الحديث النبوي بين الرواية والدراية

الحديث النبوي بين الرواية والدراية0%

الحديث النبوي بين الرواية والدراية مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 676

الحديث النبوي بين الرواية والدراية

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 676
المشاهدات: 85433
تحميل: 5984

توضيحات:

الحديث النبوي بين الرواية والدراية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 676 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85433 / تحميل: 5984
الحجم الحجم الحجم
الحديث النبوي بين الرواية والدراية

الحديث النبوي بين الرواية والدراية

مؤلف:
العربية

ويدخل في هذا من انقلب إلى عمل النار بكفر أومعصية، لكن يختلفان في التخليد وعدمه، فالكافر يخلد في النار و العاصي الذي مات موحداً لا يخلد فيها، وفي هذا الحديث تصريح بإثبات القدر وانّ التوبة تهدم الذنوب قبلها، وانّمن مات على شيء حكم له به من خير أو شر إلاّ انّأصحاب المعاصي غير الكفر في المشيئة.(١)

أقول: لما كان الحديث بظاهره دالاً على الجبر، وانّالقدر حاكم على مصير الاِنسان شاء أم أبى، حاول النووي دفع الاِشكالات بالبيان السابق وإن لم يذكر شيئاً من الاِشكال، وما ذكره جواب غير ناجع، وإليك ما فيه من الاِشكالات:

١. انّالذراع كناية عن قرب الاِنسان من الموت، ففي هذا المجال كيف تكون التوبة أو الاِسلام ناجعاً وقد قال سبحانه:( وَلَيْسَتِ التَّوبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِئات حَتّى إِذا حَضَرَ أَحدَهُمُ المَوتُ قالَإِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَليماً ) (النساء/١٨).

٢. ذكر: انّ المراد بهذا الحديث قد يقع في نادر من الناس لا انّه غالب فيهم، وما ذكره اجتهاد من جانبه لم يقم عليه دليل في الرواية لو لم نقل انّ المتبادر هو الغالب، حيث يقول: إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة... الخ.

٣. انّ ظاهر الحديث انّ الاِنسان يكون على نهج ويريد أن يستمر على ذلك النهج إلى آخر عمره ولكن الكتاب (القدر) بما انّه الحاكم الحاسم في حياة الاِنسان يسبق على إرادته ومشيئته، وبالتالي يعمل عملاً إمّا يجره إلى الجنة أو النار، فالدور للتقدير، - فهو الذي يدفع الاِنسان إلى عمل الخير أو الشر - لا للاِنسان ولا لاِرادته واختياره، وعلى ذلك فلا صلة لما ذكره النووي من تفسيره بالتوبة وغيره من انقلاب الناس من الشر إلى الخير أو من الخير إلى الشر في ظل التوبة.

____________________

١ شرح صحيح مسلم للنووي: ١٦/٤٣٤ - ٤٣٥.

١٢١

٤.إنّ من الغريب قوله: وهو نحو قوله تعالى: «إنّ رحمتي سبقت غضبي وغلبت غضبي» مع انّ الوارد في المصحف قوله:( رَبَّنا وَسعتَ كُلّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلماً ) (غافر/٧)، مع أنّ التعليل يصح في أحد الشطرين دون الشطر الآخر، إذ فيه يكون الاَمر على العكس ويغلب غضبه رحمته.

إنّهذا الحديث كأكثر ما ورد حول القدر والجبر أحاديث استوردها مستسلمة أهل الكتاب وبثوها في الاَوساط الاِسلامية وتلقاها السُذَّج حقائق راهنة وشوّهوا بها سمعة الاِسلام لدى الاَجانب والغرباء، ولاَجل ذلك ترى أنّكثيراً من المستشرقين يعتقدون انّ الاِسلام من دعاة القول بالجبر.

٥. انّ نبي الاِسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفصح من نطق بالضاد، وهو مالك أزمة الكلام فلوكان مراده ما يذكره النووي، فله أن يقول: إنّه سبحانه سيوفقه للتوبة وعمل الخير فيصير من أهل الجنة، أو إنّه يرتكب المعاصي فيصير من أهل النار.

