الطفل بين الوراثة والتربية الجزء ١

الطفل بين الوراثة والتربية0%

الطفل بين الوراثة والتربية مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الأسرة والطفل
الصفحات: 404

الطفل بين الوراثة والتربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد تقي فلسفي
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الصفحات: 404
المشاهدات: 69013
تحميل: 7506


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 404 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 69013 / تحميل: 7506
الحجم الحجم الحجم
الطفل بين الوراثة والتربية

الطفل بين الوراثة والتربية الجزء 1

مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المحاضرة الرابعة:

دور الأم في بناء الطفل - النمو الناقص في أثناء الحمل

قال الله تعالى في كتابه العظيم: ( ... وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّاً ) (1) .

كان بحثنا في المحاضرة الماضية يدور حول مصدر السعادة والشقاء، والعوامل التي تؤدي إلى حصول الطفل عليها في رحم أمه. لقد أثبتنا - بالأدلة والشواهد - مدى تأثير الرحم في سلوك الفرد، وقلنا: إن تلك التأثيرات الناتجة في السلوك يرجع شطر منها إلى دور الجنين في الرحم. والشطر الآخر إلى فن التربية والبيئة التي يعيش فيها الإنسان.

أما بحثنا في هذه المحاضرة، فيدور حول نقطتين:

(1) العلة في جعل الملاك في سعادة الأطفال وشقائهم في الروايات رحم الأم بالذات من دون يجري ذكر لصلب الأب.

(2) النواقص والعوارض التي تعتري الجنين في رحم الأم من دون سابقة.

أما بالنسبة إلى النقطة الأولى من البحث، فإننا نرى أن بذور الورد تبذر في جوف تربة الأصيص، وبعد مرور مدة من الزمن تنبت البذرة بصورة سويق صغير يشق سطح التربة، وينمو تدريجياً ويأخذ بالتفريع والإزهار. إن بذرة الورد تعتبر الخلية التناسلية الكاملة، وتخزن في باطنها جميع الذخائر اللازمة لإنبات نبتة جديدة. ولا يشكل الأصيص سوى المحيط الذي تنمو فيه النبتة والبيئة التي تعيش فيها.

____________________

(1) سورة مريم |33.

٨١

الخلية التناسلية الكاملة:

صحيح أن رحم المرأة يكون بالنسبة إلى نطفة الرجل كالأصيص بالنسبة إلى البذرة، إلاّ أن الأمر يختلف تماماً في موضوع تكوين الخلية التناسلية، إذ ليست نطفة الرجل هي الخلية التناسلية الكاملة - كما كانت البذرة - وكذلك الرحم الأم يتحمل في المرحلة الأولى نصف مسئولية عملية التلقيح، ثم ينفرد في أنه يتحمل مسئولية الاحتفاظ بالنطفة لمدة تسعة أشهر كاملة في داخله حتى يصنع إنساناً كاملاً؛ ولهذا ورد في القرآن الكريم: ( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ) (1) أي أننا خلقناه من نطفة مركّبة وممزوجة من الرجل والمرأة كليهما.

( إن خلايا الخصية تفرز من غير توقّف، وخلايا الحياة كلها، حيوانات ميكروسكوبية وُهبت لها حركات نشيطة للغاية، هي الحيوانات المنوية. وهذه الحيوانات تسبح في المخاط الذي يغطّي المهبل من الرحم، وتقابل البويضة على سطح الغشاء المخاطي الرحمي... وتنتج البويضة من النضج البطيء لخلايا المبيض الجرثومية. ويوجد نحو 300000 بويضة في مبيض الفتاة وتبلغ نحو إربعمئة منها فقط درجة النضج. وفي وقت الحيض ينفجر الكيس المشتمل على البويضة، ثم تبرز البويضة فوق غشاء ( بوق فالوب )، فتنقلها السيليا ( الأهداب ) المتحركة للغشاء إلى داخل الرحمن وتكون نواتها قد تعرضت في تلك الأثناء لتغيّر هام، ذلك أنها تكون قد قذفت بنصف مادتها، وبعبارة أخرى: بنصف كل ( كروموسوم ). وحينئذ يخترق الحيوان المنوي سطح البويضة.

____________________

(1) سورة الدهر |2.

٨٢

وتتحد كروموسوماته التي تكون فَقَدَتْ أيضاً نصف مادتها، بكروموسومات البويضة... وهكذا يولد مخلوق جديد) (1) .

منشأ ظهور الطفل:

يستفاد من هذه الفقر أمران:

الأول: أن نطفة الرجل تتحد بنطفة المرأة، ويحصل من اتحاد نصف خلية الرجل ونصف خلية المرأة ( الخلية التناسلية الكاملة )، التي هي العامل الأول في ظهور الطفل.

والثاني: أن بويضة المرأة عندما تقابل سيل الحيامن الذكرية، إنما تتلقح بواحدة منها فقط، أما البواقي فتندثر.

( حينما يقذف الرجل بالسائل المنوي إلى الخارج، فإنه يكون حليبي اللون، وبحجم 3 سم3، يوجد في كل سانتيمتر مكعب منه من 100 إلى 200 مليون حيمن ).

( إن الحيامن المنوية قادرة على الاحتفاظ بقابليتها على التلقيح لمدة 48 ساعة بعد الخروج من الرجل. وذلك في وسط قلوي ( قاعدي ) وتحت درجة حرارة 37 مئوية..) (2) .

