الطفل بين الوراثة والتربية الجزء ١

الطفل بين الوراثة والتربية0%

الطفل بين الوراثة والتربية مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الأسرة والطفل
الصفحات: 404

الطفل بين الوراثة والتربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد تقي فلسفي
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الصفحات: 404
المشاهدات: 69023
تحميل: 7507


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 404 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 69023 / تحميل: 7507
الحجم الحجم الحجم
الطفل بين الوراثة والتربية

الطفل بين الوراثة والتربية الجزء 1

مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والاسمنت والحديد والجص والأخشاب والزجاج واللوالب والمقابض والأسلاك والأنابيب وغير ذلك من المواد الإنشائية. وكان مليون طن من هذه المواد تحت اختيار مهندس معمار، فإنه يُخرج تلك الكمية من المخزن ويُنشئ على أرض مسطّحة عمارة ذات ثلاث طوابق. وبعد مدة يأتي سيل جارف ويخرج المليون طن من المواد الإنشائية الباقية في المخزن إلى الخارج ويكومها على بعد بضع كيلومترات مكوناً تلاً من ذلك الخليط. العمارة ذات الثلاث طوابق إنما هي إنتاج ذلك المهندس القدير، والتل المتراكم عمل طبيعي للسيل.

إن العقلاء من كل أمة وفي أي عصر حينما يدخلون العمارة التي أنشأها المهندس يجدون أن كل شيء قد وضع في محله حسب نظام دقيق ومحاسبة أساسية: فالطابوق في داخل البناء والرخام فوقه والأعمدة الحديدية ذات القياسات الخاصة تحفظ السقف، والأبواب مرتبة في أماكنها والأسلاك مربوطة بالأزرار والمصابيح الكهربائية، وحنفيات الماء البارد والحار متصلة بالأنابيب ومعدة للعمل في الحمام والمغسلات، والسلالم تربط طوابق العمارة ببعضها حسب هندسة دقيقة... وبصورة موجزة فإن كل شيء في ذلك البناء موضوع في محله والنظام يسيطر على جميع أجزاء البيت.

أما حين يذهب العقلاء إلى التل الذي صنعه السيل، فلا يجدون نظاماً هناك. فأحجار الرخام قد ركدت تحت الطين وأعمدة الحديد مبعثرة هنا وهناك، والأسلاك متشابكة فيما بينها وملتفة بصورة مشوشة حول الأعمدة والأحجار، والأبواب مكسرة وشبه مكسرة، البعض منها بصورة أفقية والآخر بصورة عمودية، وبصورة موجزة: فإن الشيء الذي يفتقد في نتاج السيل هذا، هو النظام والقياس الصحيح.

يتضح للناظر العاقل من مقارنة هذين النموذجين أن صانع العمارة كان عالماً، وأن صانع التل كان فاقداً للعلم والشعور، ولقد وضع المهندس كل شيء في محله حسب قياسات ومحاسبات دقيقة. أما السيل فلم يكن نتاجه صادراً عن وعي وإرادة، بل أن اندفاع الماء قد بعثر كل شيء في مكان ما من دون نظم أو ترتيب.

٢٦١

حياته. ففي هذا الحديث يرى الإمام الصادق (عليه السلام) أنه لما كان الطفل فارغاً من أي علم أو معرفة فإن فطرة المعرفة تعتبر من الإفاضات الإلهية في الطفل، ولذلك قد ذكرها في عداد الغرائز الفطرية.

5 - عن محمد بن حكيم، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): المعرفة من صنع من هي؟ قال: (من صنع الله، ليس للعباد فيها صنع) (1) .

6 - عن أبي ربيحة، قال: سئل أمير المؤمنين (ع): بما عرفت ربك؟ قال: (بما عرفني نفسه!) (2) .

7 - عن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع): أنه سئل عن المعرفة أمكتسبة هي؟ قال: (لا)، فقيل له: فمن صنع الله وعطائه هي؟ قال: (نعم، وليس للعباد فيها صنع) (3) .

يستفاد من النصوص المتقدمة، والروايات الأخرى الواردة في الباب أن الإسلام يعتبر - بكل صراحة - معرفة الله أمراً فطرياً عند الإنسان، ويرى أنها من الثروات الطبيعية فيه، شأنها في ذلك شأن بقية الغرائز.

مطالعة كتاب الخلقة:

يسلك الأنبياء بين الناس بالنسبة إلى المعرفة الإلهية دور المذكِّر لا المعلم، فإنهم يقومون بإزاحة أستار الغفلة عن الضمير الباطن والفطرة الإنسانية، إنهم جاءوا ليوصلوا المعرفة الفطرية الإجمالية إلى مرحلة الإيمان الاستدلالي العقلي التفصيلي عن طريق الإرشاد إلى التفكير والتدبر في الآيات، وعن طريق مطالعة كتاب الخلقة، حيث تتجلى مظاهر الدقة والإتقان في كل ذرة من موجودات هذا الكون الفسيح، وبذلك ليؤمن الناس بعظمة خالقهم ويخضعوا له في مقام العبودية ويطيعوا أوامره.

إن المعرفة الفطرية قابلة للتوضيح بأسلوبين:

____________________

(1) الكافي لثقة الاسلام الكليني ج 1|163.