٣. أمرنا بالسبّ

أخرج ابن خزيمة، عن أبي عثمان، قال: سمع ابن مسعود رجلاً ينشد ضالة في المسجد فغضب وسبّه، وقال له رجل: ما كنت فحاشاً يا ابن مسعود، قال: كنّا نوَمر بذلك.(١)

والحديث مكذوب على لسانه، وقد مضى انّه روى عن النبيأنّه قال: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر(٢) فكيف يسبّ موَمناً ينشد ضالته في المسجد وأقصى ما يمكن أن يكون عمله مكروهاً.

____________________

١ مسند ابن خزيمة: ١٣٠٣ كما في المسند الجامع: ١١/٥١٥ برقم ٩٠٠٩.

٢ صحيح مسلم:١/٥٨، باب قول النبي :سباب المسلم فسوق.

١٢٢

٤. الجماع لا يبطل الصوم

أخرج النسائي في الكبرى، عن علقمة، عن عبد اللّه، انّ رسول اللّه «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » خرج يوماً في رمضان ورأسه يقطر من جماع، فمضى في صومه ذلك اليوم.(١)

والرواية تخالف اتّفاق المسلمين على أنّ الجماع يبطل الصوم وتخالف بصراحة، القرآن الكريم، قال سبحانه:( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَعَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالآن باشِرُوهُنَّ ) (البقرة/١٨٧).

أخرج أبو داود والبيهقي في سننه عن ابن عباس، قال: كان الناس على عهد رسول اللّه إذا صلّوا العتمة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء وصاموا إلى القابلة، فأختان رجل(٢) نفسه، فجامع امرأته وقد صلى العشاء ولم يفطر، فأراد اللّه أن يجعل ذلك تيسيراً لمن بقي ورخصة ومنفعة.

فقال: (علم اللّه أنَّكم كُنتُم تختانون أنفسكم ...) [الآيةج فرخص لهم ويسّر(٣) .

ومع ذلك كيف نقض النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحكم وهو يندّد بغيره.وتفسير الجماع في الرواية بالاحتلام في النوم، خلاف الظاهر جدّاً، وإلاّ فما معنى قوله «فمضى في صومه ذلك اليوم»؟

٥. لا عبرة بأذان بلال

أخرج مسلم في صحيحه، عن أبي عثمان، عن ابن مسعود، قال: قال

____________________

١ المسند الجامع: ١١/٥٩٨ نقلاً عن النسائي في الكبرى عن الورقة (٤٠- ب).

٢ المراد هو عمر بن الخطاب بقرينة سائر الروايات.

٣ الدر المنثور: ١/٤٧٧.

١٢٣

رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يمنعنّأحداً منكم أذان بلال( أو قال: نداء بلال) من سحوره فانّه يوَذن ( أو قال: ينادي) بليل ليُرجع قائمكم ويوقظ نائمكم، وقال: ليس أن يقول: هكذا وهكذا (وصوّب يده ورفعها) حتّى يقول هكذا (وفرَّج بين اصبعيه).(١)

يلاحظ عليه: أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القائل بأنّ المرء إذا عمل شيئاً أتقنه كيف ينتخب إنساناً لاِعلام الفجر وسائر الاَوقات الشرعية، لكنّه يوَذّن قبل الوقت لغايات خاصّة ،وليس كلّأحد مطلعاً على نية بلال، وانّه يأذن لغاية إرجاع القائم وإيقاظ النائم، بل ربما يتصور دخول الفجر فيصلي قبل الوقت، ويصوم قبل الفجر، وربما يحرم من تناول السحور.

٦. لا عدوى ولا صفر

أخرج الترمذي في سننه، عن أبي زرعة، قال: حدّثنا صاحب لنا عن ابن مسعود، قال: قام فينا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال:لا يعدي شيء شيئاً، فقال أعرابي: يا رسول اللّه البعير الجرب الحشفة بذنبه، فتجرب الاِبل كلّها، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فمن أجرب الاَوّل؟ لا عدوى، و لا صَفَرَ، خلق اللّهكلّنفس، وكتب حياتها، ورزقها، ومصائبها.(٢)

إنّ العدوى عبارة عن انتشار المرض من سقيم إلى سليم و«الصفر» داء يصفر منه الوجه وهو المعروف ب- «اليرقان».

