إيضاح مناسك الحج

إيضاح مناسك الحج14%

إيضاح مناسك الحج مؤلف:
المحقق: الشيخ أحمد الماحوزي
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 415

إيضاح مناسك الحج
  • البداية
  • السابق
  • 415 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 108897 / تحميل: 9671
الحجم الحجم الحجم
إيضاح مناسك الحج

إيضاح مناسك الحج

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

إحرامه من مسيرة ستة أميال فيكون حذاء الشجرة من البيداء » فذيلها صريح في ان الشجرة من البيداء، فيكون الوادي جزء منها.

وفي صحيحة معاوية بن عمار عنهعليه‌السلام قال: إن أسماء بنت عميس نفست بمحمد بن ابي بكر بالبيداء لاربع بقين من ذي القعدة في حجة الوداع، فأمرها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فاغتسلت واحتشت وأحرمت ولبّت مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واصحابه... الحديث » ومثلها صحيحة العيص، فلو كانت البيداء على بعد ميل كما في كثير من الكلمات لكان ذلك بعد إحرام وحركة الرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله نحو مكة.

وفي صحيحة زرارة والفضلاء ومصححة حمران عن ابي جعفرعليه‌السلام أن أسماء نفست بمحمد في ذي الحليفة، وكل من ترجم محمداًرضي‌الله‌عنه ذكر بأن ولادته كانت في ذي الحليفة أو بالشجرة، ففي سنن ابن ماجة وابي داود وغيرهما عن عائشة ان اسماء نفست بمحمد بالشجرة، وروى النسائي واحمد من العامة عن انس أن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله صلى الظهر بالبيداء ثم ركب وقصد جبل البيداء فأهل للحج، وعن ابن عمر ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بات بذي الحليفة ببيداء وصلى في مسجدها، فالشجرة وذي الحليفة والبيداء إشارة لمكان واحد.

وقد ذكرنا في المواقيت: أن الروايات في تعيين ميقات اهل المدينة على أربع طوائف، الاولى: مادل على ان الميقات هو ذو الحليفة، والثانية: أنه ذو الحليفة وفسر بمسجد الشجرة، والثالثة: ذو الحليفة وفسر بالشجرة، والرابعة: انه الشجرة، ولاريب ان المقصود من الشجرة هو المسجد اذ من الواضح عدم كون الميقات نفس الشجرة، فيدور الامر بين الطائفة الاولى والثانية.

٦١

وقد قيل في مقام الجمع ان الطائفة الثانية مفسرة للاولى او حاكمة عليها، بمعنى ان ذا الحليفة اسم للمسجد خاصة وليس بأعم منه، او هو أعم منه لكن التعبد ضيّق دائرته، فتكون النتيجة أن الميقات هو خصوص المسجد.

وهو كلام متين ووفق القواعد الصناعية لو كنا نحن وهذه الطوائف فقط، إلا انه هناك طائفة خامسة وهي صريحة في عدم انحصار الميقات في المسجد بل في بعضها نهي صريح عن الاحرام منه، المحمول على الاستحباب جمعاً بين الروايات.

ففي صحيحة معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبداللهعليه‌السلام عن التهيؤ للاحرام، فقال: في مسجد الشجرة فقد صلى فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد ترى أناساً يحرمون فلا تفعل حتى تنتهي إلى البيداء حيث المَيْل فتحرمون كما أنتم في محاملكم.

وصحيحة منصور بن حازم عنهعليه‌السلام قال: إذا صليت عند الشجرة فلا تلبّ حتى تأتي البيداء حيث يقول الناس يخسف بالجيش.

وصحيحة الحلبي عنهعليه‌السلام قال: الإحرام من مواقيت خمسة وقتها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لاينبغي لحاج ولالمعتمر أن يحرم قبلها ولابعدها، وقت لاهل المدينة ذا الحليفة وهو مسجد الشجرة كان يصلي فيه ويفرض الحج فاذا خرج من المسجد وسار واستوت به البيداء حين يحاذي الميل الاول احرم» فلو كان الميقات هو خصوص المسجد فحسب لكان الصدر والذيل متهافتين فتدبر.

وصحيحة معاوية عنهعليه‌السلام قال: صل المكتوبة ثم احرم بالحج أو المتعة واخرج بغير تلبية حتى تصعد إلى اول البيداء إلى أول ميل عن يسارك

٦٢

...» والمراد من «ثم احرم» اي إنو الحج او العمرة، يشهد له مرسل النضر المتقدم وصحيحة معاوية الاتية.

ومصححة علي بن جعفر عنهعليه‌السلام قال: سألته عن الإحرام عند الشجرة هل يحل لمن أحرم عندها ان لايلبي حتى يعلو البيداء ؟ قال: لايلبي حتي يأتي البيداء عند أول ميل، فأما عند الشجرة فلا يجوز التلبية.

وصحيحة ابن سنان قال سمعت أبا عبداللهعليه‌السلام يقول: ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن يلب حتى يأتي البيداء » وفي صحيحته الاخرى عنهعليه‌السلام : إنما لبى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على البيداء، لان الناس لم يكونوا يعرفون التلبية، فاحب ان يعلمهم كيفية التلبية »، وغيرها من الروايات الصريحة في جواز ابتداء التلبية عند اول ميل من ذي الحليفة، وحملها على الجهر بها خلاف صريح جملة منها، والإلتزام بكون النية لوحدها كافية لتحقق الإحرام خلاف صريح للنصوص.

كما انه لايوجد مايعارض هذه الروايات من النهي عن التلبية عند أول ميل، نعم روايات العامة فيها تعارض واختلاف، فعن ابن عمر - كما في سنن ابي داود وغيره - قال: بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيها ما أهل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلا من عند المسجد، وفي سنن الترمذي عن الصادق عن ابيهعليهما‌السلام عن جابر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لما أراد الحج أذن في الناس فاجتمعوا فلما اتى البيداء أحرم.

وقد حاول ابن عباس - كما في سنن ابي داود - من الجمع بين هذه الروايات المختلفة في مكان اهلال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حاجا فلما صلى في مسجده بذي الحليفة

٦٣

ركعتين أوجب في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتين فسمع ذلك منه من قدم فحفظه عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل وادرك ذلك منه أقوام... فقالوا انما أهل رسول الله حين استقلت به ناقته، فلما علا شرف البيداء وأهل ادرك ذلك منه أقوام فقالوا انما أهل حين علا شرف البيداء » وهذا الجمع لايمكن ان يلتزم به اذ صريح نصوص الخاصة وبعض العامة تنفي أن اهلال الرسول وتلبيته كانت في المسجد فراجع.

فالصحيح في الجمع بين هذه الطوائف من الروايات ان تفسير ذي الحليفة بالمسجد من باب تسمية الكل باسم الجزء كما في قوله تعالى (سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام ) وقوله ( فلا يقربوا المسجد الحرام ) وقوله ( ذلك لمن لم يكن اهله حاضري المسجد الحرام ) ومن المعلوم ان المقصود بالمسجد في هذه الايات وغيرها هو مكة كما تفيده الروايات، فذو الحليفة ومسجد الشجرة والشجرة كلها مسمّيات لبقعة مكانية واحدة وهي الوادي.

ويشهد لهذا الجمع - مضافا لما مر - التعبير في بعض الروايات عن ذي الحليفة بالشجرة، ففي صحيحة ابن سنان قال: قال ابو عبداللهعليه‌السلام : «ذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الحج فكتب الى من بلغه كتابه - الى ان قال - فأقبل الناس فلما نزل الشجرة أمر الناس بنتف الأبط وحلق العانة والغسل والتجرد في ازار ورداء » وفي صحيحة ابن وهب « حتى تأتي الشجرة فتفيض عليك من الماء » وغيرها من الروايات.

مع انه في جملة من الروايات المفصلة لحج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

٦٤

أن كل ذلك كان في ذي الحليفة، ففي صحيحة معاوية عنهعليه‌السلام : فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في أربع بقين من ذي القعدة، فلما انتهى الى ذي الحليفة فزالت الشمس اغتسل ثم خرج حتى اتي المسجد الذي عند الشجرة فصلى فيه الظهر واحرم بالحج مفردا وخرج حتى انتهي الى البيداء عند الميل الاول فصف الناس له سماطين فلبى بالحج مفردا » فالرواية صريحة في ان الاغتسال في مكان من ذي الحليفة والصلاة في مكان آخر، فالمغتسل غير المصلى مكانا.

وليس هذا مختصاً بروايات الخاصة بل هو عند العامة كذلك، فقد روى ابو داود وابن ماجة عن عائشة ان اسماء نفست بمحمد بالشجرة، وروى الدارمني في سننه عن الصادق عن ابيهعليهما‌السلام عن جابر ان أسماء نفست بذي الحليفة، فالتعبير بالشجرة او مسجد الشجرة من باب تسمية الكل باسم الجزء شرافة وتبركا بالمسجد او الشجرة.