(2) الكافي لثقة الاسلام الكليني ج 1|163.

(3) المصدر السابق ج 1|85.

٢٦٢

(1) إدراك القدرة اللامتناهية:

يدرك كل فرد من أفراد البشر من أي طبقة كان، وإلى أي عنصر انتمى، بوجود قدرة لا متناهية وقوة عظيمة مسيطرة على الكون كله، وذلك بفضل وجدانه الفطري... قدرة عظيمة لا توصف وقوة ثابتة لا تتغير، قدرة فوق جميع القدرات، وقوة يرجع إليها كل فرد عند اليأس من السنن الطبيعية والعادية للأشياء. فعندما تغلق بوجهه جميع أبواب الأمل والرجاء يجد باب تلك القدرة مفتوحاً ويستعين بتلك القدرة اللامتناهية، يدرك بوجدانه أن تلك الذات المجهولة، تلك الحقيقة المستترة، تلك القدرة اللامتناهية إذا أرادت حلت المشكلة وفتحت جميع الأبواب. هذا الإدراك ليس ناشئاً من العقل والبرهان، بل إنه ناشئ من الوجدان والفطرة وهو موجود في باطن كل فرد، ويكون جزءاً أساسياً من كيانه، هذا الإدراك الفطري هو الأساس الأول للتدين... ولقد عرف الأنبياء هذه الحقيقة المجهولة باسم (الله ).

قال رجل للصادق (ع): يابن رسول الله، دلني على الله ما هو؟ فقد أكثر علي المجادلون وحيّروني... فقال له: (يا عبد الله هل ركبت سفينة قط؟)

قال: نعم!

قال: (وهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك؟!)

قال: نعم.

قال: (فهل تعلق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟)

قال: نعم!

قال الصادق (ع): (فذلك الشيء هو (الله) القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث) (1)

ولقد أشار علماء العصر الحديث إلى هذه الحقيقة بألفاظ وكلمات مختلفة:

يقول (ماكس مولر): (إن الإحساس اللامتناهي يوجب نشوء العقيدة والدين) (2) .

____________________

(1) معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص 4.

(2) ارتباط إنسان وجهان ج 1|69.

٢٦٣

ويقول (انيشتين): (إن عقيدتي هي عبارة عن الحمد المتواضع الضئيل لروح فائقة لا حدية) (1) .

أما (جان جاك روسو) فيقول: (ليس طريق الإيمان بالله منحصراً في العقل وشكوكه وأوهامه، بل إن الشعور الفطري هو أفضل طريق لا ثبات هذا الموضوع (2) .

والذين لهم أدنى معرفة بأسلوب تفكير (فرويد) وأتباعه يعلمون أنهم كانوا مصرين على إنكار الفطريات الإيمانية والأخلاقية، وأنهم يعتبرون الدين والمذهب أمراً من صنع البشر. أما في مقام المعرفة الفطرية فقد وقعوا في مأزق حرج واضطروا إلى التراجع قليلاً والتحدث بأسلوب أهدأ وأقل إثارة...

(لا يمكن الإنكار أنه يوجد بعض الأشخاص يقولون إنهم يحسون في أنفسهم إحساساً لا يستطيعون وصفه بصورة جيدة. هؤلاء يتحدثون عن إحساس يتصل بالأبدية).

(هذا التصور الذهني ينعكس من إحساس أبدي معروف عند العرفاء الكبار، وفي التفكير الديني الهندي. ويحتمل أن يكون أساس الشعور الديني الذي يظهر بصورة العقائد والمذاهب المختلفة).

(إن فرويد يتردد في هذا الموضوع، ويقر بأنه لم يستطع بتحليلاته النفسية أبداً أن يجد أثراً لمثل هذه الإحساسات في نفسه. ولكنه يضيف رأساً وبصراحة كاملة أن هذا لا يسمح له بإنكار هذا الإحساس بالنسبة إلى الآخرين) (3) .

(2) ربط المعلول بالعلة:

يستطيع كل فرد أن يدرك بواسطة وجدانه الفطري ومن دون حاجة إلى معلم أو مرب، أن كل معلول يحتاج إلى علة، ولا يوجد أثر بلا مؤثر.

____________________

(1) ارتباط إنسان وجهان ج 1|69.

(2) ارتباط إنسان وجهان ج 1|175.

(3) أنديشه هاى فرويد ص 89.

٢٦٤

المصنوع يحتاج إلى صانع، والبناء يحتاج إلى بناء، ان الوجدان الفطري الذي يربط بين الأثر والمؤثر طبيعي إلى درجة أن الطفل بمجرد أن يصبح قادراً على التكلم يسأل أمه باستمرار عن علل الحوادث المختلفة، هذه الأسئلة ليست ذات صلة بالتفكير ولا ناجمة من المحاسبة العقلية، لأنه لا يدرك المسائل العقلية بعد. وهكذا فإن أكثر القبائل البشرية الوحشية تملك هذا الوجدان الفطري. يقول الشريف الرضي (ره) عند شرحه لبعض روايات الفطرة: (وهذا يدلك على أن فطرة ابن آدم ملهَمة معلَّمة من الله بأن الأثر دال دلالة بديهية على مؤثرة بغير ارتياب) (1) .

