الطفل بين الوراثة والتربية الجزء ١

الطفل بين الوراثة والتربية0%

الطفل بين الوراثة والتربية مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الأسرة والطفل
الصفحات: 404

الطفل بين الوراثة والتربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد تقي فلسفي
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الصفحات: 404
المشاهدات: 69828
تحميل: 7771


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 404 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 69828 / تحميل: 7771
الحجم الحجم الحجم
الطفل بين الوراثة والتربية

الطفل بين الوراثة والتربية الجزء 1

مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

إلى البشر فقط، يجب أن لا ننسى أن هذه المنزلة لا يستطيع إحرازها كل فرد، وليس بإمكان كل فرد أن يصير نبياً (الله أعلم حيث يجعل رسالته) (1) .

لم يكن نبوغ نبي الإسلام العظيم قبل نزول الوحي عليه، وكمال عقله وذكائه الخارق أمراً مخفياً على الناس. فإنه كان فريداً في بابه قبل أن يختاره الله لهذا المنصب العظيم. فالأفكار العالية والقريحة الفريدة التي كان يمتاز بها كانت قد رشحته لأن يكون أوحدياً، وقدوة للبشرية أجمع، ذلك الرجل العظيم، والشخصية المثالية كان جديراً بمقام النبوة، ولذلك فقد اختاره الله تعالى لهذه المهمة.

الخصائص الفردية:

الخلاصة: إنه يوجد في باطن بعض الأطفال من المواهب الخاصة ما ليست موجودة عند باقي الأفراد. وإن ظهور تلك الخصائص يسبب تقدم البشرية ورقيها، فإنهم يجب أن يخضعوا منذ الصغر إلى رقابة تربوية صحيحة، وتهيأ لهم ظروف وبيئة صالحة، وإن البيئة الوحيدة التي تستطيع أن تنمي القابليات الخاصة وتستغل الطاقات الكامنة وتخرجها إلى حيز الوجود هي الأسرة.

(وبدلاً من أن يشبه الآلة التي تنتج في مجموعات، يجب على الإنسان - بعكس ذلك - أن يؤكد وحدانيته ولكي نعيد تكوين الشخصية يجب أن نحطم هيكل المدرسة والمصنع والمكتب... إننا نعلم أنه من المستحيل أن ننشئ أفراداً بالجملة، وأنه لا يمكن اعتبار المدرسة بديلاً من التعليم الفردي. إن المدرسين غالباً ما يؤدّون عملهم التهذيبي كما يجب، ولكن النشاط العاطفي والجمالي والديني يحتاج أيضاً إلى أن ينمى، فيجب أن يدرك الوالدان بوضوح أن دورهما حيوي ويجب أن يعدا لتأديته).

____________________

(1) سورة الأنعام |124.

٢٤١

(حينما اعترف المجتمع العصري بالشخصية كان عليه أن يقبل عدم مساواتها، فكل فرد يجب أن يستخدم تبعاً لصافته الخاصة. وفي محاولتنا توطيد المساواة بين الناس ألغينا الصفات الفردية الخاصة التي كانت أكثر نفعاً، إذ إن السعادة تتوقف على ملاءمة الفرد ملاءمة تامة لطبيعة العمل الذي يؤديه. ولذلك يجب أن ينوع البشر بدلاً من أن يصبحوا جميعاً على نسق واحد، كذلك يجب أن تستبدل هذه الاختلافات التي حفظتها وهولتها طريقة التعليم وعادات الحياة) (1) .

ولقد تلقى الإمام علي ( ع ) الاختلافات الطبيعية بين الأفراد باهتمام بالغ، وربط مصير سعادة الناس وخيرهم بالمحافظة على تلك الاختلافات كما ربط شقاءهم وهلاكهم بإزالة تلك الفوارق الطبيعية. قال أمير المؤمنين ( ع ): (لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا، فإذا استووا هلكوا) (2) .

مسايرة التربية للفطرة:

من الضروري أن يستفاد من الاختلافات الطبيعية للبشر في موضوع التربية، وتربية كل فرد حسب المواهب والقابليات المودعة في بنائه الفطري لكي يستفيد المجتمع أقصى الفائدة من جميع الذخائر الفطرية المودعة في باطن الأفراد.

وإذا أغفلنا هذه النقطة التي أقرها الله بحكمته البالغة ولم تنسجم تربية كل فرد مع غرائزه الفطرية، فإن الفرد سيبقى محرماً من الكمال اللائق به، ويكون مصاباً بالانحراف بنفس النسبة.

يتولد بعض الأطفال مع خصائص غير مرغوب فيها، قد ضربت جذورها فيهم كسوء الخلق أو التلذذ بإيذاء الآخرين.

____________________

(1) الإنسان ذلك المجهول ص 239 - 240.

(2) البحار للمجلسي ج 17|101.

٢٤٢

(حيث يقع سلوك الإنسان وخلقه تحت تأثير التحريكات الداخلية يمكن اعتبار الغضب خاصة أصيلة فيه. فالطفل لا يعلم ما يصنع، أو أنه لا يدرك الموقف كما ينبغي أن يدركه، إن هذا الغضب شديد وخطر).