فما استغربه بعض الاعاظم من الفقهاء المعاصرين من مَيْلِ صاحب الحدائققدس‌سره الى وجوب تأخير التلبية الى البيداء تبعا للروايات الكثيرة ليس في محله، اذ ليس اول البيداء او بتعبير النصوص الميل الاول من ذي الحليفة خارج عن الميقات، ولعل عدم الاعتناء والعمل بهذه الروايات لدى عدة من الفقهاء قديما وحديثا ظنهم ان الميل الاول من ذي الحليفة خارج عن الميقات، فيقع التعارض بينه وبين روايات الميقات وإن التلبية هي المحققة للاحرام، والله العالم.

٦٥

الى البيداء(١)

، هذا للرجل وأما المرأة فليس عليها رفع الصوت بالتلبية أصلا.

والاولى لمن عقد الإحرام من سائر المواقيت تأخير التلبية إلى أن يمشي قليلا(٢) ، ولمن عقده من المسجد الحرام تأخيرها إلى الرقطاء وهي موضع دون الردم(٣) ، والردم موضع بمكة قيل: يسمى الان بمدعى بالقرب من مسجد الراية قبيل مسجد الجن.

مسألة ٥١: الواجب من التلبية مرة واحدة، نعم يستحب الإكثار منها وتكرارها ما استطاع، والأحوط(٤) لمن اعتمر عمرة التمتع قطع

____________________

(١) وهو خلاف جملة من الروايات، بل مقتضى الجمع بينها هو افضلية التلبية عند المَيل الاول، والله العالم.

(٢) لقولهعليه‌السلام في صحيحة هشام « وإن شئت لبّيت من موضعك، والفضل أن تمشي قليلا ثم تلبي » بحيث عدم الخروج من الميقات.

(٣) لقولهعليه‌السلام في صحيحة الفضلاء « فإن شئت لَبّيْتَ خلف المقام وأفضل ذلك أن تمضي حتى تأتي الرقطاء وتلبي قبل ان تصير إلى الابطح ».

(٤) وجزم بوجوب القطع السيد الخوئي وبعض اعاظم تلامذته وقواه البعض الاخر، وقد أدعي عليه الاجماع وقطع الاصحاب تبعا للروايات المتعددة، ولعل وجه احتياط الماتن دام ظله صحيحة زرارة قال سألته عليه

=

٦٦

التلبية عند مشاهدة موضع بيوت مكة القديمة، وحده لمن جاء من أعلى مكة عن طريق المدينة «عقبة المدنيين» ولمن جاء من أسفها «عقبة ذي طوى».

كما أن الأحوط(١) لمن اعتمر عمرة مفردة قطعها عند دخول الحرم إذا جاء من خارج الحرم، وعند مشاهدة موضع بيوت مكة اذا كان إحرامه من أدنى الحل، ولمن حجّ بأيّ نوع من أنواع الحج قطعها

____________________

=

السلام أين يمسك المتمتع عن التلبية ؟ فقال: إذا دخل البيوت بيوت مكة لابيوت الابطح »، وصحيحة البزنطي عن ابي الحسن الرضاعليه‌السلام « أنه سال عن المتمتع متى يقطع التلبية، قال: إذا نظر الى عراش مكة عقبة ذي طوى، قلت: بيوت مكة، قال: نعم ».

ودعوى: بعض الاعلام ان صحيحة زرارة مجملة حيث لايعلم ماالمقصود من بيوت مكة هل القديمة او تعم البيوت المستحدثة فتكون الروايات الناصة على قطع التلبية اذا نظر الى بيوت مكة القديمة مبينة للمراد منها.

في غاية الفساد: اذ الابطح هو حد مكة القديمة، فالمقصود من بيوت مكة في صحيحة زرارة هي مكة القديمة لا المستحدثة.

(١) وجزم به وبشقه الثاني السيد الخوئي وبعض اعاظم تلامذته، وهو المشهور، ووجه التوقف اختلاف الروايات، والامر سهل.

٦٧

عند الزوال من يوم عرفة(١) .

مسألة ٥٢: إذا شك بعد لبس الثوبين وقبل التجاوز من المكان الذي لايجوز تأخير التلبية عنه في أنه قد أتى بها أم لا بنى على عدم الاتيان(٢) ، واذا شك بعد الاتيان بالتلبية انه أتى بها صحيحة أم لا بنى على الصحة(٣) .

الأمر الثالث: لبس الثوبين: (الازار والرداء) بعد التجرد عما يجب على المحرم اجتنابه، ويستثنى من ذلك الصبيان، فيجوز تأخير تجريدهم إلى فخ(٤) إذا ساروا من ذلك الطريق.

والظاهر أنه لايعتبر في لبسهما كيفية خاصة، فيجوز الإتزار

____________________

(١) نصاً واجماعا.

(٢) لأصالة العدم.

(٣) لقاعدة الفراغ.

* وإذا تبين له بعد الوقوفين أنه لم يؤد التلبية بصورة صحيحة فإن كان اللحن لايمنع من صدق التلبية عرفا فلا شيء عليه وإلا فليجددها في مكانه ويصح حجه أيضا.

(٤) لصحيحة ابن الحر قال سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الصبيان من اين نجردهم ؟ فقال: « كان أبي يجردهم من فخ »، ونحوه صحيحة علي بن جعفر، وفخ بئر معروف على فرسخ من مكة.

٦٨

بأحدهما كيف شاء، والارتداء بالآخر أو التوشح به أو غير ذلك من الهيئات، وإن كان الأحوط لبسهما على الطريق المألوف(١) .

مسألة ٥٣: لبس الثوبين للمحرم واجب استقلالي وليس شرطاً في تحقق الإحرام على الأظهر(٢) .

مسألة ٥٤: الأحوط(٣) في الازار ان يكون ساتراً من السرة إلى الركبة، وفي الرداء ان يكون ساتراً للمنكبين والعضدين وقدرا معتدا به من الظهر.

والأحوط وجوبا كون اللبس قبل النيّة والتلبية(٤) ولو قدمهما عليه فالاحوط الاولى إعادتهما بعده(٥) ·

____________________

(١) لقول الحجةعليه‌السلام في مكاتبة الحميري « والأحب إلينا والافضل لكل أحد شده على السبيل المألوفة المعروفة للناس جميعا إن شاء الله» ومنشأ الاحتياط ضعف السند.

(٢) كما هو ظاهر جملة من الروايات الكثيرة.

(٣) وجزم به السيد الخوئي وبعض اعاظم تلامذته، ولادليل عليه ظاهراً إلا دعوى أن ذلك مسمى الصدق العرفي في الاتزار والارتداء، فتأمل.

(٤) كما نسب للمشهور، ووجه التوقف ان لبس الثوبين كما مر واجب مستقل لاشرطا في تحقق الاحرام.

(٥) لاحتمال شرطيته للإحرام.

٦٩

مسألة ٥٥: لو احرم في قميص جاهلاً أو ناسياً نزعه وصح إحرامه(١) ، بل الأظهر صحة إحرامه حتى فيما إذا احرم فيه عالماً عامداً(٢) ، واما إذا لبسه بعد الإحرام فلا إشكال في صحة إحرامه، ولكن يلزم عليه شقه واخراجه من تحت(٣) ·

مسألة ٥٦: لا بأس بالزيادة على الثوبين في ابتداء الإحرام وبعده للتحفظ من البرد أو الحر أو لغير ذلك(٤) ·

____________________

(١) إذ التجرد عن المخيط ليس شرطاً في صحة الإحرام، ولو كان شرطاً لوجب تجديد النية والتلبية، وظاهر الروايات نفيه، ففي صحيحة معاوية عنهعليه‌السلام في رجل احرم وعليه قميصه، فقال: « ينزعه ولا يشقه وإن كان لبسه بعدما احرم شقه واخرجه مما يلي رجليه » وظهورها في عدم الاشتراط واضحة، والظاهر انه لا خلاف بينهم في ذلك.

(٢) لعدم كون لبس الثوبين شرطا في صحة الاحرام، وعدم كون التروك دخيلة في الاحرام، إذ كما مر قصد ترك المحرمات أو قصدها - في الجملة - ليس من شروط او موانع الاحرام فراجع.

(٣) لصحيحة ابن عمّار المتقدمة.

(٤) لعدم المانع، مضافا لصحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن المحرم يتردى بالثوبين، قالعليه‌السلام : « نعم والثلاثة ان شاء يقي بها الحر والبرد ».