لم يكن بإمكان البشر قبل أربعة عشر قرناً أن يتصوروا أن منشأ ظهور الإنسان هو موجود صغير وضئيل يوجد منه في نطفة الرجل مئات الملايين في كل مرة، وهذه الذرة الصغير كافية في أن تلقح امرأة. ومع ذلك فقد صرح القرآن الكريم بهذه الحقيقة منذ ذلك الحين حيث قال الله تعالى: ( ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ) (3) أي أن الله جعل نسل الإنسان من خلاصة ماء حقير وضعيف، فليس العامل في إبقاء نسل الإنسان هو هذا الماء الحقير الذي يخرج منه كله، بل جزء منه، وهو خلاصته ( سلالته ).

____________________

(1) الإنسان ذلك المجهول، تأليف: الدكتور إلكسيس كارل، تعريب: عادل شفيق، ص 78.

(2) هرمونها... ص 29.

(3) سورة السجدة |8.

٨٣

ويتضح تنبُّه الإمام علي بن أبي طالب ( ع ) إلى هذه الحقيقة من خلال الفقرة التالية:

جاء رجل إلى علي (عليه السلام)، فقال: يا أمير المؤمنين كنت أعزل عن امرأتي، وإنها جاءت بولد؟! فقال علي (عليه السلام): (وأناشدك الله، هل وطأتها ثم عاودتها قبل أن تبول؟) قال: نعم. قال: (فالولد لك... ) (1) .

من هذه الجملة، يعلم أن الرجل كان يعزل ( يقذف السائل المنوي خارج مهبل زوجته ) لمنع الحمل، ومع ذلك فقد حدث أن حملت المرأة فأدى الأمر إلى أن يشك الرجل في زوجته، فجاء يسأل علياً (ع)، وإلاّ فإنه لم يكن يرضى بأن يفشي سره. فنجد الإمام ( ع ) حين يسمع بالقصة يسأله هل اتفق له أن جامع زوجته مرتين من دون أن يبول في الأثناء، فأجابه بوقوع ذلك، فصرح الإمام بأن الولد له.

والسر في ذلك واضح: لأنه (عليه السلام) كان يعلم أن ذرة صغيرة من النطفة كافية لأن تلقح بويضة المرأة فتحمل، فبما أن الرجل جامع زوجته في المرة الأولى ثم قذف السائل خارجاً وبقي مدة لم يبل فيها فبقيت الحيامن في المجرى، وحين جامعها للمرة الثانية خرجت إحدى تلك الحيامن ولقّحت المرأة من دون أن يشعر، وبالرغم من أنه قذف السائل خارجاً في المرة الثانية، إلاّ أن الحيامن المتبقية في المجرى كانت قادرة على الاحتفاظ بنشاطها لمدة 48 ساعة وكذلك فعلت.

* * *

وبالرغم من أن الأب والأم كليهما يشتركان في صنع الخلية الأولى للطفل ويتساوى دورهما فيه - ولهذا نجد أن الأطفال يكتسبون بعض صفاتهم من آبائهم وبعضها من أمهاتهم - لكن الرحم هو الذي يصنع الطفل ويخرج تلك الذرة الصغيرة بصورة إنسان كامل. وإن جميع الاستعدادات التي كانت كامنة في تلك الخلية الأولية تظهر إلى عالم الفعلية في رحم الأم. إذن

____________________

(1) بحار الأنوار للمجلسي ج 23|107.

٨٤

فالمقدرات التفصيلية للطفل من الصلاح والفساد، والجمال والقبح، والنواقص والكمالات، الظاهرية والباطنية، كلها تُخطّط في الرحم.

المرحلة الأخيرة للتكوين:

هناك مئات التفاعلات والتأثيرات الاختيارية والاتفاقية تمر في طريق أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، وتؤثر في الأطفال بصورة خفية، حيث تظهر نتائجها جميعاً في الرحم. والرحم هو آخر مراحل التأثيرات المختلفة الطارئة على تكوين الطفل، وعند عبوره هذه المرحلة يبدأ الحياة على الأرض. إذن، فالسعادة والشقاء التكوينيين للإنسان يجب البحث عنهما في آخر المراحل وهو رحم الأم. ولهذا نجد الرسول الأعظم ( ص ) والأئمة الطاهرين ( ع ) بالرغم من عنايتهم الشديدة بالتأثير المشترك لأصلاب الآباء وأرحام الأمهات حول سعادة الطفل وشقائه يوجِّهون جُلَّ اهتمامهم إلى رحم الأم فيقولون: ( السعيد سعيد في بطن أمه، والشقي شقي في بطن أمه ) (1) .

أثر غذاء الأم في الجنين:

هذا هو جواب السؤال الذي بدأنا به الحديث، وهو أنه لماذا اعتبرت الروايات رحم الأم هو الملاك في السعادة والشقاء، وأغفلت ذكر صلب الأب؟

إنه لا مندوحة لنا من القول بأن دور الأم في بناء الطفل يفوق دور الأب بكثير. نعم، لو اكتفينا بملاحظة دور الأب والأم في تلقيح البويضة بواسطة الحيمن لإيجاد الخلية الأولى للطفل، لكانا متساويين في ذلك الدور، إلاّ أن الواقع أن الأم تتحمّل في دور الحمل مسئولية كبيرة، وبالخصوص فيما يتعلق بأسلوب تغذي الأم ونوعه.

