الطفل بين الوراثة والتربية الجزء ١

الطفل بين الوراثة والتربية0%

الطفل بين الوراثة والتربية مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الأسرة والطفل
الصفحات: 404

الطفل بين الوراثة والتربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد تقي فلسفي
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الصفحات: 404
المشاهدات: 69829
تحميل: 7771


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 404 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 69829 / تحميل: 7771
الحجم الحجم الحجم
الطفل بين الوراثة والتربية

الطفل بين الوراثة والتربية الجزء 1

مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

على الإنسان أن يستفيد لحفظ حياته وسلامته من هذه المادة الحياتية المهمة، ولكننا على يقيم من أن الحم وحده لا يكون غذاء كاملاً، ولا يستطيع أن يحفظ للإنسان حياته وصحته إلى الأبد.

والفروع العليمة المختلفة من طبيعية ورياضية وأدبية تشبه أنواع اللحوم الضرورية، ولكن لا تشكل هذه العلوم وحدها غذاء روحياً كاملاً للإنسان ولا تستطيع أن تحفظ للروح الإنسانية حياتها وسلامتها إلى الأبد.

وما أكثر البحارة الذين كانوا يملكون في بواخرهم المقادير الكافية من اللحوم والمواد الدهنية والسكرية، ولكن حيث إنهم كانوا فاقدين للخضروات، فقد خلت أطعمتهم من الفيتامين C ، فأصيبوا بنزف اللثة والمخرج والتهاب الرئة، وماتوا أخيراً بأفظع صورة وأشد الآلام، وكذلك ما أكثر الأشخاص المطلعين على المقدار الكافي من مسائل العلوم الطبيعية والرياضية، ولكنهم عند هجوم المصائب عليهم، أصيبوا بالأمراض النفسية أو الروحية أو أقدموا على الانتحار لعدم وجود الرصيد الإيماني والأخلاقي عندهم.

إن إصابة أولئك وموتهم كان لنقص المواد الغذائية البدنية، وإصابة هؤلاء وانتحارهم لنقص المواد الغذائية الروحية، ونتيجة كل منهما الشقاء والموت. فكما أن غذاء الجسد يتشكل من مجموعة من العناصر المختلفة: الدسم، السكر، الفسفور، الكالسيوم، الحديد، اليود، الفيتامين، ونظائرها. وإن فقدان أي عنصر منها يؤدي إلى عوارض خاصة كذلك غذاء الروح يتشكل من مجموعة من الثروات المختلفة: العلم، الإيمان، العفة، الأمانة، الشجاعة، التقوى، وأمثالها. وإن فقدان أي واحد منها يتضمن عواقب وخيمة.

(وبصورة كلية فإن نظام التغذية الفاسدة عبارة عن فقدان بعض العناصر وعدم تعادلها، من دون أن تظهر علائم بعضها في مقابل البعض الآخر. فحينذاك يصبح الجسم ضعيفاً ومستعداً لتقبل الأمراض المختلفة. وكما تقول (مدام راندوان) فأنه يمكن الوصول إلى الأسباب الرئيسية لبعض

٢٢١

الأمراض القاضية كالسل والسكر والسرطان في سلسلة من الأخطاء التي ترتكب بالنسبة إلى كيفية صنع الأطعمة طيلة أجيال عديدة. أن الجسم يستطيع أن يعيش مع وجود التغذية الناقصة وغير المتعادلة لفترة ما، ولكن سرعان ما تظهر الاختلالات وحينذاك فالألم يكون شديداً جداً. وقد يؤدي ذلك إلى انهيار الصحة تماماً. إذا ظهر مرض سار فإنا نقاوم الجراثيم الناقلة لذلك المرض ونكافحها، ولكننا لكشف العلة الأصلية في نشوء ألم ما نحتاج إلى دقة شديدة. وعلى أي حال، فإن تشخيص المرض أصعب من إزالته بكثير) (1) .

الروح الضعيفة:

لقد وجدنا أن الجسم يستطيع أن يعيش مع التغذية الناقصة، وينمو قليلاً. ولكن عندما يصاب بمرض سار فلا يستطيع مكافحته إذ يواجه اختلالات عديدة، فالآلام الشديدة تقض عليه مضجعه وقد تؤدي به إلى الموت.

وكذلك الروح فإنها تستطيع أن تستمر على الحياة مع التغذية الروحية الناقصة، ويكون الفرد حينذاك فرداً اعتيادياً في المجتمع ظاهراً، ولكن في المواقف الحرجة، وأمام الحوادث المؤلمة، لا يملك قدرة المقاومة وأخيراً يفشل في المعركة وينسحب بعد أن فقد شخصيته.

قد نجد شاباً مؤدباً، وقراً، يبدو اعتيادياً جداً، ولا يشاهد منه أي انحراف، يقضي الأيام في الذهاب إلى الثانوية، وحين يحين موعد الامتحان يستعد لذلك، ويجيب على الأسئلة، ولكنه يرسب في ثلاثة دروس فيتألم لهذه الحادثة كثيراً، ولا ينام ليله، تسوء أخلاقه ويتشاءم من النظر إلى أي إنسان في الحياة، وبدلاً من أن يتصرف بتعقل ويصمم على أن يجتهد أكثر ويعد

____________________

(1) جه ميدانيم؟ تغذية إنسان ص 25.

٢٢٢

نفسه لامتحانات السنة القادمة، يختلي بنفسه وينهي حياته بتناول شيء من السم.

هذا الشاب لا بد وأن تكون تغذيته الروحية ناقصة، فلم يعلم في طفولته على التحمل والصلابة والصبر، فسقوطه أحدث اختلالات كبيرة في فكره وقضى عليه أخيراً.

وكما يعجز الجسم الذي نشأ على التغذية الناقصة من مكافحة الأمراض السارية، تعجز الروح التي تربّت على التغذية الروحية الناقصة عن مجابهة الحوادث المؤلمة في الحياة.

