إيضاح مناسك الحج

إيضاح مناسك الحج14%

إيضاح مناسك الحج مؤلف:
المحقق: الشيخ أحمد الماحوزي
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 415

إيضاح مناسك الحج
  • البداية
  • السابق
  • 415 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 109121 / تحميل: 9685
الحجم الحجم الحجم
إيضاح مناسك الحج

إيضاح مناسك الحج

مؤلف:
العربية

إيضاح مناسك الحج

لسماحة آية الله العظمى

السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله الشريف

تأليف

الشيخ أحمد الماحوزي

١

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

تابعوا بين الحجّ والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي

الكير خبث الحديد

وقال الصادقعليه‌السلام :

حجج تترى وعمر تسعى يدفعن عيلة الفقر وميتة السوء

وقالعليه‌السلام :

من حج حجج لم يعذّبه الله أبداً

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم من الآن الى قيام يوم الدين.

وبعد..

فهذا شرح موجز ومختصر لمناسك آية الله العظمى السيد علي السيستاني دام ظله، وبيان مقتضب لمناشئ الاحتياط والتردد فيه، مع استدلال مفصل في جملة من المسائل والفروع حسب ما تقتضيه الحاجة والضرورة.

وقد أضفت - زيادة على ما في المنسك - جملة من المسائل والأحكام انتخبتها من ملحق مناسك الحج، ولعلها تصل الى ما يقارب من مائة مسألة، وضعت أكثرها في المتن وبعضها القليل في الحاشية، وللتميز بينها وبين ما في أصل المنسك والشرح وضعت

٣

علامة ( * ) أمام كل مسألة وفرع أخذته من الملحق.

وابتدأت باقسام الحج، وحذفت شروط الحج لعدم الابتلاء الكثير بها، واخرّت فصل النيابة والحج المندوب واقسام العمرة الى ما بعد احكام الرمي.

والمقصود من أعاظم تلامذة سيد الفقهاء والمجتهدين الخوئيقدس‌سره المنوه إليهم في المسائل الاحتياطية، هما:

الاستاذ آية الله الشيخ ميرزا جواد التبريزي دام ظله الشريف.

والاستاذ آية الله العظمى الشيخ الوحيد الخراساني دام ظله الشريف.

والمقصود من بعض أعاظم تلامذته أحدهما دام ظلهما.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد وآله الطاهرين.

أحمد الماحوزي

غرة شهر شوال لسنة ١٤٢٠

٤

أقسام الحج

مسألة ١: أقسام الحج ثلاثة(١) ، تمتع، وإفراد، وقران.

والاول: فرض من كان البعد بين أهله ومكة أكثر من ستة عشر فرسخا(٢) .

والاخران: فرض أهل مكة ومن يكون البعد بين أهله ومكة أقل

____________________

(١) نصاً وإجماعاً بين العلماء كافة.

(٢) على المشهور، وهو ثمانية واربعين ميلا ومايقرب من اثنين وتسعين كيلومترا، وفي المبسوط والاقتصاد وروض الجنان والجمل والعقود والغنية والكافي والوسيلة والسرائر والشرائع وغيرها ان البعد المقتضي لذلك هو ستة عشر ميلا - اربعة فراسخ - من كل جانب، وما ذهب اليه المشهور هو الصحيح لدلالة جملة من الروايات الصريحة عليه، مضافا الى ضعف وسقم أدلة الثاني، لذا عدل المحقّق عما في الشرائع وقال: انه قول نادر لاعبرة به.

٥

من ستة عشر فرسخا(١) .

مسألة ٢: لايجزي حج التمتّع عمّن فرضه الإفراد أو القِران، كما لايجزي حج القِران أو الإفراد عمّن فرضه التمتّع(٢) ، نعم قد تنقلب وظيفة المتمتّع إلى الافراد كما سيأتي.

هذا بالنسبة إلى حجّة الإسلام، وأما بالنسبة الى الحجّ المندوب والمنذور مطلقا والموصى به كذلك من دون تعيين فيتخيّر فيها البعيد والحاضر بين الأقسام الثلاثة، وإن كان الأفضل التمتّع(٣) .

____________________

(١) لقوله تعالى ( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) فحاضر المسجد الحرام تكون وظيفته الإفراد او القِران.

وهل البعد بالنسبة الى مكة او المسجد الحرام - كما هو نص الاية - وجهان بل قولان، والاظهر الأول لكون المقصود من المسجد مكة المكرمة، بشهادة قوله تعالى ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام ) ولاريب ان الاسراء كان من مكة باتفاق الكل، مضافا الى قولهعليه‌السلام في صحيحة زرارة أن المراد من المسجد الحرام مكة المكرمة، فالتوقف في دلالتها باعمال بعض القواعد الاصولية المستحدثة في غير محله ووسوسة زائدة.

(٢) بلا خلاف أصلا قديما وحديثا.

(٣) يدل عليه وعلى ماسبقه الروايات المستفيضة.

٦

مسألة ٣: إذا أقام البعيد في مكة انتقل فرضه الى حج الإفراد أو القِران بعد الدخول في السنة الثالثة، وأما قبل ذلك فيجب عليه حج التمتع، ولافرق في ذلك بين ان تكون استطاعته ووجوب الحج عليه قبل إقامته في مكة أو في أثنائها، كما لافرق فيه بين أن تكون إقامته بقصد التوطن أم لا(١) ، وكذلك الحال فيمن أقام في غير مكة من الأماكن التي يكون البعد بينها وبين مكّة أقل من ستّة عشر فرسخاً.

____________________

(١) يشهد له إطلاقات النصوص، ففي صحيحة زرارة عن ابي جعفرعليه‌السلام « من أقام بمكة سنتين فهو من أهل مكة ولامتعة له »، وصحيحة ابن يزيد عن الصادقعليه‌السلام «المجاور بمكة يتمتع بالعمرة الى الحج الى سنتين فإذا جاوز سنتين كان قاطنا وليس له أن يتمتع » وليس في المقام مايستدل على الخلاف إلا الاصل والاجماع المدعى، اما الاول فإطلاق النصوص كافٍ في رفعه، واما الثاني فاثباته دون خرط القتاد.

ووجوب التمتع عليه قبل التوطن او الاقامة لايمنع من انقلاب حكمه لتغير الموضوع، وليس هذا بغريب اذ الصلاة بالنسبة للحاضر تامة فاذا سافر بعد دخول الوقت ينقلب الوجوب من التمام الى التقصير، فالزوال شرط لوجوب أصل الصلاة أما كيفية الاتيان فمرتهن بوقت الاداء، والاستطاعة من هذا النمط فتدبر، والمسألة ذات أربع صور، والتفصيل تجده في « مجمع مناسك الحج ».

٧

مسألة ٤: إذا أقام في مكّة وأراد أن يحج حجّ التمتّع قبل انقلاب فرضه إلى حجّ الإفراد او القِران، قيل: يجوز له أن يحرم لعمرة التمتع من أدنى الحل، ولكنه لايخلو عن إشكال، والأحوط(١) أن يخرج إلى أحد المواقيت فيحرم منه، بل الاحوط أن يخرج إلى ميقات أهل بلده، والظاهر أن هذا حكم كل من كان في مكّة وأراد الإتيان بحجَّ التمتّع ولو مستحبا(٢) .

____________________

(١) واستظهر السيد الخوئي وبعض أعاظم تلامذته جواز الاحرام من ادنى الحل وإن كان الاحوط استحبابا ماذكره الماتن دام ظله.

ومنشأ الاشكال اختلاف الروايات، وهي على طوائف ثلاث، الاولى: ان ميقاته مُهلّ أرضه وأهل بلده، والثانية: أحد المواقيت، والثالثة: أدنى الحل، فالاقوال على ذلك ثلاثة.

والذي تميل إليه النفس هو التخيير والحمل على الفضيلة، والاستدلال للاول بالاخبار الآمرة بالرجوع الى ميقات الاهل بالنسبة للجاهل والناسي للاحرام في غير محله، لعدم القطع بنفي الخصوصية اذ لعله لمقام المرور على الميقات بلا احرام، واخبار المواقيت غاية ماتفيد أنها مواقيت لمن رام دخول الحرم للحج والعمرة، وحمل الطائفة الثالثة على صورة التعذر ليس من الجمع العرفي، وندرة العامل بها لايثبت الاعراض اذ لعل منشأه ترجيح غيرها عليها، فما استظهره سيد الفقهاء والمجتهدين في محله والله العالم.