(نرى الطفل يتدحرج على الأرض، يضرب رأسه بالجدار، يقتلع شعر رأسه، يضرب، يعض من حوله، يحطّم الأثاث، يكسر زجاج النوافذ، وبما يرتكب جريمة قتل ).

(وبعد هذه الفورة من الغضب يهدأ الطفل، وحين يستولي عليه التعب تماماً، يحس من نفسه بحاجة شديدة إلى النوم) (1) .

لقد أثرت ظروف خاصة على بنية أطفال كهؤلاء، فجعلتهم ينشئون على هذه الخصائص، ويجب أن لا نلومهم على ذلك، يقول الإمام الصادق (ع) بهذا الصدد: (لو علم الناس كيف خلق الله تبارك وتعالى هذا الخلق، لم يلم أحد أحداً) (2) .

هؤلاء الأطفال يجب أن يوضعوا منذ البداية تحت رقابة تربوية صحيحة وأن يهتم المربي بجميع خصائصهم النفسية ويستخدم تلك الميول الفاسدة في المجاري الصحيحة، وإرضائها بهذه الصورة.

(يستطيع الشخص المصاب بعقدة الإيذاء إرضاء رغبته هذه في طريق آخر، حسب مستواه الثقافي وظروف حياته، أي أنه إذا كان مستواه العلمي واطئاً يختار مهنة القصابة ويصبح قصاباً. وإذا كان حائزاً على درجة علمية راقية فيستطيع أن يشتغل جرّاحاً، وبهذه الصورة تشبع رغبته في إيذاء الآخرين بطريقة تلقائية) (3) .

____________________

(1) جه ميدانيم؟ (أطفال دشوار) ص 48.

(2) وسائل الشيعة للحر العاملي ج 4|71.

(3) أنديشه هاى فرويد ص 258.

٢٤٣

والنتيجة التي توصلنا إليها ضمن بحوثنا المتقدمة هي: أن الأسرة تستطيع أن تتعهد ثلاثة أمور مهمة مضافاً إلى المحافظة على الطفل وتربيته الاعتيادية، هذه الأمور هي:

1 - تهتم بجميع الميول الداخلية والمُثل الإنسانية للطفل، وتعمل على إرضاء كل منها في مورده وبالمقدار المناسب له؛ وبذلك يكتسب الطفل شخصية كاملة متزنة.

2 - تهتم بالأطفال البارزين الذي يملكون قابليات ومواهب عالية بصورة خاصة وتهيئ الوسائل اللازمة لظهور تلك المواهب والقابليات وتقويتها لتعطي ثمارها بعد حين.

3 - إذا كان الطفل يملك بعض الخصائص السيئة فإن من الممكن أن يخضع في ظل الأسرة لرقابة صحيحة، وبالتالي تعديل تلك التصرفات غير المرغوب فيها وهدايتها إلى الطريق الصحيح.

هذه هي الوظائف الرئيسية التي يمكن للأسرة أن تقوم بها في حين تعجز روضة الأطفال عن القيام بها.

الأسر الشريفة والأسر المنحطة:

وفي نهاية المطاف يجب أن نتنبه إلى نكتة مهمة، وهي أنه ليس باستطاعة أي أسرة أن تقوم بالتربية الصحيحة، وليس بإمكان حجر كل أب أو أم أن يصبح أحسن مدرسة للطفل. فالشرط الأساسي هو أن يكون جو الأسرة نزيهاً مبرَّأًً من الفساد والإجرام والخيانة وارتكاب الخطأ، بل يشترط أن يكون الوالدان حائزين على صفات وملكات فاضلة. فالوالدان المنحرفان لا يستطيعان أن يربيا في أحضائهما أطفالاً صالحين؛ فإن (فاقد الشيء لا يعطيه ).

ولقد قال الشاعر:

يا أيها الرجل المعلم غيره

هلا لنفسك كان ذا التعليم

إبدأ بنفسك فانهها عن غيّها

فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

٢٤٤

لقد أدى إسراف المدنية الحديثة في الجوانب المادية والشهوات الحيوانية إلى إضعاف الجوانب المعنوية والروحية. فإن كثيراً من الأسر فقدت معنوياتها على أثر التلوث بأنواع الجرائم والذنوب، وأنتجوا في النهاية أولاداً مجرمين ومنحطين، فاسدين ومنحرفين!!

(في كثير من الأسر لا يواجه الطفل إلاّ أساليب فاسدة وبعيدة عن الأخلاق، ولا يتجلى أمام ناظريه الثاقبين إلاّ أمثولة السلوك الأهوج والإهمال والكسل. من المؤسف أن هذه الحقيقة غير قابلة للإنكار، وأن عدداً كبيراً من حوادث السقوط والانهيار في المجتمع ينبع من هذه النقطة. وإذا لم يقدر طفل أن يظهر بصورة إنسان كامل في أمثال هذه الأسر المنحطة، وسببت إرادته المهملة التائهة نوعاً من الفوضى والاضطراب في المجتمع، فيجب أن نقول: إن أسرة واحدة قد قصّرت في أداء واجبها الطبيعي. لقد كتب الدكتور (آدفرير) بهذا الصدد: إن مسألة التربية في الأسرة تصطدم بهذه النقطة، وهي أن الوالدين يجب أن يكونا غنيين بالعواطف الراقية والأفكار الممتازة، حتى تشع هذه الصفات منهما إلى الخارج، وتنير الطريق لطفلهما وتحثه على السير في الطريق الصحيح) (1) .