إن مَن يصل إلى منزلة اجتماعية لائقة ولا يقدر على أن يتمالك على نفسه من الظلم والتعدّي، ومَن يخسر شخصيته في مقابل الرشوة ويحكم على خلاف الحق والإنصاف، ومن يسحق جميع مظاهر الشرف والأخلاق في سبيل إرضاء ميوله الجنسية، ومَن يؤدّي به الغنى والثروة إلى التكبر والأنانية. وبصورة موجزة: من ينحرف عن طريق الفضيلة والأخلاق في مقابل عامل روحي واحد؛ فذلك لأن روحه قد نشأت على التغذية الناقصة ولم تتغذ من جميع المواد الغذائية الروحية بصورة كاملة وسليمة.

قابلية المقاومة:

قابلية مقاومة الجسم تظهر في هجوم الأمراض السارية، وقابلية مقاومة الروح تظهر في الحوادث والمصائب التي تلاقي البشر في مختلف مراحل حياتهم. يقول الإمام علي (ع): (في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال) (1) .

وعلى سبيل الشاهد، ننقل القصة التالية:

(... بينما المنصور بن أبي عامر في بعض غزواته إذ وقف على نشز من الأرض مرتفع، فرأى جيوش المسلمين من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله قد ملئوا السهل والجبل. فالتفت إلى مقدم العسكر وهو رجل يعرف بابن المضجعي، فقال له: كيف ترى هذا العسكر أيها الوزير؟ قال:

____________________

(1) نهج البلاغة ص 562.

٢٢٣

أرى جمعاً كثيراً وجيشاً واسعاً كبيراً، فقال له المنصور: ترى هل يكون في هذا الجيش ألف مقاتل من أهل الشجاعة والنجدة والبسالة؟ فسكت إبن المضجعي. فقال له المنصور: ما سكوتك أليس في هذا الجيش ألف مقاتل؟ قال: لا، فتعجّب المنصور. ثم قال: فهل فيهم خمسمئة مقاتل من الأبطال المعدودين؟ قال: لا. فحنق المنصور ثم قال: أفيهم مئة رجل من الأبطال؟ قال: لا، قال: أفيهم خمسون رجلاً من الأبطال؟ قال: لا، فسبّه المنصور وأغلظ عليه وأمر به، فأُخرج على أسوأ حال. فلما توسّطوا بلاد الروم اجتمعت الروم وتصادف الجمعان. فبرز علج من الروم بين الصفين شاكي السلاح وجعل يكر ويفر ويقول: هل من مبارز؟! فبرز إليه رجل من المسلمين فتجاولا ساعة، فقتله العلج. ففرح المشركون وصالحوا واضطراب المسلمون لها. ثم جعل العلج يموج بين الصفين وينادي: هل من مبارز؟! اثنين لواحد. فبرز إليه رجل من المسلمين فتجاولا ساعة فقتله العلج، وجعل يكر ويحمل وينادي ويقول: هل من مبارز؟! ثلاثة لواحد!! فبرز إليه رجل من المسلمين فقتله العلج، فصاح المشركون وذل المسلمون وكادت أن تكون كسرة، فقيل للمنصور: ما لها إلاّ ابن المضجعي. فبعث إليه فحضر فقال له المنصور: ألا ترى ما صنع هذا العلج الكلب منذ هذا اليوم، فقال: لقد رأيته فما الذي تريد؟ قال: أن تكفي المسلمين شره. قال: الآن يكفي المسلمون شره إن شاء الله تعالى. ثم قصد إلى رجال يعرفهم. فاستقبله رجل من أهل الثغور على فرس قد تهرّت أوراكها هزالاً وهو حامل قربة ماء بين يديه على الفرس والرجل في حليته ونفسه غير متصنع، فقال له ابن المضجعي: ألا ترى ما يصنع هذا العلج منذ اليوم. قال: قد رأيته فما الذي تريد؟ أن تكفي المسلمين شره؟ قال: حباً وكرامة. ثم إنه وضع القربة بالأرض وبرز إليه غير مكترث به فتجاولا ساعة فلم يرى الناس إلاّ المسلم خارجاً إليهم يركض ولا يدرون ما هناك، وإذا برأس العلج يلعب بها في يده. ثم ألقى الرأس بين يدي المنصور فقال له ابن المضجعي: عن هؤلاء الرجال أخبرتك، ثم رد إلى ابن المضجعي منزلته وأكرمة ونصر الله جيوش المسلمين وعساكر الموحدين) (1) .

____________________

(1) المستطرف من كل فن مستظرف للإبشيهي ج 1|218.

٢٢٤

والخلاصة: إن كلا من الروح والجسد يحتاج في تأمين سعادته ووصوله إلى كماله اللائق به إلى الغذاء الكامل والجامع. وإن فقدان أي عنصر من الغذاء يهيِّىء تربة مساعدة للانحراف أو الضعف في الروح والجسد.

النمو السريع للطفل:

وبالرغم من ضرورة المراقبة الغذائية اللازمة في جميع مراحل الحياة، لكن مرحلة الطفولة تحتاج إلى مراقبة أشد، ذلك أن الطفل ينمو في الأعوام الأولى من حياته بصورة أسرع، ويتكامل بناؤه الفكري أكثر سرعة.

(إن الجزء الوحيد من البدن الذي يستثنى من قانون التكاثر بالانشطار هو الجهاز العصبي أي المخ وشبكة الأعصاب، ذلك أن الوليد يأتي إلى الحياة مع الخلايا العصبية الكاملة، ولا يصنع الجهاز طيلة أيام حياته حتى خلية مخية أو عصبية واحدة. ولذلك فإن انعدام هذه الخلايا نتيجة لصدمة أو مرض لا يمكن أن يجبر. ومع هذا كله فإن المخ ينمو على الرغم من ثبات عدد خلاياه وهذا النمو يحصل في الأعوام الثلاثة الأولى بسرعة عجيبة بحيث يمكن إرجاع 95% من نمو الدماغ عند الإنسان إلى تلك الأعوام الثلاثة) (1) .