(٢) لاطلاق النصوص.

٨

حجّ التمتّع

مسألة ٥: يتألف هذا الحجّ من عبادتين: تسمى أُولاهما بالعمرة، والثانية بالحجّ، وقد يطلق حج التمتع على الجزء الثاني منهما، ويجب الإتيان بالعمرة فيه قبل الحج.

مسألة ٦: تجب في عمرة التمتّع خمسة أمور:

الامر الاول: الإحرام من أحد المواقيت، وستعرف تفصيلها.

الامر الثاني: الطواف حول البيت.

الامر الثالث: صلاة الطواف.

الامر الرابع: السعي بين الصفا والمروة.

الامر الخامس: التقصير، وهو قصّ بعض شعر الرأس أو اللحية أو الشارب، فإذا أتى المكلف به خرج من إحرامه، وحلّت له الأمور التي كانت قد حرمت عليه بسبب الإحرام.

مسألة ٧: يجب على المكلّف أن يتهيّأ لأداء وظائف الحج فيما إذا قرب منه اليوم التاسع من ذي الحجة الحرام

وواجبات الحج ثلاثة عشر· وهي كما يلي:

١ - الإحرام من مكة، على تفصيل يأتي.

٢ - الوقوف في عرفات من ظهر يوم التاسع من ذي الحجة

٩

الحرام من بعد مايمضي من زوال الشمس مقدار الإتيان بالغسل واداء صلاتي الظهر والعصر - جمعا - إلى المغرب، وتقع عرفات على بعد أربعة فراسخ من مكة.

٣ - الوقوف في المزدلفة شطراً من ليلة العيد الى ماقبيل طلوع الشمس، وتقع المزدلفة بين عرفات ومكة.

٤ - رمي جمرة العقبة في منى يوم العيد، ومنى على بعد فرسخ واحد من مكة تقريباً.

٥ - النحر أو الذبح في منى يوم العيد أو في أيام التشريق.

٦ - الحلق أو التقصير في منى، وبذلك يحل له ماحرم عليه من جهة الإحرام ماعد النساء والطيب، وكذا الصيد على الاحوط.

٧ - طواف الزيارة بعد الرجوع إلى مكة.

٨ - صلاة الطواف.

٩ - السعي بين الصفا والمروة، وبذلك يحل الطيب أيضاً.

١٠ - طواف النساء.

١١ - صلاة طواف النساء، وبذلك تحل النساء أيضاً.

١٢ - المبيت في منى ليلة الحادي عشر وليلة الثاني عشر، بل ليلة الثالثة عشر في بعض الصور كما سيأتي.

١٣ - رمي الجمار الثلاث في اليوم الحادي عشر والثاني عشر، بل وفي اليوم الثالث عشر أيضاً فيما إذا بات المكلف هناك على

١٠

الأظهر.

مسألة ٨: يشترط في حج التمتع أمور:

١ - النية(١) ، بأن يقصد الاتيان بحج التمتع بعنوانه، فلو نوى غيره أو تردد في نيته(٢) لم يصح حجه.

٢ - ان يكون مجموع العمرة والحج في أشهر الحج(٣) ، فلو أتى بجزء من العمرة قبل دخول شوال لم تصح العمرة.

٣ - ان يكون الحج والعمرة في سنة واحدة(٤) ، فلو أتى بالعمرة وأخّر الحج إلى السنة القادمة لم يصح التمتع، ولا فرق في ذلك بين أن يقيم في مكّة إلى السنة القادمة وبين ان يرجع إلى أهله ثم يعود اليها، كما لافرق بين ان يحل من إحرامه بالتقصير وإن يبقى محرماً إلى السنة القادمة.

____________________

(١) لكون الحج من أعظم العبادات، وهي متقومة بالنية.

(٢) اذ الترديد ينافي النية كما هو واضح.

(٣) نصا واجماعا، قال الله تعالى (الحج أشهر معلومات)·

(٤) بلا خلاف فيه بين العلماء قديما وحديثا، ويشهد له قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله « دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة ثم شبكصلى‌الله‌عليه‌وآله أصابعه بعضها في بعض ».

١١

٤ - ان يكون إحرام حجه من نفس مكّة مع الاختيار(١) ، وأفضل مواضعه المقام أو الحجر، وإذا لم يمكنه الإحرام من مكّة - لعذر - أحرم من أي موضع تمكن منه.

٥ - ان يؤدي مجموع عمرته وحجه شخص واحد عن شخص واحد(٢) ، فلو استأجر اثنان لحج التمتع عن ميت أو حي أحدهما لعمرته والآخر لحجه لم يصح ذلك، وكذلك لو حج شخص وجعل عمرته عن واحد وحجه عن آخر لم يصح.

مسألة ٩: إذا فرغ المكلّف من أعمال عمرة التمتّع لم يجز له الخروج من مكة لغير الحج على الاحوط(٣) ، إلا أن يكون خروجه

____________________

(١) راجع مواقيت الاحرام.

(٢) اذ عمرة التمتع جزء من الحج، فهما جزآن لعمل واحد، فنيابة شخصين لهما بمثابة نيابة شخصين لصلاة الصبح احدهما للركعة الاولى والثاني للركعة الثانية.

وتأمل فيه سيد العروة، واستظهر صحته من خبر محمد بن مسلم حيث قال: سألته عن رجل يحج عن أبيه ايتمتع ؟ قالعليه‌السلام : « نعم المتعة له، والحج عن أبيه »، وعلق عليه سيد المشايخ والأساتذة - الگلپايگاني - لا وجه للتأمل فيه والخبر غير واضح الدلالة مع عدم ظهور عامل به.

(٣) وجزم السيد الخوئي وأعاظم تلامذته بعدم الجواز تبعا للمشهور،

=

١٢

لحاجة - وإن لم تكن ضرورية -(١) ولم يخف فوات أعمال الحج،

____________________

=

سواء علم ان الحج يفوته بالخروج او احتمل او علم بعدم الفوت، ولعل منشأ احتياط الماتن دام ظله إختلاف الروايات اذ هي على طوائف ثلاث، طائفة تنهى عن الخروج حتى يحج، واخرى تُجوّز الخروج للحاجة، وثالثة تُجوّز الخروج للاماكن القريبة كالطائف وجدة.

والظاهر كون حرمة الخروج حكماً طريقياً تحفظياً لاداء وجوب الحج فيكون في مورد الخوف وعدم العلم بالرجوع - كما افاد بعض الاساتذة - ويؤيده بل يدل عليه إستبعاد موضوعية الخروج، ولعله مفاد صحيحة علي بن جعفر عن أخيهعليه‌السلام قال: « وسألته عن رجل قدم مكة متمتعا فحلّ أيرجع ؟ قال: لايرجع حتى يحرم بالحج ولايجاوز الطائف وشبهها مخافة أن لايدرك الحج، فان أحب أن يرجع الى مكة رجع، وإن خاف أن يفوته الحج مضى على وجهه الى عرفات » فعِلّة المنع هو خوف فوات الحج.

كما يؤيد ذلك مرسل الصدوق عن الصادقعليه‌السلام قال: إذا اراد المتمتع الخروج من مكة إلى بعض المواضع فليس له ذلك لانه مرتبط بالحج حتى يقضيه، إلا ان يعلم أنه لايفوته الحج، وإن علم وخرج وعاد في الشهر الذي خرج فيه دخل مكة محلا، وإن دخلها في غير ذلك الشهر دخلها محرما » ومرسلات الصدوق لاتقل قيمة عن مرسلات ابن ابي عمير بل لعلها أكثر اعتباراً، والتفصيل في محله.

(١) فيكفي أن تكون حاجة عرفية * والتسوق والنزهة وزيارة

=

١٣

وفي هذه الحالة إذا علم أنه يتمكن من الرجوع الى مكة والإحرام منها للحج فالأظهر جواز خروجه محلا(١) ، وإن لم يعلم بذلك أحرم للحج وخرج لحاجته، والظاهر أنه لايجب عليه حينئذ الرجوع الى مكة، بل له أن يذهب الى عرفات من مكانه(٢) .