(لقد أصبحت الأسرة جواً مخزياً للتربية بصورة عامة؛ لأن الآباء والأمهات في العصر الحديث قد تجاوزوا الحد المقرّر في السذاجة أو العصبية أو الضعف أو الشدة، وربما يعلم أكثرهم بعض العيوب لأطفالهم. فما أكثر الأطفال الذين يجدون صوراً مختلفة عن سوء الأخلاق، والفساد، والمشاكسة، والسكر في البيت والأسرة، والكثيرون منهم إن لم يجدوا مثل هذه القضايا في البيت فلا بد وأنهم تعلّموها من أصدقائهم. فيمكن القول بلا مبالغة أن كثيراً من الآباء

____________________

(1) ما وفرزندان ما ص 5.

٢٤٥

والأمهات في العصر الحديث يجهلون تربية أطفالهم مهما كانت الطبقة التي ينحدرون عنها. والمدارس أيضاً لا تستطيع بعد أن تؤدي واجبها؛ لأن الأساتذة لا يختلف سلوكهم عن سلوك الأبوين كثيراً).

(والخلاصة أنه ليس بإمكان المدرسة ولا الأسرة أن تعلّم الطفل أسلوب الحياة الأمثل. ولهذا السبب فإننا نجد في سحنات وجوه الشباب مرآة صافية قد انطبعت عليها صورة عدم كفاءة القائمين على تربيتهم) (1) .

(إن التناسل في أكثر الشعوب تحضراً آخذ في التناقص، كما أنه لا ينجب إلاّ نسلاً وضيعاً. قد أتلفت النساء أنفسهن اختياراً بشرب الخمر والتدخين، كما أنهن يعرضن أنفسهن لخطر (الرجيم) رغبة منهن في نحافة أجسامهن، وعلاوة على ذلك فإنهن يرفضن الحمل... ويعزى هذا النقص إلى تعليمهن وأنانيتهن...) (2) .

إنهيار الأسر الشريفة:

تستطيع أسرة شريفة أن تربي في حجرها أولاداً أبراراً متى كان الرجال والنساء في تلك الأسرة غير منحرفين أو منحطين، بل كانوا محافظين على الرصيد المعنوي الذي ورثوه عائلياً، ليسلموه إلى من يخلفهم جيلاً بعد جيل. أما إذا وجد الإجرام والفساد والذنب طريقه إلى تلك الأسرة فستخلي الفضائل والمثل الحميدة مكانها للرذائل، وتتبدل الأسرة الأصيلة التي اعتادت الشرف والمجد عدة مئات من السنين إلى أسرة منحطة خلال قرن أو نصف قرن.

ولقد اهتم علماء الغرب بهذا الموضوع وتحدثوا كثيراً، عن عيوب الأسر وتلوث الآباء والأمهات في بلدانهم. وانتقدوا الأوضاع بشدة، وهم يبدون

____________________

(1) راه ورسم زندكى ص 164.

(2) الإنسان ذلك المجهول ص 228.

٢٤٦

قلقهم على مستقبل بلدانهم من تربية أولادهم الفاسدة وإيجاد الجيل المجرم المنحل. أما في بلادنا حيث المستوى الثقافي العام أوطأ منه في الغرب، وحيث الانحطاط الخلقي ينتشر بسرعة أكثر في الأسر والعوائل وبين الشباب، فإن الأمر يدعو إلى القلق أكثر.

فضعف الأسس الدينية والخلقية من جهة، والإفراط الشديد في العلاقات غير الشرعية بين الشبان والفتيات من جهة أخرى، قد أخذا ينخران في أجساد بعض الأسر العريقة كداء السرطان، ويعملان بأشد ما يمكن لاقتلاع جذور الفضائل واحدة بعد الأخرى.

بالأمس كان بعض الآباء يملكون أرواحاً قوية بفضل الرصيد الإيماني والمعنوي، ولم يكونوا ليقتربوا في سلوكهم من الدنس والإجرام، وكانوا مستقيمين في معاملاتهم، ويتغلبون على مشاكل الحياة بقوة الإيمان والثبات. واليوم نجد أبناءهم ذوي نفسيات ضعيفة جداً؛ وذلك لابتعادهم عن الإيمان والإهمال في الواجب، ونجدهم مصابين بأنواع الجرائم، ولا يستطيعون الوقوف أمام مصاعب الحياة أبداً، بل أن الملجأ الأخير لهم هو الانتحار!!

بالأمس كان أولئك الآباء يجالسون الفضلاء والأشراف في المجالس العلمية ومجالس الترفيه والتسلية، واليوم أصبح أبناؤهم يجالسون المنحرفين والنساء الباغيات اللاهيات في مراكز الفساد!!

بالأمس كان أولئك الآباء يقضون ساعات فراغهم في جو الأسرة المليء بالدفء والحنان والسكينة، مع أعصاب هادئة وروح مطمئنة. أما اليوم فإن أبناءهم يقضون أوقاتهم الثمينة في محلات القمار بأعصاب محطمة وأرواح مضطربة!!