مسئولية الوالدين:

إن عبء مسئولية الوالدين في هذه المراحل ثقيل جداً. فان الغفلة عن سلامة الغذاء المادي والروحي للطفل وكمالها تؤدي إلى عوارض غير قابلة للتدارك. فالطفل يكتمل بناؤه في الأعوام الأولى من حياته، ولا بد من الاعتناء بجميع جوانبه المادية والمعنوية. إن نقص التغذية الروحية أو الجسدية في هده الأيام تتضمن نتائج وخيمة، إن خطأة صغيرة يمكن أن تؤدي إلى مشكلة عظيمة يستمر أنين الطفل منها إلى نهاية عمره.

قال رسول الله (ص): (ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.

____________________

(1) هورمونها ص 11.

٢٢٥

فالأمير على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع عن أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على أهل بيت بعلها وولده وهى مسئولة عنهم. ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) (1) .

فعلى الوالدين المسلمين أن يتنبها إلى المسئولية الدينية العظيمة عليهما في تربية أطفالها. وليعلما أن الأطفال ودائع الله في أيديهما فالوالدان اللذان يؤديان واجبهما الديني في تربية الأولاد بصورة صحيحة يكونان قد أديا الأمانة أداء كاملاً، ويستحقان الأجر والثواب عند الله على ذلك. أما الوالدان اللذان يتخلّفان عن ذلك فهما خائنان لأنفسهما ولأطفالهما، وللمجتمع الذي يعيشون فيه، وهما يستحقان العقاب والحساب العسير أمام الله تعالى.

ليست المسئولية العظمى للآباء في أن يجمعوا في حياتهم ثروة ضخمة ويورثوها إلى أولادهم. ذلك أن الولد إذا لم يحصل على تربية صحيحة فان الثروة تبعثه على الفساد والشقاء. إن مسئولية الوالد تعني أن يربي ابنه على الملكات الفاضلة والقيم العليا والإيمان الصحيح وإعداده لخوض معركة الحياة بطهارة ونبل. وولد كهذا يستطيع أن يحيا حياة عزيزة وسعيدة وفي نفس الوقت يستطيع أن يكتسب ثروة كبيرة عن عن طريق مشروع. يقول الإمام علي (ع): (خير ما ورث الآباء الأبناء الأدب) (2) .

ونعمة كبيرة يمتاز بها الأولاد الذين تحدّروا عن آباء مؤمنين قاموا بتربيتهم تربية صحيحة ومن نتائج تلك التربية أنهم يعيشون حياة مطمئنة محبوبون لدى الجميع. إنهم يجب أن يشكروا الله تعالى على تلك النعمة ويترحموا على والديهم، ويحافظوا على الملكات الفاضلة التي تربوا عليها، فلا يفقدوها بمعاشرة الفساد ومجالسة الأشرار.

أما الأولاد الذين لم يتلقوا تربية صحيحة من آبائهم، فان عليهم أن يبادروا إلى إصلاح أنفسهم، ليكونوا واثقين من أنهم قادرون على تدارك تقصير والديهم بحقهم إذا تمسكوا بالأساليب العليمة والدينية الصحيحة، وبذلك يستطيعون أن يسلكوا الطريق إلى السعادة والطهارة والعفة.

____________________

(1) مجموعة ورام ج 1|6.

(2) غرر الحكم ودرر الكلم ص 173 طبعة دار الثقافة.

٢٢٦

المحاضرة التاسعة:

دور الأسرة في التربية

قال الله تعالى: ( مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً ) (1) .

تكون الميول المودعة في باطن الإنسان رصيد سعادته وأساس تقدمه... فإن كل تلك الميول والمتطلبات قد أوجدت حسب نظام دقيق، وبمقادير صحيحة: ( وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ) (2) .

والسعيد هو الذي يتبع قوانين الخلقة المتقنة، ويستجيب لجميع ميوله الروحية والجسدية باتزان وتعقُّل. فمَن يفرط في الاستجابة لنداء أحد ميوله أكثر من الحد اللازم، أو على العكس من ذلك يكبت في نفسه بعض ميوله الطبيعية ولا يفسح المجال لإروائها يكون خارجاً على المنهج الفطري ومصاباً بالانحراف والشقاء بنفس النسبة.

ميول الروح والجسد:

إن الميول والرغبات الموجودة عند الإنسان تارة تكون: واضحة وظاهرة ويسعى جميع الناس في سبيل إرضائها، مثلاً ليست حاجة الإنسان إلى الطعام والهواء والماء والنوم، والميل الطبيعي للعب عند الأطفال والغريزة الجنسية عند الشبان والشابات أمراً خافياً على أحد. هذا النوع من الميول يدركها جميع الناس. وبديهي أن مدى الاستجابة لهذه الميول يرتبط بالإرشادات الدينية والعلمية، ولكن توجد في الإنسان ميول أخرى تكون مستترة وغير ظاهرة. وحيث إنها كذلك فقلّما يلتفت إليها. إن جميع الناس يعلمون أن الطفل يحتاج إلى الماء والغذاء، ولكن القليل منهم يدرك ضرورة

____________________

(1) سورة نوح |13 - 14.

(2) سورة الرعد |8.

٢٢٧

تنمية شخصية الطفل. إن الوالدين يدركان حاجة الطفل إلى اللعب والنوم، ولكن قلما يدرك الوالدان حاجة الطفل إلى العطف والحنان إلى درجة ما أيضاً. إن أولياء الأطفال يتنبهون إلى سلامة القلب والكبد والكلية وسائر أعضاء جسد الطفل تنبهاً كاملاً، ولكنهم لا يهتمون إلى السلامة الروحية والأخلاقية للأطفال بنفس الدرجة.