إنّ انتشار المرض بواسطة الجراثيم سنة من سنن اللّه تبارك وتعالى وقد بنيت عليه حياة الكائنات الحية وليس القول به منافياً لكونه سبحانه هو الخالق المدبر ولا خالق ولا مدبر سواه، لاَنّ الاَسباب الكونية من جنوده سبحانه مسخَّرة

____________________

١ صحيح مسلم: ٣/١٢٩، باب بيان انّ الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، من كتاب الصيام.

٢ سنن الترمذي: ٤/٤٥٠ برقم ٢١٤٣.والحشفة: القرحة.

١٢٤

بمشيته، وعلى ذلك فالقول بالعدوى والصفر يرجع حقيقته إلى أنّه سبحانه خلق العالم على تلك السنن، فلو انتشر الجرب من بعير مريض إلى سالم فقد انتشر بأمره سبحانه، ولو أخضرَّت الحقول المكتظة بالاَشجار بالماء فقد أخضرّت بأمره ومشيته، لاَنّه سبحانه جعل الماء سبباً لنمو الاَشجار واخضرارها حتى أنّه سبحانه ربما يستدل بالسنن الكونية على توحيده.ويقول:( وَفِي الاَرْض قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغيْرُصِنْوانٍ يُسقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الاَكُلِ إِنَّ في ذلِكَ لآياتٍ لِقَومٍ يَعْقِلُونَ ) (الرعد/٤).

فاللّه سبحانه يستدل باختلاف الاَشجار والاَثمار وتنوعها على الرغم من وحدة التراب والماء على أنّ ثمة قدرة قاهرة مدبرة للكون، وليست العلل الطبيعية هي السبب التام لتفتّح براعم الاَزهار واخضرار الاَشجار، وإلاّيجب أن لا يحتضن العالم إلاّ نوعاً واحداً من الشجر لوحدة التراب والماء، فهذه الروايات حيكت على منوال إنكار الاَسباب الطبيعية بزعم انّ القول بها ينافي التوحيد في الخالقية، أو الربوبية.ولعل المصدر لهذه الرواية هو أبو هريرة وقد نقلها كما نقل ضدها.

أخرج البخاري، من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » : لا عدوى ولا صَفَرَ(١) ولا هامة(٢) فقال أعرابي: يا رسول اللّه ما بال الاِبل تكون في الرَّمل كأنّها الظَّباء فيخالطها البعير الاَجرب فيجربّ-ها، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فمن أعدى الاَوّل.(٣)

____________________

١ ما يتوهم منه حصول الدواهي في شهر صفر.

٢ هامة (بتخفيف الميم) طائر كان أهل الجاهلية يزعمون انّ روح الميت تنقلب هامة، فأبطل الاِسلام هذه الخرافة ولعل المراد منه البوم الذي يضرب به المثل في الشوَم.

٣ صحيح البخاري:٧/١٣٨، باب لا هامة من كتاب الطب.

١٢٥

كما نقل ضد هذا الحديث فروى مسلم في صحيحه، عن أبي سلمة انّه سمع أبا هريرة فيما بعد يحدث فيقول: قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يورد ممرض على مصحّ، قال أبو سلمة: يا أبا هريرة ألم تحدث انّه لا عدوى؟ قال: فأنكر حديثه الاَوّل ورطن بالحبشية.(١)

وقد تصرف البخاري في الحديث الثاني: لا توردوا الممرض على المصح، وحذف ذيل الحديث الذي رواه مسلم.

٧. النساء يخلين المجلس لكي...

أخرج الدارمي، عن عبد اللّه بن حلاّم، عن عبد اللّه بن مسعود، قال: رأى رسول اللّه امرأة فأعجبته، فأتى سودة وهي تصنع طيباً وعندها نساء، فأخلينه، فقضى حاجته ثمّ قال: أيّما رجل رأى مرأة تعجبه فليقم إلى أهله، فإنّمعها مثل الذي معها.(٢)

إنّ الرواية مشتملة على حكمة عملية، وهي انّه إذا ثارت شهوة الرجل، فعليه أن يعالجها بحلال، وإلاّفربما ينتهي إلى الوقوع في الحرام، وقد ورد نظير ذلك على لسان الاِمام عليعليه‌السلام عندما كان واقفاً مع أصحابه فمرّت بهم امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم ، فقالعليه‌السلام :

إنّأبصار هذه الفحول طوامح، وانّذلك سبب هَبَابها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله، فإنّما هي امرأة كامرأته(٣) .

