشه وقبحه، وقيل: المراد ما يتعلّق بالفروج( ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ) جهرها وسرّها( وَالْإِثْمَ ) أي ما يوجب الإثم تعميم بعد تخصيص وقيل: شرب الخمر( وَالْبَغْيَ ) الظلم والكبر( بِغَيْرِ الْحَقِّ ) متعلّق بالبغي مؤكّدا له( وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً ) تهكّم بالمشركين، وتنبيه على وجوب اتّباع البرهان، حيث يفهم أنّه لو كان على الشرك برهان لوجب إلّا أنّ البرهان عليه محال، وعلى تحريم اتّباع ما لم يدلّ عليه برهان( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) بالإلحاد في صفاته، والافتراء عليه، وإسناد الأمور الغير الصادرة عنه إليه تعالى، منها أنّ الحكم في المسئلة كذا مع أنه ليس كذلك وأنّ الله يعلم كذا ولم يكن كذلك، ويدخل فيه الفتوى والقضاء بغير الاستحقاق وهو ظاهر، ومعلوم وجود محرّمات غير هذه المذكورات فهي متروكة الظاهر، ومخصوصة بها، والحصر إضافيّ فتأمل.
الثالثة: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) (2) .
__________________
(1) البقرة: 29.
(2) المائدة: 4.
كأنّه إشارة إلى بيان المستثنى الّذي أشار إليه بقوله( إِلَّا ما يُتْلى ) (1) فمن المحرّمات المتلوّة الميتة والظاهر أنّها كلّ حيوان فارقته الروح من غير تذكية شرعيّة، ولو بإخراج المسلم السمك من الماء حيّا وأخذ الجراد كذلك ويحتمل أن يكون المراد كلّ حيوان مأكول اللّحم حين حياته، وفارقته الروح من غير تذكية شرعية فيكون التحريم من جهة الموت خاصّة كما هو ظاهر سوق الآية، وظاهر لفظ الميتة مشعر بأنّ ما لم تحلّ فيه الحياة منها لا يكون حراما ولهذا استثناء الأصحاب مؤيدا بالإجماع على الظاهر والأخبار ويمكن أن يقال: المتبادر من تحريم الميتة تحريم أكلها كما في الدّم ولحم الخنزير، وإن ثبت تحريم جميع انتفاعاتها فيكون بغيرها ويحتمل فهمه أيضا ولهذا قالوا يحرم جميع الانتفاعات بالميتة لأنّ العين ما تحرّم، وتقدير الأعمّ أولى، لئلّا يلزم الإجمال والترجيح بلا مرجّح، إذ لا قرينة على الخصوص فافهم وحينئذ يدلّ على عدم جواز لبس جلد الميتة في الصلاة وغيرها، دبغت أم لا، كما يدلّ عليه الأخبار بل إجماع الأصحاب، ولا دلالة في الآية على نجاسة الميتة فتأمل، وسوف يأتي البحث في تتمّة الآية في كتاب الأطعمة إنشاء الله تعالى.
الرابعة والخامسة: ( وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ ) (2) ،الاية.
عدّ الله تعالى نعما منها خلق الأنعام للإنسان، المشتملة على الدّفء وهو ما يدفأ به من الأكسية والملابس المأخوذة من شعرها وصوفها ووبرها، ومنافع اخرى لهم مثل الركوب واللبن والحرث، وأكل لحومها وغيرها ثمّ عدّ نعما أخر بقوله( وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ ) أي جعل من البيوت المأخوذة من الحجر والمدر وغيرهما( سَكَناً ) أي ما تسكن النفس إليه، وتطمئنّ إليه من مسكن و
__________________
(1) في قوله تعالى( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) المائدة: 1.
(2) النحل: 79 و 80.