إن العناية بالميول الباطنية والرغبات النفسية للطفل وتوجيهها الوجهة الصحيحة تعد من المسائل الأساسية في التربية. وإن رصيد القائمين على تربية الأطفال في هذا السبيل هو التعاليم الدينية والأساليب العلمية الصحيحة. وإن اندحار وكبت أي واحد من هذه الميول الفطرية يؤدي إلى إيجاد عقدة في روح الطفل، يظهر رد فعلها طيلة العمر في جميع مجالات الحياة، ويسبب مئات الانحرافات والمآسي.

* * *

ونظراً لأهمية الميول الباطنية للطفل في موضوع التربية فسنحاول أن نفصل القول فيها في المحاضرات القادمة مع تضمين ذلك بذكر التعاليم الإسلامية العظيمة في هذا الصدد، وبيان دور الوالدين في القيام بهذه المهمة.

أما بحثنا في هذه المحاضرة، فينحصر في بيان أن الإرضاء الكامل للميول الباطنية عند الطفل، والاهتمام بجميع جوانب شخصيته لا يحصل إلاَّ في محيط الأسرة، فإن حجر الأم وحضن الأب فقط قادران على أداء هذا الدور الفعال في حياة الطفل.

إرضاء جميع الميول:

إن دار الحضانة عاجزة عن أن تحل محل الأسرة، وإن مرشدة الأطفال لا تستطيع أن تقوم مقام الأم في إرضاء عواطف الطفل ومشاعره. إن حنان الأم قوي في الإنسان والحيوان إلى درجة أنه لا يوجد بعد غريزة حب الذات عاطفة أخرى تعادل عاطفة الأمومة. إن قلب الأم يطفح بحب الطفل، ولذلك فهي لا تتواني عن القيام بأكبر التضحية في سبيل رشده ونموه. وحين

٢٢٨

تبتسم الأم بوجه طفلها وحين تضمه إلى صدرها، وحين تشمه وتقبله من فرط الحنان والعطف. تسري موجة من النشاط واللذة في أعماق روح الطفل وتبدو على ملامحه وعينيه آثار الفرح والرضا. وقد يبكي الطفل أحياناً من دون أن يشكو ألماً أو جوعاً لكن بكاؤه لكي يناغي، إنه جائع إلى الحنان والعطف، يبكي لغذائه النفسي، فبمجرد أن الأم تحتضنه وتضمه إلى صدرها، أو تمرر يدها على رأسه فهو يهدأ، إن ملاطفة الطفل ومناغاته غذاء نفسي للطفل، ويجب أن يتغذى من هذا الغذاء النفسي بالمقدار اللازم.

دقات قلب الأم:

من القضايا المشاهدة لدى الجميع ارتياح الطفل وهدوءه عندما تضمه الأم إلى صدرها، لقد أثبتت التجارب العلمية الحديثة: أن دقات قلب الأم أوقع في نفس الطفل وآنس له من أي لحن آخر، ولذلك فإن دور الحضانة تسجل صوت هذه الدقات على شريط، وعندما يبكي الطفل يفتح الشريط بالقرب من أذنه ويهدأ بهذه الصورة.

فالفتاة التي قد تلقت قدراً كافياً من الحنان من محيط الأسرة في أيام طفولتها، وتغذت روحها من عطف الوالدين، لا تحتاج في دور المراهقة إلى الحنان ولا تلين بسماع بضع كلمات دافئة معسولة من هذا وذاك، ولا تستجيب لتلك الانفعالات بسرعة.

وعلى العكس فإن الفتاة التي لم تتلق قدراً كافياً من الحنان في طفولتها ولم تشبع غريزتها الباطنية بحب الوالدين، تملك روحاً ضعيفة جداً، وبإمكان شاب مراوغ لبق أن يحرفها عن الطريق بإهدائه إليها باقة من الزهور، وببضع كلمات دافئة. وبذلك يجني على عفتها وطهارتها وتسقط الفتاة إلى الأبد في هوة سحيقة من الفساد والانحراف، أو تغسل العار بالانتحار.

نقص التربية في رياض الأطفال:

لقد انتشرت رياض الأطفال في المدن الأوروبية منذ عهد قريب، وتقوم

٢٢٩

تلك المؤسسات برعاية الأطفال، فالأمهات الموظفات وكذلك النساء اللاهيات اللاتي لا يردن أن يجدن مزاحمة من أطفالهن في مجالس الرقص والقمار والفساد، يستغللن هذه الفرصة، ويودعن أطفالهن في ( رياض الأطفال ).

إن حياة الطفل في روضة الأطفال جميلة جداً بحسب الظاهر، فهو يلبس الملابس النظيفة والأنيقة، ويمشط شعره، وقوامه رشيق، إن روضة الأطفال تجهز بالوسائل الصحية اللازمة فالغرف مبنية على الأساليب الفنية والأسرة مغطاة بالشراشف، والطعام يحضر حسب المناهج الصحيحة، والطفل يلعب بالمقدار الكافي، وينام في الوقت المقرر، وبصورة موجزة فإن جانباً مهماً من ميول الطفل ورغباته الروحية والجسدية يكون مضموناً.

لكنه توجد في أعماق الطفل عواطف ومشاعر لا تشبع في المحيط الاجتماعي لروضة الأطفال، فهناك فرق كبير بين علاقة امرأة واحدة تشرف على مائة طفل - لغرض الانتفاع المادي فقط - بالطفل، ولهيب الحب السماوي المودع في قلب الأم. فلا توجد المناغاة الحارة التي تبعث الطفل على الرضا والانشراح إلا في حجر الأم، أما في روضة الأطفال فلا.