٧٠

مسألة ٥٧: يعتبر في الثوبين نفس الشروط المعتبرة في لباس المصلي(١) ، فيلزم ان لا يكونا من الحرير الخالص(٢) ، ولا من اجزاء السباع، بل مطلق مالايؤكل لحمه على الاحوط(٣) ، ولا من المُذّهب، ويلزم طاهرتهما كذلك(٤) ، نعم لا باس بتنجسهما بنجاسة معفو عنها

____________________

(١) نصاً واجماعاً، ففي صحيحة حرير عنهعليه‌السلام «كل ثوب تصلي فيه فلا بأس ان تحرم فيه ».

(٢) تشهد له صحيحة ابي بصير قال: سئل أبو عبداللهعليه‌السلام عن الخميصة سداها ابريسم ولحمتها من غزل ؟ قال: لابأس بأن يحرم فيها، إنما يكره الخالص منه » وغيرها.

(٣) وجزم به السيد الخوئي وأعاظم تلامذته وهو المشهور بين العلماء، ولعل وجه التوقف أن صحيحة حريز المتقدمة غاية ماتدل على أن كل ثوب يصلى فيه يصح الاحرام فيه، وليس لها دلالة على ان كل مالايصلى فيه لايحرم فيه بل هي ساكتة عن هذا الحكم، فتأمل.

وكان الاولى للماتن دام ظله أن يتوقف في اجزاء السباع اذ لامستند لحرمة مالايأكل لحمه إلا صحيحة حريز على الظاهر، نعم وردت مجموعة من الصحاح تنهي عن الصلاة في جلود السباع، ولعله للنهي عن الصلاة فيما لايأكل لحمه، فراجع.

(٤) ففي صحيحة معاوية عنهعليه‌السلام قال: سألته عن المحرم يقارن بين ثيابه التي احرم فيها وبين غيرها ؟ قال: نعم اذا كانت طاهرة.

٧١

في الصلاة(١) .

مسألة ٥٨: الأحوط في الازار ان يكون جميعه ساتراً للبشرة غير حاك عنها(٢) ، ولايعتبر ذلك في الرداء(٣) .

مسألة ٥٩: الاحوط الأولى في الثوبين ان يكونا من المنسوج، ولا يكونا من قبيل الجلد والملبّد(٤) .

مسألة ٦٠: يختص وجوب لبس الازار والرداء بالرجال دون النساء، فيجوز لهنّ أن يحرمنّ في ألبستهنّ العادية(٥) على أن تكون واجدة للشرائط المتقدمة.

مسألة ٦١: ان حرمة لبس الحرير وإن كانت تختص بالرجال ولا يحرم لبسه على النساء إلاّ أن الاحوط(٦) للمرأة ان لا يكون ثوبها من

____________________

(١) ومستنده صحيحة حريز المتقدمة.

(٢) وجزم به السيد الخوئي وبعض اعاظم تلامذته، ومستندهم في ذلك صحيحة حريز وقد تقدم الاشكال في دلالتها والتأمل فراجع.

(٣) لصحة الصلاة فيه.

(٤) لشبهة إحتمال عدم صدق الثوبين عليهما.

(٥) يمكن ان يستفاد ذلك من روايات جواز لبس المخيط لهنَّ وغير ذلك.

(٦) وجزم بعدم الجواز السيد الخوئي واعاظم تلامذته، ومن القدماء

=

٧٢

الحرير، بل الاحوط ان لاتلبس شيئا من الحرير الخالص في جميع أحوال الإحرام(١) إلا في حال الضرورة كالاتقاء من البرد والحر(٢) .

مسألة ٦٢: إذا تنجس أحد الثوبين أو كلاهما بعد التلبس بالإحرام فالأحوط(٣) المبادرة إلى التبديل أو التطهير(٤) .

____________________

=

الصدوق والشيخ في المقنعة والسيد في الجمل والشهيد في الدروس، وذهب الى الجواز المفيد في احكام النساء وابن ادريس وأكثر المتأخرين، ومنشأ الخلاف اختلاف الروايات، ولعل النصرة للقائلين بالجواز والله العالم.

(١) لاطلاق النصوص.

(٢) ففي موثقة سماعة عنهعليه‌السلام « لاينبغي للمرأة أن تلبس الحرير المحض وهي محرمة، فاما في الحر والبرد فلا بأس ».

(٣) مر انه يشترط طهارة ثوبي الاحرام عند عقده، وهل يشترط ذلك استدامة كما هو ابتداءا ؟ مقتضى ظهور جملة من الروايات اشتراط ذلك، ففي صحيحة معاوية عنهعليه‌السلام قال: سألته عن المحرم يقارن بين ثيابه التي احرم فيها وبين غيرها، قال: نعم إذا كانت طاهرة » وفي صحيحة الاخرى قال: سألته عن المحرم يصيب ثوبه الجنابة ؟ قال: لايلبسه حتى يغسله، واحرامه تام» ودعوى ان قولهعليه‌السلام «لايلبسه» ظاهر في أنه لم يتحقق اللبس بعد، باطلة لاستعمال مثل هذه الصيغة في الرفع والدفع، ومع اشتراط الطهارة استدامة لابد من المبادرة العرفية للتطهير او التبديل.

(٤) * فمرشد الحاج او غيره اذا تطلب عمله ان يبقى فترة طويلة في

٧٣

مسألة ٦٣: لا تجب الاستدامة في لباس الإحرام، فلا بأس بإلقائه عن متنه لضرورة أو غيره ضرورة(١) ، كما لا بأس بتبديله على ان يكون البدل واجداً للشرائط.

تروك الإحرام

قلنا في ما سبق: إن الإحرام لا ينعقد بدون التلبية أو ما بحكمها وإن حصلت منه نية الإحرام، وإذا أحرم المكلّف حرمت عليه أمور، وهي خمسة وعشرون(٢) كما يلي:

١ - الصيد البري، ٢ - مجامعة النساء ٣ - تقبيل النساء، ٤ لمس المرأة، ٥ - النظر إلى المرأة وملاعبتها، ٦ - الاستمناء، ٧ - عقد النكاح ٨ - استعمال الطيب، ٩ - لبس المخيط أو مابحكمه للرجل،

____________________

(١) وهي على ثلاثة أقسام، الأول: مشترك بين الرجال والنساء، والثاني، مختص بالرجال دون النساء، والثالث، مختص بالنساء دون الرجال.

(٢) وهي على ثلاثة أقسام، الأول: مشترك بين الرجال والنساء، والثاني، مختص بالرجال دون النساء، والثالث، مختص بالنساء دون الرجال·

٧٤

١٠ - التكحل، ١١ - النظر في المرآة، ١٢ - لبس الخف والجورب للرجال ١٣ - الفسوق، ١٤ - المجادلة، ١٥ - قتل هوام الجسد، ١٦ التزين، ١٧ - الأدهان ١٨ - إزالة الشعر من البدن، ١٩ - ستر الرأس للرجال وهكذا الارتماس في الماء حتى على النساء، ٢٠ - ستر الوجه للنساء، ٢١ - التظليل للرجال، ٢٢ - إخراج الدم من البدن، ٢٣ - التقليم، ٢٤ - قلع الضرس ٢على قول، ٢٥ - حمل السلاح.

١ - الصيد البري

مسألة ٦٤: لا يجوز للمحرم استحلال شيء من صيد البرّ، سواء في ذلك اصطياده وقتله وجرحه وكسر عضو منه، بل مطلق إيذائه، كما لايجوز ذلك للمحلّ في الحرم أيضا، والمراد بالصيد الحيوان الممتنع بالطبع وإن تأهل لعارض، ولافرق فيه بين أن يكون محلّل الأكل أم لا على الاظهر(١) .

مسألة ٦٥: تحرم على المحرم إعانة غيره - مُحلاً كان أو محرماً - على صيد الحيوان البرّي، حتى بمثل الاشارة إليه، بل الأحوط عدم

____________________

(١) لشمول إطلاق الروايات لكل حيوان بري مطلقا.

٧٥

إعانته في مطلق مايحرم على المحرم استحلاله من الصيد.

مسألة ٦٦: لا يجوز للمُحرِم إمساك الصيد البري، والاحتفاظ به سواء اصطاده هو - ولو قبل إحرامه - أم غيره في الحلّ أم الحرم.

مسألة ٦٧: لايجوز للمحرم أكل شيء من الصيد وإن كان قد اصطاده المحل في الحلّ، كما يحرم على المحلّ - على الاحوط - مااصطاده المحرم في الحل قتله بالاصطياد أو ذبحه بعد اصطياده، وكذلك يحرم على المحلّ مااصطاده أو ذبحه المحرم أو المحلّ في الحرم.