موضع تسكنون فيه( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ ) يعني الأدم( بُيُوتاً ) قال القاضي ويجوز أن يتناول المتّخذ من الوبر والصوف والشعر فإنّها من حيث إنّها نابتة على جلودها يصدق عليها أنّها مأخوذة من جلودها، فتأمل فيه( تَسْتَخِفُّونَها ) قبابا وخياما يخفّ عليكم حملها في أسفاركم( يَوْمَ ظَعْنِكُمْ ) أي وقت ارتحالكم من مكان إلى آخر( وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ ) أي الوقت الّذي تنزلون موضعا تقيمون فيه، لا يثقل عليكم في الحالين( وَمِنْ أَصْوافِها ) وهي للضأن( وَأَوْبارِها ) وهي للإبل( وَأَشْعارِها ) للمعز(1) ( أَثاثاً ) مالا، قيل أنواعا من متاع البيت من الفرش والأكسية( وَمَتاعاً ) أي سلعة تنتفعون بها وتتّخذونها( إِلى حِينٍ ) إلى يوم القيمة عن الحسن وقيل إلى وقت الموت، يحتمل أن يراد به موت المالك أو موت الأنعام، وقيل إلى وقت البلى والفنا، وفيه إشارة إلى أنّها فانية فلا ينبغي للعاقل أن يختارها كذا في مجمع البيان والأوّل بعيد.
السادسة: ( وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً ) (2) .
أي وجعل لكم ممّا خلق من الأشجار والأبنية ظلالا أشياء تستظلّون بها في الحرّ والبرد( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً ) مواضع تسكنونها من كهف وثقبة تأوون إليهما( وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ ) قمصا من القطن والكتان والصوف( تَقِيكُمُ الْحَرَّ ) ترك البرد، لأنّ ما يقيه يقيه، واختاره على البرد، لأنّ المخاطبين أهل الحرّ وليس عندهم البرد إلّا قليلا، فالحفظ عنه أهمّ عندهم، وقيل: إنّ الحرّ يقتل دون البرد، ويحتمل أنّ البرد يمكن دفعه بشيء مثل النار والدخول في البيت، بخلاف الحرّ( وَسَرابِيلَ ) الدروع والجواشن( تَقِيكُمْ
__________________
(1) الشعر ما ينبت من مسام البدن مما ليس بصوف ولا وبر، وهو عام، وقول المصنف «للمعز» تمثيل، قال في الكليات: الشعر للإنسان وغيره، والصوف للغنم، والمرعزاء للمعز، والوبر للإبل والسباع، والعفاء للحمير، والهلب للخنزير، والزغب للفرخ، والريش للطائر، والزف للنعام.
(2) النحل: 81.
بَأْسَكُمْ ) شدّة الطعن والضرب في الحروب، وتدفع عنكم سلاح أعدائكم وفيها دلالة على إباحة هذه الأمور ونحوها وهو ظاهر فتأمل( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها ) (1) في الكشّاف قيل: إنكارهم النعمة هو قولهم: لو لا فلان ما أصبت كذا لبعض نعم الله، وإنّما لا يجوز التكلّم بنحو هذا القول إذا لم يعتقد أنّها من الله وأنه أجراها على يد فلان وجعله سببا في نيلها، فتدلّ على تحريم هذا القول، بل هو قريب من الكفر، ويدلّ عليه بعض الأخبار أيضا، فلا بدّ من الاجتناب والاحتياط.
السابعة: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ) (2) .
المنع هو الصدّ والحيلولة، قال في مجمع البيان: الظلم اسم ذمّ لا يجوز إطلاقه على الأنبياء والمعصومين كأنّه التعدّي وخلاف العدل، والخروج عن طاعة الله تعالى، والسعي هو الكسب، يقال فلان يسعى على عياله أي يكسب لهم وضدّه الوقف والترك، والخراب هو الهدم، ومن للاستفهام الإنكاريّ مبتدأ وأظلم خبره، ومساجد المفعول الأوّل لمنع، وأن يذكر مفعوله الثاني، ويحتمل أن يكون من محذوفة عن أن، لأنّ حذف حرف الجرّ عن أن قياس ويجوز أن يكون مفعولا له بحذف المضاف، أي كراهة أن يذكر.
كذا في الكشّاف، ومجمع البيان، ولا يرد عليه أنّه يفيد تحريم المنع المعلّل والمقيّد لا المطلق، فيعلم الجواز في الجملة، لأنّ نهاية ما يفهم منه أنّه من منع لا لذلك، لا يكون أظلم، بل يوجد من هو أظلم وهو كذلك فلا يحتاج إلى أنّها للمبالغة فيكون المبالغة أقلّ من المنع للكراهة، وزاد في
__________________
(1) النحل: 83.
(2) البقرة: 114.