ما أكثر الأفراد الذين استفادوا من كنز المعرفة الفطرية عندهم بفضل إيمانهم ووعيهم، وتوصلوا إلى وجود الله الخالق الحكيم عن طريق التفكير والتدقيق في آية أو عدة آيات إلهية، ووقفوا خاضعين له في مقام العبودية مطيعين أوامره ونواهيه... وعلى العكس فما أكثر الأفراد الذين لم يلتفتوا لنداء الفطرة المنبعث من أعماقهم وتجاهلوا الحقيقة، ولم يتوفقوا لعبودية الله والخضوع له حتى يوماً واحداً، طيلة حياتهم. وكذلك ما أكثر الأفراد الذين حاولوا إحياء المعرفة الفطرية في نفوسهم، ولكنهم ضلوا عن الطريق المستقيم، وعبدوا الجماد والنبات والحيوان، أو الشمس والقمر والنجوم بدلاً من خالق الكون.

ولأجل أن يتضح معنى المعرفة الفطرية للسامعين الكرام أكثر نعقد مقارنة بين صنع الله وصنع البشر من حيث الدلالة على وجود الصانع ونتوصل ضمن المقارنة إلى بعض النتائج المفيدة.

إن القرآن الكريم يرى في الكون والموجودات كلها أنها صنع الله وتنظيمه... ( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) (2) .

إذن، فالله تعالى هو صانع العالم وجميع الموجودات مصنوعة له.

____________________

(1) إثبات الهداة ج 1|103.

(2) سورة النمل |88.

٢٦٥

إن بناء الكون الفسيح ونظامه العظيم مركب من آلاف الملايين من الأجرام الكونية الصغيرة والكبيرة، وإن الكرة الأرضية التي نعيش على ظهرها إنما هي جزء صغير من تلك الأجرام التي لا تعد ولا تحصى، وأن الأحياء على ظهر هذا الكواكب من نبات وحيوان وإنسان كل منها ذرة صغيرة جداً بالنسبة إلى الكرة الأرضية نفسها. إن فطرة كل فرد ترشده إلى أن لهذا الصنع العظيم صانعاً وأن لهذا البناء المحير وهذا الأثر العجيب مؤثراً. وإن الالهيين والماديين ويتفقون في هذا الأمر الفطري لكنهم يختلفون في معرفة هذا الصانع وتعيين هذا المؤثر.

يرى الماديون - أي المنكرون لله - أن الكون العظيم نتيجة الصدفة فقط فهناك ملايين الحوادث غير الاختيارية والعوامل غير الارادية طوال آلاف الملايين من السنين اجتمعت لتوجد هذا الأثر وتنشئ هذا البناء. وبعبارة أوضح: انهم يقولون ان العالم يشبه ذلك التل المبعثر والقائم على غير قياس ونظام... الموجود نتيجة جرف السيل لتلك المواد الإنشائية.

أما الإلهيون فأنهم يرون أن مظاهر النظام والترتيب الدقيق تبدو في كل زوايا الوجود، وأن الصدفة العمياء والطبيعة الفاقدة للإرادة والوعي غير قادرة على أن توجد هذا الأثر الحكيم والمليء إدراكاً ووعياً. إن الله العالم القادر الحكيم هو الذي أقام نظام الكون على أساس المحاسبة الدقيقة والنظام المتقن. وبعبارة أوضح: فإن هذا الكون أشبه بتلك العمارة المنظمة الجميلة التي أنشأها تفكير المهندس القدير وعمله، حيث نجد كل شيء مستقراً في محله حسب قياس صحيح.

لقد استدل العالم الشهير (داروين) على عقيدته بالنسبة إلى الله تعالى في رسالة له إلى عالم ألماني عام 1873 م بهذه الصورة:

(إن العقل الرشيد والفكر السليم لا يشك أبداً في أن من المستحيل أن يوجد هذا الكون الفسيح مع هذه الآيات الواضحة والشواهد المتقنة، مع هذه النفوس الناطقة والعقول المفكرة نتيجة للصدفة العمياء الجاهلة. ذلك أن الصدفة

٢٦٦

العمياء لا تستطيع أن توجد نظاما دقيقاً وبناًء قويماً. وهذا في نظري أكبر شاهد على وجود الله. أنا لا أبحث عن بقية البراهين والأدلة التي تثبت وجود الله، لأن باستطاعة هذا البرهان وحده أن يقنع كثيراً من الباحثين والمتتبعين) (1) .

(يقول العالم الذائع الصيت (إنيشتين): يندر أن نجد شخصاً لا يملك بين أفكاره العلمية العميقة شعوراً دينياً. لكن ذلك الشعور الديني يختلف عن شعور البسطاء. إن شعوره الديني يكون في الغالب بصورة حيرة مجذوبة نحو الانسجام الدقيق المشاهد في الطبيعة هذا الانسجام يحكي عن عقل عظيم إذا قسنا التفكير البشري والنشاط الإنساني معه كانا لا شيء تماماً) (2) .

(سئل (باستور) بعد اكتشاف أسرار عالم الميكروبات عن رأيه في أصول الديانة فقال: إن عقيدتي بالدين قد ترسّخت أكثر من السابق) (3) .