ما أكثر الأمهات العفيفات اللائي كن بالأمس ينظمن شئون عوائلهن ويربين في أحضانهن أحسن الأولاد وأليقهم وأسعدهم. واليوم نجد بناتهن اللاهيات قد تركن البيت والأسرة، ورأين سعادتهن في الإجهاض وإقامة العلاقات اللامشروعة مع الشبان المنحرفين وعباد الشهوة في دور السينما ومراكز الفساد الأخرى!!

٢٤٧

لقد اختفى الإيمان والتوحيد، الصلاة والعبادة، صفاء القلب والمناجاة في السحر، التقوى والورع، مساعدة الضعفاء وخدمة الناس، في بعض الأسر تماماً، وأخذ الفتيان والفتيات لا يفكرون بغير الشهوة واللذة ولسوء الحظ لا يجدون لذتهم إلى في ذلك السم الزعاف... الخمرة والحشيشة. لقد تحولت مواثد الإحسان والإطعام في بعض العوائل إلى موائد القمار، وتبدلت مجالس الفضيلة والموعظة إلى مجالس اللهو والطرب. لم يبق للقيم الإنسانية والمثل العليا اسم ولا رسم، وقد تركت الشجاعة وعزة النفس مكانها إلى الذلة والانحطاط والحقارة، وحل التملق محل الشخصية وعلو الهمة... ولقد ضرب الحقد والحسد، الأنانية والأثرة، التهمة والخيانة وعشرات العادات الرذيلة الأخرى - التي يعد كل منها داء خطير في نفسه - بجذورها في أعماق القلوب، وتعمل على إحراق القلوب والأجساد باستمرار!.

و الخلاصة: أن أخلاف بعض الأسر العريقة والشريفة نجدهم بصور رجال ونساء ضعيفي العقول، عليلي الأمزجة، منحرفين وسيئي الأخلاق، قد عملت العادات الخطيرة في إضعاف أجسادهم، وعملت الأفكار الهدامة والسيئات الخلقية على انحراف نفوسهم، فهم يقدمون على كل رذيلة، لا يتهيّبون للكذب والتملق، ولا يقيمون وزناً للسرقة والارتشاء، الإفساد وإيجاد الفتن، الغيبة والتهمة، بل إن ذلك كله أمور اعتيادية في نظرهم!

إن الآباء والأمهات المصابين بهذه الانحرافات، والساقطين في هوة الرذيلة لا يستطيعون أبداً أن يربوا في أحصانهم أولاداً شرفاء، إن الأطفال الذين يتلقون تربيتهم في أمثال هذه الأسر المنحطة يكونون - بلا شك - عناصر خبيثة في المجتمع.

فبديهي - حينئذ - أن روضة أطفال منظمة نملك مشرفين مهذبين شاعرين بالمسئولية، تفوق هذه الأسر بكثير. ذلك أنها إن لم تستطع إحياء الخصائص الفردية للطفل، فلا أقل من أنها لا تعلّمه على الكذب والدجل والإجرام والسباب، وإن لم تقدر على تلقينه دروساً في الشهامة والتضحية، فلا أقل من أنها لا تمد أمامه موائد الخمر والقمار، ولا تفتح عينيه على الرذائل والذنوب الكبيرة.

٢٤٨

ومن المؤسف أن هذه الانحرافات لم تقتصر على تلويث أذيال بعض الأسر المنحطة وإسداء ضربة قاصمة إلى الأمة وروح الوطنية فيها بذلك فقط، بل أنها شملت حتى الأجواء الساذجة في الأرياف... وانتشر الإجرام والانحطاط في كل مكان كداء الطاعون والهيضة... لكن الذي يبعث على الأمل هو أن الفرصة لم تفت بعد، ولم ينقض وقت الكفاح، فلا يزال يوجد في هذه البلاد أسر شريفة كثيرة ورجال ونساء مؤمنون ومسلمون يتحصّنون بالإيمان ضد الانحراف... يجب أن نستغل هذه الفرصة ونتخذ التدابير اللازمة لمكافحة المآسي في مجتمعنا.

٢٤٩

٢٥٠

المحاضرة العاشرة:

المعرفة الفطرية

قال الله تعالى: ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) (1) .

يوجد في باطن كل فرد ميول كامنة لكل منها دور مستقل في تحقيق سعادة الإنسان. إن تنمية كل واحد من الميول الطبيعية بالصورة العادلة والصحيحة بمنزلة نمو فرع من فروع شجرة السعادة. وإن خنق كل واحدة من الغرائز وكبتها معناه القيام بخطوة في سبيل الشقاء والانحراف فعلى القائمين بالتربية وترتيب المناهج التربوية منذ البداية على أساس الغرائز الطبيعية والإدراكات الفطرية للأطفال، فإن التربية التي تعتمد على أساس الفطرة تكون ثابتة ورصينة.

وسنحاول إن شاء الله أن نبحث من هذه المحاضرة فصاعداً في الإدراكات الباطنية والغرائز الإنسانية التي هي الأسس الثابتة السليمة والتي تسمى بـ (الوجدان الفطري) .