مجمع البيان احتمال كون المذكور بدلا عن مساجد، بدل اشتمال، كأنّه يقول ليس أحد أظلم ممّن منع أن يذكر في مساجد الله اسمه، لعلّ علاقة الاشتمال مثل اشتمال الظرف على المظروف والتقدير: ومن أظلم ممّن منع الناس من مساجد الله كراهية أن يذكر أو من ذكر الله، وفي جعل مساجد ممنوعا كما وقع في الاحتمال الأوّل مسامحة، فيحتمل القول بحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، فكأنّ الأصل «متردّدي مساجد الله» فلا يرد ما قيل إنّ «منع» يقتضي مفعولين، ولا يمكن أن يقدّر إلّا الذكر فإنّه الممنوع. على أنّ الذكر ممنوع منه، والناس هم الممنوعون. والمقصود تحريم المنع من ذكر الله في المساجد أيّ مسجد كان، وبأيّ ذكر كان وإن كان سبب النزول خاصّا بأنّه كان النزول في الرّوم حيث غزوا في بيت المقدس وخربوه، أو في المشركين حيث منعوا رسول اللهصلىاللهعليهوآله أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية فأمّل.
ولا يبعد أن يراد به مطلق العبادة فيه، بل المنع عن مطلق العبادة، لظهور العلّة وتدلّ الآية على تحريم السعي في خرابه، فيحرم الخراب بالطريق الأولى وفي ذكر السعي في الخراب بعد المنع إشعار مّا بأن يكون المنع عن الذكر فيها تخريبا، والعبادة فيها تعميرا، فيدخل الذكر فيها في تعمير المساجد، وأمّا دلالة تتمّة الآية على تحريم دخول المساجد على الكفّار كما قيل، فليس بظاهر. إذ ليس بظاهر في أنّ معناها النهي عن تمكّن الكفّار وتمكينهم من دخولها، إذ قد يكون معناها كما هو الظاهر ما كان ينبغي لهم الدّخول في نفس الأمر ولا يليق لهم ذلك إلّا خائفين من أذى المسلمين، والإخراج لهم، وصار الأمر الآن بالعكس، يعني في الواقع ما يستحقّون الدخول إلّا خائفين وذليلين وهم يتعدّون ذلك ويمنعون المسلمين من الدخول، كما يدلّ عليه أيضا آخرها( لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ) ويمكن كون ذلك الدخول خائفا والخزي(1) هو الذلّ في الدّنيا أو إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون ويكون العذاب العظيم في الآخرة إشارة إلى
__________________
(1) في نسخة سن بعد قوله خائفا: ولذا سئموا الخزي في الدنيا وإعطاء الجزية إلخ.
عذاب يوم القيامة، وهو عظيم، وأيّ عظيم نعوذ بالله منه.
قيل(1) في الآية أحكام، ما عرفناها بل لم يظهر كون بعضها حكما في نفس الأمر مثل وجوب اتّخاذ المساجد كفاية، ووجوب عمارة ما استهدم منها، ووجوب شغلها بالذكر، واستحباب كلّ واجب كفائي عينا فتأمّل وهو أعلم.
الثامنة: ( إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ) (2) .
فيها حثّ عظيم وترغيب جزيل على تعمير المساجد، وأنّ له شأنا كبيرا عند الله حتّى أنّه لا بدّ من اتّصاف فاعله بهذه الأوصاف الجليلة، وإلّا ففعله كعدمه فينبغي أن يكون التعمير ممّن يقيم الصّلاة ويؤتي الزكاة، ولم يخش إلّا الله وإلّا فتعميره ليس تعميرا مرضيّا.
والمراد المبالغة، وإلّا فالتعمير أمر مطلوب للشارع من كلّ مؤمن ويترتّب عليه ثوابه الّذي قرّره [الله] ولكن قد يكون فيه الزيادة بالإخلاص، واتّصاف فاعله بالأفعل الحسنة، ولا بعد في ذلك، ولهذا قيل «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين» فكأنّه إشارة إلى أنّ المؤمن الكامل لم يترك شيئا من العبادات، بل يجعل غير الله معدوما حتّى لم يخف ممّا يهلكه من الانس والجنّ، ويجعل خوفه وطمعه منحصرا فيه تعالى، ومع ذلك يرجى أن يكون من المهتدين.
ثمّ إنّه قيل يحتمل أن يكون المراد بالتعمير رمّ المساجد بإصلاح ما يستهدم وتزيينها، وإزالة ما تكره النفس منه، مثل كنسها، فإنه روي: من كنس مسجدا يوم الخميس وليلة الجمعة وأخرج من التراب مقدار ما يذرّ في العين غفر له(3) والإسراج فيها روي أنّه من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش
__________________
(1) راجع كنز العرفان ج 1 ص 106.