____________________

(1) مرَّ تخريج الحديث بألفاظ متعدّدة وطرق مختلفة في الفصل السابق ( السعادة والشقاء في رحم الأم ).

٨٥

إن دور الآباء في البناء الطبيعي للطفل ينتهي بعد انعقاد النطفة وحصول التلقيح، لكن دور الأم يستمر طيلة أيام الحمل. فالطفل يتغذي من الأم، ويأخذ منها جميع ما يحتاجه في بنائه، ولهذا فإن لسلامة الأم ومرضها، طهارتها ورذالتها، سكرها وجنونها... أثراً مباشراً في الجنين: ( إن الأب والأم يساهمان بقدر متساو في تكوين نواة البويضة التي تولد كل خلية من خلايا الجسم الجديد، ولكن الأم تهب علاوة على نصف المادة النووية كل البروتويلازم المحيط بالنواة، وهكذا تلعب دوراً أهم من دور الأب في تكوين الجنين ) (1) . ( إن دور الرجل في التناسل قصير الأمد. أما دور المرأة فيطول إلى تسعة أشهر. وفي خلال هذه الفترة يغذى الجنين بمواد كيمياوية ترشح من دم الأم من خلال أغشية الخلاص ) (2) .

إن الطفل أشبه ما يكون بعضو من أعضاء الأم تماماً، عندما يكون في بطنها. وجميع العوامل التي تؤثّر في جسد الأم وروحها تؤثّر في الطفل أيضاً. إذا ابتلي أب - بعد انعقاد النطفة - بشرب الخمرة أو العوارض الأخرى، فإنها لا تؤثر في الطفل، لأن صلة الطفل بأبيه إنما تكون ثابتة إلى حين انعقاد النطفة فقط، لكن صلة الأم تستمر لمدة تسعة أشهر، وعليه فإذا أقدمت الأم - في أيام الحمل - على شرب الخمر فإن الجنين يسكر ويتسمم أيضاً.

إن أحد أسباب سلامة هيكل الطفل ورشاقة قوامه أو عدمها، في أيام الحمل، يتعلق بالغذاء الذي تتناوله الأم وهي حامل. وكذلك الغذاء الذي كان يتناوله الأب قبل انعقاد النطفة.

____________________

(1) و(2) الإنسان ذلك المجهول ص 79.

٨٦

( إذا كانت نطفة الأب مسمومة حين الاتصال الجنسي، فإن الجنين يوجد ناقصاً وعليلاً، وهذا التسمم ينشأ من تناول الأطعمة الفاسدة، أو معاقرة الخمرة. إذن، يجب الاجتناب عن الاتصال الجنسي حين التسمم والسكر بالخصوص ) (1) .

( لقد قام أحد الأطباء الحاذقين في أوربا بجمع إحصائيات دقيقة للنطف التي تنعقد في ليلة رأس السنة المسيحية، فوجد أن 80% من الأطفال المتولدين من تلك النطف ناقصوا الخلقة؛ وذلك لأن المسيحيين في هذه الليلة يقيمون أفراحاً عظيمة وينصرفون إلى العيش الرغيد والإفراط في الأكل والشرب، ويكثرون غالباً من تناول الخمرة إلى حد يجرّهم إلى المرض. وبما أن المطاعم وحانات الخمور تستقبل أكبر كمية من الزبائن في هذه الليلة، فإنه يتعذّر على أصحابها أن يطعموهم الأطعمة السالمة تماماً، ويهتموا بشأنها كغيرها من ليالي السنة ) (3) .

( يصاب بعض الأطفال في الأيام الأولى من أعمارهم بقروح وجروح تسمى ( أكزما الأطفال )، وهذه القروح لا تزول إلاّ بعد أن تعذّب الوالدين لمدة طويلة، وهي ناتجة من سوء تغذي الأمهات في أيام الحمل. فإن الأم لو أكثرت في أيام الحمل من أكل التوابل والأطعمة الحارة كالخردل والدارسين وما شاكل ذلك فالطفل يصاب بالأكزما ) (4) .

____________________

(1) إعجاز خوراكيها، تأليف: سيد غياث الدين الجزائري ص 153.

(2) المصدر السابق ص 154.

(3) المصدر السابق ص 154.

(4) المصدر نفسه ص 175.

٨٧

(إن الفواكه والخضروات التي تحتوي فيتامين ( B ) تعتبر العلاج القطعي للكنة اللسان. والأم التي تتناول من هذا الفيتامين أيام حملها، فإن جنينها يأخذ بالتكلّم مبكّراً ولا يصاب باللكنة) (1) .

(إن المشروبات الروحية تعتبر خطرة جداً للحوامل؛ لأنها بغض النظر عن التسمم الذي توجده، تهدم الفيتامينات التي تحتاجها الأم والجنين أيام الحمل، فينشأ الطفل ناقصاً ومشوهاً) (2) .

(إن تناول الأطعمة الفاسدة واللحوم بالخصوص - حيث تؤدي إلى التسمم - يجعل لون الجنين داكناً مائلاً إلى الاصفرار) (3) .