____________________

١ صحيح مسلم:٧/٣١، باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة من كتاب السلام ؛ صحيح البخاري: ٧/١٣٨، باب لا عدوى من كتاب الطب.

٢ سنن الدارمي: ٢/١٤٦، باب الرجل يرى المرأة فيخاف على نفسه.

٣ نهج البلاغة، من كلماته القصار، برقم ٤٢٠.

١٢٦

ولكن الحديث الذي يرويه الدارمي يشتمل على شيء لا يصدر عن سُذَّج الناس، فضلاً عن النبي الاَعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي ملىَ بالحياء من الفرق إلى القدم، حيث قال: «فأخلينه فقضى حاجته» ، وهذا رهن أن يبوح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما في قلبه من الملامسة مع سودة، ويفهمهنَّ حتى يخلينّ المجلس له، وهذا شيء لا يليق بالموَمن فضلاً عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسيوافيك روايات كثيرة حول حياء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند دراسة أحاديث أنس.

٨. النساء أكثر أهل النار

أخرج الاِمام أحمد في مسنده، عن وائل بن مهانة، عن عبد اللّه بن مسعود: انّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: تصدقن يا معشر النساء ولو من حُليّكُنّ فانّكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة ليست من علية النساء، فقالت: لِمَ يا رسول اللّه؟ قال: لاَنّكنّ تكثرن اللعن وتكفرنّ العشير.(١)

يلاحظ على الحديث أنّ هذا لا يناسب ما نعلم من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلق عظيم، قال سبحانه:( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم ) (القلم/٤)، وقد ورد في الكتاب الكريم كيفية الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال عزّ من قائل:( ادْعُإِلى سَبِيلِرَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنةِ وَجادِلْهُمْ بِالّتي هِيَأَحْسَن ) (النحل/١٢٥) فهذا يقتضي أن يكلمهنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنغمة ملائمة لا بقوله: فانّكن أكثر أهل النار.

ثمّ لو صحّ الحديث، وثبت انّ الرسول أخبر بأنّ أكثر أهل النار هم النساء، فهناك سوَال آخر وهو انّه كيف يكون النساء أكثر أهل النار مع أنّ الرجال أكثر

____________________

١ مسند أحمد: ١/٣٧٦. ورواه أحمد عن أبي هريرة أيضاً لاحظ ٢/٢٩٧.

١٢٧

اقترافاً للذنوب من النساء، لهيمنة الغصب والشهوة عليهم؟

ثمّ إنّ إكثار اللعن ليس إلاّ دعاء، إذا صدر في غير محلّه يكون أشبه بدعاء غير مستجاب، فكيف يكون سبباً لدخول النار و خلودها؟ كما انّ اكفار العشير ليس إلاّعدم الوقوف على حقّهم، وهو إن لم يكن مقروناً بأمر محرّم، لا يوجب الدخول في النار بل يكون أمراً قلبياً.

إنّ الحط من شأن النساء، وجعل أكثرهنّ من أهل النار لا يختص بهذا الحديث، بل ثمة مرويات حول هذا الموضوع تعكس فكرة الجاهلية في حقّ النساء، وإليك نموذجاً:

أخرج أحمد، عن عمارة بن خزيمة، قال: بينا نحن مع عمروبن العاص في حجّ أو عمرة، فقال:

بينما نحن مع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الشعب إذ، قال:

انظروا هل ترون شيئاً؟ فقلنا: نرى غرباناً، فيها غراب أعصم، أحمر المنقار والرجلين. فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يدخل الجنّة من النّساء إلاّ من كان منهنَّ مثل هذا الغراب في الغربان.(١)

والحديث كناية عن قلة عدد النساء في الجنة وانّه لا يدخل منهن إلاّ اليسير النادر، فكأنّه سبحانه خلق النساء للنار والرجال للجنة، تبارك وتعالى عن ذلك.

____________________

١ مسند أحمد:٤/١٩٧.

١٢٨

٥- أبو الدرداء الاَنصاري

( - ٣٣ ه-)

سيرته وأحاديثه الرائعة

أحاديثه السقيمة:

١. عدم منازعة ولاة الاَمر.