(2) براءة: 19.
(3) الوسائل أبواب أحكام المساجد الباب 8.
يستغفرون له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه، ويحتمل أن يكون المراد شغلها بالعبادة مثل الصّلاة والزكاة وتلاوة القرآن، وتجنّبها من أعمال الدّنيا واللهو واللّعب وعمل الصنائع بل الحديث فإنّه روي: الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب، قيل المراد اللهو من الحديث وأيضا قد ذكروا أنّ منع المساجد من العبادة فيها تخريب حتّى إطفاء السراج، ويمكن أن يكون المراد كلاهما ولا بعد في ذلك لوجود الدليل عليهما، كما عرفت، مع إمكان الصدق عرفا وشرعا وإن يكن لغة وعرفا عاما والله يعلم بحقيقة الحال.
وهنا آيات أخر تتعلّق بالمساجد ذكرنا آية منها:
( وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (1) .
أي توجّهوا إلى عبادة الله مستقيمين، غير عادلين إلى غيرها، وأقيموها نحو القلبة في كلّ وقت سجود أو في كلّ مكانه وهو الصّلاة، أو في أيّ مسجد حضرت الصّلاة وأنتم فيه، لا تؤخّروها حتّى تعودوا إلى مساجدكم، فيحتمل استخراج صلاة التحيّة على ما قيل فتأمّل ثمّ أمرهم بالدّعاء عند كلّ مسجد مخلصين له ذلك وفيه دلالة على الحثّ على الدّعاء في المساجد.
( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (2) يعني الّذين يتّخذون دينكم لهوا ولعبا وهزؤا، ويتمسخرون بدينكم من أهل الكتاب والمشركين، لا يصحّ ولا يجوز لكم أيّها المؤمنون أن تحبّوهم وتولّوهم ويكون بينكم وبينهم مودّة ووداد، وأن تكونوا أولياء لهم، وتجعلونهم أولياء لكم، بل بينكم وبينهم البغضاء والقتال، فإنّ محبّة الله لا يجتمع مع محبّة عدوّه، واتّقوا الله في موالاتكم أعداء الله إن كنتم مؤمنين حقّا وأنّ الايمان يعاند موالاة أعداء
__________________
(1) الأعراف: 28.
(2) المائدة: 63، وذكرها كالمقدمة للاية التاسعة الاتية.
الدّين، ففيه إشعار بعدم جواز موالاة الفسّاق، والمعاشرة معهم، بحيث يشعر بالصداقة فافهم.
التاسعة: ( وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ) (1) .
أي لا تتّخذوا الّذين إذا ناديتم إلى الصلاة اتّخذوا مناداة الصلاة أي الأذان هزوا ولعبا أولياء قيل: كان رجل من النصارى إذا سمع أشهد أنّ محمّدا رسول الله في الأذان قال حرّق الكاذب، يعني المؤذّن فدخلت خادمته أي جاريته بنار ذات ليلة وهو نائم، فتطايرت منها شرارة في البيت فاحترق البيت، واحترق هو وأهله لعنه الله، قيل فيه دليل على ثبوت الأذان بنصّ الكتاب لا بالمنام وحده، وفيه تأمّل إذ فيه دلالة على ثبوته في الشرع، ففي الكتاب دلالة على أنّه كان في الشرع ذلك أمّا ثبوته بالكتاب فلا، ولمّا كان لعبهم وهزؤهم من أفعال السفهاء والجهلة قال( لا يَعْقِلُونَ ) كأنّه لا عقل لهم.
(النوع الخامس)
(في مقارنات الصلاة وفيه آيات)
قد استدلّ على وجوب القيام والنيّة والقنوت بقوله تعالى( وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ ) وفي إفادته لها تأمّل لا يخفى، وكذا استدلّ على وجوب تكبيرة الإحرام المشهور على الوجه المنقول بقوله تعالى( وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ) وبقوله( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) (2) وفي دلالتهما أيضا خفاء فافهم، واستدلّ على وجوب القراءة حتّى السورة أيضا بقوله تعالى وهي الرابعة( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) (3) وبقوله تعالى:
__________________
(1) المائدة: 64.
(2) الاولى في البقرة: 238، والثانية في أسرى: 111، والثالثة في المدثر: 3.
(3) المزمل: 20.