شرح حكم نهج البلاغة

شرح حكم نهج البلاغة0%

شرح حكم نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 313

  • البداية
  • السابق
  • 313 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 64098 / تحميل: 5224
الحجم الحجم الحجم
شرح حكم نهج البلاغة

شرح حكم نهج البلاغة

مؤلف:
العربية

سنة ١٣١٦ ق هاجر إلى العراق، و قدم النجف الأشرف و التزم مصاحبة أستاذه في الحديث و الرجال، الحجّة العلاّمة الميرزا حسين الطبرسيّ النوريّ (ره) و أخذ منه الرجال و الحديث.

قال العلاّمة الشيخ آقا بزرگ الطهرانيّ (ره) في ترجمته له: « قد عرفته جيّدا، فرأيته مثال الإنسان الكامل، و مصداق الرجل العلم الفاضل، و كان دائم الاشتغال، شديد الولع في الكتابة و التدوين و البحث و التنقيب، لا يصرفه عن ذلك شي‏ء، و لا يحول بينه و بين رغبته و اتّجاهه إليه حائل ».

توفّي المحدّث القمّيّ (ره) في النجف سنة ١٣٥٩ ق و دفن في الصحن الشريف.(١) له مؤلّفات مفيدة جدّا تبلغ ٦٧ كتابا و رسالة، ذكرتها بحسب حروف الهجاء في مقدّمة كتاب « بيت الأحزان في مصائب سيّدة النسوان ». منها هذا الشرح الذي بأيدينا، و هو شرح قسم الحكم من نهج البلاغة.

يقول ابن أبي الحديد في شرح قسم الحكم من نهج البلاغة: اعلم أنّ هذا الباب من كتابنا كالروح من البدن، و السواد من العين، و هو

____________________

(١) بيت الأحزان ١١ ١٦.

٢١

الدرّة المكنونة التي سائر الكتاب صدفها.(١) و هذا الشرح رتّب بالترتيب الأبجديّ و هو شرح موجز و مفيد،

ذكر الشارح فيه مسائل هامّة تاريخيّة و أدبيّة و دينيّة حسب دأبه في التأليف. و كثيرا ما استفاد من شرحي ابن أبي الحديد و ابن ميثم البحرانيّ على نهج البلاغة، و عوّل عليهما و إنّي أشرت إلى مواضعها في الهامش.

عملي في تحقيق الكتاب:

حينما شرعت في تحقيق هذا الكتاب بذلت الجهد الممكن في تصحيح المتن، و تخريج المنقولات و مقابلتها مع مصادرها الأصليّة من كتب الأدب و اللغة و التاريخ و الحديث و دواوين الشعراء، و ضبط الأعلام و النصوص اللغويّة و الشعريّة ضبطا صحيحا، و بعض التعليقات في الحواشي.

و وضعت فهارس عامّة في آخر الكتاب لتتميم الفائدة.

و جدير بالذكر أنّ أرقام الخطب و الكتب و الحكم في هذا الشرح تطابق أرقام النسخة الّتي صحّحها الدكتور صبحي الصالح، و استفدت أيضا من نسخة نهج البلاغة الّتي طبعت في مؤسّسة نهج البلاغة.

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ٨١.

٢٢

و أمّا النسخة الوحيدة الّتي عليها مدار التحقيق، هي النسخة الخطّيّة الثمينة بخطّ المؤلّف (ره) تقع في ١٥٣ صفحة بقطع ٢١ ١٥ سم و كان تاريخ تأليفها سنة ١٣٢٨ ق.

و من الواجب عليّ أن أتقدّم بوافر الشكر لحفيد المؤلّف (ره) السيّد « حسين محدّث زاده » الّذي تفضّل عليّ بالنسخة المصوّرة من النسخة الخطّيّة، و « مؤسّسة نهج البلاغة » الّتي قامت بطبع هذا الكتاب و نشره.

و ختاما أسأل المولى سبحانه و تعالى أن يقبل منّي هذا المشروع بمنّه و كرمه.

طهران باقر قرباني زرّين ١٤١٧ ه. ق ١٣٧٥ ه. ش

٢٣

٢٤

٢٥

٢٦

٢٧

٢٨

حرف الألف

١ أزرى بنفسه من استشعر الطّمع، و رضي بالذّلّ من كشف ضرّه [ عن ضرّه ]، و هانت عليه نفسه من أمّر عليها لسانه.(١) هذه ثلاثة فصول: الأوّل في الطمع:

« أزرى بنفسه »، أي حقّرها و قصّر بها. « استشعر الطمع »، أي جعله شعاره أي لازمه.