* مسألة ٦٨: إذا اصطاد المحرم حيوانا في الحرم فأخرجه إلى خارج الحرم جاهلا بالحكم أو عالما به يجب عليه إعادته إلى الحرم.

مسألة ٦٩: يثبت لفرخ الصيد البّري حكم نفسه، وأما بيضه فلا يبعد حرمة أخذه وكسره وأكله على المحرم، والاحوط ان لايعين غيره على ذلك ايضا.

مسألة ٧٠: الأحكام المتقدمة - كما ذكرنا - إنما تختص بصيد البرّ، ومنه الجراد، وأما صيد البحر فلا بأس به، والمراد بصيد البحر ما يعيش في الماء فقط كالسمك، واما ما يعيش في الماء وخارجه فملحق بالبري، ولا بأس بصيد ما يشك في كونه برياً على الأظهر.

مسألة ٧١: كما يحرم على المحرم صيد البرّ كذلك يحرم عليه

٧٦

قتل شيء من الدوابّ وإن لم يكن من الصيد، ويستثنى من ذلك موارد:

١ - الحيوانات الاهلية - إن توحشت - كالغنم والبقر والإبل، ومالايستقلّ بالطيران من الطيور كالدجاج حتى الدجاج الحبشي (الغرغر) فإنه يجوز له ذبحها، كما لابأس بذبح مايشك في كونه أهلياً.

٢ - ماخشيه المحرم على نفسه أو أراده من السباع والحيات وغيرهما، فإنه يجوز له قتله.

٣ - سباع الطيور إذا آذت حمام الحرم، فيجوز قتلها أيضاً.

٤ - الأفعى والأسود الغدر وكل حيّة سوء والعقرب والفارة، فإنه يجوز قتلها مطلقاً، ولاكفارة في قتل شيء ممّا ذكر، كما لاكفارة في قتل السباع مطلقا - إلا الاسد - على المشهور.

وقيل بثبوت الكفارة - وهي قيمته - في قتل مالم يرده منها.

مسألة ٧٢: لابأس للمحرم أن يرمي الغراب والحدأة، ولاكفارة لو أصابهما الرمي وقتلهما.

* مسألة ٧٣: لايجوز للمحرم قتل الوزغ.

١ - كفّارات الصيد

مسألة ٧٤: في قتل النعامة بدنة، وفي قتل بقرة الوحش بقرة،

٧٧

وكذا في قتل حمار الوحش على الأحوط، وفي قتل الظبي والأرنب شاة، وكذلك في الثعلب على الأحوط.

مسألة ٧٥: من اصاب شيئاً من الصيد، فان كان فداؤه بدنة ولم يجد مايشتريه به فعليه اطعام ستين مسكيناً، لكل مسكين مد، فإن لم يقدر صام ثمانية عشر يوماً، وإن كان فداؤه بقرة ولم يجدها فليطعم ثلاثين مسكيناً، فإن لم يقدر صام تسعة أيام، وإن كان فداؤه شاة ولم يجد فليطعم عشرة مساكين، فإن لم يقدر صام ثلاثة أيام.

مسألة ٧٦: في قتل القطاة والحجل والدراج ونظيرها حمل قد فطم من اللبن وأكل من الشجر، وفي العصفور والقبرة والصعوة مد من الطعام على الاظهر، وفي قتل غير ماذكر من الطيور - كالحمامة ونحوها - شاة، وفي فرخه حمل أو جدي، وحكم بيضه إذا كان فيه فرخ يتحرّك حكم الفرخ، وإذا كان فيه فرخ لايتحرّك ففيه درهم، وكذا إذا كان مجردا عن الفرخ على الاحوط، وفي قتل جرادة واحدة تمرة أو كف من الطعام، والثاني افضل، ومع التعدد تتعدد الكفارة إلا إذا كان كثيرا عرفا فإن فيه شاة.

مسألة ٧٧: في قتل اليربوع والقنفذ والضب جدي وفي قتل العظاية كف من الطعام.

مسألة ٧٨: في قتل الزنبور متعمداً إطعام شيء من الطعام، واذا كان القتل دفعاً لايذائه فلا شيء عليه.

٧٨

مسألة ٧٩: إذا أصاب المحرم الصيد في خارج الحرم فعليه الفداء، او قيمته السوقية فيما لاتقدير لفديته، وإذا أصابه المحلّ في الحرم فعليه القيمة، إلا في الاسد فإن فيه كبشا على الاظهر، وإذا أصابه المحرم في الحرم فعليه الجمع بين الكفارتين.

مسألة ٨٠: يجب على المحرم ان ينحرف عن الجادة إذا كان فيها الجراد، فان لم يتمكن فلا بأس بقتلها.

مسألة ٨١: لو اشترك جماعة محرمون في قتل صيد، فعلى كل واحد منهم كفّارة مستقلة.

مسألة ٨٢: كفّارة أكل الصيد ككفارة الصيد نفسه، فلو صاده المحرم وأكله فعليه كفارتان.

مسألة ٨٣: إذا كان مع المحل صيد ودخل الحرم يجب عليه ارساله، فان لم يرسله حتى مات لزمه الفداء، ومن أحرم ومعه صيد حرم عليه إمساكه مطلقا كما تقدم، وإن لم يرسله حتى مات لزمه الفداء ولو كان ذلك قبل دخول الحرم على الأحوط.

مسألة ٨٤: لا فرق في وجوب الكفّارة في قتل الصيد وأكله بين العمد والسهو والجهل.

مسألة ٨٥: تتكرر الكفّارة بتكرر الصيد لخطأ أو نسيان أو اضطرار أو جهل يعذر فيه، وكذلك في العمد إذا كان الصيد من المحل في الحرم، أو من المحرم مع تعدد الإحرام، واما اذا تكرر الصيد عمدا

٧٩

من المحرم في إحرام واحد فلا تجب الكفارة بعد المرة الاولى، بل هو ممن قال الله تعالى فيه:( ومن عاد فينتقم الله منه ) .

٢ - مجامعة النساء

مسألة ٨٦: يحرم على المحرم الجماع أثناء عمرة التمتع، وكذا أثناء العمرة المفردة وأثناء الحج قبل الاتيان بصلاة طواف النساء(١) .

مسألة ٨٧: إذا جامع المتمتع أثناء عمرته قُبلاً أو دُبراً عالماً عامداً فإن كان بعد الفراغ من السعي لم تفسد عمرته ووجبت عليه الكفّارة(٢) وهي على الاحوط جزور أو بقرة(٣) ، وإن كان قبل الفراغ

____________________

(١) بلا خلاف في ذلك أصلا.

(٢) كما هو مقتضى النصوص.

(٣) وذهب بعض الاعاظم إلى ان كفارته شاة والاحوط مافي المتن، وخيّر آخر بين الجزور والبقرة والشاة وإن كان الاحوط ان يكفّر الموسر بالجزور والمتوسط بالبقرة.

والروايات على ثلاث طوائف، ففي صحيحة معاوية انه ينحر جزورا، وفي صحيحة الحلبي عليه جزور او بقرة، وفي صحيحة ابن مسكان عليه دم

=

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

يكون من العسير تشخيصها ، إلّا المؤمنين المتوكّلين على الله والمشمولين برحمته وحمايته :( إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (1) .

ولا بدّ من الانتباه إلى أنّ كلمة الشيطان تستبطن التمرّد والعناد والبعد عن كلّ خير وبركة. إلّا أنّ ذكر كلمة «مريد» (الفاقد لكلّ خير وسعادة) بعد كلمة الشيطان مباشرة ، هو تأكيد لتوضيح مصير من يتّبعه.

4 ـ تفسير عبارة( كُتِبَ عَلَيْهِ ) (2) .

واضح أنّ هذه العبارة تعني «الإلزام» ، سواء كانت في عالم الخلق أم في عالم التشريع. إلّا أنّه يجب أن لا نتصوّر أنّها تعني «الجبر» وأنّ الشياطين مجبورون على إضلال أتباعهم ليرسلوهم إلى دار البوار. بل إنّها نتيجة مؤكّدة لبرنامج اختاروه بمحض إرادتهم. فإبليس قائد الشياطين وكبيرهم خالف أمر الله وعنده بملء إرادته ، حتّى بلغت به الجرأة أن يعترض على ذات الله. فهو ضالّ ومضلّ وكذلك سائر الشياطين من الجنّ والإنس. وذلك كما نقول للمدمن على المخدرات : كتب على جبينه سوء الطالع والتعاسة ، فهل يعني ذلك جبرا؟!

* * *

__________________

(1) سورة الحجر ، 40.

(2) قال البعض : إنّ ضمير «عليه» يعود إلى الشيطان ، وقال آخرون : إنّه يعود إلى اتّباع الشيطان. كما يستنتج ذلك من عبارة «ومن الناس» أيضا ، إلّا أنّ ظاهره يؤكّد أنّه يعود إلى الشيطان ، لا سيّما وأنّ الضمير المتّصل بـ «من تولّاه» يعود إلى الشيطان أيضا.