____________________

=

الاصدقاء قد تكون في بعض الموارد من مصاديق الحاجة العرفية وقد لاتكون كذلك.

(١) الروايات دالة على جواز الخروج عند الحاجة بشرط الاحرام للحج، نعم قد يستظهر من صحيحة الحلبي وفيها « وما أحب أن يخرج منها إلا محرما ولايتجاوز الطائف، أنها قريبة من مكة » مبغوضية الخروج من غير احرام، إلا انه مع الإلتزام بحرمة الخروج يمكن ان تحمل هذه الرواية على الاماكن القريبة، فيكون هناك تفصيل ثالث في المقام، مضافا الى ان لفظة «ماأحب» ليست متمحضة في الكراهة بل قد تستعمل في الحرمة فلا يكون ظهورها أقوى من ظهور روايات الحرمة.

فإن كان مستند الماتن دام ظله هذه الصحيحة فقد عرفت الخلل في دلالتها، وإن كان الوجه عدم موضوعيةٍ للخروج فاحتياطه في اصل الفرض في غير محله والله العالم.

(٢) كما هو مقتضى صحيحة حماد وفيها « فإن شاء رجع الى مكة... وإن شاء كان وجهه ذلك الى منى »، مؤيدا بقولهعليه‌السلام في صحيحة ابن جعفر « فإن أحبّ أن يرجع الى مكة رجع، وإن خاف أن يفوته الحج مضى =

١٤

هذا، ولايجوز لمن أتى بعمرة التمتع أن يترك الحج اختيارا ولو كان الحج استحبابيا(١) ، نعم إذا لم يتمكن من الحج فالاحوط(٢) أن يجعلها عمرة مفردة فيأتي بطواف النساء.

* وإذا كان في عمرة التمتع أو الحج وترك أداء المناسك إلى أن انقضى الوقت المحدد لهما بطل إحرامه، وأما لو كان في العمرة المفردة فلا يخرج من إحرامه إلا بأداء مناسكها(٣) .

____________________

= على وجهه إلى عرفات»·

(١) لاطلاق الروايات الدالة على عدم الخروج من مكة بعد العمرة، وكون المعتمر مرتهن بالحج حتى يقضيه كما في جملة من الروايات، ولامقيّد من الاخبار بالحج الواجب.

(٢) ومنشأه ان الروايات الدالة على انقلاب الحج الى عمرة مفردة عند عدم التمكن من الحج هو فيما اذا احرم للحج ولم يتمكن، اما اذا لم يحرم فهو خارج عن فرض الروايات، هكذا أفاد سيد الفقهاء في المعتمد ثم أضاف لكن الاحوط ان يجعل عمرته عمرة مفردة لاحتمال إطلاق أدلة من فاته الموقفان، ولعل فيه مجال للتأمل اذ قول الصادقعليه‌السلام في صحيحة معاوية « أيما حاج سائق للهدي أو مفرد للحج او متمتع بالعمرة الى الحج قدم وقد فاته الحج فليجعلها عمرة وعليه الحج من قابل » شامل للمقام بإطلاقه، والله العالم.

(٣) لعدم تقيّدها بوقت معين.

١٥

مسألة ١٠: يجوز للمتمتع أن يخرج من مكة قبل إتمام أعمال عمرته اذا كان متمكنا من الرجوع إليها على الاظهر(١) ، وإن كان الاحوط تركه.

مسألة ١١: المحرّم من الخروج عن مكة بعد الفراغ من أعمال العمرة إنما هو الخروج عنها الى محل آخر، وأما المحلات المستحدثة التي تعد جزءا من المدينة المقدسة في العصر الحاضر فهي بحكم المحلات القديمة في ذلك، وعليه فلا بأس للحاج أن يخرج إليها بعد الفراغ من عمرته لحاجة أو بدونها.

مسألة ١٢: إذا خرج من مكة بعد الفراغ من أعمال العمرة من دون إحرام، ففيه صورتان:

الاولى: أن يكون رجوعه قبل مضي الشهر الذي اعتمر فيه، ففي هذه الصورة يلزمه الرجوع الى مكة بدون إحرام، فيحرم منها للحج،

____________________

(١) اذ الروايات الناهية عن الخروج كلها واردة في من أتم عمرته فلا تشمل فيما اذا كان في أثنائها، نعم إطلاق بعض الروايات المرسلة تشمل المقام كمرسل الصدوق عن الصادقعليه‌السلام قال: « إذا أراد المتمتع الخروج من مكة إلى بعض المواضع فليس له ذلك لانه مرتبط بالحج حتى يقضيه، إلا أن يعلم أنه لايفوته الحج... » ومثله مرسل أبان، مضافا الى الروايات الدالة على انه مرتهن بالحج ومجرد التلبس بالعمرة يتحقق الارتهان.

١٦

ويخرج الى عرفات.

الثانية: أن يكون رجوعه بعد مضي الشهر الذي اعتمر فيه، ففي هذه الصورة يلزمه الإحرام بالعمرة للرجوع إليها(١) ·

* فإن كان قاصدا وصل العمرة الثانية بالحج فعليه أن يقصد عمرة التمتع وتكون العمرة الاولى ملغية ولايجب لها طواف النساء(٢) .

مسألة ١٣: من كانت وظيفته حجّ التمتّع لم يجزئه العدول الى غيره من إفراد او قِران(٣) ، ويستثنى من ذلك من دخل في عمرة التمتع ثم ضاق وقته عن إتمامها، فإنه ينقل نيته الى حج الافراد ويأتي بالعمرة المفردة بعد الحج(٤) ، وفي حد الضيق المسوّغ لذلك

____________________

(١) لقولهعليه‌السلام في صحيحة حماد: « ان رجع في شهره دخل بغير احرام، وإن دخل في غير الشهر دخل محرما » وغيرها من الروايات.

(٢) والوجه فيه: ان الوجوب انما يتحقق فيما اذا قصد من اول الامر العمرة المفردة - كما هو فرض الروايات - اما اذا نوى عمرة التمتع وأحل منها وحلت له النساء، فلا دليل على حرمتها ثانياً، فالحكم بالوجوب بحاجة الى دليل.

(٣) حتى وإن كان التمتع استحبابياً.

(٤) بلا خلاف ولااشكال للنصوص المستفيضة المتظافرة، ففي =

١٧

خلاف(١) ، والأظهر وجوب العدول لو لم يتمكن من إتمام أعمال

____________________

= صحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبداللهعليه‌السلام عن رجل أهل بالحج والعمرة جميعا ثم قدم مكة والناس بعرفات فخشي إن هو طاف وسعى بين الصفا والمروة أن يفوته الموقف، قال: « يدع العمرة فإذا أتم حجه صنع كما صنعت عايشة ولاهدي عليه » وفي حسنة - بل صحيحة - ابن يقطين قال: سألت أبا الحسنعليه‌السلام عن الرجل والمرأة يتمتعان بالعمرة إلى الحج ثم يدخلان مكة يوم عرفة، كيف يصنعان ؟ قال: يجعلانها حجة مفردة، وحد المتعة إلى يوم التروية »، وغيرها.

(١) بسبب اختلاف الروايات إذ هي على ست طوائف، الاولى: أن الحد هو غروب الشمس من يوم التروية، والثانية: السحر من ليلة عرفة، والثالثة: ليلة عرفة، والرابعة: ادراك الناس في منى، والخامسة: زوال الشمس من يوم عرفة، والسادسة: خوف فوات الموقف مطلقاً.

واختار سيد الفقهاء والمجتهدين ان الضيق المسوغ للعدول هو خوف فوات الركن من الوقوف الاختياري بعرفة، تمسكا بصحيحة الحلبي قال: سألت ابا عبداللهعليه‌السلام عن رجل أهل بالحج والعمرة جميعا ثم قدم مكة والناس بعرفات فخشي انه طاف وسعي بين الصفا والمروة أن يفوته الموقف بعرفات، قال: « يدع العمرة فإذا تم حجه صنع كما صنعت عائشة ولاهدي عليه» وفوات الموقف لايتحقق الا بفوات الركن، ودخوله مكة والناس بعرفة لازمه عدم درك الواجب بأكمله عدل او لم يعدل، لكون السير من مكة الى

١٨

عرفات في ذلك الزمان بحاجة الى أكثر من أربع ساعة كما لايخفي.