و في الحديث: الطمع الفقر الحاضر.(٢) و كان يقال: أكثر مصارع الألباب تحت ظلال الطمع.(٣) الثاني في الشكوى:

____________________

(١) نهج البلاغة، الحكمة ٢.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ٨٥.

(٣) نفس المصدر ١٨ ٨٤. و في نهج البلاغة، الحكمة ٢١٩: أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع.

٢٩

« من كشف ضرّه »، أي شكى إلى الناس بؤسه و فقره. و في معناه:

لا تشكونّ إلى أحد فإنّه إن كان عدوّا سرّه، و إن كان صديقا ساءه،

و ليست مسرّة العدوّ و لا مساءة الصديق بمحمودة.(١) الثالث في حفظ اللسان، و قد ورد فيه ما لا يحصى منها: سلامة الإنسان في حفظ اللسان ٢، و منها: ربّ كلمة سفكت دما، و أورثت ندما.(٣) قال الشاعر:

يموت الفتى من عثرة بلسانه

و ليس يموت المرء من عثرة الرجل

٤(٢) اعجبوا لهذا الإنسان ينظر بشحم، و يتكلّم بلحم، و يسمع بعظم،

و يتنفّس من [ في خ ل ] خرم.(٥) قال ابن أبي الحديد: هذا كلام محمول بعضه على ظاهره، لما تدعو إليه الضرورة من مخاطبة العامّة بما يفهمونه، و العدول عمّا لا تقبله

____________________

(١) نفس المصدر السابق ١٨ ٨٥.

(٢) بحار الأنوار ٧١ ٢٨٦ نقلا عن جامع الأخبار، ص ١٠٩.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ٨٥.

(٤) نفس المصدر ١٨ ٨٦. زبان سرخ سر سبز مى‏دهد بر باد. منه (ره).

(٥) نهج البلاغة، الحكمة ٨.

٣٠

عقولهم، و لا تفي به.(١) ٢ انتهى.

و الخرم بضمّ الخاء المعجمة الثقب ٣، و هنا ثقب الأنف.

نبّه عليه السّلام على لطف خلق الإنسان ببعض أسرار حكم اللّه فيه،

و غايته من ذلك الاستدلال على حكمة صانعه و مبدعه، و ذكر أربعة من محالّ النظر و الاعتبار، و هي آلة البصر و الكلام و السمع و التنفّس.

و راعى في القرائن الأربع السجع المتوازي.

٣ إذا أقبلت الدّنيا على أحد [ قوم خ ل ] أعارته [ أعارتهم ] محاسن غيره [ غيرهم ]، و إذا أدبرت عنه [ عنهم ] سلبته [ سلبتهم ] محاسن نفسه [ أنفسهم ].(٤) كان الرشيد أيّام كان حسن الرأي في جعفر بن يحيى، يحلف باللّه أنّ جعفرا أفصح من قسّ بن ساعدة، و أشجع من عامر بن الطفيل،

و أكتب من عبد الحميد بن يحيى، و أسوس من عمر بن الخطّاب،

و أحسن من مصعب بن الزبير مع أنّ جعفرا ليس بحسن الصورة،

و كان طويل الوجه جدّا، و أنصح له من الحجّاج لعبد الملك، و أسمح من عبد اللّه بن جعفر، و أعفّ من يوسف بن يعقوب، فلّما تغيّر رأيه فيه

____________________

(١) في المصدر: و لا تعيه قلوبهم.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ١٠٣.

(٣) المصباح المنير ١ ٢٠٤ خرم.

(٤) نهج البلاغة، الحكمة ٩.

٣١

أنكر محاسنه الحقيقيّة الّتي لا يختلف إثنان أنّها فيه، نحو كياسته و سماحته. و لم يكن أحد يجسر أن يردّ على جعفر قولا و لا رأيا.(١) ٤ إذا قدرت على عدوّك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه.(٢) روي أنّ مصعب بن الزبير لمّا وليّ العراق عرض الناس ليدفع إليهم أرزاقهم، فنادى مناديه: أين عمرو بن جرموز و هو الّذي قتل أباه الزبير؟ فقيل له: أيّها الأمير، إنّه أبعد في الأرض، قال: أوظنّ الأحمق أنّي أقتله بأبي عبد اللّه قولوا له: فليظهر آمنا، و ليأخذ عطاه مسلّما.(٣) ٥ أعجز النّاس من عجز عن اكتساب الإخوان، و أعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم.(٤) روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بكى لمّا قتل جعفر بمؤتة، و قال: المرء كثير بأخيه.(٥) و كان أبو أيّوب السجستانيّ(٦) يقول: إذا بلغني موت أخ لي،

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ١٠٥.