(ولكن في الاستطاعة أن نشير إلى شيء حدث منذ زمن بعيد، عند بدء الحياة على الأرض، وكان له شأن عظيم، ذلك: أن خلية واحدة قد نمت عندها القدرة المدهشة على استخدام ضوء الشمس في حل مركب كيمياوي، واصطناع غذاء لها ولأخواتها من الخلايا. ولا بد وأن لدات أخريات لخلية أصلية أخرى قد عاشت على الغذاء الذي أنتجته الخلية الأولى، وأصبحت حيواناً، في حين صارت الخلية الأولى نباتاً والنباتات التي هي نسل هذه الخلية هي التي تغذي جميع الكائنات الحية الآن، فهل يمكننا أن نعتقد أن كون خلية قد

____________________

(1) أصل الأنواع - مقدمة المترجم الفارسية - ص 26

(2) ارتباط إنسان وجهان ج 1|69.

(3) ارتباط إنسان وجهان ج 1|219.

٢٦٧

أصبحت حيواناً، وأخرى قد أصبحت نباتاً إنما حدث بطريق المصادفة؟) (1) .

* * *

لقد اتضح من البحوث السابقة أن للمعرفة الإلهية أساساً فطرياً في باطن كل فرد، وأن هذه المعرفة الفطرية تتحول إلى إيمان تفصيلي بمعونة العقل والتدبر في الآيات الكونية، وأن أساس الإيمان والمذهب قائم على الفطرة والعقل. وبالرغم من أن القرآن الكريم يستند في المعرفة إلى الفطرة ويعبر عن ندائها بـ (الدين القيم) فإنه يدعو الناس إلى التدبر في أسرار الخلق ويأمرهم بالتعقل والتفكير.

إن الذين اتبعوا الأنبياء واهتموا بتربية بذور الفطرة في تربة العقل آمنوا بالله تعالى، ووقفوا خاضعين أمام عظمته وقدرته. أما الذين لم يصغوا لنداء العقل، ولم يوجّهوا الفطرة بالتدبر والتعقل إلى الوجهة الصحيحة فإنهم انحرفوا عن الطريق المستقيم وسار بعضهم في طريق المادية والاعتقاد بالصدفة بينما سار آخرون في طريق الوثنية وما شاكل ذلك.

الانحراف عن طريق الفطرة:

لقد وجه الشيوعيون - الذين يتَّبعون المبدأ الاقتصادي وينظرون إلى كل شيء بمنظار الاقتصاد - حملات شعواء ضد الدين والعقيدة.

(يقول لينين: إن الدين أحد وسائل الضغط الروحي على الطبقة الكادحة التي تكد لغيرها دائماً، وتعيش في الحرمان المستمر. إن الماركسية تعتبر جميع المذاهب الحديثة، والتنظيمات الدينية لعبة بيد الطبقة البرجوازية والهدف من ذلك كله هو استغلال الطبقة العاملة والحط من قدرها...) (2) .

____________________

(1) العلم يدعو للإيمان، إكريسي موريسون. ترجمة: محمود صالح الفلكي.

(2) المادية التاريخية ص 90.

٢٦٨

هؤلاء يوجهون للتعاليم الدينية اتهامات في كتبهم لا يمكن أن تغفر. وكنموذج على محاولاتهم الهدامة والمخالفة للحقيقة نتعرض لموضوع الصبر في الإسلام وكيفية تفسير الشيوعيين له، بالرغم من أن الموضوع خارج عن دائرة بحثنا:

التفسير الخاطئ للصبر في الإسلام:

كان رؤساء العشائر قبل ظهور الإسلام يحكمون بالظلم والقسوة جماعة من المساكين والضعفاء، وكانوا يستولون على أموالهم، ويذيقونهم شر العذاب. ولقد جاء الرسول الأعظم (ص) بأمر الله ليقيم العدل وينهي ذلك الوضع المخزي وليحفظ للضعفاء حقوقهم، ويضرب على أيدي الطغاة والظالمين.

ولقد ارتبك الجائرون من موقف النبي (ص) وقاموا لمناهضته واتفقوا للوقوف بوجهة... وكان على المسلمين الضعفاء أن يقفوا صفاً واحداً أمام جبهة الظلم والجور، وهذا عمل صعب يتطلب جهداً كبيراً. فأخذ القرآن الكريم في تشجيع معنويات المسلمين وحثهم على المقاومة، وأمرهم بالصبر في قبال السيوف والرماح، وطلب منهم مجابهة المصائب بصدر رحب مطمئناً لهم بأن الباطل سيندحر وأن النصر محتم لهم....

1 - ( فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (1) .

2 - ( وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) (2) .

3 - ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (3) .

____________________

(1) سورة الأنفال |66.

(2) سورة البقرة |177.

(3) سورة محمد |31.

٢٦٩

4 - ( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ) (1) .

5 - ( فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) (2) .

فنجد أن القرآن الكريم يحث المسلمين على الصبر والثبات في مواجهة صفوف الجائرين ودعاة الباطل، ويدعوهم إلى عدم الرضوخ للباطل وعدم الاستكانة للظلم، وحمل راية التوحيد والحق، والعدل والحرية لطرد العدو.