وبرواية محمد بن سرو قال: كتبت الى ابي الحسن الثالثعليه‌السلام : ماتقول في رجل متمتع بالعمرة الى الحج وافى غداة عرفة وخرج الناس من منى الى عرفات، أعمرته قائمة أو قد ذهبت منه ؟ إلى أي وقت عمرته قائمة إذا كان متمتعاً بالعمرة الى الحج، فلم يواف يوم التروية ولا ليلة التروية، فكيف يصنع؟ فوقععليه‌السلام : ساعة يدخل مكة، إن شاء الله يطوف ويصلي ركعتين، ويسعى ويقصر، ويخرج بحجته ويمضي الى الموقف ويفيض مع الامام » ومن المعلوم انه اذا دخل مكة غداة يوم عرفة لايمكنه درك الوقوف الواجب بأكمله.

وصحيحة يعقوب بن شعيب قال: سمعت أبا عبداللهعليه‌السلام يقول: « لابأس للمتمتع أن لم يحرم من ليلة التروية متى ماتيسر له، مالم يخف فوات الموقفين »، والخدشة في السند لوجود اسماعيل بن مرار مدفوعة لقول ابن الوليد ان كتب يونس بن عبدالرحمن التي هي بالروايات كلها صحيحة معتمد عليها إلا ماينفرد به محمد بن عيس بن عبيد، ومن عمدة من روى كتب وروايات يونس ابن مرار، مضافا الى امكان تبديل السند لتصحيحه فراجع الفهرست والمشيخة للشيخ.

وما ذكره: سيد الفقهاء في المعتمد من كون الصحيحة أجنبية عن المقام بدعوى أنها واردة في انشاء احرام الحج وفي مقام بيان أن احرام الحج غير مؤقت بوقت خاص وإنه يجوز الاحرام له في أي زمان شاء ما لم يخف فوت الموقفين.

وجيه في الجملة: لكن ببركة هذه الصحيحة يظهر قوة مااختاره الماتن

١٩

دام ظله، إذ يجوز للحاج تأخير الاحرام للحج ما لم يستلزم منه فوات الموقفين، ومن الواضح أن الجواز هنا مغيى بعدم فوت الواجب من الوقوف فضلا عن الركن منه، إذ لااحد يقول بجواز التأخير فيما اذا استلزم فوات الواجب من الوقوف.

فقولهعليه‌السلام «مالم يخف فوات الموقفين» ليس بالضرورة خوف فوات الركن، وإنما يختلف بإختلاف الاحكام والموارد، فالتمسك بمثل هذه العبارة - التي هي من فرض الرواة في بقية النصوص - للجزم بان الضيق المسوغ للعدول هو خوف فوات الركن ليس بصحيح، وكون الناس بعرفة - كما في صحيحة الحلبي - ليس بالضرورة أن الزوال قد تحقق بل عادة مايتواجد الناس بها قبل الزوال بكثير.

ويدل أيضاً على ما اختاره الماتن دام ظله صحيحة جميل عن ابي عبداللهعليه‌السلام قال: « المتمتع له المتعة الى زوال الشمس من يوم عرفة وله الحج الى زوال الشمس من يوم النحر » وهي على وفق القواعد، إذ بزوال يوم عرفة يبدأ واجب آخر وبه ينتهي ظرف الواجب السابق.

ومرفوعة سهل عن ابي عبداللهعليه‌السلام في متمتع دخل يوم عرفة، قال: متعة تامة الى ان يقطع التلبية » وقطع التلبية يكون بزوال عرفة، وهذان النصان حاكمان على بقية النصوص، ولايعارضان الطائفة السادسة - كما قدمنا - والفرض في المقام هو منتهى أمد عمرة التمتع، ولاربط له بالوقوف بعرفة، إذ حتى على القول المختار قد لايتسنى للحاج درك الواجب بأكمله من الوقوف كما إذا فرغ قبل الزوال بلحظة او عنده، سيما في الازمنة السابقة.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

يثبت أن فرعون ونظراءه من أدعياء الرّبوبية يكذبون جميعا في ادعائهم ، وأن ربّ العالمين هو الله فقط ، لا فرعون ولا غيره من البشر.

وفي الآية اللاحقة نقرأ أنّ موسى عقيب دعوى الرسالة من جانب الله قال : فالآن إذ أنا رسول ربّ العالمين ينبغي ألا أقول عن الله إلّا الحق ، لأنّ المرسل من قبل الله المنزّه عن جميع العيوب لا يمكن أن يكون كاذبا( حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ ) .

ثمّ لأجل توثيق دعواه للنّبوة ، أضاف : أنا لا أدعي ما أدّعيه من دون دليل ، بل إنّ معي أدلة واضحة من جانب الله( قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) .

فإذا كان الأمر هكذا( فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ ) .

وكان هذا في الحقيقة قسما من رسالة موسى بن عمران الذي حرّر بني إسرائيل من قبضة الاستعمار الفرعوني ، ووضع عنهم إصرهم وأغلال العبودية التي كانت تكبّل أيديهم وأرجلهم ، لأنّ بني إسرائيل كانوا في ذلك الزمان عبيدا أذلّاء بأيدي القبطيين (أهالي مصر) فكانوا يستفيدون منهم في القيام بالأعمال السافلة والصعبة والثقلية.

ويستفاد من الآيات القادمة ـ وكذا الآيات القرآنية الأخرى بوضوح وجلاء أنّ موسى كان مكلفا بدعوة فرعون وغيره من سكان أرض مصر إلى دينه ، يعني أن رسالته لم تكن منحصرة في بني إسرائيل.

فقال فرعون بمجرّد سماع هذه العبارة ـ (أي قوله : قد جئتكم ببيّنة) ـ هات الآية التي معك من جانب الله إن كنت صادقا( قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) .

وبهذه العبارة اتّخذ فرعون ـ ضمن إظهار التشكيك في صدق موسى ـ هيئة الطالب للحق المتحري للحقيقة ظاهرا ، كما يفعل أي متحر للحقيقة باحث عن الحق.

١٤١

ومن دون تأخير أخرج موسى معجزتيه العظيمتين التي كانت إحداهما مظهر «الخوف» والأخرى مظهر «الأمل» وكانتا تكملان مقام إنذاره ومقام تبشيره ، وألقى في البداية عصاه :( فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ) (1) .

والتعبير بـ «المبين» إشارة إلى أنّ تلك العصا التي تبدلت إلى ثعبان حقّا ، ولم يكن سحرا وشعبذة وما شاكل ذلك ، على العكس من فعل السحرة لأنّه يقول في شأنهم : إنّهم مارسوا الشعبذة والسحر ، وعملوا ما تصوره الناس حيات تتحرك ، وما هي بحيات حقيقة وواقعا.

إنّ ذكر هذه النقطة أمر ضروري ، وهي أنّنا نقرأ في الآية (10) من سورة النمل ، والآية (31) من سورة القصص ، أن العصا تحركت كالجانّ ، و «الجانّ» هي الحيات الصغيرة السريعة السير ، وإنّ هذا التعبير لا ينسجم مع عبارة «ثعبان» التي تعني الحية العظيمة ظاهرا.

ولكن مع الالتفات إلى أنّ تينك الآيتين ترتبطان ببداية بعثة موسى ، والآية المبحوثة هنا ترتبط بحين مواجهته لفرعون ، تنحل المشكلة ، وكأن الله أراد أن يوقف موسى على هذه المعجزة العظيمة تدريجا فهي تظهر في البداية أصغر ، وفي الموقف اللاحق تظهر أعظم.

هل يمكن قلب العصا إلى حية عظيمة؟!