إن الطفل الذي يعيش بين مئة طفل حياة غير مستقلة، لا يدرك معنى للشخصية والاستقلال الفردي، وهما من أبرز الخصائص الإنسانية (1) إن حركات الطفل وسكناته يمكن أن تراعى بدقة في الأسرة بينما تضيع أفعاله

____________________

(1) ومن المناسب أن ندرج هنا ما أوردته مجلة (العربي) في فصل ( دردشة ) تحت عنوان: ( الأم هي المعلمة الأولى ): (تستطيع الأم الفاضلة أن تؤدي مهمة مئة أستاذ من أساتذة المدارس. هذا ما قاله الشاعر الإنجليزي جورج هربرت وهذا ما أثبته التاريخ. فجورج واشنطون أول رئيس للجمهورية في الولايات المتحدة الأمريكية، كان قد فقد أباه وهو في الحادية عشرة من عمره، وما كان ليشب على نحو ما شب عليه من رصانة الخلق وقوة الشخصية لو لم تكن أمه على جانب كبير من الحكمة والاقتدار. وقد تولت تربيته، منفردة، بعد وفاة أبيه. ويصدق ذلك كثيراً أو قليلاً على عدد من أعلام الأدب والعلم والشعر عبر التاريخ نذكر منهم على سبيل المثال: جوته، وجري، وشيللر، وبيكون، وأرسكني. فلولا تربية أمهاتهم لهم لما احتل هؤلاء مكانتهم بين الأعلام المبدعين). عن مجلة العربي 95| ص: 59.

٢٣٠

وسط أفعال مئة طفل كموجة بين مئات الأمواج في البحر حيث تصطدم بعضها ببعض، وتزول كلها.

(يجب ألا يكون التعليم مانعاً من التوجيه الصائب. مثل هذا التوجيه يعود إلى الوالدين، فهما وحدهما وبصفة أخص الأم، قد لاحظا منذ شبّا الصفات الفسيولوجية والعقلية التي يهدف التعليم إلى تنظيمها وتوجيهها. لقد ارتكب المجتمع العصري غلطة جسيمة حينما استبدل المدرسة بتدريب الأسرة استبدالاً تاماً... ولهذا تترك الأمهات أطفالهم لدور الحضانة حتى يستطعن الانصراف إلى أعمالهن، أو مطامعهن الاجتماعية، أو مباذلهن، أو هوايتهن الأدبية أو الفنية أو للعب البريدج، أو ارتياد دور السينما، وهكذا يضيعن أوقاتهن في الكسل. إنهن مسئولات عن اختفاء وحدة الأسرة واجتماعاتها التي يتصل فيها الطفل بالكبار فيتعلم منهم أموراً كثيرة. إن الكلاب الصغيرة التي تنشأ مع كلاب أخرى من عمرها نفسه في حظيرة واحدة لا تنمو نمواً مكتملاً كالكلاب الحرة التي تستطيع أن تمشي في أثر والديها. والحال كذلك بالنسبة للأطفال الذين يعيشون وسط جمهرة من الأطفال الآخرين، وأولئك الذين يعيشون بصحبة راشدين أذكياء لأن الطفل يشكل نشاطه الفسيولوجي والعقلي والعاطفي طبقاً للقوالب الموجودة في محيطه... إذ إنه لا يتعلم إلاَّ قليلاً من الأطفال الذين هم في مثل سنه. وحينما يكون وحده فقط في المدرسة فانه يظل غير متكمل).

(إن إهمال مؤسساتنا الاجتماعية للفردية مسئول أيضاً عن تقمّص الراشدين... كما أن الإنسان وحيد وكأنما هو يضيع في المدن العصرية الضخمة. إنه خلاصة اقتصادية... وحدة في القطيع، إنه يتخلّى عن فرديته) (1) .

____________________

(1) الإنسان ذلك المجهول ص 208.

٢٣١

تربية اليتيم:

وعلى أننا سنبحث عن أهمية الأسرة في مناغاة الطفل في محاضرة خاصة ونبين وجهة نظر الإسلام فيها. سنعرض هنا لقضية تربية اليتيم وموقف التعاليم الإسلامية العظيمة منه، لكي يتضح موضوعنا في هذا اليوم، ثم ننتقل إلى دور الأسرة في تربية الطفل.

كثيراً ما يصادف أن يموت الآباء أو الأمهات في أيام الحروب أو في الحالات الاعتيادية، ويخلفون أطفالاً صغاراً يجب أن يحافظ عليهم في المجتمع وليصيروا رجال الغد بفضل التربية الصحيحة، وإن الدول وضعت للأيتام نظماً معينة تكفل لهم حقوقهم.

والإسلام أيضاً يتضمن التعاليم القانونية والخلقية الخاصة به في حل هذه المشكلة. فإذا كان الطفل اليتيم قد ورث من أبويه مالاً فإن القيم (وهو الشخص يعين من قبل الحاكم الإسلامي العادل لإدارة شئون اليتيم) يقوم بتهيئة ما يحتاج إليه من طعام ولباس ومسكن من ماله الخاص. أما إذا لم يملك اليتيم مالاً، فإن بيت المال هو المسئول عن مصارفه، فحياة اليتيم إذن مؤمنة طبقاً للنظام المالي في الإسلام. ولكن النكتة الجديرة بالدقة هي: أن الإسلام لا يرى انحصار سعادة اليتيم في توفير وسائل الحياة المادية من الطعام واللباس والمسكن فقط.

اليتيم إنسان قبل كل شيء، ويجب أن تحيى فيه جميع الجوانب المعنوية والفردية، وله الحق في الاستفادة من الحنان والعطف والأدب والتوجيه، وكل ما يستفيد منه الطفل في حجر أبويه. اليتيم ليس مثل شاة في القطيع يذهب صباحاً إلى المرعى معهم ويرجع في المساء. إنه إنسان ويجب الاهتمام بميوله الروحية وغذائه النفسي مضافاً إلى الرعاية الجسدية والغذاء البدني.