أما الشيوعيون فإنهم حين يصلون إلى هذه النقطة يقومون بخيانة كبيرة ويعملون - على خلاف الإنصاف والإنسانية على تشويه الحقيقة وتفسير أمر الإسلام بالصبر تفسيراً يخالف الواقع فيقولون:

(لقد جاء الدين يؤيد مصالح الطبقة الحاكمة، ويحث العامل على الجد والتعب والتحمل، وفي قبال ذلك يعده بالجنة، ويقول إن الله يحب الذين يتحملون الآلام والمصائب ( إن الله يحب الصابرين ) ) (3) .

يا للوقاحة! إنهم يعملون على نشر هذه التلفيقات والتحريفات ضد الدين لجرف شباب المسلمين الفارغي الأذهان... وليحكم رجال العلم والفضيلة في حق هؤلاء!!

فرويد والفطرة:

يمكن اعتبار فرويد وأتباعه ممن انصاعوا لكلماته دون وعي أو إدراك من جملة الماديين المنحرفين عن الفطرة، ولكنهم يسدلون ستار التحليل النفسي والبحث العلمي على انحرافهم ذاك.

____________________

(1) سورة آل عمران |120.

(2) سورة آل عمران |146.

(3) المادية التاريخية ص 91.

٢٧٠

وبما أن موضوعنا يدور حول الفطرة الإيمانية والوجدان الأخلاقي لا بد من توضيح بعض النقاط عن موقف فرويد من هذه المسألة:

1 - إنه لا شك في أن فرويد كان محللاً نفسياً حاذقاً. ولكن علم التحليل النفسي يختلف عن علم معرفة الإنسان، وكما أن الطبيب يعرف مزاج الإنسان وليس هو مزاج الإنسان، فإن فرويد طبيب نفسي وليس تمام النفس الإنسانية. وإذا حصر أحد البشرية كلها في علم النفس فقد ظلم الإنسانية.

(ولن تكون رياسة السيكولوجيا أقل خطراً من الفسيولوجيا والطبيعة والكيمياء... فقد أحدث (فرويد) أضراراً أكثر من التي أحدثها أكثر علماء الميكانيكا تطرفاً فإن من الكوارث أن نختزل الإنسان إلى جانبه العقلي مثل اختزاله إلى آلياته الطبيعية الكيميائية) (1) .

2 - لقد اعتنى فرويد في معرفة الإنسان بالشهوة الجنسية قبل كل شيء. وبدلاً من أن يجعل بحثه يدور حول الإنسان أخذ يبحث عن الجنس ونظر إلى الإنسان من زاوية الميل الجنسي فقط. إن فرويد يرى أن الإنسان السعيد هو الذي يروي ظمأه الجنسي بأي طريق شاء. إنه لا يلتفت إلى السجايا الإنسانية والملكات الفاضلة، ولذلك فهو ينتقد الأوضاع والتعاليم الدينية وقوانين العالم المتمدن في عدم فسح المجال وعدم إعطاء الحرية الكاملة للناس في إرضاء ميولهم الجنسية، ولم يرض بهذا الظلم بالنسبة إلى الغريزة الجنسية: (إن انتخاب أي موضوع من قبل فرد مراهق ينحصر في الجنس المخالف، وفي الغالب تمنع الميول الجنسية التي تحصل في الخارج من التوالد والتناسل وذلك بعلة الفساد والانحراف. إن هذا العمل يؤثر بنسبة كبيرة في جماعة من الناس ويبعث على تقليل لذتهم الشهوانية وبذلك يسبب إجحافاً شديداً).

(إن الشيء الوحيد الذي بقي لحد الآن حراً ولم يمنع منه هو

____________________

(1) الإنسان ذلك المجهول ص 216.

٢٧١

الميل نحو الجنس المخالف ضمن قيود خاصة أيضاً، لأن العلاقة مع الجنس المخالف يجب أن تكون مشروعة أولاً، ويجب أن يكتفي كل فرد بفرد واحد من الجنس المخالف فقط) (1)

إن فرويد يدافع عن الشهوة الجنسية لسحقه للمثل الإنسانية، ويعمل من أجل فسح المجال التام أمام ممارستها! إن اتباع مذهب فرويد في إرضاء الميول الجنسية معناه الانحراف إلى طريق الدعارة والفحشاء والشقاء. والأسلوب الفكري الفرويدي يسدد ضربة قاصمة إلى أساس تكوين الأسرة والحنان العائلي وتربية الطفل. إن تحليل كلمات فرويد في الغريزة الجنسية يجر وراءه سلسلة من النتائج الوخيمة التي ننزه اللسان عنها.

3 - إن عقدة الحقارة في مدرسة التحليل النفسي الفرويدي مسألة قابلة للانتباه، فإن المصابين بهذه العقدة والذين يحسون والحقارة في نفوسهم تظهر فيهم ردود الفعل المختلفة. فما أكثر سكون الناس وانزواءهم وتكبرهم وتواضعهم، ونصائحهم، واستدلالاتهم التي تنبع من عقدة الحقارة. لكن تظهر بالمظاهر الآنفة الذكر.