٢. إبليس يواجه النبي بشهاب من نار.

٣. الفراغ من التقدير.

٤. لا يدخل الجنة موَمن بسحر.

عويمر بن مالك بن زيد بن قيس الاَنصاري الخزرجي، أُمّه محبّة بنت واقد ابن عمرو، تأخر إسلامه قليلاً وكان آخر أهل داره إسلاماً وحسن إسلامه، وكان فقيهاً عاقلاً حكيماً، آخى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينه و بين سلمان الفارسي، شهد ما بعد أُحد من المشاهد وأوّل مشاهده الخندق.

ولي أبو الدرداء قضاء دمشق، وتوفي قبل أن يقتل عثمان بسنتين(١) أي سنة ٣٣.

____________________

١ أُسد الغابة:٥/١٨٥، وفي سير اعلام النبلاء انّه توفي قبل عثمان بثلاث سنين، ونقل ابن سعد انّه توفي في الشام سنة ٣١ه-.

١٢٩

روى عنه أنس بن مالك، وفضالة بن عبيد، وأبو أمامة، وعبد اللّه بن عمر، وابن عباس، وأبو إدريس الخولاني، وجبير بن نفير، وابن المسيب وغيرهم.(١)

أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي الدرداء انّه كان إذا حدّث الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يقول: اللّهمّ إن لم يكن هكذا فشبِهْهُ فشَكْله.(٢)

روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدّة أحاديث، وهو معدود ممن تلا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يبلغنا أبداً أنّه قرأ على غيره، وتصدر الاِقراء بدمشق في خلافة عثمان وقبل ذلك.

ويظهر ممّا ذكره أصحاب المعاجم في حقّه أنّه كان متقشفاً، غير متعمق في الدين. ويدلّ عليه أمران:

الاَوّل: نقل ابن سعد عن عمر بن مرّة: قال: سمعت شيخنا يحدّث عن أبي الدرداء، انّه قال: أُحبّ الفقر تواضعاً لربّ-ي، وأُحبّ الموت اشتياقاً إلى ربّ-ي، وأُحبّ المرض تكفيراً لخطيئتي.(٣)

وقد زعم ذلك الصحابي الجليل انّ ما كان يحبه ويرجّحه، أمر تلقاه الشرع بالقبول، ولكنّ أئمّة أهل البيت والعرفاء الشامخين يرضون بما قضى لهم اللّه سبحانه من الفقر والغنى، أو الموت والحياة، والمرض والصحّة، ويطلبون رضى اللّه في كلّحال، ويترنّمون بقول العارف الحكيم السبزواري:

و بهجة بما قضى اللّه رضا

وذو الرضا بما قضى ما اعترضا

قيل: للحسن بن عليعليهما‌السلام : إنّأبا ذر، يقول: الفقر أحب إليَّ من

____________________

١ أُسد الغابة: ٤/١٦٠.

٢ الطبقات الكبرى: ٧/٣٩٢.

٣ طبقات ابن سعد: ٧/٣٩٢.

١٣٠

الغنى، والسقم أحبُّ إليَّ من الصحّة. فقال: رحم اللّه أبا ذر. أمّا أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار اللّه له، لم يتمنَّ انّه في غير الحالة التي اختارها اللّه له.(١)

الثاني: دخل سلمان بيت أبي الدرداء فإذا أُم الدرداء متبذِّلة، فقال: ما شأنك؟ قالت: إنّأخاك لا حاجة له في الدنيا، يقوم الليل ويصوم النهار، فجاء أبوالدرداء، فرحّب به وقرب إليه طعاماً، فقال له سلمان: كُل، فقال: إنّي صائم، قال: أقسمت عليك لتفطرنّ فأكل معه ثمّ بات عنده، فلما كان من الليل أراد أبو الدرداء أن يقوم فمنعه سلمان، فقال: إنّ لجسدك عليك حقّاً، ولربّك عليك حقّاً، ولاَهلك عليك حقّاً. صم وأفطر، وصلّ وائتِ أهلك وأعط كلّ ذي حقٍّ حقّه.