اليتيم في أحضان الأسرة:

إن الراويات الكثيرة تصر على معاملة اليتيم معاملة بقية الأطفال في الأسرة، وإن يقوم الرجال والنساء مقام الوالدين في رعاية اليتيم. لقد كان

٢٣٢

بإمكان الحكومة الإسلامية في عصر الرسول الكريم (ص) من الناحية المادية أن تنشئ في كل مدينة داراً لرعاية اليتيم وتصرف عليهم من بيت المال، ولكن الرسول الأعظم (ص) لم يفعل ذلك. لأن هذه المؤسسات والدور ناقصة من وجهة نظر التربية الكاملة من الناحيتين الروحية والمادية. فالأسرة فقط هي التي تستطيع أن تلبي نداء عواطف الطفل، ولذلك فقد ظل يوصي الآباء والأمهات وأولياء الأسر بمنطق الدين والإيمان بالمحافظة على اليتيم. وأخذه إلى بيوتهم وإجلاسه على موائدهم، ومعاملته كأحد أولادهم، والسعي في تأديبه وإدخال السرور على قلبه بالعطف والحنان والمحبة.

لا شك أن تأسيس دور للأيتام وإكسائهم وإشباعهم، عبادة إسلامية كبيرة، ولكن مناغاة اليتيم والعطف عليه، وتأديبه وتربيته عبادة أخرى وقد خص الله لذلك أجراً وثواباً خاصاً.

وها نحن نعرض النصوص الواردة في حق اليتيم:

1 - قال رسول الله (ص): (خير بيوتكم بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيوتكم بيت يساء إليه) (1) .

2 - عن النبي (ص): (مَن عال يتيماً حتى يستغني، أوجب الله له بذلك الجنة) (2) .

3 - وعنه (ص): (مَن كفل يتيماً من المسلمين، فأدخله إلى طعامه وشرابه، أدخله الله الجنة البتة، إلاَّ أن يعمل ذنباً لا يغفر) (3) .

4 - عن النبي (ص) أنه قال: (من مسح رأس يتيم، كانت له بكل شعرة مرت عليها يده حسنات) (4) .

5 - (من أقعد اليتيم على خوانه، ويمسح رأسه يلين قلبه) (5) .

____________________

(1) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج 1|148.

(2) تحف العقول ص 198.

(3) مستدرك الوسائل ج 1|148.

(4) المصدر السابق ج 2|616.

(5) سفينة البحار مادة (يتم) ص 731.

٢٣٣

6 - قال رسول الله (ص): (من أنكر منكم قساوة قلبه، فليدن يتيماً فيلاطفه وليمسح رأسه يلين قلبه بإذن الله، فإن لليتيم حقاً) (1) .

7 - عن حبيب بن أبي ثابت أنه قال: (جيء بمقدار من العسل إلى بيت المال، فأمر الإمام علي (ع) بإحضار الأيتام، وفي الحين الذي كان يقسم العسل على المستحقين كان بنفسه يطعم الأيتام من العسل، فقيل له: يا أمير المؤمنين، ما لهم يلعقونها؟ فقال: (إن الإمام أبو اليتامى وإنما ألعقتهم هذا برعاية الآباء) (2) .

8 - قال أمير المؤمنين (ع): (أدب اليتيم مما تؤدب منه ولدك واضربه مما تضرب منه ولدك) (3) .

9 - من وصية الإمام أمير المؤمنين إلى أولاده: (الله الله في الأيتام فلا تغبوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم) (4) .

10 - عن فقه الرضا (ع): (وإن كان المعزى يتيماً فامسح يديك على رأسه) (5) .

11 - لما أصيب جعفر بن أبي طالب، أتى رسول الله أسماء فقال لها: أخرجي لي ولْد جعفر، فأخرجوا إليه فضمهم وشمهم. قال عبد الله بن جعفر: أحفظ حين دخل رسول الله على أمي، فنعى لها أبي ونظرت إليه وهو يمسح على رأسي، ورأس أخي) (6) .

* * *

يستفاد من مجموع النصوص الإسلامية ضرورة تربية الأيتام كسائر الأطفال في المجتمع، ولهم الحق في الاستفادة من جميع المزايا والعواطف

____________________

(1) الوسائل ج 1|157.

(2) البحار ج 9|536.

(3) الوسائل ج 5|125.

(4) نهج البلاغة ص 470.

(5) مستدرك الوسائل ج 1|147.

(6) بحار الأنوار ج 18|212.

٢٣٤

الإنسانية. إن الأيتام في الدولة الإسلامية يمتازون برعاية كاملة من حيث الطعام واللباس والحنان والأدب، بحيث لا يحسّون بأيّ فرق بينهم وبين سائر الأطفال. وطبيعي أن تربية كهذه تكون مصونة من الانحراف والخطأ. وإن طفلاً كهذا لا يصاب بعقدة الحقارة والذلة، فينمو بصورة معتدلة وتشبع رغباته الباطنية جميعها بشكل صحيح، ولكن القيام بمثل هذا الواجب المقدس والعبء الثقيل يتطلب إيماناً قوياً وعقيدة مستقيمة.

لقد اهتم الإسلام بتعليم أتباعه هذا الدرس المقدس والآن حيث يطوي هذا الدين السماوي قرنه الرابع عشر، نجد في أطراف العالم الإسلامي الرجال والنساء الكثيرين الذين يفتحون صدورهم - بكل رضى واعتزاز - للقيام بهذه المهمة، ويتورّعون عن إتيان أصغر عمل سبب الأذى لليتيم وجرح عواطفه.

(وحين يحرم الموت المبكر طفلاً من ملجئه الطبيعي يشدد الآخرون في رعايتهم له والاستجابة لاحتياجاته. لكن هذا العمل لا بد وأنه منبثق من كنز عظيم يفيض بالحنان والعاطفة. وإن كنزاً كهذا لا يوجد إلا في باطن ثلة قليلة من البشر الممتازين) (1) .