الغذاء والجمال:

يرى العلم الحديث أن للأطعمة تأثيراً خاصاً في صباحة وجه الأطفال ورشاقة قوامهم ولون شعرهم وعيونهم، وفي كل مظاهرهم. وكذلك الرويات والأحاديث فإنها لم تغفل شأن الإشارة إلى أثر الأطعمة والفواكه والخضروات والبقول، فورد في بعضها الإرشاد إلى استعمال أنواع خاصة منها للحامل: عن الصادق (عليه السلام)، نظر إلى غلام جميل، فقال: (ينبغي أن يكون أبو هذا أكل سفرجلاً ليلة الجماع) (4) .

وهناك حديث آخر بشأن السفرجل: (... وأطعموه حُبالاكم فإنه يحسن أولادكم) (5) .

____________________

(1) إعجاز خوراكيها ص 176.

(2) المصدر السابق ص 177.

(3) المصدر السابق ص 168.

(4) و(5) مكارم الأخلاق ص 88.

٨٨

وعن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (أطعموا المرأة في شهرها الذي تلد فيه التمر، فإن ولدها يكون حليماً تقياً) (1) .

الحوادث غير المتوقَّعة:

يخضع الطفل في أيام الحمل لتأثيرات أمه، وإن جميع الحوادث التي تقع للأبوين تؤثر فيه، ويصنع الطفل بموجبها. فقد يصادف أن تقع بعض العوامل في أيام الحمل فتؤدي إلى سعادة الطفل، وقد يكون العكس حيث تؤدي إلى شقائه أو سقوطه وانعدام حياته تماماً.

لنتصور مسافراً يركب سيارة ويقصد منطقة نائية جداً بحيث يطول سفره تسعة أشهر، فهناك العديد من المخاطر في طريقه، فمن المحتمل في كل لحظة أن يقع في هوة سحيقة، أو وادٍ عميق أو تصطدم سيارته بجبل، أو لحظة أن يقع في هوة سحيقة، أو يقذف إلى نهر، أو تكسر يده، أو يجرح بدنه، وقد يصادف أن يطوي 99% من مجموع المسافة، ويبقى له 1% فقط فتصادفه عقبة كأداء أو حادثة سيئة في ذلك الجزء الأخير، فلا يمكن التأكد من وصول المسافر إلى مقصده بسلام إلاّ بعد أن يترك السيارة ويتّجه إلى منزله الأخير.

وهكذا النطفة التي تنعقد في رحم الأم لأول لحظة، فهي كالمسافر الذي استقل واسطة النقل، وعليه أن يقطع المراحل الطبيعية طيلة تسعة أشهر. فهناك المئات من العراقيل والمخاطر تقع في طريقها. وفي كل لحظة يمكن أن تقع حادثة تؤدّي إلى سقوط الجنين وموته، أو تحدث فيه نقصاً وانحرافاً. وقد يصادف أن يقطع الجنين ثمانية أشهر من حياته بسلام، وفي الشهر الأخير يصاب ببعض العوارض، ولا يمكن القطع بسلامة الطفل واجتيازه المراحل كلها، وولادته سعيداً إلاّ بعد أن يولد سالماً، ويخرج إلى الدنيا الخارجية.

ولهذا فإن قسطاً كبيراً من النجاح الباهر الذي أحرزه بعض العظماء

____________________

(1) المصدر السابق ص 86.

٨٩

في العالم يرجع إلى (طهارة المولد)، وكذلك الانتكاسات التي تحدث لبعض الأفراد فإنها ترجع إلى انحرافات الدور الجنيني.

طهارة المولد:

إن القرآن الكريم يُعبّر عن رجلين من هؤلاء العظماء بطهارة المولد (والسلام يوم الولادة) وهما يحيى بن زكريا، وعيسى بن مريم. يقول القرآن في حق يحيى: (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ) (1) ، ويقول على لسان المسيح ابن مريم: ( وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ) (2) . والسلام بمعنى: عموم العافية. أي: الطهارة الكاملة للبدن والروح. وهذه الحقيقة - أي طهارة المولد - متساوية في حق جميع الرسل والأنبياء.

والنكتة الأخرى التي يجب التنبّه إليها هي: أن القرآن عبّر عن السلامة في دور الرحم بسلامة يوم الولادة، وذلك لأن السلامة في تمام ذلك الدور لا تعرف إلاّ بعد ولادة الطفل سالماً، واجتيازه تلك المراحل كلها بنجاح حيث تنقطع صلته تماماً برحم أمه.

(كان علي بن الحسين (عليه السلام) إذا بُشّر بولد، لم يسأل: أذكر هو أم أنثى؟ بل يقول: (أسوي؟). فإذا كان سوياً قال: (الحمد الله الذي لم يخلقه مشوَّهاً) (3) .

ولا ريب فلسلامة المولد قيمتها، إذ إنها هي السبب الأول في نشوء جيل مستوٍ وخلق مجتمع فاضل تنتشر فيه روح السعادة والإنسانية والصفاء.

مصدر السعادة والشقاء:

يتضح مما سبق مدى أهمية رحم الأم في سعادة الطفل وشقائه، وكذلك اتضح السبب في عدم ذكر الروايات لأهمية أصلاب الآباء، إذ إن الرحم هو مصدر السعادة والشقاء، وفيه يتقرّر مصير الإنسان وسلوكه بنسبة كبيرة.