(٢) نهج البلاغة، الحكمة ١١.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ١١٠.

(٤) نهج البلاغة، الحكمة ١٢.

(٥) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ١١٢.

(٦) في المصدر: السختيانيّ.

٣٢

فكأنّما سقط عضو منّي.(١) قال الشاعر:

أخاك أخاك [ إنّ ] من لا أخا له

كساع إلى الهيجا بغير سلاح

و إنّ ابن عمّ المرء فاعلم جناحه

و هل ينهض البازي بغير جناح

٢(٦) إذا وصلت إليكم أطراف النّعم فلا تنفّروا أقصاها بقلّة الشكر.(٣) استعار لفظ التنفير لشبهها بالطير المتّصل إذا سقط أوّله اتّصل به آخره إن لم ينفّر. و فيه إيماء إلى أنّ دوام الشكر مستلزم لدوامها و كثرتها كقوله تعالى لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ..(٤) ٥(٧) أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم فما يعثر منهم عاثر إلاّ و يد اللّه [ و يده بيد اللّه خ ل ] ترفعه [ يرفعه ].(٦) قيل في المروءة: اللذة ترك المروءة، و المروءة ترك اللذة.(٧) و قال معاوية لعمرو: ما ألذّ الأشياء؟ قال: مر فتيان قريش أن

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ١١٢ ١١٣.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ١١٢ ١١٣.

(٣) نهج البلاغة، الحكمة ١٣.

(٤) سورة إبراهيم (١٤) ٧.

(٥) شرح ابن ميثم ٥ ٢٤٦.

(٦) نهج البلاغة، الحكمة ٢٠.

(٧) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ١٢٨.

٣٣

يقوموا، فلّما قاموا قال: اسقاط المروءة.(١) قال ابن أبي الحديد: لام معاوية يزيد على سماع الغناء و حبّ الفتيان، و قال له: أسقطت مروءتك، فقال يزيد: أتكلّم بلساني كلمة قال: نعم، و بلسان أبي سفيان بن حرب و هند بنت عتبة مع لسانك،

قال: و اللّه لقد حدّثني عمرو بن العاص و استشهد على ذلك ابنه عبد اللّه بصدقه أنّ أبا سفيان كان يخلع على المغنّي الفاضل و المضاعف من ثيابه، و لقد حدّثني أنّ جاريتي عبد اللّه بن جدعان غنّتاه يوما فأطربتاه، فجعل يخلع عليهما أثوابه ثوبا ثوبا حتّى تجرّد تجرّد العير،

و لقد كان هو و عفّان ابن أبي العاص ربّما حملا جارية العاص بن وائل على أعناقهما، فمرّا بها على الأبطح و جلّة قريش ينظرون إليهما، مرّة على ظهر أبيك، و مرّة على ظهر عفّان، فما الّذي تنكر منّي فقال معاوية: اسكت لحاك اللّه و اللّه ما أحد ألحق بأبيك هذا إلاّ ليغرّك و يفضحك، و إن كان أبو سفيان ما علمت(٢) لثقيل الحلم، يقظان الرأي، عازب الهوى، طويل الأناة، بعيد القعر، و ما سوّدته قريش إلاّ لفضله.(٣)

____________________

(١) نفس المصدر ١٨ ١٢٩.

(٢) معترضة. منه (ره).

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ١٣٠.

٣٤

٨ امش بدائك ما مشى بك.(١) يقول: مهما وجدت سبيلا إلى الصبر على أمر من الأمور الّتي قد دفعت إليك و فيها مشقّة عليك، فاصبر و لا تتعاجز به، بل كن في صورة الأصحّاء.

و قيل: فيه إيماء إلى ما أمر به من كتمان المرض كما قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله: من كنوز البرّ كتمان الصدقة و المرض و المصيبة.(٢) ٩ أفضل الزّهد إخفاء الزّهد.(٣) إنّما كان كذلك لأنّ الجهر بالعبادة و الزّهادة و الإعلان بذلك قلّ أن يسلم من مخالطة الرياء.