على كل حال لا شك في أنّ تبديل «العصا» إلى حية عظيمة معجزة ، ولا يمكن تفسيرها بالتحليلات المادية المتعارفة ، بل هي من وجهة نظر الإلهي الموحد ـ الذي يعتبر جميع قوانين المادة محكومة للمشيئة الربانية ـ ليس فيها ما يدعو للعجب فلا عجب أن تتبدل قطعة من الخشب إلى حيوان بقوة ما فوق

__________________

(1) احتمل «الراغب» في «المفردات» أن تكون كلمة ثعبان متخذة من مادة «ثعب» بمعنى جريان الماء ، لأنّ حركة هذا الحيوان تشبه الأنهر التي تجري بصورة ملتوية.

١٤٢

الطبيعة.

ويجب أن لا ننسى أن جميع الحيوانات في عالم الطبيعة توجد من التراب ، والأخشاب والنباتات هي الأخرى من التراب ، غاية ما هنالك أن تبديل التراب إلى حية عظيمة يحتاج عادة إلى ملايين السنين ، ولكن في ضوء الإعجاز تقصر هذه المدّة إلى درجة تتحقق كل تلك التحولات والتكاملات في لحظة واحدة وبسرعة ، فتتخذ القطعة من الخشب ـ التي تستطيع وفق الموازين الطبيعية أن تغير بهذه الصورة بعد مضي ملايين السنين ـ تتخذ مثل هذه الصورة في عدّة لحظات.

والذين يحاولون أن يجدوا لمعاجز الأنبياء تفسيرات طبيعية ومادية ـ وينفوا طابعها الإعجازي ، ويظهروها في صورة سلسلة من المسائل العادية مهما كانت هذه التفاسير مخالفة لصريح الكتب السماوية. إنّ هؤلاء يجب أن يوضحوا موقفهم : هل يؤمنون بالله وقدرته ويعتبرونه حاكما على قوانين الطبيعة ، أم لا؟ فإذا كانوا لا يؤمنون به وبقدرته ، لم يكن كلام الأنبياء ومعجزاتهم إلّا لغوا لديهم.

وإذا كانوا مؤمنين بذلك ، فما الداعي لنحت ، مثل هذه التّفسيرات والتبريرات المقرونة بالتكلف والمخالفة لصريح الآيات القرآنية. (وإن لم نر أحدا من المفسّرين ـ على ما بينهم من اختلاف السليقة ـ عمد إلى هذا التّفسير المادي ، ولكن ما قلناه قاعدة كلية).

ثمّ إنّ الآية اللاحقة تشير إلى المعجزة الثّانية للنّبي موسىعليه‌السلام التي لها طابع الرجاء والبشارة ، يقول تعالى :( وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ ) .

«نزع» تعني في الأصل أخذ شيء من مكان ، مثلا أخذ العباءة من الكتف واللباس عن البدن يعبر عنه في اللغة العربية بالنزع فيقال : نزع ثوبه ونزع عباءته ، وهكذا أخذ الروح من البدن يطلق عليه النزع. وبهذه المناسبة قد يستعمل في الاستخراج ، وقد جاءت هذه اللفظة في الآية الحاضرة بهذا المعنى.

ومع أنّ هذه الآية لم يرد فيها أي حديث عن محل إخراج اليد ، ولكن من

١٤٣

الآية (32) من سورة القصص( اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ ) يستفاد أنّ موسى كان يدخل يده في جيبه ثمّ يخرجها ولها بياض خاص ، ثمّ تعود إلى سيرتها وحالتها الأولى.

ونقرأ في بعض الأحاديث والرّوايات والتفاسير أنّ يد موسى كانت مضافا إلى بياضها تشعّ بشدّة ، ولكن الآيات القرآنية ساكتة عن هذا الموضوع ، مع عدم تناف بينهما.

إنّ هذه المعجزة والمعجزة السابقة حول العصا ـ كما قلنا سابقا ـ ليس لها جانب طبيعي وعادي ، بل هي من صنف خوارق العادة التي كان يقوم بها الأنبياء ، وهي غير ممكنة من دون تدخل قوة فوق طبيعية في الأمر.

وهكذا أراد موسى بإظهار هذه المعجزة أن يوضح هذه الحقيقة ، وهي أن برامجه ليس لها جانب الترهيب والتهديد ، بل الترهيب والتهديد للمخالفين والمعارضين ، والتشويق والإصلاح والبناء والنورانية للمؤمنين.

* * *

١٤٤

الآيات

( قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) )

التّفسير

بدء المواجهة :

في هذه الآيات جاء الحديث عن أوّل ردّ فعل لفرعون وجهازه في مقابل دعوة موسىعليه‌السلام ومعجزاته.

الآية الأولى تذكر عن ملأ فرعون أنّهم بمجرّد مشاهدتهم لأعمال موسى الخارقة للعادة اتهموه بالسحر ، وقالوا : هذا ساحر عليم ماهر في سحره :( قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ) .

ولكن يستفاد من آيات سورة الشعراء الآية (34) أن هذا الكلام قاله فرعون حول موسى :( قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ) .

ولكن لا منافاة بين هاتين الآيتين ، لأنّه لا يبعد أن يكون فرعون قال هذا

١٤٥

الكلام في البداية ، وحيث أن عيون الملأ كانت متوجهة إليه ، ولم يكن لهذا الملأ المتملق المتزلف هدف إلّا رضى رئيسه وسيده ، وما ينعكس على محياه ، وما توحي به إشارته ، كرّر هو أيضا ما قاله الرّئيس ، فقالوا : أجل ، إن هذا لساحر عليم.

وهذا السلوك لا يختص بفرعون وحواشيه ، بل هو دأب جميع الجبارين في العالم وحواشيهم.

ثمّ أضافوا : إنّ هدف هذا الرجل أن يخرجكم من وطنكم( يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ ) .

يعني أنّه لا يهدف إلّا استعماركم واستثماركم ، وإنّ الحكومة على الناس ، وغصب أراضي الآخرين ، وهذه الأعمال الخارقة للعادة وادعاء النّبوة كلّها لأجل الوصول إلى هذا الهدف.

ثمّ قالوا بعد ذلك : مع ملاحظة هذه الأوضاع فما هو رأيكم :( فَما ذا تَأْمُرُونَ ) ؟يعني أنّهم جلسوا يتشاورون في أمر موسى ، ويتبادلون الرأي فيما يجب عليهم اتّخاذه تجاهه ، لأنّ مادة «أمر» لا تعني دائما الإيجاب والفرض ، بل تأتي ـ أيضا ـ بمعنى التشاور.

وهنا لا بدّ من الالتفات إلى أنّ هذه الجملة وردت في سورة الشعراء الآية (35) أيضا ، وذلك عن لسان فرعون ، حيث قال لملائه : فما ذا تأمرون. وقد قلنا : إنّه لا منافاة بين هذين.

وقد احتمل بعض المفسّرين ـ أيضا ـ أن تكون جملة «فما ذا تأمرون» في الآية الحاضرة خطابا وجهه ملأ فرعون وحاشيته إلى فرعون ، وصيغة الجمع إنما هي لرعاية التعظيم ، ولكن الاحتمال الأوّل ـ وهو كون هذا الخطاب موجها من ملأ فرعون إلى الناس ـ أقرب إلى النظر.

وعلى كل حال فقد قال الجميع لفرعون : لا تعجل في أمر موسى وهارون ، وأجلّ قرارك بشأنهما إلى ما بعد ، ولكن ابعث من يجمع لك السحرة من جميع

١٤٦

أنحاء البلاد( قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ ) .

نعم ابعث من يجمع لك كل ساحر ماهر في حرفته عليم في سحره( يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ) .

فهل هذا الاقتراح من جانب حاشية فرعون كان لأجل أنّهم كانوا يحتملون صدق ادعاء موسى للنّبوة ، وكانوا يريدون اختباره؟

أو أنّهم على العكس كانوا يعتبرونه كاذبا في دعواه ، ويريدون افتعال ذريعة سياسية لأي موقف سيتخذونه ضد موسى كما كانوا يفعلون ذلك في بقية مواقفهم ونشاطاتهم الشخصية؟ ولهذا اقترحوا ارجاء أمر قتل موسى وأخيه نظرا لمعجزتيه اللتين أورثتا رغبة في مجموعة كبيرة من الناس في دعوته وانحيازهم إليه ، ومزجت صورة «نبوته» بصورة «المظلومية والشهادة» وأضفت بضم الثّانية إلى الأولى ـ مسحة من القداسة والجاذبية عليه وعلى دعوته.