____________________

(1) سورة مريم |15.

(2) سورة مريم |33.

(3) مكارم الأخلاق ص 119 ط إيران.

٩٠

فبعض الأطفال يبتلى بقسم من العيوب والنواقص العضوية في ناحية أو أكثر من البدن، ويولد مع تلك العيوب. وهناك بعض الأطفال نجدهم سالمين من حيث القوام البدني، ولكنهم مصابون ببعض الانحرافات والعوارض النفسية والروحية، ولذلك فإن الشقاء قد لحق بهم وهم في بطون أمهاتهم.

إن الانحرافات البدنية والنفسية كثيرة، وهناك الكثير منها لا يزال مجهولاً لدى العلماء حتى اليوم، إلاّ أن قسماً كبيراً من تلك العاهات يمكن الاتقاء منها إذا أحرزنا السلامة البدنية والنفسية للآباء والأمهات.

وإذ جر البحث إلى هذه العاهات التي تسبب ولادة الطفل شقياً، لا بأس بذكر بعضها وتعداد أنواعها، لمناسبتها للبحث من جهة، ولفوائدها للمستمعين الكرام من جهة أخرى.

العاهات العضوية:

1 - بقاء الجدار الداخلي للبطن مفتوحاً، وحينئذٍ يؤدي إلى خروج الأحشاء إلى الخارج (خلف الجدار الخارجي) وإيجاد انتفاخ ظاهر.

2 - الفتق السري الناشئ من عدم انسداد الحبل السري قبل الولادة.

3 - عدم التحام جدار السُرَّة وحصول شق في مقدم البطن إلى جهة الطحال.

4 - عدم التحام القفص الصدري بعظم القص، وفي هذه الصورة يكون القلب سطحياً وواقعاً خلف الجلد مباشرة. وفي بعض الأحيان نجد بقاء قسم من الرئتين خارج القفص الصدري (1) .

____________________

(1) جنين شناسى ص 57.

٩١

الوجه:

1 - شق الشفة، وينشأ هذا العيب من عدم التصاق الأنسجة الرابطة بين أجزاء الفك أو الأنف. هذه العاهات قد تؤدّي إلى ظهور أثر جرح، أو كشق صغير على جانب واحد جانبين من الشفة.

2 - شق القحف: هذا الشق ينشأ من عدم اتصال الأنسجة بين عظام الجمجمة.

3 - عدم انسداد الفتحة الواصلة بين العين والأنف، هذه الفتحة التي تبدأ من الجفن الأسفل للعين وتمتد إلى جهة الفم، قد تبقى مفتوحة أحياناً.

4 - اتساع فتحة الفم أكثر من المعتاد. وهو ناشئ من عدم التيام الأخدود الواصل بين أنسجة الفك الأعلى والأسفل.

5 - وقد يؤدي توقف أنسجة الوجه عن النمو إلى ظهور العاهات وبعض الحفر في الوجه (1) .

الهندام:

1 - توقّف بعض أجزاء الأطراف عن النمو، وفي هذه الصورة قد نجد الأطراف ملتصقة بالجسد مباشرة من دون وجود الساعد أو الساق.

2 - ظهور أطراف زائدة - كاملة أو ناقصة - وهذا التشويه ينشأ في الغالب من انقسام الأنسجة الأولية.

3 - عدم التناسق في اتصال مفاصل الرجلين، وفي هذه الصورة تكون الأصابع في خلف القدم والكعب في الجانب الأمامي (2) .

____________________

(1) جنين شناسى ص 71.

(2) المصدر السابق ص 73.

٩٢

الجهاز الهضمي:

1 - انسداد المريء، وعلامته تقيّؤ الطفل للحليب في اليوم الأول فور ارتضاعه.

2 - ضيق فتحة المريء حيث يؤدي فيما بعد إلى مشاكل كثيرة في بلع الأطعمة الصلبة (غير السائلة).

3 - الضيق الناشئ قبل الولادة لفتحة فم المعدة، والنمو غير الاعتيادي للعضلة التي تغلق هذه الفتحة.

4 - انسداد ثقب المخرج، أو أدائه إلى غيره من الحفر كالمثانة ونحوها (1) .

هذه نماذج مختصرة للعاهات والنواقص التي تصيب جسم الطفل، وهي كثيرة، فجميع أجزاء البدن سواء الجهاز العظمي والجهاز التناسي والقلب والعروق الدموية والمخ والأعصاب خاضعة للتأثر بتلك العاهات، وقد تكون خطرة جداً إلى درجة أنها تؤدي إلى نشوء رأسين على رقبة واحدة، أو بدنين على ظهر واحد.

من قضاء الإمام علي (عليه السلام):

ولقد حدث مثل هذا الحادث في زمن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، إذ جاءته امرأة ولدت من زوجها الشرعي طفلاً له بدنان ورأسان على حقو (2) واحد، فتحيّروا في حصته من الإرث، هل يعطونه حصة واحدة أم حصتين، فصاروا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) يسألونه عن ذلك ليعرفوا الحكم فيه، فكان جواب الإمام (عليه السلام):

____________________

(1) جنين شناسى ص 109، وكما ورد في كتب التواريخ فان الحجاج بن يوسف الثقفي كان مصاباً بهذه العاهة، فقد كان فاقداً للدبر حين الولادة، ثم ثقبوا له موضعه (أنظر تتمة المنتهى ص 98 ).