منشأ عقدة الحقارة عند فرويد:

لقد كان (فرويد) معرضا للاستهزاء والسخرية في أيام شبابه نظرا لاعتناقه اليهودية، وإن جميع المترجمين له يصرحون بهذه النكتة:

(ولد سيجموند فرويد في 6 مايس 1856 في مدينة صغيرة (فرايبرك) واقعة في ولاية (مراوي)، لقد كان أبواه وأقاربه ينحدرون من عائلة يهودية قديمة، كانت على أثر الاضطهاد الذي كان يلاقيه اليهود في تلك العصور قد رحلت من (بالاتينا) الواقعة في (باوير) وسكنت في (مراوي). والنكتة التي يجدر ذكرها هي أن فرويد كان معرضاً لاستهزاء وازدراء زملائه دائماً بالنسبة لمذهبه وعنصره. وإن رد الفعل الذي

____________________

(1) أنديشه هاى فرويد ص 129.

٢٧٢

أوجدته تلك السخرية في نفسه، يظهر في ميله إلى التطرف والانزواء) (1)

لقد أدى اعتناق فرويد اليهودية أن يعرض للتحقير والاستهزاء منذ الصغر، وبذلك سحقت شخصيته وعزة نفسه. هذا الأمر جعله ينظر نظرة تشاؤمية تجاه الدين الذي سبب له السخرية والزدراء. فقد كان التفكير في الدين يشوش عليه ويقض عليه مضجعه، وكان يعجز منه.

(لقد لخص فرويد بحثه في الاتجاه الديني في هذه الجملة: إني أجد نفسي مضطرباً وقلقاً عند البحث في أمثال هذه المسائل التافهة، واني أعترف بذلك دائماً) (2) .

يرى فرويد: أن الميول المكبوتة في أيام الطفولة لا تنمحي، بل تنتقل إلى الضمير الباطن وتنشئ ردودها المختلفة طيلة الحياة، ومن المناسب أن نستفيد من هذه الجملة ونتحقق عن ضمير الباطن لنجد المظاهر التي أدت إليها شخصية فرويد المندحرة وعقدة الحقارة التي كانت ناشئة في ضميره الباطن من جراء السخرية الدينية.

رد الفعل لعقدة الحقارة:

لم يقف رد الفعل الذي أدت إليه عقدة الحقارة في نفس فرويد عند حد الانزواء والابتعاد عن المؤثرات الدينية، بل راح يثأر لكرامته وينتقم من الاستهزاءات التي حصل عليها تحت ظل اعتناقه اليهودية. ولقد استغل البحث النفسي لمناهضة الدين وأعمل جهده في اجتثاث أصول العقيدة وإذ كان هدفه على خلاف الحق والواقع، فقد أتى بقضايا واهية وكلمات لا أساس لها من الصحة أصلاً.

____________________

(1) أنديشه هاى فرويد ص 10.

(2) أنديشه هاى فرويد ص 92.

٢٧٣

إنكار الفطرة:

لما كان الإيمان بالله الأساس الأول للدين في علم الإنسان، ولما كان الإلهيون والعلماء مستجيبين لنداء فطرتهم وتوجيه عقولهم إلى الإيمان بخالق الكون الذي أودع فيه هذا النظام الدقيق وهذا الانسجام الكامل، فقد بدأ فرويد في إنكار الفطرة التوحيدية وكانت الخطوة الثانية التي أعقبها في هذا المجال، التغافل عن المنطق الاستدلالي والعقلي للعلماء وتعريف الدين بسلسلة من العوامل النفسية تحت ستار من التحليل النفسي.

إن نظرية فرويد بالنسبة إلى الأديان معروفة في جميع الكتب التي تعرضت لبيان نظرياته، وللاستشهاد ننقل هنا بعض العبارات من كتابين بهذا الصدد: (لا يتفق أي دين مع دليل تام، فالدين توهم يتخذ قوته من نتيجة تلقي الميول الغريزية عندنا) (1) .

(لا يقوم الدين بأصوله وتعاليمه بعمل من وجهة نظر البحث النفسي، غير إيضاح القلق والاضطراب عند الأشخاص. وبعبارة أخرى: فإن فرويد يعتقد أن سبب ظهور الدين يرجع إلى ظاهرتين:

أ - القلق والاضطراب الإنساني في قبال الميول الغريزية.

ب - خوف الإنسان من الطاقات المتغلبة في الطبيعة).

(وعلى هذا فإن فرويد على خلاف (روناك) لا يرى دخلاً للعقل في تكوين المذهب، ويعتبره أمراً نفسانياً فقط) (2) .

____________________

(1) فرويد وفرويد يسم ص 150.

(2) أنديشه هاى فرويد ص 86.

٢٧٤

(يرى مذهب التحليل النفسي أن الاستنتاج الديني من الموجودات يرجع إلى حالتنا الطفولية، إن الطفل يجد نفسه أمام عالم عظيم، وعلى الأم أن تؤمن مخاوف الطفل تجاه العالم كله وحمايته من الاضطرابات. وبعد ذلك يلقى عبء هذه المهمة على الآباء، فيجب عليهم القيام بدورهم طوال مدة الطفولة).

(إن الخوف الناشئ في الطفولة يمتد حتى البلوغ أيضاً وان الفرد البالغ يستأنس بجميع الأخطار التي تهدد حياته إنه يحتاج - كالطفل - إلى حماية شبيهة للتي يحتاجها في الأعوام الأولى من حياته في قبال أخطار العالم ومشاكله ولذلك فهو يبدأ ينظر إلى تلك القوة التي فوق البشر وتلك الإلوهية كشيء ذي حقيقة) (1) .