لطيفة: رأى المنصور رجلا واقفا ببابه، فقال: مثل هذا الدرهم بين عينيك و أنت واقف ببابنا فقال الربيع: نعم، لأنّه ضرب على غير السكّة.(٤) ١٠ إذا كنت في إدبار و الموت في إقبال، فما أسرع الملتقى(٥) هذا ظاهر، لأنّ إدباره هو توجّهه إلى الموت، و إقبال الموت هو

____________________

(١) نهج البلاغة، الحكمة ٢٧.

(٢) شرح ابن ميثم ٥ ٢٥١.

(٣) نهج البلاغة، الحكمة ٢٨.

(٤) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ١٣٩.

(٥) نهج البلاغة، الحكمة ٢٩.

٣٥

توجّه الموت نحوه، فقد حقّ إذن الالتقاء سريعا، و مثال ذلك سفينتان بدجلة أو غيرها، تصعد إحداهما، و الأخرى تنحدر نحوها، فلا ريب أنّ الالتقاء يكون و شيكا.

١١ أشرف الغنى ترك المنى.(١) المنى: جمع منيّة بمعنى التمنّي. و ظاهر أنّ ترك المنى يستلزم القناعة و استلزامها للغنى النفسانيّ و عدم الحاجة ظاهر.

١٢ احذروا صولة الكريم إذا جاع، و اللّئيم إذا شبع.(٢) يراد بالكريم شريف النفس، ذو الهمّة العليّة، و بجوعه ضميمه،

و امتهانه، و شدّة حاجته. و ذلك مستلزم لثوران غضبه و حميّته عند عدم التفات الناس إليه، و شبع اللئيم كناية عن غناه و عدم حاجته.

و ذلك يستلزم تمرّده و أذيّته لمن كان تحت يده، و من يحتاج إليه من الناس، فربما كان جوعه سببا لتغيّر أخلاقه و تجويدها، و نحن شاهدنا ذلك كثيرا.

١٣ أولى النّاس بالعفو أقدرهم بالعقوبة [ على العقوبة ].(٣) قالت الحكماء: ينبغي للإنسان إذا عاقب من يستحقّ العقوبة، أن

____________________

(١) نهج البلاغة، الحكمتين ٣٤ و ٢١١.

(٢) المصدر، الحكمة ٤٩.

(٣) نفس المصدر، الحكمة ٥٢.

٣٦

لا يكون سبعا في انتقامه، و أن لا يعاقب حتّى يزول سلطان غضبه،

لئلاّ يقدم على ما لا يجوز، و لذلك جرت سنّة السلطان بحبس المجرم حتّى ينظر في جرمه، و يعيد النظر فيه.(١) و قالوا أيضا: لذّة العفو أطيب من لذّة التشفّي و الإنتقام، لأنّ لذّة العفو يشفعها حميد العاقبة، و لذّة الانتقام يتّبعها ألم الندم. و قالوا:

و العقوبة ألأم حالات ذي القدرة و أدناها، و هي طرف من الجزع.(٢) ١٤ إذا حيّيت بتحيّة فحيّ بأحسن منها، و إذا أسديت إليك يد فكافئها بما يربي عليها، و الفضل مع ذلك للبادئ.(٣) هذا الكلام أورده ابن أبي الحديد في الشرح و لم أجده في هذا المقام من النهج، و قال: اللفظة الأولى من القرآن(٤) العزيز، و الثانية تتضمّن معنى مشهورا.

و قوله: « و الفضل مع ذلك للبادئ »، يقال في الكرم و الحثّ على فعل الخير.

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ١٨٣.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) ليس هذا الكلام في أكثر نسخ النهج الخطّيّة، و لكن ذكره الشيخ محمد عبده و الدكتور صبحي الصالح من نسخة شرح ابن أبي الحديد تحت الرقم ٦٢ من الحكم.

(٤) و هو قوله تعالى في سورة النساء (٤) ٨٦: وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوْهَا.

٣٧

ثمّ ذكر توسّل بعض الأشخاص برحم أو قرابة و إسداء معروف و نحو ذلك، فنالوا منهم بسببه مالا جزيلا.(١) ١٥ أهل الدّنيا كركب يسار بهم و هم نيام.(٢) قال ابن أبي الحديد في الشرح: هذا التشبيه واقع و هو صورة الحال لا محالة.