(2) ورد (الحفو) بمعنى سطح الجبل في بعض كتب اللغة، والظاهر أنه يستعمل بمعنى (الظهر) أيضاً. كما تدل على ذلك القرينة في المقام.

٩٣

(اعتبروا إذا نام ثم أنبهوا أحد البدنين والرأسين. فإن انتبها معاً في حالة واحدة فهما إنسان واحد. وإن استيقظ أحدهما والآخر نائم، فهما اثنان وحقهما من الميراث حق اثنين) (1) .

والسر في هذا القضاء العادل والحكم الدقيق واضح؛ أنه اعتبر ملاك الحكم هو المركز العصبي، إذ عليه المعوّل في توجيه الإنسان، فإن كانت قيادة واحدة توجّه البدنين والرأسين فهو شخص واحد. ولكن إذا كان يدير كل قسم جهاز عصبي مستقل عن الآخر، فهما بدنان، وأحسن طريقة لمعرفة أن الجهاز العصبي الذي يدير الجسم في هذا الإنسان واحد أو اثنين هو إيقاظه من النوم.

فكما أن الشخص الواحد تدار عيناه بواسطة جهاز واحد، وهما يشبهان مصباحين مربوطين بزر واحد يشتعلان ويطفآن معاً، فلا يمكن أن تكون إحدى العينين يقظة والأخرى نائمة... كذلك الرأسان والعيون الأربعة، فإن كانت تدار كلها بجهاز عصبي واحد، فلا يمكن أن يكون أحد الرأسين بهدوء، وبقي الثاني نائماً، فيدل هذا على أن لهما دماغين مختلفين يصدران إرادتين متباينتين، ويستجيبان لأثرين متضادين، فكأنهما طفلان نائمان في فراش واحد متشابكان تماماً. ومع ذلك فيستيقظ أحدهما قبل الآخر.

وبالرغم من خفاء كثير من أسباب هذه الانحرافات على البشر، فإن لنا أن نقطع بأن حدوث أي عيب في الخلية التناسلية الأولى يؤدي إلى أن يصير الطفل في وضع غير اعتيادي، كما ثبت ذلك في بعض الحيوانات حين أجريت تجارب عديدة عليها.

(لقد استطاع شابري أن يوجد أجنة غير اعتيادية بإيجاد خدوش في الخلايا الأولية، وقد نال هذا الإبداع بالخصوص استحساناً بالغاً، لأن إجراء الاختبارات على خلايا بيضة لا

____________________

(1) بحار الأنوار للمجلسي ج 9|ص 485 الطبعة القديمة.

٩٤

يتجاوز طولها 1% - 2% المليمتر ليس أمراً سهلاً) (1) .

الانحرافات الكامنة:

لا تنحصر العيوب والعاهات التي تصيب الطفل في رحم الأم بالنوع البدني منها فقط، فكثيراً ما يتفق إصابة الطفل بعوارض وانحرافات روحية، فهي ليست ظاهرة بل كامنة، ولكن الأم هي التي أوجدت العوامل المساعدة لذلك الانحراف الكامن الذي لا يلبث - بعد الولادة - أن يظهر تدريجياً، فيكشف الزمن عن أسرار عميقة كانت مكتومة في سلوك الفرد، فجميع تلك الاستعدادات تأخذ بالظهور إلى عالم الفعلية واحدة تلو الأخرى.

يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (الأيام توضح السرائر الكامنة) (2) .

وورد عن الإمام جواد (عليه السلام): (الأيام تهتك لك الأمر عن الأسرار الكامنة) (3) .

وهكذا، فكما أن الأم المصابة بالسل والسرطان تكون عاملاً مساعداً في إصابة طفلها بنفس المرض، فالأم المأسورة للانحرافات الروحية والسيئات الخلقية والصفات الرذيلة تكون تربة مساعدة أيضاً لانحراف سلوك الطفل وتفكيره أيضاً. وتأخذ تلك الانحرافات الروحية بالظهور بالتدريج في الطفل.

( إن ولد السارق مصاص الدماء، تكون قابليته على الإرادة الصحيحة أقل من ولد المجنون. فإن الأفراد الذين يملكون انحرافات وراثية موجودون في جميع طبقات المجتمع. ويمكن العثور عليهم بين الأغنياء والفقراء

____________________

(1) تاريخ علوم ص 706.

(2) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 28.

(3) بحار الأنوار للمجلسي ج 17|214.

٩٥

والمثقفين والعمال والفلاحين... كثيرون هم الذين ينهزمون أمام المشاكل لأبسط حادثة، والمتلوّنون الذين لا يستقرون على حال، ولا يقفون على تصميم وضعفاء الإرادة التائهون في خضمِّ الحياة، والكسالى الذين يشبهون الجماد في خمولهم وجمودهم، والحسّاد الذين يكتفون من الحياة بتوجيه الانتقاد إلى الآخرين، وضعفاء العقول المصابون بالشذوذ العاطفي. والخلاصة: أولئك الذين لا يتجاوز عمرهم العقلي أكثر من 10 سنين أو 12 سنة. ومما لا ريب فيه أن هذا النقص منشؤه وراثي إلى حد بعيد، ولكن ليس بمقدورنا أن نعيّن نسبة العوامل الوراثية إلى العوامل التربوية ( البيئية) في توليد هذه العاهات. ومع ذلك فإن النماذج الافراطية من ضعف العقل والاختلال الروحي والبكم والبلادة تدل بوضوح على وجود عيوب وراثية، بدنية وروحية) (1) .