ولهذا فكروا في بداية الأمر في إجهاض عمله بأعمال خارقة للعادة مماثلة ، ويسقطوا اعتباره بهذه الطريقة ، ثمّ يأمرون بقتله لتنسى قصة موسى وهارون وتمحى عن الأذهان إلى الأبد.

يبدو أن الاحتمال الثّاني بالنظر إلى القرائن الموجودة في الآيات ـ أقرب إلى النظر.

* * *

١٤٧

الآيات

( وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) )( فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) )

التّفسير

كيف انتصر الحقّ في النهاية؟

في هذه الآيات جرى الحديث حول المواجهة بين النّبي موسىعليه‌السلام ، وبين السحرة ، وما آل إليه أمرهم في هذه المواجهة ، وفي البداية تقول الآية : إنّ السحرة

١٤٨

بادروا إلى فرعون بدعوته ، وكان أوّل ما دار بينهم وبين فرعون هو : هل لنا من أجر إذا غلبنا العدوّ( وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ ) ؟!

وكلمة «الأجر» وإن كانت تعني أي نوع من أنواع الثواب ، ولكن نظرا إلى ورودها هنا في صورة «النكرة» ، و «النكرة» في هذه الموارد إنّما تكون لتعظيم الموضوع وإبراز أهميته بسبب إخفاء ماهيته ونوعيته ، لهذا يكون الأجر هنا بمعنى الأجر المهم والعظيم وبخاصّة أنّه لم يكن ثمّة نزاع في أصل استحقاقهم للأجر والمثوبة ، فالمطلوب من فرعون هو الوعد بإعطائهم أجرا عظيما وعوضا مهمّا.

فوعدهم فرعون ـ فورا ـ وعدا جيدا وقال : إنّكم لن تحصلوا على الأجر السخي فقط ، بل ستكونون من المقرّبين عندي( قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) .

وبهذه الطريقة أعطاهم وعدا بالمال ووعدا بمنصب كبير لديه ، ويستفاد من هذه الآية أنّ التقرب إلى فرعون في ذلك المحيط ، وتلك البيئة كان أعلى وأسمى وأهم من المال والثروة ، لأنّه كان يعني منزلة معنوية كان من الممكن أن تصبح منشأ لأموال كثيرة وثروات كبيرة.

وفي المآل حدّد موعد معين لمواجهة السحرة لموسى ، وكما جاء في سورة «طه» و «الشعراء» دعي جميع الناس لمشاهدة هذا النزال ، وهذا يدل على أنّ فرعون كان مؤمنا بانتصاره على موسىعليه‌السلام .

وحلّ اليوم الموعود ، وهيّأ السحرة كل مقدمات العمل حفنة من العصىّ والحبال التي يبدو أنّها كانت معبأة بمواد كيمياوية خاصّة ، تبعث على حركتها إذا سطعت عليها الشمس ، لأنّها تتحول إلى غازات خفيفة تحرّك تلك العصي والحبال المجوفة.

وكانت واقعة عجيبة ، فموسى وحده (ليس معه إلّا أخوه) يواجه تلك

١٤٩

المجموعة الهائلة من السحرة ، وذلك الحشد الهائل من الناس المتفرجين الذين كانوا على الأغلب من أنصار السحرة ومؤيديهم.

فالتفت السحرة في غرور خاص وكبير إلى موسىعليه‌السلام وقالوا : إمّا أن تشرع فتلقي عصاك ، وإمّا أن نشرع نحن فنلقي عصيّنا؟( قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ) .

فقال موسىعليه‌السلام بمنتهى الثقة والاطمئنان : بل اشرعوا أنتم( قالَ أَلْقُوا ) .

وعند ما ألقى السحرة بحبالهم وعصيّهم في وسط الميدان سحروا أعين الناس ، وأوجدوا بأعمالهم وأقاويلهم المهرجة ومبالغاتهم وهرطقاتهم خوفا في قلوب المتفرجين ، وأظهروا سحرا كبيرا رهيبا :( فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ) .

وكلمة «السحر» ـ كما مرّ في المجلد الأوّل من هذه الموسوعة التفسيرية ، عند تفسير الآية (102) من سورة البقرة ـ تعني في الأساس الخداع والشعبذية ، وقد يطلق أيضا على كل عامل غامض ، ودافع غير مرئي.

وعلى هذا الأساس ، فإن هذه الجماعة كانت توجد أفعالا عجيبة بالاعتماد على سرعة حركة الأيدي ، والمهارة الفائقة في تحريك الأشياء لتبدو وكأنّها أمور خارقة للعادة وكذلك الأشخاص الذين يستفيدون من الخواص الكيمياوية والفيزياوية الغامضة الموجودة في الأشياء والمواد ، فيظهرون أعمالا مختلفة خارقة للعادة. كل هؤلاء يدخلون تحت عنوان «الساحر».

هذا علاوة على أن السحرة يستفيدون ـ عادة ـ من سلسلة من الإيحاءات المؤثرة في مستمعيهم ، ومن العبارات والجمل المبالغة ، وربّما الرهيبة المخوفة لتكميل عملهم ، والتي تترك آثارا جدّ عجيبة في مستمعيهم ومتفرجيهم وجمهورهم.

ويستفاد من آيات مختلفة في هذه السورة ومن سور قرآنية أخرى حول

١٥٠

قصة سحرة فرعون ، أنّهم استخدموا كل هذه العوامل والأدوات ، وعبارة «سحروا أعين الناس» وجملة «استرهبوهم» أو تعبيرات أخرى في سور «طه» و «الشعراء» جميعها شواهد على هذه الحقيقة.

* * *

بحوث

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى نقطتين :

1 ـ المشهد العجيب لسحر السّاحرين

لقد أشار القرآن الكريم إشارة إجمالية من خلال عبارة( وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ) إلى الحقيقة التالية وهي : أنّ المشهد الذي أوجده السحرة كان عظيما ومهما ، ومدروسا ومهيبا ، وإلّا لما استعمل القرآن الكريم لفظة «عظيم» هنا.

ويستفاد من كتب التاريخ ومن روايات وأحاديث المفسّرين في ذيل هذه الآية ، وكذا من آيات مشابهة ـ بوضوح ـ سعة أبعاد ذلك المشهد.

فبناء على ما قاله بعض المفسّرين كان عدد السحرة يبلغ عشرات الألوف ، وكانت الأجهزة والوسائل المستعملة كذلك تبلغ عشرات الآلاف ، ونظرا إلى أن السحرة المهرة والمحترفين لهذا الفن في مصر كانوا في ذلك العصر كثيرين جدّا ، لهذا لا يكون هذا الكلام موضع استغراب وتعجب. خاصّة أنّ القرآن الكريم في سورة «طه» الآية (67) يقول :( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى ) أي أنّ المشهد كان عظيما جدّا ورهيبا إلى درجة أن موسى شعر بالخوف قليلا ، وإن كان ذلك الخوف ـ حسب تصريح نهج البلاغة ـ(1) لأجل أنّه خشي أن من الممكن أن

__________________

(1) الخطبة ، 4.

١٥١

يتأثر الناس بذلك المشهد العظيم ، فيكون إرجاعهم إلى الحق صعبا ، وعلى أي حال فإنّ ذلك يكشف عن عظمة ذلك المشهد ورهبته.

2 ـ الاستفادة من السلاح المشابه

من هذا البحث يستفاد ـ بجلاء ووضوح ـ أنّ فرعون بالنظر إلى حكومته العريضة في أرض مصر ، كانت له سياسات شيطانية مدروسة ، فهو لم يستخدم لمواجهة موسى وأخيه هارون من سلاح التهديد والإرعاب ، بل سعى للاستفادة من أسلحة مشابهة ـ كما يظن ـ في مواجهة موسى ، ومن المسلّم أنّه لو نجح في خطّته لما بقي من موسى ودينه أي أثر أو خبر ، ولكان قتل موسىعليه‌السلام في تلك الصورة أمرا سهلا جدا ، بل وموافقا للرأي العام ، جهلا منه بأنّ موسى لا يعتمد على قوة إنسانية يمكن معارضتها ومقاومتها ، بل يعتمد على قوّة أزلية إلهية مطلقة ، تحطّم كلّ مقاومة ، وتقضي على كل معارضة.