الوجدان:

الوجدان عبارة عن القوة المدركة في النفس الإنسانية، والوجدانيات هي الحقائق التي يدركها الوجدان. ولا بد من الاستفادة من القوتين الفطريتين (الوجدانين الطبيعيين) في عمليات التربية الإيمانية والخلاّقية وهما: فطرة المعرفة، والأخرى: فطرة تمييز الخير من الشر. وتسمى الأولى بالوجدان التوحيدي، والثانية بالوجدان الأخلاقي.

____________________

(1) سورة الشمس |7-8.

٢٥١

الوجدان التوحيدي: هو إدراك جميع الشعوب والأمم - من أي طبقة كانوا - بفطرتهم الطبيعية ووجدانهم الباطني أن هناك قوة لا محدودة وقدرة عظيمة غير خاضعة للتغيرات تسيطر على هذا الكون. تلك الحقيقة المجهولة التي يدركها كل إنسان هي الله تعالى، وتلك القوة المدركة الموجودة في باطن كل فرد، والتي تدلنا على هذه الحقيقة هي الوجدان التوحيدي.

أما الوجدان الأخلاقي: فهو عبارة عن القوة المدركة المودعة في باطن كل فرد، والتي تميز الخير من الشر. وبعبارة أخرى: يوجد في باطن جميع الأفراد من مختلف الشعوب والأقوام (الآسيويين، والأوربيين، الإفريقيين والأمريكان، البيض، والسود، الرجال والنساء، المؤمنين والملحدين) قوة مدركة مستترة يستطيعون بها إدراك كثير الأمور الصالحة والفاسدة من دون حاجة إلى معلم أو مرب، أو كتاب أو مدرسة... هذه القوة المدركة تسمى عند علماء النفس بالوجدان الأخلاقي.

محكمة الوجدان:

يمكن تمثيل الوجدان الأخلاقي بقاض حاذق وقوي يحاكم صاحبه عند ارتكابه جريمة ويحكمه، ويجازيه على أعماله السيئة بالضربات المؤلمة التي يوجهها على روحه وأعصابه.

لا توجد في العالم محكمة تضاهي محكمة الوجدان في قوتها وحريتها فالمجرم مهما كان قوياً فأنه ضعيف وعاجز أمام قاضي الوجدان، ولا يستطيع أن يهرب من عقوبات محكمة الوجدان بأي وسيلة أصلاً.

للجنون أو الأمراض النفسية والعصبية عوامل مختلفة، وإن مما لا شك فيه أن من تلك العوامل الضربات الداخلية والضغط الشديد للوجدان. إن الوجدان الأخلاقي يسلب المجرم استقراره وراحته، ويقض عليه مضجعه ويجعل الحياة أمام عينيه سجناً لا يطاق، فالإحساس بالخيانة والإجرام يلتهب في باطن المجرم كشعلة متوهّجة تحرق روحه وجسمه.

٢٥٢

وقد يكون أثر العقوبات الوجدانية في إيجاد الاختلالات النفسية شديداً ومعقداً إلى درجة أنه لا يستطيع أي طبيب نفساني مهما كان حاذقاً أن يعالجه ويعيد للمريض حالته الاعتيادية السابقة. إن المحكومين أمام قاضي الوجدان والمصابين ببعض الأمراض النفسية، أو الجنون من جراء الضغط الداخلي، يكونون في حالة خطرة جداً فقد يقومون ببعض الجرائم الكبيرة ويقودون المجتمع إلى مجموعة هائلة من المآسي والمشاكل.

(من الاختلافات الجوهرية بين الإنسان والحيوان المفترس أن الحيوان المفترس يستولي على فريسته بهدوء ويأكلها ثم يرتاح لهذا العلم ويتلذذ به، في حين أن الإنسان إذا قتل أحد أبناء جنسه يقع في خوف وألم شديدين. وحيث لا يستطيع أن يطرد هذا الخوف والألم من نفسه يتشبث لإثبات حقانيته بالتهم الكاذبة فيلصقها بضحيته ومن دون أن يحس أنه قد صار بصورة متهم يدافع عن نفسه باستمرار، ويتحامل على الأفراد الآخرين الذين يحتمل أن يلوموه على أفعاله، وبهذه الصورة فإن الخطأة الأولى لا يقف أثرها على إيجاد الاختلالات العظيمة في مرتكبها، بل أنها تجر وراءها سلسلة من الجرائم الجديدة والفظيعة التي ترتبط بتألم الوجدان الأخلاقي والإحساس بالحقارة).

(ولأجل الوجدان الأخلاقي هذا، الذي لا مفر من لومه وعذابه، يكون الإنسان أكثر توحّشاً من الحيوان المفترس. هذه المخاوف ليست من آثار غريزة الهجوم، بل إنها دليل صادق على قوة الوجدان الأخلاقي عند الإنسان، تلك القوة التي لا تقبل الانكسار والغلبة) (1) .

قد يمكن أن تطوى أسرار جريمة ما، ولا تفتح إضبارة للمجرم في

____________________

(1) جه ميدانيم؟ بيماريهاى روحي وعصبي ص 65.

٢٥٣

المحاكم القضائية، أو يغفل المجرم القاضي ويمسخ القضية، أو يتهم شخصاً بريئاً في مكانه ويحفظ نفسه عن العقاب... ولكن لا يمكن إغفال قاضي الوجدان ولا يستطيع المجرم بأي حيلة أن يبرئ نفسه في محكمة الوجدان على خلاف الواقع.