هل كان فرويد جاهلاً في الواقع، أو أنه تجاهل بسبب عقدة الحقارة التي يحس بها ضد الدين، لأخذ الثار؟!

هل إن الآف العلماء الإلهيين الذين آمنوا في الماضي والحاضر بالله كان اعتقادهم مبنياً على أساس البحوث النفسية لفرويد؟!

أفهل كان السبب في اعتقاد حملة راية العلوم، وقادة التقدم العلمي بالله في العصر الحديث هو الخوف من قوى الطبيعة الظالمة - كما يقول فرويد؟!

هل آمن (إنشتاين) ذلك العالم الذائع الصيت لأجل القلق والاضطراب من الميول الغريزية أو الخوف من الزلازل؟

هل إن اعتقاد (داروين) بالله كان خوفاً من رعيد السماء وبرقها ليلقي نفسه - كالطفل - في أحضان السماء؟!

هل كان منشأ إيمان (بركسن) و(باستور) العالمين الفرنسيين هو الخوف من أمواج البحر، أو المواد البركانية التي ألقت بها فوهة بركان؟!

٢٧٥

هل كان إيمان العلماء الإلهيين في أوربا وأمريكا في العصر الحديث، والذين نالوا جوائز (نوبل)، ناشئاً عن الخوف من الحوادث الطبيعية، وهل أن أساسهم النفسي هو الضعف في أيام الطفولة واللجوء إلى الأب السماوي الموهوم؟!

بأي جرأة علمية يقول فرويد وأتباعه: (لا ينطبق الدين مع أي دليل)؟!

كيف يدعي هؤلاء أن العقل لا يتدخل في البحث عن الدين؟!

لماذا يعتبرون إيمان الألوف من العلماء كان خوفاً من القوى الطبيعية الضالمة ويستسهلون هذه التهمة تجاههم؟!

لماذا هذه المغالطات تجاه الدين من رائد التحليل النفسي الذي يدعي الاستجابة لنداء الواقع دائماً؟!

هذه أسئلة يجب أن يجيب عليها الأناس المثقفون الواعون.

وسنختم بذلك هذه المحاضرة على أن نبحث عن الوجدان الأخلاقي في المحاضرة القادمة.

____________________

(1) فرويد وفرويديسم ص 148.

٢٧٦

المحاضرة الحادية عشرة:

الوجدان الأخلاقي

قال الله تعالى في كتابه الكريم: ( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) (1) .

فطرية الوجدان الأخلاقي:

وجدنا في المحاضرة السابقة كيف ينكر (فرويد) استناد الوجدان الأخلاقي إلى الفطرة. فلقد صرّح بأن الوجدان الأخلاقي عبارة عن مجموعة النواهي الاجتماعية والغرائز المكبوتة في مختلف مراحل الحياة تعارف المجتمع على تسميتها بالوجدان.

لكن طائفة كبيرة من العلماء في الماضي والحاضر ترى أن للوجدان الأخلاقي أساساً فطرياً، وأنه داخل في بنيان الإنسان وكيانه. ولما لم تكن عقول العلماء وأفكارهم مصونة من الخطأ والانحراف، ولأجل الوصول إلى مقياس صحيح يمكن بواسطته معرفة صحة أقوال شخص عالم أو خطئها يجب أن نعرض نظرياته العلمية على آيات القرآن الكريم والنصوص الصحيحة الواردة عن المعصومين (عليهم السلام). فإن كان فيها مخالفة صريحة لتلك الأسس الإسلامية الثابتة فيجب أن نقول - بلا ريب - أن ذلك العالم انحرف عن جادة الحق، وأن تفكيره كان خاطئاً.

ولأجل أن يتضح موضوع الوجدان الأخلاقي للمستمعين الكرام لا بد من الابتداء بذكر الآيات الواردة في المقام، ثم التعرض للنظريات الحديثة لمقايستها معها، وذلك للوصول إلى معرفة صحتها أو سقمها.

____________________

(1) سورة القيامة |1-2.

٢٧٧

الإسلام والوجدان الأخلاقي:

يرى الإسلام أن الوجدان الأخلاقي (أي القوة المدركة الباطنية التي تميز الخير من الشر) جزء من البناء التام للإنسان، وفطرته. على أنه وإن لم يرد تسمية تلك القوة الفطرية باسم الوجدان الأخلاقي، في القرآن والأحاديث لكن قد ورد التصريح بها بعبارات أخرى:

1 - قوله تعالى: ( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) وبصدد تفسير معنى النفس اللوامة، ينقل صاحب تفسير البرهان هذا الحديث عن علي بن إبراهيم (... نفس آدم التي عصت خالقها) (1) .

فالإنسان حين يرتكب ذنباً يسمع نداء اللوم والعتاب من باطنه، ذلك النداء يقض مضجعه، إن علماء النفس يسمون هذه القوة التي تلوم الإنسان بالوجدان الأخلاقي (*)، والقرآن يسميها بالنفس اللوامة. إن استعمال كلمة (النفس) هنا يشير إلى أن القوة اللائمة هي روح الإنسان نفسه وجزء من هيكله. والحديث أيضاً يؤكد على أن هذه القوة النفسية كانت موجودة عند الإنسان الأول (آدم) أيضاً.