و قد أتيت بهذا المعنى في رسالة كتبتها إلى بعض الأصدقاء تعزية،

فقلت: و لو تأمّل الناس أحوالهم، و تبيّنوا مآلهم، لعلموا أنّ المقيم منهم بوطنه، و الساكن إلى سكنه، أخو سفر يسرى به و هو لا يسري،

و راكب بحر يجرى به و هو لا يدري.(٣) ١٦ إذا لم يكن ما تريد فلا تبل كيف [ ما ] كنت.(٤) كان أصل « لا تبل » لا تبال، فحذفت الألف تخفيفا لكثرة الاستعمال، و مراده عليه السّلام بهذا الكلام أي إذا فاتك مرادك من الأمر فلا تبل بفوات ما أمّلته، و لا تحمل لذلك همّا كيف كنت، و على أيّ حال كنت، من حبس أو مرض أو فقر أو فقد حبيب، و بالجملة، لا تبال بالدهر، و لا تكثرت بما يعكس عليك من غرضك، و يحرمك من

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ٢٠١.

(٢) نهج البلاغة، الحكمة ٦٤.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ١٩٣.

(٤) نهج البلاغة، الحكمة ٦٩.

٣٨

أملك، و ذلك لأنّ الأسف على فوات المراد يستلزم غمّا و ألما و هو مضرّة عاجلة لا يثمر فائدة فارتكابه سفه، و هذا مثل قوله عليه السّلام: « فلا تكثر على ما فاتك منها أسفا »(١) و مثل قوله تعالى: لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى ما فاتَكُمْ.(٢) ١٧ إذا تمّ العقل نقص الكلام.(٣) تمام العقل يستلزم كمال قوّته على ضبط القوى البدنيّة و تصريفها بمقتضى الآراء المحمودة الصالحة، و وزن ما يبرز إلى الوجود الخارجيّ عنها من الأقوال و الأفعال بميزان الاعتبار و في ذلك من الكلفة و الشرائط ما يستلزم نقصان الكلام بخلاف ما لا يوزن و لا يعتبر من الأقوال.

قالوا: إذا رأيتم الرجل يطيل الصمت و يهرب من الناس، فاقربوا منه فإنّه يلقّى الحكمة.(٤) ١٨ إنّ الأمور إذا اشتبهت اعتبر آخرها و بأوّلها.(٥) روي: « إذا استبهمت »، و المعنى واحد و هو حقّ، و ذلك أنّ

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ٢١٥.

(٢) سورة الحديد (٥٧) ٢٣.

(٣) نهج البلاغة، الحكمة ٧١.

(٤) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ٢١٧.

(٥) نهج البلاغة، الحكمة ٧٦.

٣٩

المقدّمات تدلّ على النتائج، و الأسباب تدلّ على المسبّبات، فإذا اشتبهت أمور على العاقل الفطن و لم يعلم إلى ماذا تؤول، فإنّه يستدلّ على عواقبها بأوائلها، و على خواتمها بفواتحها.(١) و إلى معنى كلامه عليه السّلام أشير في هذا المثل بالفارسيّة: سالى كه نكوست از بهارش پيداست.(٢) ١٩ أوصيكم بخمس لو ضربتم إليها آباط الإبل لكانت لذلك أهلا:

لا يرجونّ أحد منكم إلاّ ربّه، و لا يخافنّ إلاّ ذنبه، و لا يستحينّ أحد منكم إذا سئل عمّا لا يعلم أن يقول: لا أعلم، و لا يستحينّ أحد [ منكم ] إذا لم يعلم الشّي‏ء أن يتعلّمه، و عليكم بالصّبر، فإنّ الصّبر من الإيمان كالرّأس من الجسد، و لا خير في جسد لا رأس معه، و لا خير في إيمان لا صبر معه.(٣) كنّى عليه السّلام بضرب آباط الإبل عن الرحلة في طلبها، و ذلك لأنّ الراكب يضرب إبطي راحلته برجليه ليحثّها على السير.

فأحد الخمس: الرجاء للّه دون غيره، و من لوازم ذلك إخلاص العمل له، و دوام طاعته.

و الثانية: أن يخاف ذنبه دون غيره، و ذلك لأنّ أعظم ما يخافه

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٨ ١٩١.

(٢) نظيره في العربيّة قولهم: من الأوّل حسن الآخر. و يكفيك ممّا لا ترى ما قد ترى. (أمثال و حكم دهخدا ج ٢، ص ٩٤٠).

(٣) نهج البلاغة، الحكمة ٨٢.

٤٠