وإذا كان قائد الإسلام العظيم يوصي الأسرة الخيرة باحتضان الأطفال اليتامى، لتربيتهم التربية الصحيحة ومعاملتهم كأطفالهم كي يحصلوا على المقدار الكافي من الحب والحنان، ويتلقوا الأدب والسلوك المستقيم، ويصبحوا أفراد كاملين، فهل يمكن أن يرضى الرسول الأعظم ( ص ) للأمهات أن يتركن أطفالهن لأعذار يعرفنها ويحرمنهم من التربية الصحيحة، والفوائد المهمة التي يستطيعون أن يحصلوا عليها في محيط الأسرة فقط؟!

(إن حرارة الأسرة تسبّب تفتّح جميع المشاعر والعواطف الراقية الكامنة في نفس الطفل بنفسها، وبذلك يتطبّع الطفل منذ حداثته على الصدق والأمانة والشهامة. إن الأسرة هي الميدان العملي لتطبيق تعاليم الشعور بالمسئولية والوجدان، وإظهار

____________________

(1) ما وفرزندان ما ص 3.

٢٣٥

ذلك كله بصورة بارزة ظاهرة أمام عيني الطفل).

(إن الأسرة التي ينتشر فيها الوفاء والتضحية، الصدق والشهامة في الأقوال والأفعال، الأمانة والشجاعة في العمل، الإيثار والتواضع... ترسم نموذجاً صالحاً للأطفال).

(إن جميع هذه العوامل تتجلى لعيني الطفل بالتدريج خلال حياته، وفي الحين الذي يتلقاها بصورة تلقائية يتطبع عليها بدوره) (1) .

المدرسة الأولى:

إن محيط الأسرة مدرسة تستطيع أن تنمي المواهب الكامنة في نفس الطفل، وتعلمه دروساً في العزة والشخصية، الشهامة والنبل، التسامح والسخاء... وغير ذلك من القيم الإنسانية العليا، لا روضة الأطفال.

كان الإمام علي ( ع ) - دون أية مبالغة - إنساناً كاملاً، وشخصية مثالية في العالم كله، فلقد ظهرت جميع الصفات الإنسانية والملكات الفاضلة على أكمل وجه في هذا الرجل الإلهي. إنه معلم مدرسة الإنسانية ومثلها الأعلى. فلقد خضع له الصديق والعدو، المسلم وغير المسلم، وكل مَن اطلع على تاريخه المشرق النير.

هذه الشخصية الإلهية الكبيرة نجده يفخر بكل صراحة بالتربية التي تلقاها في أيام طفولته، ويتحدث لنا عن الثروة المعنوية الضخمة التي حصل عليها في تلك المرحلة من حياته الشريفة، ويتباهى بمربيه العظيم نبي الإسلام القدير، فيقول: (وقد علمتم موضعي من رسول الله ( ص ) بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد يضمني إلى صدره ويكنفني في فراشه ويمسني جسده ويشمني عرفه) (1) .

____________________

(1) ما وفرزندان ما ص 4.

(2) نهج البلاغة ص 406.

٢٣٦

... ثم يستطرد فيقول: (يرفع لي في كل يوم علماً من أخلاقه ويأمرني بالاقتداء به) (1) .

لقد تشبّعت جميع الميول العقلية والعاطفية للإمام علي ( ع ) في فترة الطفولة في حجر النبي الحنون، فلقد أروى عواطفه بالمقدار الكافي من ينبوع محبته وعطفه من جهة، ولقد أعطاه دروساً في الأخلاق وأمره بإتباعها من جهة أخرى.

ومن كان في طفولته واجداً لأثمن الذخائر الروحية والمادية من الوجهة الوارثية، ومن ناحية التربية قد تلقى المثل في أطهر أسرة وكان مربيه الرسول الأعظم ( ص )، جدير بأن يكون في الكبر قائد السعادة البشرية وأمير جيش الإيمان والتقوى.

إن الأساليب التربوية العميقة الحكيمة التي اتخذها الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع علي ( ع ) قد أحيت جميع مواهبه الكامنة وأوصلته في مدة قصيرة إلى أعلى مدارج الكمال، فلقد تقبّل الإسلام في العاشرة من عمره عن وعي وإدراك، وعمل على نشر تعاليمه متبعاً في ذلك سيرة النبي، ولم ينحرف عن الصراط المستقيم قدر شعرة إلى آخر حياته.

ونموذج آخر للتربية الصالحة نجده في التاريخ المشرق للإمام الحسين بن علي(ع ) فهو غير خفي على أحد. فلقد خلّدت القرون المتمادية شهامة الحسين وتضحيته، إيثاره وعظمته في إعلاء كلمة الحق والعدالة، ولم يغب ذلك كله عن أذهان البشرية على مر الأجيال. ولقد تباهى ذلك الإمام العظيم كوالده بطهارة أسرته العريقة في أحرج المواقف. وتحدث عن تربية عائلته له آنذاك قائلاً: (ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت) (2) .

____________________

(1) نهج البلاغة ص 406.

(2) نفس المهموم ص 149.

٢٣٧

أجل! فلقد قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (1) والإمام الحسين ( ع ) هو نفسه من المؤمنين وهو قائد المؤمنين وعليه يجب أن لا ينصاع لقوى الظلم والبغي. وأما دليله الثاني فهو أنه من أسرة أنفت الذل وأبت الضيم. وكأنه يقول: إني تربّيت في حجر الرسول الأعظم ( ص ) وعلي بن أبي طالب والصديقة الزهراء، لقد نشأت على الشرف والإباء... كان بيتنا الصغير منبع الفضيلة والشهامة، ولم تجد الحقارة طريقاً لها إلى أسرتنا... لقد تربّيت في أحضان من عاشوا حياة ملؤها العز والحرية، فكيف أرضى بالذلة والخضوع متناسياً ثروتي العائلية؟! هذا مستحيل، فلن أبايع يزيد أبداً ولا أخضع لأوامره.