٢٨١

الآيات

( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) )

التّفسير

دليل المعاد في عالم الأجنّة والنّبات :

بما أنّ البحث في الآيات السابقة كان يدور حول تشكيك المخالفين للمبدأ والمعاد ، فالآيات محل البحث طرحت دليلين منطقيين قويّين لإثبات المعاد

٢٨٢

الجسماني : أحدهما التغيّرات التي تحدث في مراحل تكوين الجنين ، والآخر هو التغيّرات التي تحدث في الأرض عند خروج النبات.

والقرآن شرح صورا للمعاد ممّا يلمسه الناس في هذه الدنيا ، ويرونه بامّ أعينهم ، إلّا أنّهم لم ينتبهوا لذلك ، ليعلموا أنّ الحياة بعد الموت ليست ضربا من الخيال ، بل هي حادثة فعلا مشهودة للعيان ، والخطاب القرآني يعمّ جميع الناس بنوره( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) (1) كلّ ذلك من أجل أن نوضّح لكم حقيقة قدرتنا على القيام بأي عمل( لِنُبَيِّنَلَكُمْ ) .

فتبقى الأجنّة في الأرحام إلى مدّة معلومة نحن نحدّدها لتمرّ بمراحل تكاملها. ونسقط ما نريد منها فنخرجها من الأرحام في وسط الطريق قبل أن تكمل( وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) ثمّ تبدأ الأجنّة مرحلة تطوّر جديدة. لنخرجكم أطفالا من أرحام أمّهاتكم.

( ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) وبهذا تنتهي مرحلة حياتكم المحدّدة في بطون أمّهاتكم.

فتضعون أقدامكم في محيط أوسع مملوء بالنور والصفاء ، وإمكانات واسعة جدّا ، إلّا أنّ تكاملكم يستمرّ في قطع المسافات بسرعة لتبلغوا الهدف ، ألا وهو الرّشد والكمال الجسمي والعقلي.( ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ) .

وهنا يتبدّل الجهل إلى علم ، والضعف إلى قوّة ، والتبعيّة إلى الاستقلال ، لكن مسيرة حياتكم تطوى وتستمر فبعضكم يودّع الحياة بينما يستمرّ آخرون حتّى المرحلة الأخيرة من الحياة ، أي مرحلة الشيخوخة بعد تكاملهم :( وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) .

أجل ، فالمرء يصل إلى مرحلة لا يتذكّر فيها شيئا ، حيث يسيطر عليه النسيان ،

__________________

(1) «المضغة» مشتقة من «المضغ» وتعني مقدارا من اللحم يمكن للإنسان مضغه في لقمة واحدة. وهذا تشبيه رائع للجنين في المرحلة التي تعقب مرحلة العلقة.

٢٨٣

ويصبح في وضع وكأنّه طفل( لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ) وهذا الضعف والخمول دليل على بلوغ المرء مرحلة انتقالية جديدة كما نجد ضعف التحام الثمرة بالشجرة حين تبلغ مرحلة النضج ممّا يدلّ على وصولها إلى مرحلة الانفصال.

وهذه التغيّرات المدهشة المتلاحقة التي تتحدّث عن قدرة الله تعالى غير المحدودة ، توضّح أنّ إحياء الموتى يسير على الله جلّت عظمته. وهناك بحوث تعرض لمراحل الحياة المختلفة هذه ، سنذكرها في الملاحظات القادمة.

ثمّ تتناول الآية بيان الدليل الثّاني أي حياة النباتات ، فتبيّن ما يلي : تنظر إلى الأرض في فصل الشتاء فتجدها جافّة وميتة ، فإذا سقط المطر وحلّ الربيع ، دبّت الحياة والحركة فيها ونبتت أنواع النباتات فيها ونمت( وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) (1) .

الآيتان اللاحقتان تشرحان ما توصّلنا إليه ، وذلك باستعراض خمس

* * *

ملاحظات

1 ـ إنّ ما استعرضته الآيات الخاصّة بالمراحل التي تسبق مراحل الحياة للإنسان وعالم النبات ، من أجل أن تعلموا أنّ الله تعالى حقّ( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ ) وبما أنّه هو الحقّ ، فالنظام الذي خلقه حقّ أيضا ، لهذا لا يمكن أن يكون

__________________

«الهامدة» تعني في الأصل النّار التي أطفئت ، ويطلق على الأرض التي جفّت نباتاتها وأصبحت دون حركة «مفردات الراغب الاصفهاني» والبعض الآخر قال : إنّ كلمة «هامدة» تطلق على الحدّ الفاصل بين الموت والحياة (تفسير في ظلال القرآن).

«اهتزّت» مشقّة من «الهزّ» وتعني تحرّكت بشدّة.

«ربت» مشقّة من «الربو». وتعني الزيادة والنمو ، كما أنّ كلمة «ربا» مشتقّة أيضا من «الربو».

«بهيج» تعني الجميل السّاحر السارّ.

٢٨٤

هذا الخلق دون هدف ، كما يذكر القرآن الكريم هذا المعنى في مورد آخر :( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (1) .

وبما أنّ هذه الحياة ليست عبثا ، وأنّ لها هدفا ، وأنّنا لا نصل إلى تحقيق ذلك الهدف في حياتنا ، إذن نعلم من ذلك وجود المعاد والبعث حتما.

2 ـ إنّ هذا النظام الذي يسيطر على عالم الحياة يقول لنا( وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ) .

إنّ الذي يلبس الأرض لباس الحياة ، ويغيّر النطفة التافهة إلى إنسان كامل ، ويمنح الحياة للأرض الميتة ، لقادر على أن يمنح الحياة للموتى ، فهل يمكن التردّد في قبول فكرة المعاد مع وجود كلّ هذه التشكيلات الحيّة الدائمة للخالق جلّ وعلا في هذا العالم(2) ؟

3 ـ الهدف الآخر هو أن نعلم( وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ولا يستحيل على قدرته شيء.

هل يمكن لأحد تحويل الأرض الميتة إلى نطفة؟ ويطوّر هذه النطفة التافهة في مراحل الحياة؟ ويلبسها كلّ يوم لباسا جديدا من الحياة! ويجعل الأرض الجافّة العديمة الروح خضراء زاهية تعلوها بهجة الحياة؟! أليس القادر على القيام بهذه الأعمال بقادر على أن يحيي الإنسان بعد موته؟!

4 ـ إنّ كلّ هذا لتعلموا أنّ ساعة نهاية هذا العالم وبداية عالم آخر ، ستحلّ بلا شكّ فيها( وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ) .

5 ـ ثمّ إنّ كلّ هذا مقدّمة لنتيجة أخيرة هي( وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) .

__________________

(1) سورة ص ، 27.

(2) يرى بعض المفسّرين في عبارة( أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ) إشارة إلى حياة الناس في القيامة. مع أنّ هذا المعنى تضمّنته عبارة( وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) أيضا ، مع فارق هو أنّ العبارة الأولى إشارة إلى أصل الحياة ، والثّانية إشارة إلى كيفية إحياء الموتى.

إلّا أنّ التّفسير الآخر الذي استندنا إليه بصورة أكثر ، هو أنّ عبارة ( أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ) إشارة إلى منح الله الحياة بشكل مستمر في هذه الدنيا ، ليكون دليلا على إمكان تحقّق ذلك يوم البعث.

٢٨٥

وهذه النتائج الخمس بعضها مقدّمة ، وبعضها ذو المقدّمة ، البعض منها إشارة إلى الإمكان ، والآخر إشارة إلى الوقوع ، ومترتّبة بعضها على بعض وكلّ يكمل صاحبه ، وجميعها ينتهي إلى نقطة واحدة ، هي أنّ البعث ليس ممكن فحسب ، بل إنّه سيقع حتما.

فالذين يشكّون في إمكان الحياة بعد الموت يشاهدون الصور المشابهة لها في حياة البشر والنباتات بامّ أعينهم. وهي تتكرّر كلّ يوم وكلّ عام.

وإذا شكّوا في قدرة الله فإنّ قدرة الله جعلتهم يشاهدون أمثلة بارزة لها بأعينهم. ألم يخلق الإنسان من تراب؟ ألا نشاهد كلّ عام احياء الأرض الميتة؟

فهل عجيب أمر حياة الأموات ثانية ونهوضهم من تراب؟

وإن شكّوا في وقوع مثل هذه الأمور ، فعليهم أن يعلموا أنّ النظام المسيطر على الخلق في العالم يدلّ على وجود هدف له ، وإلّا فإنّه باطل تافه ، والحياة القصيرة المملوءة بالآلام وخيبة الآمال غير جديرة بأن تكون هي الهدف الأخير لعالم الخلق.