وعلى أية حال ، فإنّ الاستفادة من السلاح المشابه أفضل طريق الإنتصار على العدو المتصلّب ، وتحطيم القوى المادية.

في هذه اللحظة التي اعترت الناس فيها حالة من النشاط والفرح ، وتعالت صيحات الابتهاج من كل صوب ، وعلت وجوه فرعون وملائه ابتسامة الرضى ، ولمع في عيونهم بريق الفرح ، أدرك الوحي الإلهي موسىعليه‌السلام وأمره بإلقاء العصى ، وفجأة انقلب المشهد وتغير ، وبدت الدهشة على الوجوه ، وتزعزت مفاصل فرعون وأصحابه كما يقول القرآن الكريم :( وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ ) .

و «تلقف» مشتقة من مادة «لقف» (على وزن سقف) بمعنى أخذ شيء بقوة وسرعة ، سواء بواسطة الفم ، والأسنان ، أو بواسطة الأيدي ، ولكن تأتي في بعض الموارد بمعنى البلع والابتلاع أيضا ، والظاهر أنّها جاءت في الآية الحاضرة بهذا

١٥٢

المعنى.

و «يأفكون» مشقّة من مادة «إفك» على وزن «مسك» وهي تعني في الأصل الانصراف : عن الشيء ، وحيث أن الكذب يصرف الإنسان من الحق أطلق على الكذب لفظ «الإفك».

وهناك احتمال آخر في معنى الآية ذهب إليه بعض المفسّرين ، وهو أن عصا موسى بعد أن تحولت إلى حيّة عظيمة لم تبتلع أدوات سحر السحرة ، بل عطّلها عن العمل والحركة وأعادها إلى حالتها الأولى. وبذلك أوصد هذا العمل طريق الخطأ على الناس ، في حين أن الابتلاع لا يمكنه أن يقنع الناس بأنّ موسى لم يكن ساحرا أقوى منهم.

ولكن هذا الاحتمال لا يناسب جملة «تلقف» كما لا يناسب مطالب الآية ، لأنّ «تلقف» ـ كما أسلفنا ـ تعني أخذ شيء بدقة وسرعة لا قلب الشيء وتغييره.

هذا مضافا إلى أنّه لو كان المقرر أن يظهر إعجاز موسىعليه‌السلام عن طريق إبطال سحر السحرة ، لم تكن حاجة إلى أن تتحول العصى إلى حيّة عظيمة ، كما قال القرآن الكريم في بداية هذه القصّة.

وبغض النظر عن كل هذا ، لو كان المطلوب هو إيجاد الشك والوسوسة في نفوس المتفرجين ، لكانت عودة وسائل السحرة وأدواتهم إلى هيئتها الأولى ـ أيضا ـ قابلة للشك والترديد ، لأنّه من الممكن أن يحتمل أن موسى بارع في السحر براعة كبرى بحيث أنّه استطاع إبطال سحر الآخرين وإعادتها إلى هيئتها الأولى.

بل إن الذي تسبب في أن يعلم الناس بأن عمل موسى أمر خارق للعادة ، وأنّه عمل إلهي تحقق بالاعتماد على القدرة والإلهية المطلقة ، هو أنّه كان في مصر آنذاك مجموعة كبيرة من السحرة الماهرين جدّا ، وكان أساتذه هذا الفن وجوها معروفة في تلك البيئة ، في حين أن موسى الذي لم يكن متصفا بأي واحدة من

١٥٣

هذه الصفات ، وكان ـ في الظاهر ـ رجلا مغمورا ، نهض من بين بني إسرائيل ، وأقدم على مثل ذلك العمل الذي عجز أمامه الجميع. ومن هنا علم أن هناك قوة غيّبة تدخلت في عمل موسى ، وأن موسى ليس رجلا عاديا.

وفي هذا الوقت ظهر الحق ، وبطلت أعمالهم المزّيفة( فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) . لأنّ عمل موسى كان عملا واقعيا ، وكانت أعمالهم حفنة من الحيل ومن أعمال الشعبذة ، ولا شك أنّه لا يستطيع أي باطل أن يقاوم الحق دائما.

وهذه هي أوّل ضربة توجهت إلى أساس السلطان الفرعوني الجبّار.

ثمّ يقول تعالى في الآية اللاحقة : وبهذه الطريقة ظهرت آثار الهزيمة فيهم ، وصاروا جميعا أذلاء :( فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ ) .

وبالرغم من أنّ المؤرخين ذكروا في كتب التاريخ قضايا كثيرة حول هذه الواقعة ، ولكن حتّى من دون نقل ما جاء في التواريخ يمكن الحدس أيضا بما حدث في هذه الساعة من اضطراب في الجماهير المتفرجة فجماعة خالفوا بشدّة بحيث أنّهم فرّوا وهربوا ، وأخذ آخرون يصيحون من شدّة الفزع ، وبعض أغمي عليه.

وأخذ فرعون وملأه ينظرون إلى ذلك المشهد مبهوتين مستوحشين ، وقد تحدّرت على وجوههم قطرات العرق من الخجل والفشل ، فأجمعوا يفكرون في مستقبلهم الغامض المبهم ، ولم يدر في خلدهم أنّهم سيواجهون مثل هذا المشهد الرهيب الذي لا يجدون له حلّا.

والضربة الأقوى كانت عند ما تغير مشهد مواجهة السحرة لموسىعليه‌السلام تغييرا كلّيا ، وذلك عند ما وقع السحرة فجأة على الأرض ساجدين لعظمة الله( وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ ) .

ثمّ نادوا بأعلى صوتهم و( قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ ) .

وبذكر هذه الجملة بينوا ـ بصراحة ـ الحقيقة التالية وهي : أنّنا آمنا بربّ هو

١٥٤

غير الربّ المختلق ، المصطنع ، إنّه الربّ الحقيقي.

بل لم يكتفوا بلفظة «ربّ العالمين» أيضا ، لأنّ فرعون كان يدعي أنّه ربّ العالمين ، لهذا أضافوا : «ربّ موسى وهارون» حتى يقطعوا الطريق على كل استغلال.

ولم يكن فرعون والملأ يتوقعون هذا الأمر مطلقا ، يعني أنّ الجماعة التي كان يعلّق الجميع آمالهم عليها للقضاء على موسى ودعوته ، أصبحت في الطليعة من المؤمنين بموسى ودعوته ، ووقعوا ساجدين لله أمام أعين الناس عامّة ، وأعلنوا عن تسليمهم المطلق وغير المشروط لدعوة موسىعليه‌السلام .

على أنّ هذا الموضوع الذي غيّر أناسا بمثل هذه الصورة ، يجب أن لا يكون موضوع استغراب وتعجب ، لأنّ نور الإيمان والتوحيد موجود في جميع القلوب ، ويمكن أن تخفيه بعض الموانع والحجب الاجتماعية مدّة طويلة أو قصيرة ، ولكن عند ما تهب بعض العواصف بين حين وآخر تنزاح تلك الحجب ، ويتجلّى ذلك النور ويأخذ بالأبصار.

وبخاصّة أن السحرة المذكورين كانوا أساتذة مهرة في صناعتهم ، وكانوا أعرف من غيرهم بفنون عملهم ورموز سحرهم ، فكانوا يعرفون ـ جيدا ـ الفرق بين «المعجزة» و «السحر» فالأمر الذي يحتاج الآخرون لمعرفته إلى المطالعة الطويلة والدقة الكبيرة ، كان واضحا عند السحرة وبينا ، بل أوضح وأبين من الشمس في رابعة النهار.

إنّهم مع معرفتهم بفنون ورموز السحر الذي تعلموه طوال سنوات ، عرفوا وأدركوا أن عمل موسى لم يكن يشبه ـ أبدا ـ السحر ، وأنّه لم يكن نابعا من قدرة البشر ، بل كان نابعا من قدرة فوق الطبيعة وفوق البشر ، وبذلك لا مجال للاستغراب والتعجب في اعلانهم إيمانهم بموسى بمثل تلك السرعة والصراحة والشجاعة وعدم الخوف من المستقبل.