هذه الشهامة والعزة، وهذا الإباء والشرف... نتيجة التربية الأصلية في الأسرة، التربية النابعة من حنان الوالدين وحبهما، ذلك الحب الممزوج بالإيمان، التربية التي ملؤها الصفاء والخلاص والطهارة والواقعية.

إن رياض الأطفال أعجز من أن تربي أولاداً كهؤلاء. فهي مؤسسة تجارية قبل أن تكون مركزاً ثقافياً وتربوياً، فإن مؤسسي رياض الأطفال يهدفون في الدرجة الأولى إلى الحصول على مال من وراء الأجور الشهرية للأطفال، ويهتمون بالتربية في الدرجة الثانية، مع أن التربية أيضاً سطحية وبسيطة. إن الآباء والأمهات الذين لا يملكون هدفاً بغير التربية يجدون لذتهم في أن يربوا أولادهم تربية صحيحة ويجعلوهم أفراداً جديرين أكفاء في المجتمع، وإن مركز هذا النشاط هو الأسرة فقط.

ثم إن الميزة الأخرى التي تضفي أهمية كبيرة على قيمة الأسرة هي إحياء الخصائص الفردية. فالأفراد ليسوا متفاوتين فيما بينهم من ناحية المنظر والبناء الخارجي فقط، بل يختلفون من حيث معنوياتهم ونفسياتهم أيضاً. وهذا نفسه أحد مظاهر القدرة الإلهية... ( مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً ) .

____________________

(1) سورة المنافقين |8.

٢٣٨

قال النبي ( ص ): (الناس معادن، كمعادن الذهب والفضة) (1) .

الأطفال الممتازون:

وهكذا نجد أن بعض الأطفال يولدون مع صفات وخصائص معينة لا توجد عند الأطفال الاعتياديين. فربما يوجد العقل والإدراك والذكاء والفطنة، الحافظة وسرعة الانتقال، الشهامة والسيطرة على النفس، وقسم آخر من الصفات في بعض الأفراد بصورة أكثر من المعتاد. ويختلف العظماء والنوابغ في العالم من حيث البناء الطبيعي عن بقية الأفراد. وإن النجاح الذي أحرزه كل منهم في ميدانه في أثناء حياته يعزى إلى الدقة المعمولة في خلقهم وبنائهم. وعلى سبيل الشاهد ننقل قصة أبي زكريا التبريزي تلميذ أبي العلاء المعري وقد تلمذ على يده سنوات عديدة. ولما كان أبو العلاء مكفوف البصر فلقد كان لا يستطيع القراءة. وفي أحد الأيام كان أبو زكريا يقرأ لأبي العلاء كتاباً له في مسجد المعرّة، وفي الأثناء حضر مسافر من تبريز إلى الجامع ليصلي، فسر أبو زكريا لرؤيته كثيراً وتوقّف عن قراءة الكتاب لعدة لحظات، فسأله الأستاذ عن السبب، فأخبره بمجيء صاحبه. فأمره أبو العلاء بأن يذهب إليه ويتحدث معه، فقال له: أمهلني أكمل الصفحة، فقال: لا، وسأنتظرك حتى تنهي حديثك. فجلس أبو زكريا مع صاحبه على بعد خطوات من أبي العلاء وأخذ يتحدث معه باللغة المحلية ويسأله عن بعض القضايا فيجيبه. وعندما رجع إلى أستاذه سأله: أي لغة هذه؟ قال: لغة آذربايجان! فقال: إني لم أفهم ما تداول بينكما من حديث، ولكني حفظت ما قلتماه، وأعاد جميع الألفاظ بلا زيادة أو نقصان. فتعجّب صاحب أبي زكريا من حافظة أستاذه بشدة، وكيف أنه حفظ تلك الألفاظ بسرعة دون أن يفهم معانيها (2) .

____________________

(1) البحار ج 14|405.

(2) ينقل القصة بكاملها صاحب ( قاموس دهخدا ) الفارسي عند ترجمة ( أبي العلاء المعري ) ص 636.

٢٣٩

نوابغ العالم:

لقد وجد على مر القرون المتصرمة نوابغ عظماء لا يقاسون مع سائر الأفراد من حيث إدراك الحقائق العلمية، والذكاء الخارق. وإن الترقيات التي نالت البشر في الحياة المادية مدينة إلى مواهب هؤلاء الرجال البارزين فهم الذين أدركوا الحقائق العلمية بفضل مواهبهم الخاصة، وقادوا ركب الإنسانية إلى الأمام.

(إننا نختار من بين الملايين أفراداً معدودين في تلك الدولة حيث خدموا التقدم العام، واستطاعوا بفضل مواهبهم أو داهائهم أن يجعلوا أنفسهم فوق مستوى الآخرين، وأن يكونوا قائدي زمام التمدن).

(إننا نلاحظ الإنسانية على أنها مجموعة حية في حالة دائمة من التغير والذكاء، ونعلم أن تطورات هذه المجموعة تبدأ بواسطة أناس نادرين ومتفردين في الغالب!)

(هذه الأدمغة البارزة هي مركز الأمواج التي تشبه الأمواج الحادثة عند سقوط قطعة من الحجر في الماء. هؤلاء يمكن أن يوجدوا في آسيا، أو أمريكا، أو أي طبقة أخرى من البشر. هؤلاء ليسوا صينيين، أو أمريكان، أو إنجليز، أو فرنسيين، أو هنود... إنهم بشر) (1) .

رسل السماء:

إن تكامل الإنسان في المدارج المعنوية، وخلاصه من عبادة الأصنام والنار، ونجاته من الأوهام والخرافات مدين لجهود الأنبياء والرسل. فلقد كانوا أناساً غير اعتياديين في بنائهم ومواهبهم الباطنية. وبالرغم من أن تعاليم الأنبياء والقوانين التي يسنها الرسل إنما هي من السماء وهو يقومون بإيصالها

____________________

(1) سرنوشت بشر ص 190.

٢٤٠