وعلى هذا يجب أن يكون هناك عالم آخر ، وسيع ، خالد ، جدير بأن يعدّ هدفها للخلق.

* * *

بحوث

1 ـ مراحل حياة الإنسان السبع

الآيات السابقة شرحت حركة الإنسان في مسيرة ذات مراحل سبع ، لتبيّن البعث وتثبت إمكانه :

المرحلة الأولى : عند ما كان الإنسان ترابا ، وقد يراد به التراب الذي خلق منه آدمعليه‌السلام . كما قد يكون إشارة إلى أنّ جميع البشر ـ من تراب ، لأنّ جميع المواد

٢٨٦

الغذائية التي تكوّن النطفة وغذاءها ـ من بعد ـ من تراب. ولا شكّ في أنّ الماء يشكّل جزءا ملحوظا من جسم الإنسان ، والجزء الآخر من الأوكسجين والكاربون ، وليس من التراب ، إلّا أنّ العنصر الأساس الذي تتشكّل منه أعضاء الجسم مصدره التراب. إذن عبارة خلق الإنسان من تراب صحيحة حتما.

المرحلة الثّانية : (النطفة) : يتحوّل التراب ، هذا الموجود البسيط المهمل العديم الحسّ والحركة ، يتحوّل إلى نطفة تتألّف من أحياء مجهولة مثيرة تسمّى عند الرجل «أسپر» أو الحيمن وعند المرأة «أوول» أو البويضة وهي غاية في الصغر حتّى أنّها تبلغ الملايين في نطفة الرجل!

والمثير أنّ الإنسان يواصل عقب ولادته حركة تدريجيّة هادئة ، تأخذ في الغالب شكل «التكامل الكمّي» في الوقت الذي كانت حركته في الرحم «كيفيّة» ترافقها طفرات سريعة مغيّرة. والتغيّرات المتعاقبة للجنين في الرحم مدهشة إلى درجة يمكن تشبيهها بحشرة صغيرة بسيطة تتطوّر بعد أشهر قليلة إلى طائرة نفّاثة!

وقد تطوّرت وتوسّعت الدراسات عن «علم الأجنة» اليوم بحيث تمكّن علماؤه من دراسة الجنين في مراحله المختلفة ، وكشفوا عن أسرار هذه الظاهرة العجيبة في عالم الوجود. وعرضوا النتائج الباهرة التي توصّلوا إليها في دراساتهم عن الجنين.

وفي المرحلة الثّالثة يصبح الجنين علقة ، وتكون خلاياه كحبّات التوت ، بشكل قطعة دم خاثر متلاصقة ، يطلق عليها علميّا «مورولا». وبعد مضي مدّة قصيرة تظهر أخاديد التقسيم الصغيرة كبداية لتقسيم أجزاء الجنين ، ويطلق على الجنين في هذه المرحلة اسم «لاستولا».

وفي المرحلة الرّابعة يتّخذ الجنين شكل قطعة لحم ممضوغ ، دون أن تتّضح معالم الأعضاء فيه ، وفجأة تحدث تغييرات في قشرة «الجنين» وتتّخذ شكلا يلائم العمل المطلوب منه القيام به ، فتظهر أعضاء الجسم تدريجيّا ، ويسقط كلّ جنين

٢٨٧

لا يمكنه المرور بهذه المرحلة ، ويمكن أن تكون عبارة( مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) إشارة إلى هذه المرحلة ، أي أنّ الجنين يكون «كامل الخلقة» أو «ناقص الخلقة».

ومن المثير أنّ القرآن المجيد ذكر عبارة( لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ) بعد ذكر هذه المراحل الأربع ، مؤكّدا أنّ هذه التغييرات السريعة المدهشة التي تغيّر قطرة ماء صغيرة إلى إنسان كامل ، لدليل واضح على أنّ الله قادر على كلّ شيء.

ثمّ أشار القرآن الكريم إلى مرحلة الجنين الخامسة والسّادسة والسّابعة ، التي تلي الولادة أي «الطفولة» و «البلوغ» و «الشّيخوخة»(1) .

والجدير بالذكر أنّ ولادة الإنسان ـ من التراب ـ كائنا حيّا ، قفزة كبيرة ، ومراحل الجنين المختلفة قفزات متعاقبة ، وولادة الإنسان من بطن أمّه قفزة مهمّة جدّا ، وهكذا البلوغ والشيخوخة.

وتعبير القرآن عن يوم القيامة بالبعث ، قد يكون إشارة إلى مفهوم القفزة ذاتها التي تحدث يوم البعث أيضا. وما أجدرنا بالانتباه إلى أنّ القرآن تحدّث عن مراحل تكوّن الجنين قبل أن يظهر علم الأجنّة ، وحديثه عنها في ذلك الزمن دليل حيّ على أنّ هذا الكتاب العظيم إنّما هو وحي يوحى من قدرة قادرة هي التي أبدعت الطبيعة وما وراءها.

2 ـ المعاد الجسماني

ممّا لا شكّ فيه أنّ القرآن الكريم أينما تحدث عن البعث قصد بعث الإنسان جسما وروحا في العالم الأخروي ، والذين حصروا البعث في الروح وقالوا ببقائها هي وحدها لم يفقهوا آيات القرآن قطّ.

__________________

(1) الذي يثير الانتباه أنّ تعبير القرآن( ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) عن ولادة الإنسان لم يرد بصيغة الجمع (أطفال) وفقا للقاعدة ، إلّا أنّ هذا التعبير (طفلا) يمكن أن يكون مصدرا يتساوى فيه المفرد والجمع ، أو أن يكون الهدف بيان النوع. وليس خصائص الأطفال ، فالفروق بين البشر في هذه المرحلة مخفية تبرز في المراحل اللاحقة.

٢٨٨

فهذه الآيات المباركة كالآية السابقة تصرّح بالمعاد الجسماني. وإلّا فما هو وجه التشابه بين المعاد الروحي ، ومراحل الجنين وإحياء الأرض الموات بنمو النباتات؟ ويؤكّد ذلك ختام الآيات التي نحن بصددها إذ تقول :( وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) والقبر موضع جسم الإنسان وليس روحه.

وأساسا فانّ تعجّب المشركين إنّما هو من البعث الجسماني ، فهم يقولون : كيف يمكن للإنسان أن يعود للحياة ثانية بعد ما صار ترابا؟ وبقاء الروح لم يكن شيئا عجبا ، لأنّه كان موضع قبول ورضى الأقوام الجاهلية.

3 ـ ما هو «أرذل العمر»؟

«الأرذل» مشتقّة من «رذل» أي المنحطّ وغير المرغوب فيه. ويقصد بـ «أرذل العمر» تلك المرحلة من عمر الإنسان التي هي أكثر انحطاطا وغير مرغوب فيها لما يفقده فيها الإنسان من القوّة والذاكرة ، ولما يغلبه فيها من الضعف والانفعال ، حتّى تراه يغتاظ من أدنى شيء ، ويرضى ويفرح لا يسر شيء ، ويفقد سعة صدره وصبره ، وربّما قام بحركات طفولية. مع فارق بينه وبين الطفل وهو أنّ الناس لا يتوقّعون منه ذلك ، لأنّه ليس طفلا ، مضافا إلى أنّ الطفل يؤمل في أن يكبر وينضج جسديّا ونفسيّا وتزول عنه هذه الحركات الصبيانية ، لهذا يتركوا أحرارا في ممارستها ، وليس كذلك في الفرد المسنّ ، أي أنّ الطفل ليس لديه شيء ليفقده ، ولكن المسنّ يفقد رأس مال حياته بذلك. وعلى هذا فإنّ وضع الشيوخ المعمّرين يثير الشفقة والأسى عند مقارنته بوضع الأطفال.

وجاء في بعض الأحاديث أنّ أرذل العمر هو الذي يبلغ مائة عام وأكثر(1) وقد تعني هذه العبارة نوع الأشخاص ، وإلّا فهناك من يبلغ هذه الحالة وسنّهم أقل من

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، المجلّد الثّالث ، الصفحة 472.

٢٨٩

مائة عام. كما أنّ هناك أشخاصا تجاوزت أعمارهم مائة عام وهم بكامل وعيهم وذكائهم. وتندر مشاهدة من يصابون بهذه الحالة بين العلماء الذين شغلتهم المعارف والبحوث.