إن الوجدان الأخلاقي يحاكم المجرم بأشد ما لديه من قوة ودقة ويتغلب عليه، فهو في الغرفة التي يختلي فيها، والفراش الذي يأوي إليه، وفي المكان الذي لا يراقبه أحد يتلوى كالسليم، ويجد عقابه على أعماله السيئة من هذا الطريق.

الدين والفطرة:

يكون الوجدان التوحيدي والوجدان الأخلاقي - من وجهة نظر الدين والعلم - دعامتين أساسيتين للتربية الإنسانية السليمة، فإن دعوات الأنبياء اعتمدت على هذين الأساسين القويين بمعونة العقل. فالدين يستند إلى الفطرة في باطن الإنسان. وإن (العرض) الديني الذي كان يصدر من قبل الأنبياء كان في مقابل (الطلب) الطبيعي عند الناس. ولهذا السبب فإن الدين استقام وأرسى قواعده على الرغم من جميع الموانع والمشاكل التي لاقاها في طريقه.

تمر اليوم قرون طويلة على ظهور رسل السماء، ولا تزال شعلة الإيمان متوهجة في قلوب الناس، لأن المصدر الأصيل لهذه الشعلة المتوقدة هو: فطرة الإنسان. فما دام على وجه الأرض إنسان، وما دامت هناك فطرة، فإن هذا المشعل الوهاج لا ينطفئ، بل هو مستمر في إشعاعه.

وهنا يجب أن نبيّن أن الوجدان التوحيدي والأخلاقي... هذه الحقيقة التي نجدها في كمين كل إنسان، ليس ظاهرة متصنعة، ولم يوجد على أثر الوراثة الاجتماعية طيلة قرون، وبفضل التعاليم الدينية والتربوية بل إنه أمر غريزي ونداء فطري منبعث من باطن الإنسان، وجد مع وجود الإنسان، وسيبقى إلى الأبد معه.

قد يمكن للبعض أن يكافحوا بعض ميولهم الفطرية في ظروف خاصة

٢٥٤

ويكبتو تلك الغرائز في نفوسهم، ولكن كفاحهم ذلك وكبتهم هذا لا يمكن أن يزيل الحقيقة الفطرية، ويمحو الغريزة الإنسانية التي جبل عليها جميع البشر.

فالغريزة الجنسية - مثلاً - أمر فطري غير قابل للإنكار، ولكن وجد على مر الأجيال ملايين الأفراد من تاركي الدنيا في أروبا والمرتاضين في القارة الهندية، كافحوا هذه الغريزة وخنقوها في نفوسهم بالضغط والإكراه إلى درجة أن بعضهم أخذ لا يحس في نفسه أي ميل جنسي أصلاً، أفيستطيع هؤلاء أن يسحقوا الحقيقة الفطرية للغريزة الجنسية بهذا العمل؟! هل يحق لهؤلاء أن ينكروا وجود الميل الجنسي في البشر؟!

وكذلك أمر الذين يتجاهلون الفطرة الإيمانية والأخلاقية في أنفسهن ويكافحون غريزة التدين حياة طويلة ويعيشون ملحدين، فإنهم لا يستطيعون أن ينكروا وجود فطرة الإيمان والأخلاق في الإنسان، فلا صلة بين انحرافهم عن صراط الفطرة المستقيم وبين حقيقة الوجدان الطبيعي والبناء الفطري القائم على الإيمان والأخلاق.

إن الإسلام يعتبر الأسس الرصينة للإيمان والأخلاق من الثروات الفطرية الإنسانية، ويرى أن التوصل إلى وجود الله، ومعرفة الخير والشر إنما هو جزء من تكوين الإنسان...

إحياء الفطرة:

إن أهم واجبات الأنبياء هو إيقاظ الجوانب الفطرية عند الإنسان واستغلال الثروات الإلهامية فيه. يقول الإمام علي (ع) في هذا الصدد: (فبعث الله فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته ويجتمعوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول) (1) .

الفرق بين التذكير والتعليم:

ربما تكون قد حفظت قصيدة قبل عشرين سنة، ونسيتها على أثر

____________________

(1) نهج البلاغة ص 37.

٢٥٥

الإهمال والغفلة، وليست لديك أية التفاتة إلى شيء منها أصلاً، ويصادف أن يقرأ شخص تلك القصيدة أمامك فبمجرد أنه يبدأ بقراءة البيت الأول تحس بأنس وقرب إلى تلك القصيدة فتعمل حافظتك وتجتهد لتذكر الأبيات التي نسيتها... وفي الواقع فان الذي قرأ لك الأشعار ونبهك إلى حقيقة موجودة في ضميرك لكنها منسية هذا الشخص يمسى بـ (المذكر)، ويسمى عمله (تذكيراً). أما إذا نظم شخص قصيدة حديثة وقرأها لك وعلمها إياك بيتاً بيتاً، فيقال له (المعلم) ويسمى عمله (تعليماً).