ومن هنا يتضح لنا السر في أن الدين الإسلامي الحنيف يعتبر الصفات الرذيلة والملكات الذميمة والتمادي في الإجرام في عداد الأمراض الخطرة. فالخلق السيئ ليس سبباً للأمراض الروحية والعصبية فحسب، بل يؤدي أحياناً إلى اختلالات بدنية عظيمة، مما يؤدي إلى إصابة صاحب الأخلاق السيئة بأمراض جسدية، وهكذا نجد الأمهات المصابات بالانحرافات الخلقية والأمراض المعنوية يلدن أطفالاً مصابين أيضاً.

وهنا نكتة مهمة: وهي أن الأمراض الجسدية يمكن أن تكشف بسرعة لظهور بوادرها كالحمى وما شاكلها، ولكن المصابين الأمراض الروحية ومضاعفاتها ومخلّفاتها ليس فيهم بوادر ومقدمات، ولذلك فإن المصاب لا يلتفت إلى الخطر، إلاّ عندما يتأصّل فيه المرض ويستبد به الانحراف... حيث يكون أحياناً غير قابل للتدارك أصلاً.

____________________

(1) راه ورسم زندكى ص 156.

٩٦

ومن المؤسف له أن أكثر الناس في العالم ( ومن ذلك بلادنا أيضاً) يصرفون جُلَّ اهتمامهم إلى الجهات المادية فقط، غافلين عن الجهات المعنوية. ولهذا السبب بالذات، فإنهم يتلقّون الفضائل الخُلقية والمثل الإنسانية والتقوى على أنها أمور حقيرة، حتى إن البعض يفرضون أنفسهم في غنى منها.

الغفلة عن الانحرافات الروحية:

يرى الناس أن المرض منحصر بالنوع الجسماني منه، فالسيئات الخلقية والملكات الرذيلة لا يعتبرونها أمراضاً. المصاب بالسل والسرطان يعتبر مريضاً. أما الحسود والحقود، فليس مريضاً عندهم. إنهم يرون قرحة المعدة أو الاثني عشر مرضاً، ولكن الإفساد في الأرض والأنانية لا يرونهما كذلك.

وهكذا نجد الرجال حين الإقدام على الزواج يعطون جُلَّ اهتمامهم على جمال الوجه والهندام وسلامة الجسد للمرأة، من دون أن يسألوا عن صفاتها الخلقية وملكاتها المعنوية. وكذلك نظرة النساء إلى الرجال. فقصر القامة أو الحول في العين يعتبر عيباً في الزواج. ولكن الأنانية وبذاءة الأخلاق لا تعد من العيوب عندهم. وعليه فمن البديهي أن السيئات الخلقية تنتشر بسرعة في ظرف كهذا، ويزداد عدد المصابين بها يوماً بعد يوم.

وبما أن السجايا الخلقية من الأركان المهمة في موضوع تربية الطفل، وهي في نفس الوقت مفيدة لجميع الطبقات، نرى من الضروري أن نفصل القول فيها.

اتصال الجسد بالروح:

إن الإنسان مركب من روح وجسد، وكل منهما يؤثر في الآخر. فكما أن الجهود الجسمانية تترك آثاراً عميقة في الروح الإنسانية، كذلك الأفكار والمعنويات فأنها تؤثّر على بدنه. وهذه القاعدة كانت من جملة المسلّمات عند الفلاسفة والعلماء في القرون الماضية.

٩٧

لنفرض إنساناً لا يملك أبسط المعلومات عن الخط أو الرسم، ومع ذلك يأخذ القلم أو الفرشاة بيده ويتمّرن أشهراً وسنين طوالاً، وبالتدريج نجد أن روحه تقع تحت تأثير هذا التمرين الجسماني حتى يصير فن الخط أو الرسم في النهاية ملكة نفسانية له. وما هي إلاَّ أيام حتى يكون في عداد خطَّاطي أو رسَّامي العالم. هذا تأثير الجسم في الروح.

ولنفترض إنساناً يخجل أو يخاف من شيء ما، وبالرغم من أن الخوف أو الخجل شعور نفساني ومن الأمور المتعلقة بالروح، نجد أن هذه الحالة النفسية تؤثر في بدنه، فالمصاب بالخوف يصفر لونه. أما المصاب بالخجل، فيحمر وجهه، وهذا تأثير الروح في الجسم.

ولم يفت العلم الحديث التنبه إلى هذه النكتة، وهي تأثير كل من الروح والجسد في بعضهما البعض، بل أثبت العلماء ذلك، وذكروا هذه القاعدة بأسلوب أوضح في كتبهم:

ولنستمع إلى ( إلكسيس كارل) يقول:

( من والواضح أن النشاط العقلي يتوقف على وجوه النشاط الفسيولوجي، فقد لوحظ أن التعديلات العضوية تتصل بتعاقب حالات الشعور. وعلى العكس من ذلك فإن وظيفية معينة للأعضاء هي التي تقرّر الظواهر السيكولوجية. وليدل الكل المكون من الجسم والشعور بالعوامل العضوية والعقلية أيضاً... فالعقل والجسم يشتركان معاً في الإنسان) (1) .