وما أولانا بدعاء الله تعالى أن يحفظنا من هذه الحالة! وما أجدرنا أن ننهي غرورنا وغفلتنا بمجرد الفكر بهذه العاقبة! علينا أن نفكّر ماذا كنّا وعلى ماذا أصبحنا وماذا سنكون؟

* * *

٢٩٠

الآيات

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) )

التّفسير

الجدال بالباطل مرّة أخرى :

تتحدّث هذه الآيات أيضا عمّن يجادلون في المبدأ والمعاد جدالا خاويا لا أساس له ، في البداية يقول القرآن المجيد :( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ) .

وعبارة( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) هي ذاتها التي ذكرت في آية سابقة ، وإعادتها تبيّن لنا أنّ العبارة الأولى إشارة إلى مجموعة من الناس ، والثّانية إلى مجموعة أخرى. وبعض المفسّرين يرى أنّ الفرق بين هاتين المجموعتين من الناس هو أنّ الآية السابقة الذكر دالّة على وضع الأتباع الضالّين الغافلين ، في

٢٩١

وقت تكون فيه هذه الآية دالّة على قادة هذه المجموعة الضالّة(1) .

وعبارة( لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ) تبيّن هدف هذه المجموعة ، ألّا وهو تضليل الآخرين ، وهذا دليل واضح على الفرق بينهما ، مثلما توضّح هذا المعنى عبارة( يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ ) في الآيات السابقة التي تتحدّث عن اتّباع الشياطين.

ولكن ما الفرق بين «العلم» و «الهدى» و «الكتاب المنير»؟

للمفسّرين آراء في هذا المجال أقربها إلى العقل هو أنّ «العلم» إشارة إلى الاستدلال العقلي. و «الهدى» إشارة إلى إرشاد القادة الرّبانيين. و «الكتاب المنير» إشارة إلى الكتب السماويّة ، أي أنّها تعني الأدلّة الثلاثة المعروفة «الكتاب» و «السنّة» و «الدليل العقلي». وأمّا الإجماع فإنّه يعود إلى السنّة طبقا لدراسات العلماء ، وقد جمعت هذه الأدلّة الأربعة في هذه العبارة أيضا.

ويحتمل بعض المفسّرين أنّ «الهدى» إشارة إلى الإرشادات المعنوية التي يكتسبها الإنسان في ظلّ بناء الذات وتهذيب النفس وتقواه. «وبالطبع يمكن ضمّ هذا المعنى إلى ما تقدّم آنفا».

ويمكن أن يكون الجدال العلمي مثمرا إذا استند إلى أحد الأدلّة : العقل ، أو الكتاب ، أو السنّة.

ثمّ يتطرّق القرآن المجيد في جملة قصيرة عميقة المعنى إلى أحد أسباب ضلال هؤلاء القادة ، فيقول :( ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) إنّهم يريدون أن يضلّوا الناس عن سبيل الله بغرورهم وعدم اهتمامهم بكلام الله وبالأدلّة العقليّة الواضحة.

«ثاني» مشتقّة من «ثني» بمعنى التواء و «عطف» تعني «جانب» فالجملة تعني ثني الجانب ، أي الإعراض عن الشيء وعدم الاهتمام به.

__________________

(1) تفسير الميزان ، والتّفسير الكبير للفخر الرازي ، في تفسير الآيات موضع البحث.

٢٩٢

ويمكن أن تكون عبارة «ليضلّ» هدف هذا الإعراض ، أي إنّهم (قادة الضلال) يستخفّون بآيات الله والهداية الإلهيّة لتضليل الناس. ويمكن أن تكون نتيجة لذلك. أي أنّ محصّلة الإعراض وعدم الاهتمام هو صدّ الناس عن سبيل الحقّ. ويعقب القرآن ذلك ببيان عقابهم الشديد في الدنيا والآخرة بهذه الصورة :( لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ ) .

ونقول له :( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ ) و( أَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) لا يعاقب الله أحدا بلا ذنب ، ولا يضاعف عقاب أحد دون سبب ، فهو العدل المطلق سبحانه(1) .

وهذه الآية من الآيات التي تنفي مذهب الجبريّة ، وتثبت مبدأ العدالة في أفعال الله تعالى. (للمزيد من التفصيل راجع تفسير الآية (182) من سورة آل عمران).

* * *

__________________

(1) «ظلّام» صيغة مبالغة تعني كثير الظلم. وطبيعي أنّ الله لا يظلم أبدا لا كثيرا ولا قليلا ، ويمكن أن يكون استخدام هذا التعبير هنا إشارة إلى أنّ العقاب دون مبرّر من قبل الله تعالى ـ جلّ عن ذلك وعلا علوّا كبيرا ـ مصداق ظلم كبير.

٢٩٣

الآيات

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14) )

التّفسير

الواقف على حافّة وادي الكفر

تحدّثت الآيات السابقة عن مجموعتين : الأتباع الضالّين ، والقادة المضلّين.

أمّا هذه الآيات ، فتتحدّث عن مجموعة ثالثة هم ضعاف الإيمان. قال القرآن المجيد عن هذه المجموعة :( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ ) أي إنّ بعض الناس يعبد الله بلقلقة لسان ، وإنّ إيمانه ضعيف جدّا. ولم يدخل الإيمان إلى قلبه.

٢٩٤

وعبارة «على حرف» ربّما تكون إشارة إلى أنّ إيمانهم باللسان فقط ، وأنّ قلوبهم لم تر بصيصا من نوره إلّا قليلا ، وقد تكون إشارة إلى أنّ هذه المجموعة تحيا على هامش الإيمان والإسلام وليس في عمقه ، فأحد معاني «الحرف» هو حافّة الجبل والأشياء الاخرى. والذي يقف على الحافّة لا يمكنه أن يستقرّ. فهو قلق في موقفه هذا ، يمكن أن يقع بهزّة خفيفة ، وهكذا ضعاف الإيمان الذين يفقدون إيمانهم بأدنى سبب.

ثمّ تناول القرآن الكريم عدم ثبات الإيمان لدى هؤلاء الأشخاص( فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ ) (1) إنّهم يطمئنون إذا ضحكت لهم الدنيا وغمرتهم بخيراتها! ويعتبرون ذلك دليلا على أحقّية الإسلام.

إلّا أنّهم يتغيّرون ويتّجهون إلى الكفر إن امتحنوا بالمشاكل والقلق والفقر ، فالدين والإيمان لديهم وسيلة للحصول على ما يبتغون في هذه الدنيا ، فإن تمّ ما يبغونه كان الدين حقّا ، وإلّا فلا.

وذكر «ابن عبّاس» ومفسّرون قدماء سبب نزول هذه الآية : «أنّها نزلت في أعراب كانوا يقدمون على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة مهاجرين من باديتهم ، فكان أحدهم إذا صحّ بها جسمه ونتجت فرسه مهرا حسنا. وولدت امرأته غلاما وكثر ماله وماشيته ، رضي به واطمأنّ إليه ، وإن أصابه وجع وولدت امرأته أنثى أو أجهضت فرسه أو ذهب ماله أو تأخّرت عنه الصدقة ، أتاه الشيطان وقال له : ما جاءتك هذه الشور إلّا بسبب هذا الدين. فينقلب عن دينه»(2) .

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن الكريم يعبّر عن إقبال الدنيا على هؤلاء الأشخاص بالخير. وعن إدبارها بالفتنة (وسيلة الامتحان) ولم يطلق عليها كلمة

__________________

(1) كلمة «انقلب» في جملة «انقلب على وجهه» تعني التراجع. ويمكن أن تكون إشارة إلى ترك الإيمان تماما ، حتّى إنّه لا يعود إليه. فهو غريب عن الإيمان دوما.

(2) تفسير الفخر الرازي ، المجلّد الثّالث والعشرون ، ص 13 ، وتفسير القرطبي ، المجلّد السادس ، ص 4409.

٢٩٥

الشّر ، إشارة إلى أنّ هذه الأحداث غير المرتقبة ليست شرّا ولا سوءا وإنّما هي وسيلة للامتحان.

ويضيف القرآن المجيد في الختام ـ( خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ) و( ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ) مؤكّدا أنّ أفدح الضرر وأفظع الخسران ، هو أن يفقد الإنسان دينه ودنياه. وهؤلاء الأشخاص الذين يقيسون الحقّ بإقبال الدنيا عليهم ينظرون إلى الدين وفق مصالحهم الخاصّة ، وهذه الفئة موجودة بكثرة في كلّ مجتمع ، وإيمانها مزيج بالشرك وعبادة الأصنام ، إلّا أنّ أصنامهم هي وأزواجهم وأبناؤهم وأموالهم ومواشيهم ، ومثل هذا الإيمان أضعف من بيت العنكبوت!

وهناك مفسّرون يرون أنّ هذه الآية تشير إلى المنافقين ، لكن إذا اعتبرنا أنّ المنافق هو من لا يملك ذرّة من الإيمان ، فإنّ ذلك يخالف ظاهر هذه الآية ، فعبارة «يعبد الله» و «اطمأنّ به» و «انقلب على وجهه» تبيّن أنّه ذو إيمان ضعيف قبل هذا.