من هنا ندرك السر في تسمية النبي (ص) في القرآن الكريم باسم المذكر أحياناً، وباسم المعلم أحياناً أخرى؛ إذ إنه (ص) في عمله الديني والتهذيبي يقوم بكلا الدورين. فعندما يوقظ الرسول الأعظم (ص) الجوانب الفطرية في النفس الإنسانية، وينبه الناس إلى ضمائرهم الباطنة، يعبر عنه القرآن الكريم بالمذكر: ( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) (1) . وعندما يأتي بتعاليم جديدة ونظم غير موجودة في الفطرة الإنسانية يسمى عمله تعليماً: ( وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) (2) .

الأساس الرصين للفطرة:

إن أولى الأمور الفطرية عند الإنسان في نظر الإسلام هو معرفة الله فلقد جاء في القرآن الكريم والنصوص المتواترة عن المعصومين عليهم السلام اعتبار معرفة الله أوضح البديهيات في فطرة البشر.

وإن وجود المذاهب المختلفة والعقائد المتضاربة في جميع العصور بين جميع الشعوب والأقوام دليل واضح على وجود غريزة التدين في فطرة الإنسان والكل يبحثون عن ضالتهم المنشودة:

____________________

(1) سورة الغاشية |20.

(2) سورة البقرة |151.

٢٥٦

( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) (1) .

هذا هو الأساس الرصين للفطرة، ويظهر في الميل الغريزي للتدين ومعرفة الله جل وعلا، وعلى سبيل الاستشهاد نورد النصوص التالية:

1 - عن زرارة قال: (سألت أبا جعفر (ع): ما الحنيفية؟ قال: هي الفطرة التي فطر الناس عليها... فطرهم على معرفته) (2) .

2 - عن الإمام الصادق (ع) في قوله تعالى: ( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) قال: (فطرهم على التوحيد) (3) .

3 - عن الرسول الأعظم (ص): (كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه) (4) .

يستفاد من هذا الحديث أنه يوجد الأساس الأول لتقبل الدين في فطرة جميع الأطفال، ويستغل الأبوان - وهما القائمان على تربية الطفل - هذه الثروة الفطرية ويريبان الطفل على الدين الذي يريدانه. فإن لم تكن غريزة التدين موجودة في فطرة الإنسان لم يكن معنى لتأثير توجيه الوالدين في اعتناق الطفل لدين معين طيلة حياته.

4 - عن الإمام الصادق (ع): (ستة أشياء ليس للعباد فيها صنع: المعرفة، والجهل، والرضا، والغضب، والنوم، واليقظة) (5) .

فحين يولد الطفل تكون صفحة خاطره بيضاء صافية لا يوجد فيها أي معرفة: ( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ) (6) لكن الله تعالى قد جهز الطفل بالغرائز كالشهوة والغضب والنوم واليقظة لاستمرار

____________________

(1) سورة الروم |30.

(2) البحار للمجلسي ج 2|87.

(3) المصدر السابق ج 2|88.

(4) المصدر السابق ج 2|88.

(5) إثبات الهداة بالبراهين والمعجزات للشيخ الحر العاملي ج 1|85.

(6) سورة النحل |78.

٢٥٧

ولقد استعمل القرآن الكريم مادة (الصنع) بالنسبة إلى أعمال البشر أيضاً في عدة مواضع، فقال في موضوع سفينة نوح: ( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ ) (1) . وفي قصور فرعون والفراعنة يقول: ( وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ) (2) . وفي الأشياء السحرية التي صنعها سحرة مصر لمعاندة موسى ( وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ) (3) ، وفي صنع داود للدروع: ( وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ ) (4) .

إذن، فإن جميع الطائرات والسيارات والمعامل والآلات والأدوات وجميع ما كونه البشر يكون من صنع الإنسان كما أن جميع ما في العالم صنع الله، مع فارق واحد هو: أن الله يخلق المادة والصورة معاً، بينما الإنسان يصنع المادة التي خلقها الله بالصورة التي يريدها.

ومن هذه المقارنة بين صنع الله وصنع الإنسان نصل إلى بعض النكات التي تتعلق بموضوع بحثنا، وهي:

1 - الأثر يدل على المؤثر:

يدرك الإنسان بصورة فطرية أن لكل مصنوع صانعاً، كما يدرك كل فرد - مثقفاً كان أو أمياً، وحشياً أو متمدناً - أن للطائرة والسيارة صانعاً صنعهما، وإن للعمارات الصغيرة والضخمة بانياً بناها. ولقد كانت القبائل الوحشية تدرك هذا الموضوع أيضاً، فعندما كان أحد يرى آثار أقدام إنسان أو حيوان في صحراء واسعة مغطاة بالثلوج، كان يقطع بأن إنساناً أو حيواناً قد عبر من تلك المنطقة. وإذا صادف كوخاً صغيراً وسط صحراء قاحلة قائماً على بعض قطع الأخشاب والأشواك كان يحكم بوجود صانع لذلك الكوخ، وبالنسبة إلى الكون الذي هو صنع الله تعالى يوجد في فطرة كل إنسان هذا النوع من الإدراك. فعندما يشاهد شروق الشمس والقمر وغروبهما، وعندما

____________________

(1) سورة هود |38.

(2) سورة الأعراف |137.

(3) سورة طه |69.

(4) سورة الأنبياء |80.