2 - قوله تعالى: ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) (2) ولقد ورد عن الصادق (ع) في تفسير هذه الآية قوله: (بين لها ما تأتي وما تترك ) (3) .

يستفاد من استعمال كلمة الإلهام بالنسبة إلى خلق النفس الإنسانية أن القوة المدركة للخير والشر هي من الإفاضات الإلهية وجزء من خلقة الإنسان وهيكله.

____________________

(1) تفسير البرهان ص 1160.

(*) جرى علماء النفس على تسمية هذه القوة بالضمير الباطن، والنفس العليا... إلخ.

(2) سورة الشمس |7- 8.

(3) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج 1|163.

٢٧٨

3 - قوله تعالى: ( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) (1) .

4 - (عن حمزة بن محمد عن أبي عبد الله (ع) قال: سألته عن قول الله عز وجل: ( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) قال: (نجد الخير والشر) (2) . يستفاد من ذكر الله تعالى للهداية إلى الخير والشر عند بيان تكوين الإنسان وبعد ذكر نعمة العين واللسان والشفة، أن إدراك الخير والشر أمر فطري في الإنسان ويكون جزءاً من بنائه. حيث يقول: ( أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) .

نستنتج من هذه النصوص ونصوص أخرى في الباب، أن الإسلام يعتبر إدراك الخير والشر فطرياً عند الإنسان، لكن يجب أن نعلم أنه لا يتسنى للإنسان إدراك جميع أوجه الخير والشر بصورة فطرية، وإلا فأي ضرورة في إرسال الأنبياء؟ ذلك أن الجانب الفطري من هذه الإدراكات منحصر في المسلمات الأولية للخير والشر أو الفضائل والرذائل، ويبقى جانب من هذه الإدراكات يحتاج فيها الإنسان إلى التعليم والاقتباس.

وبعبارة أوضح نقول: هناك طائفة من الأفعال تكون ضرورية لسعادة الإنسان، وطائفة أخرى مضرة بسعادته وكماله، فنسمّي الطائفة الأولى (خيراً)، والطائفة الثانية (شراً ).

الوجدان الفطري والتربوي:

يستطيع الإنسان أن يصل إلى معرفة الخير والشر من طريقين: الفطرة والتربية. فهناك طائفة من الأمور الخيرة والشريرة تدركها جميع الأمم والشعوب في العالم، ولا تحتاج في فهمها إلى معلم، بل إنها من الأمور الفطرية عندهم. ويمكن تسمية هذا القسم باسم (الوجدان الأخلاقي الفطري ).

وهناك طائفة من الخيرات والشرور، لا يدركها الإنسان بفطرته بل إن الأنبياء - القائمين على تربية البشرية - هم الذين علمونا حسنها أو قبحها، وقد

____________________

(1) سورة البلد |10.

(2) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج 1|163.

٢٧٩

أصبحت لها على مر العصور جذور عميقة في نفوس الناس، هذه الطائفة غير فطرية ويمكن تسميتها باسم (الوجدان الأخلاقي التربوي).

إن خيانة الأمانة والتزوج بالأم يشتركان في القبح في نظر الوجدان الأخلاقي للناس، ولكن الفرق بينهما أن قبح الخيانة ناشئ من طريق الإدراك الفطري، أما قبح التزوج بالأم فانه ناشئ من تعليم وتربية الرجال العظماء في العالم. ولهذا فيجب أن نقول: إن الخيانة قبيحة بحكم الوجدان الأخلاقي الفطري، وأن التزوج بالأم مذموم بحكم الوجدان الأخلاقي التربوي.

نظرية فرويد وأتباعه:

(إن الطفل يرغب في الحركة والنشاط بحرية، ولكن هذه الرغبة تصطدم منذ البداية بمقتضيات الحياة الاجتماعية إنه يرغب في أن يرفع احتياجاته الطبيعية كما يشاء ولكنه يلزم بمراعاة النظام والنظافة، فلا يترك الطفل في أن يعتدي على رفيقه كما يشاء أو أن أن يعض أمه، أو يحطم دماه ووسائل لعبه، وأخيراً فإنهم يقفون حجر عثرة أمام إرضاء ميوله الناشئة من الأنانية والإعجاب بالنفس).

(لما كان كل ميلٍ يتعين بهدف خاص، فعلى الطفل أخيراً أن ينصرف عن هدفه في هذه الموارد. إن ما يهم لبحوثنا وتحقيقاتنا هو أن نعلم ماذا سيؤدي إليه هذا (الانصراف)؟).

(يجب أن نبحث عن أن جميع مظاهر الميول المكبوتة في الوجدان الباطني، معلولة لعدم ملائمتها مع الظروف الاجتماعية).

(توجد الرغبات المكبوتة في الشعور الباطني، ولكن يجب أن نتذكر أن هذه الميول تحتل جزءاً من الشعور الباطن فقط. فالشعور الباطن يحتوي على عناصر أخرى منها بعض العوامل النفسية الموروثة عند الإنسان. وما يتسرّب إلى الشعور الباطن

٢٨٠