أمّا إذا قصد بالمنافق من يملك قليلا من الإيمان ، فلا يعارض ما قلناه ، ويمكن قبوله.

وتشير الآية التالية إلى إعتقاد هذه الفئة الخليط بالشرك ، خاصة بعد الانحراف عن صراط التوحيد والإيمان بالله ، فتقول :( يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ) أي إذا كان هذا الإنسان يسعى إلى تحقيق مصالحه الماديّة والابتعاد عن الخسائر ويرى صحّة الدين في إقبال الدنيا عليه ، وبطلانه في إدبارها عنه. فلما ذا يتوجّه إلى أصنام لا يؤمّل منها خير ، ولا يخاف منها ضرر.

فهي أشياء لا فائدة فيها ، ولا أثر لها في مصير البشر؟! أجل( ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ) . إنّ هؤلاء ليبتعدون عن الصراط المستقيم بعدا حتّى لا ترجى عودتهم إلى الحقّ إلّا رجاء ضعيفا جدّا.

ويوسّع القرآن الكريم هذا المعنى فيقول :( يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ ) .

لأنّ هذا المعبود المختلق ينزل بفكرهم إلى الحضيض في هذه الدنيا ، ويدفعهم

٢٩٦

نحو الخرافات والجهل ، ويدعهم في الآخرة في نار جهنّم ، بل هم كما تقول الآية 98 من سورة الأنبياء :( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) .

وتضيف الآية في الختام( لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) فما أسوأه ناصرا ومعينا ، وما أسوأه مؤنسا ومعاشرا.

وهنا يثار سؤال ، فالآية السابقة تنفي كلّ فائدة ونفع من هذه الأصنام وكلّ ضرر ، وهذه الآية تقول إنّ ضررها أقرب من نفعها! فكيف ينسجم الحكمان؟

في الجواب عن ذلك نقول : إنّ ذلك أمر اعتيادي في المخاطبة ، ففي مرحلة لا يعتبرون لشيء فائدة وتأثير يذكر ثمّ يترقّى إلى الحال في مرحلة أخرى فيعدّونه مصدر الضرر. كأن نقول : لا تصادق فلانا ، فلا نفع فيه لدينك ولا لدنياك.

وبعدها نتقدّم فنقول إنّما هو : (أي هذا الصديق) سبب لتعاستك وافتضاحك. وهنا تجد إضافة إلى كون الأصنام لا ضرر فيها لأعداء المشركين ، لأنّها غير قادرة على الإضرار بأعدائهم كما يتوقّعون منها ، ولكنّها تتضمّن ضررا حتميّا لأتباعها.

كما أنّ صيغة «أفعل التفضيل» في كلمة «أقرب» كما قلنا سابقا : تعني عدم اتّصاف طرفي المقارنة بصفة معينّة. وقد يكون الطرف الأضعف فاقدا لأيّة صفة ، كأن نقول : ساعة صبر عن الذنب خير من نار جهنّم (وليس معنى ذلك أنّ نار جهنّم فيها خير ، إلّا أنّ الصبر أفضل منها ،).

وقد اختار هذا الرأي عدد من كبار المفسّرين كالشيخ الطوسي في «التبيان» والطبرسي في «مجمع البيان».

واحتمل البعض كالفخر الرازي في تفسير الآية بأنّ كلّ واحدة من هاتين الآيتين إشارة إلى مجموعة من الأصنام ، فالآية الأولى تخصّ الأصنام الحجرية والخشبية ، وأمّا الآية الثّانية فتخصّ الطواغيت والبشر المتعالين أشباه الأصنام.

فالمجموعة الأولى لا تضرّ ولا تنفع ، بل هي بالتأكيد خالية من أيّة صفة. أمّا المجموعة الثّانية «أئمّة الضلال» فإنّهم يضرّون ولا ينفعون. وإذا كان فيهم خير

٢٩٧

قليل فضرّهم كبير جدّا ، وعبارة( لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) تؤكّد ذلك ، وعليه فلا تناقض بين الآيتين(1) .

وختام الآية المباركة نلحظ مقارنة بين الخير والشرّ كما هو دأب القرآن الكريم لتتّضح النتائج بشكل أكبر ، فتقول الآية :( إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) . فعاقبتهم معلومة ومنهج تفكير هم وسلوكهم واضح فمولاهم هو الله تعالى ، ورفاقهم وجلساؤهم في الآخرة هم الأنبياء والصالحون والملائكة ، وأنّ الله سبحانه يثيب المؤمنين العاملين للصالحات ، جنّات تجري من تحتها الأنهار ، لينعموا بالسعادة والسرور جزاء استقامتهم على الحقّ واستجابتهم له في الحياة الدنيا( إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ) .

وثوابهم يسير عليه ـ جلّ وعلا ـ يسر عقاب الذين ظلموا أنفسهم بإيثار الباطل على الحقّ ، وبعبادتهم الأصنام من دون الله سبحانه.

وفي هذه المقارنة نلاحظ طائفة من الناس لم يؤمنوا إلّا بلسانهم ، فهم على جانب من الدين وينحرفون بأدنى وسوسة ، وليس لهم عمل صالح ، أمّا المؤمنون الحقيقيّون فإيمانهم راسخ ولا تزعزعه العواطف ومثمر هذا من جهة ومن جهة أخرى فلئن كان مولى الخاسرين لا ينفع ولا يضرّ ، فإنّ مولى الصالحين على كلّ شيء قدير. ولئن خسر الظالمون كلّ شيء ، فقد ربح المهتدون خير الدنيا وسعادة الآخرة.

* * *

__________________

(1) بعض المفسّرين الأفاضل كمفسّر الميزان فسّر عبارة «يدعو» بمعنى «يقول» إلّا أنّ ذلك لا يطابق ظاهر الآية.

٢٩٨

الآيات

( مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) )

سبب النّزول

روى بعض المفسّرين حول سبب نزول الآية الأولى من هذه الآيات ، أنّها نزلت في نفر من أسد وغطفان قالوا : نخاف أنّ الله لا ينصر محمّدا ، فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا. فحذّرتهم هذه الآية ووبّختهم بشدّة.

وقال آخرون : إنّها نزلت في قوم من المسلمين لشدّة غيظهم وحنقهم على المشركين ، يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر ، فنزلت هذه الآية(1) تلومهم

__________________

(1) أبو الفتوح الرازي ، وكذلك الفخر الرازي في تفسير هما الآيات موضع البحث.

٢٩٩

على عدم صبرهم.

التّفسير

البعث نهاية جميع الخلافات :

بما أنّ الآيات السابقة كانت تتحدّث عن ضعفاء الإيمان ، فإنّ الآيات مورد البحث ترسم لنا صورة أخرى عن هؤلاء فتقول :( مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ ) .

أي من يظنّ أنّ الله لا ينصر نبيّه في الدنيا والآخرة ، وهو غارق في غضبه ، فليعمل ما يشاء ، وليشدّ هذا الشخص حبلا من سقف منزله ويعلّق نفسه حتّى ينقطع نفسه ويبلغ حافّة الموت ، فهل ينتهي غضبه؟!

لقد اختار هذا التّفسير عدد كبير من المفسّرين ، أو ذكروه كاحتمال يستحقّ الاهتمام به(1) .

الضمير في قوله سبحانه :( لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ ) بحسب هذا التّفسير يعود إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و «السّماء» تعني سقف المنزل (لأنّ كلّ شيء فوقنا يطلق عليه سماء). أمّا عبارة «ليقطع» فتعني قطع النفس والوصول إلى حافّة الموت.

واحتمل البعض احتمالات أخرى في تفسير هذه الآية لا حاجة لذكرها ، ما عدا تفسيرين منها يستحقّان الاهتمام ، وهما :

1 ـ إنّ السّماء يقصد بها السّماء الحقيقيّة ، وبناء على هذا الرأي : فإنّ الأشخاص الذين يظنّون أنّ الله لا ينصر نبيّه ، ليذهبوا إلى السّماء وليشدّوا بها حبلا ويعلّقوا أنفسهم بينها وبين الأرض حتّى تنقطع أنفسهم. (أو يقطعوا الحبل الذي تعلّقوا به كي يسقطوا) ولينظروا إلى أنفسهم هل انتهى غضبهم؟!

__________________

(1) تراجع تفاسير «مجمع البيان» و «التبيان» و «الميزان» و «الفخر الرازي» و «أبو الفتوح الرازي» و «تفسير الصافي» و «القرطبي» في تفسير الآية التي يدور حولها البحث.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415