٢٥٨

يرى الربيع واخضرار الأشجار أو الخريف واصفرار أوراقها، وعندما يلتفت إلى الرعد والبرق والمطر يحس في وجدانه الباطني أن قوة عظيمة وثابتة هي التي أوجدت هذا النظام، فيميل إلى البحث عن مصادر هذه القوة. هذا الإدراك الطبيعي الموجود في باطن جميع الأفراد بقلم القضاء الإلهي هو تلك المعرفة الفطرية التي يعبر عنها الإمام (ع) بأنها ليست اكتسابية وأنها مخلوقة من قبل الله في باطن كل فرد.

2 - المعرفة الإجمالية والإيمان التفصيلي:

إن كل فرد يدرك بفطرته أن للطائرة النفاثة صانعاً، وكل فرد يدرك بصورة طبيعية أن للقاح الخناق الذي يخلص آلاف الأطفال من الموت الحتمي مخترعاً، ولكن هذا لا يكفي في نظر جميع العقلاء والعلماء في الإشادة بفضل مهندس مخترع أو طبيب مكتشف. فلو أرادت دولة أو أمة أن تحترم جهود هؤلاء الذين خدموا البشرية، يجب عليهم أن يتجاوزوا دور المعرفة الجزئية إلى مرحلة أرقى، وهي ذكر أسماء المخترعين وهوياتهم وتشجيعهم عن طريق تقديم الهدايا والجوائز إليهم.

وهكذا يدرك كل فرد بفطرته أن لهذا العالم الفسيح خالقاً وأن لهذا الأثر العظيم والعجيب مؤثراً، ولكن لا يكفي هذا في مقام الشكر لله تعالى وتعظيمه، بل يجب أن يخطو الإنسان خطوة أوسع ويطلع على آثار قدرة الله ويؤمن به، ويشكره للنعم الكثيرة التي لا تحد ولا تحصر، وإن الفطرة الأولى لا تحتاج إلى معلم، والأنبياء جاءوا لهداية البشر في المرحلة الثانية.

3 - عدم تقدير الجهود:

وبالرغم من أن الناس يستفيدون من مصنوعات بني جنسهم بصور شتى، لكن القليل منهم يقدر جهود العلماء والمهندسين الذين صنعوا تلك المصنوعات. إن باستطاعة المريض المشرف على الهلاك أن يركب طائرة ويصل في ظرف بضع ساعات إلى أرقى المستشفيات في العالم وتجرى له عملية جراحية وينجو من الموت والألم. هذا المريض يعلم أنه لو لم تكن الطائرة، ولو لم يكن العقار المخدر، ولو لم تكن العقاقير المطهرة للجراثيم... ولو لم تكن عشرات

٢٥٩

الاختراعات العلمية فإنه يموت. إن المريض يدرك بفطرته أن لكل من هذه المخترعات مخترعاً، ولكنه في سبيل العلاج والتطبيب لا يفكر إلاّ في نفسه والمنافع التي يحصل عليها من تلك الاختراعات غافلاً عن المهندسين العظماء والمخترعين الكبار الذين أوجدوا تلك الصنائع، ولا يتذكرهم في مقام تقدير جهودهم.

قد يقف الخطيب في قاعة ضخمة ويلقي محاضرة على عشرات الألوف من المستمعين، موصلاً صوته إليهم بواسطة جهاز تكبير الصوت وهو يدرك بفطرته أن لهذا الجهاز صانعاً ولولاه لما استطاع أن يوصل صوته إلى هذا العدد الضخم من الناس. ولكنه غافل عن معرفته الفطرية ولا يتنبه إلى مخترع هذا الجهاز أصلاً، بل يفكّر في رغبته فقط، ويتنبّه إلى وصول صوته إلى أكبر عدد ممكن من الناس فحسب.

هذا وإن الجميع يعلمون أن هذه الغفلة وعدم تقدير جهود المخترعين والمنشئين لا يغيران من الواقع شيئاً: فلكل مصنوعٍ صانع ولكل أثرٍ مؤثر.

إن موقف البشر تجاه صنع الله تعالى وتجاه عظمته في تدبير شئون الكون يشبه الموقف السابق. فجميع الناس يستفيدون من نعمه التي لا تعد ولا تحصى كل يوم، وكلهم يدركون أن لهذا الخلق خالقاً، ولكل مصنوع صانعاً فبعضهم يقدرون عظمة الخالق ويشكرونه على نعمه، ولكن البعض الآخر يتنكرون له ولا يعترفون له بالجميل والفضل والإنعام...

العالم الإلهي والعالم المادي كلاهما يلاحظان النظام الدقيق في الكون، وكلاهما يدركان أسرار الحكمة والعظمة في العالم. مع فارق كبير بينهما، هو: أن العالم المادي يرى النظام فقط، أما العالم الإلهي فإنه يرى النظام والمنظِّم معاً. وفي نفس الوقت الذي يهتم فيه بدقائق صنعه، وشواهد عظمته يتجه إلى عظمة الخالق ويقف خاضعاً تجاه مقامه المنيع مقدماً مراسيم الشكر والثناء والاعتراف بالجميل.

4 - المهندس القدير والصدفة العمياء:

لنفرض أنه يوجد في مخزن ما مليونا طن من الأحجار والطابوق

٢٦٠