١٥٥

وجملة «ألقى السحرة» التي جاءت في صيغة الفعل المبني للمجهول ، شاهد ناطق على الاستقبال البالغ لدعوة موسى وتسليم السحرة المطلق لهعليه‌السلام . يعني أنّ جاذبية موسى كان لها من الأثر القوي البالغ في قلوب ونفوس أولئك السحرة ، بحيث أنّهم سقطوا على الأرض من دون اختيار ، ودفعهم ذلك إلى الإقرار والاعتراف.

* * *

١٥٦

الآيات

( قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) )

التّفسير

التّهديدات الفرعونية الجوفاء :

عند ما توجهت ضربة جديدة ـ بانتصار موسى على السحرة وإيمانهم به ـ إلى أركان السلطة الفرعونية ، استوحش فرعون واضطرب بشدّة ورأى أنّه إذا لم يظهر أي ردّ فعل في مقابل هذا المشهد ، فسيؤمن بموسى كل الناس أو أكثرهم ، وستكون السيطرة على الأوضاع غير ممكنة ، لهذا عمد فورا إلى عملين مبتكرين : في البداية وجه اتهاما (لعلّه مرغوب عند السواد من الناس) إلى السحرة ، ثمّ

١٥٧

هددهم بأشدّ التهديدات ، ولكن على العكس من توقعات فرعون أظهر السحرة مقاومة عجيبة تجاه هذين الموقفين ، مقاومة أغرقت فرعون وجهازه في تعجب شديد ، وأفشلت جميع خططه. وبهذه الطريقة وجهوا ضربة ثالثة إلى أركان السلطان الفرعوني المتزلزل ، وقد رسمت الآيات اللاحقة هذا المشهد بصورة رائعة.

في البداية يقول : إنّ فرعونا قال للسحرة : هل آمنتم بموسى قبل أن آذن لكم( قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) ؟!

وكأنّ التغيير بـ «به» لأجل تحقير موسى والازدراء به ، وكأنّه بجملة «قبل أن آذن لكم» أراد أن يظهر أنّه يتحرى الحقيقة ويطلب الحق ، فلو كان عمل موسىعليه‌السلام يتسم بالحقيقة والواقعية لأذنت أنا للناس بأن يؤمنوا به ، ولكن استعجالكم كشفت عن زيفكم ، وأنّ هناك مؤامرة مبيّنة ضد شعب مصر.

وعلى أية حال ، أفادت الجملة أعلاه أنّ فرعون الجبار الغارق في جنون السلطة كان يدعي أن لا يحق للشعب أن يتصرف أو يعمل أو يقول شيئا من دون إجازته وإذنه ، بل لا يحق لهم أن يفكروا ويؤمنوا بدون أمره وإذنه أيضا!!

وهذه هي أعلى درجات الاستعباد والاستحمار ، أن يكون شعب من الشعوب أسيرا وعبدا بحيث لا يحق له حتى التفكير والإيمان القلبي بأحد أو بعقيدة.

وهذا هو البرنامج الذي يواصله «الاستعمار الجديد» ، يعني أنّ المستعمرين لا يكتفون بالاستعمار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي ، بل يسعون إلى تقوية جذورهم عن طريق الاستعمار الفكري.

وتتجلى مظاهر هذا الاستعباد الفكري في البلاد الشيوعية أكثر فأكثر ، بالحدود المغلقة ، والأسوار الحديدية والرقابة الشديدة المفروضة على كل شيء ، وبخاصّة على الأجهزة الثقافية.

١٥٨

ولكن في البلاد الرأسمالية الغربية التي يظن البعض أنّه لا يوجد استعباد فكري وثقافي على الأقل وأن لكل أحد أن يفكر ويختار بحرية ، يمارس الاستعباد بنحو آخر ، لأنّ الرأسماليين الكبار بتسلّطهم الكامل على الصحف المهمّة ، والإذاعات ، ومحطات التلفزيون ، وجميع سبل الارتباط الجمعي ووسائل الإعلام ، يفرضون على المجتمع أفكارهم وآراءهم في لباس الحرية الفكرية ، ويوجهون المجتمع ـ عن طريق عملية غسيل دماغ واسعة ومستمرة ـ إلى الوجهة التي يريدون ، وهذا بلاء عظيم يعاني منه عصرنا الحاضر.

ثمّ يضيف فرعون قائلا( إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها ) .

ونظرا إلى الآية (71) من سورة «طه» التي تقول( إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ) يتّضح أنّ مراد فرعون هو أنّ هناك مؤامرة مدروسة وتواطؤا مبيّنا قد دبرتموه قبل مدّة للسيطرة على أوضاع مصر واستلام زمام السلطة ، لا أنّكم دبرتموه للتو وقبل قليل في لقاء محتمل بينكم وبين موسى.

ومن هنا يتّضح أنّ المراد من «المدينة» هو مجموع القطر المصري ، والألف واللام ألف ولام الجنس ، والمراد من «لتخرجوا منها أهلها» هو تسلط موسىعليه‌السلام وبني إسرائيل على أوضاع مصر ، وإقصاء حاشية فرعون وأعوانه عن جميع المناصب الحساسة ، أو إبعاد بعضهم إلى النقاط البعيدة من البلاد ، والآية (110) في هذه السورة شاهدة على ذلك أيضا.

وعلى كل حال ، فإنّ هذه التهمة كانت خاوية ومفضوحة ، إلى درجة أنّه لم يكن يقتنع بها إلّا العوام والجهلة من الناس ، لأنّ موسىعليه‌السلام لم يكن حاضرا في مصر ، ولم يلتق بأحد من السحرة من قبل ، ولو كان أستاذهم وكبيرهم الذي علمهم السحر ، لوجب أن يكون معروفا ومشهورا في جميع الأماكن ، وأن يعرفه أكثر الناس ، وهذه لم تكن أمورا يمكن إخفاؤها وكتمانها ، لأنّ التواطؤ مع

١٥٩

أشخاص المنتشرين في شتى مناطق مصر على أمر بهذا القدر من الاهمية غير ممكن عملا.

ثمّ إنّ فرعون هدّدهم بتهديد غامض ولكنّه شديد ومحكم ، إذ قال :( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) !!

وفي الآية اللاحقة بيّن تفاصيل ذلك التهديد الذي هدّد به السحرة فاقسم بأن يقطع أيديهم وأرجلهم ويصلبهم ، إذ قال :( لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ) .

وفي الحقيقة كان مراده أن يقتلهم بالتعذيب والتنكيل ، ويجعل من هذا المشهد الرهيب درسا للآخرين ، لأن قطع الأيدي والأرجل ، ثمّ الصلب على الشجر أمام الناس ، ومنظر تدفق الدم من أجسامهم وما يرافق هذا من حالات النزع فوق المشانق إلى أن يموتوا ، سيكون عبرة لمن يعتبر (ولا بدّ من ملاحظة أن الصلب في ذلك الزمان لم يكن يتمّ على النحو الذي يتمّ به الآن ، وهو تعليق المشنوق بوضع الحبل في عنقه ، بل كان الحبل يوضع تحت كتفيه حتى لا يموت بسرعة).

ولعل قطع اليد والرجل من خلاف ، كان لأجل أن هذا العمل يتسبب في أن يموتوا بصورة أبطأ ، ويتحملوا قدرا أكثر من الألم والعذاب.

والجدير بالتأمل أن البرامج التي انتهجها فرعون لمكافحة السحرة الذين آمنوا بموسى ، كانت برامج عامّة في مكافحة الجبارين وتعاملهم الوحشي الرخيص مع أنصار الحق والمنادين به ، فهم من جانب يستخدمون حربة التهمة حتى يزعزعوا مكانة أنصار الحق في نفوس الجماهير ، ومن جانب آخر يتوسلون بسلاح القوة والقهر والتهديد لتحطيم إرادتهم ، ولكن ـ كما نقرأ في ذيل قصّة موسى ـ لم يستطع هذان السلاحان أن يفعلا شيئا في نفوس أنصار الحق ، ولن يفعلا.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415