تأثير الجسم في الروح:

( وحقيقة الأمر، أن المراكز المُخِّية لا تتكّون من المادة العصبية فحسب، إذ إنها تشتمل أيضاً على سوائل غطست فيها الخلايا، وينظم تأليفها بواسطة مصل الدم. ويحتوى

____________________

(1) الإنسان ذلك المجهول ص 114.

٩٨

مصل الدم على إفرازات الغدة، والنسيج التي تنتشر في الجسم كله، ولما كان كل عضو موجوداً في النخاع الشوكي بوساطة الدم والليمفا، فمن ثم فان حالاتنا الشعورية مرتبطة بالتركيب الكيميائي لأخلاط العقل، مثل ارتباطها بالحالة التركيبية لخلاياه. وحينما يحرم الوسيط العضوي من إفرازات غدد ( السوبر إرينال) فإن المريض يسقط فريسة للانقباض الشديد، ويشبه حيواناً شرساً، وتؤدي الاضطرابات الوظيفية لغدة الثايارويد إما إلى الهياج العصبي والعقلي أو إلى البلادة وفقد الإحساس. وقد وُجد معتوهون وضعاف عقول ومجرمون في أسر أصبح تغير تركيب هذه الغدة فيها؛ بسبب إصابتها بجروح أو بأمراض، مسألة وراثية) (1) .

( ولضياع أرقى التجلّيات الروحية. يكفي حرمان بلازما الدم من بعض المواد. فحين تتوقف غدة الثايارويد عن إفراز الثايروكسين في الدم مثلاً يضيع الشعور بالأخلاق وتذوق الجمال والإحساس الديني. وكذا ازدياد أو نقصان نسبة الكالسيوم يؤدي إلى اختلالات روحية كثيرة. ولهذا فالشخصية الإنسانية تأخذ طريقها إلى الاضمحلال في الإنسان المدمن على الخمرة).

( إن مما لا شك فيه أن الحالة النفسية ترتبط بالحالة الجسمانية تماماً. وبصورة موجزة: فإن الجهود الفكرية والنشاط العاطفي ينشأ من العوامل الفيزياوية والكيمياوية والفسيولوجية المرتبطة بالبدن) (2) .

من خلال هذه النصوص اتضح لنا تأثير الجسم والقوى البدنية في الأجهزة المعنوية والنفسية. والآن لنبحث عن كيفية تأثير الأفكار والعوامل النفسية في شئون الإنسان الجسدية.

____________________

(1) المصدر سابق ص 115.

(2) راه ورسم زندكى ص 26.

٩٩

تأثير الروح في الجسم:

( فالعواطف - كما هو معروف جيداً - هي التي تقرّر تمدّد أو تقلُّص الأوردة الصغيرة عن طريق الأعصاب المحركة، فهي - إذن - تقترن بتغييرات في دورة الدم في الخلايا والأعضاء. فالفرح يجعل جلد الوجه يتوهج في حين يكسبه الغضب والخوف لوناً أبيض... وقد تحدث الأنباء السيئة تقلصاً في الأوردة الجوفاء أو أنيميا القلب. والموت المفاجئ في أشخاص معينين، كما أن الحالات العاطفية تؤثر في الغدد كلها، وذلك بزيادة دورتها أو نقصها. إنها تنبه أو تقف الإفرازات أو تحدث تعديلاً في تركيبها الكيميائي. فالرغبة في الطعام تثير اللعاب حتى ولو لم يكن هناك أي طعام. فكلاب بافلوف كان لعابها يسيل على أثر سماعها صوت جرس، لأن جرساً دق قبل ذلك، حينما كان الحيوانات تطعم. وقد تؤدي العاطفة إلى إثارة نشاط عمليات ميكانيكية معقدة. فبينما يثير الإنسان عاطفة الخوف في القط، كما فعل ( كانون) في تجربته المشهورة، فإن أوعية غدد ( السوبرارينال) تتمدّد، وتفرز الغدد الأدرينالين. ويزيد الأدرينالين ضغط الدم وسرعة دورته ويهيّئ الجسم كله إما للهجوم أو للدفاع. إن العواطف تحدث تعديلات كبيرة في الأنسجة والأخلاط. وبالأخص في الأشخاص الشديدي الحساسية... فقد ابيضَّ شعر رأس امرأة بلجيكية كان الألمان قد حكموا عليها بالإعدام في الليلة السابقة لتنفيذ الحكم فيها... وثمّة امرأة أخرى أصيبت بطفح جلدي في أثناء إحدى الغارات الجوية، وكان هذا الطفح يزداد احمراراً واتساعاً بعد انفجار كل قنبلة ومثل هذه الظواهر بعيدة عن أن تكون استثنائية أو شاذة. فقد برهن ( جولترين) على أن الصدمة الأدبية قد تحدث تغييرات ملحوظة في الدم. إذ حدث أن تعرض أحد المرضى لخوف عظيم فهبط ضغط دمه فنقص عدد كريات

١٠٠