فلما كان وجه الصبح، قال: قم الآن إن شئت، فقاما، فتوضآ، ثمّ ركعا، ثمّ خرجا إلى الصلاة، فدنا أبو الدرداء ليخبر رسول اللّه بالذي أمره سلمان، فقال له: يا أبا الدرداء، انّلجسدك عليك حقّاً، مثل ما قال لك سلمان.

وكانت له مواقف مشرقة، وهذا هو الاِمام أحمد يروي انّ أبا الدرداء لما سمع تسيير أبي ذر إلى الربذة استرجع قريباً من عشر مرات، ثمّ قال: ارتقبه واصطبر كما قيل لاَصحاب الناقة، اللّهمّ إن كذَّبوا أباذر، فانّي لا أُكذِّبه، اللّهمّ وإن اتهموه فانّي لا أتهمه، اللّهمّ وإن استغشوه، فإنّي لا استغشه.

فإنّ رسول اللّه كان يأتمنه حين لا يأتمن أحداً،ويسرّ إليه حين لا يسرّ إلى أحد.

أما والذي نفس أبي الدرداء بيده، لو انّ أبا ذر قطع يميني ما أبغضته بعد الذي سمعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول:

ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر.(٢)

____________________

١ تهذيب ابن عساكر:٤/٢٢٠؛ البداية والنهاية:٨/٣٩.

٢ مسند أحمد: ٥/١٩٧.

١٣١

وعلى أية حال فيروى له مائة وتسعة وسبعون حديثاً واتفقا له على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بثمانية.(١)

وقدجُمعت أحاديثه في المسند الجامع فبلغت ١١٣ رواية.

فلنذكر شيئاً من روائع أحاديثه، ثمّ نعرج إلى الاَحاديث السقيمة التي عزيت إليه.

روائع أحاديثه:

١. أخرج أبو داود في سننه، عن خليد العصري، عن أُمّ الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خمس من جاء بهنَّ مع إيمان دخل الجنّة، من حافظ على الصّلوات الخمس على وضوئهنَّ وركوعهنّ وسجودهنّ ومواقيتهنّ، وصام رمضان، وحجّ البيت إن استطاع إليه سبيلاً، وأعطى الزكاة طيِّبة بها نفسه، وأدّى الاَمانة.

قالوا: يا أبا الدرداء، وما أداء الاَمانة؟ قال: الغسل من الجنابة.(٢)

ولا غبار على مضمون الرواية، وقد ورد في غير واحد من الروايات وتدعمها المفاهيم العامة الواردة في الاِسلام، بيد انّتفسير الاَمانة بالغسل من الجنابة تفسير بالرأي، إلاّ أن يكون الرسول فسرها بهذا النحو، وإلاّ فأداء الاَمانة بمفهومها الكلي العام من علائم الاِيمان.

قال سبحانه:( إِنَّ اللّهَ يَأْمُركُمْ أَنْ تُوَدُّوا الاَماناتِ إِلى أَهْلِها ) (النساء/٥٨).

وقال سبحانه:( وَالَّذِينَ هُمْ لاَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ) (الموَمنون/٨).

____________________

١ سير اعلام النبلاء: ٢/٣٤٢برقم٦٨.

٢ سنن أبي داود: ١/١١٦ برقم ٤٢٩.

١٣٢

وقال سبحانه:( فَإِنْ أَمِنَ بَعضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُوَدِّ الَّذي اوَتُمِنَ أَمانَتَه ) (البقرة/٢٨٣).

٢. أخرج الاِمام أحمد، عن أبي إدريس، عن أبي الدرداء، عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ، قال: لكلّ شيء حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الاِيمان حتى يعلم انّ ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.(١)

إنّ ما يصيب الاِنسان أو يخطئه على قسمين، تارة يعد من أفعاله التي يناط بها الاِيمان والكفر والثواب والعقاب، وهذا القسم من الاَفعال غير خارج عن إختياره فلو أصابه أو اخطأه فإنّما أصاب أو أخطأ باختياره فلا يصحّ أن يقال انّما أصابه لم يمكن ليخطأه أو ما أخطأه لم يكن ليصيبه، إذ معنى ذلك انّ الاِيمان والكفر والطاعة والعصيان من الاَمور التي لم يكن للعبد فيها دور، فالموَمن لم يكن له بدّ من الاِيمان، والكافر لم يكن له بد من الكفر، والمطيع لم يكن له إلاّ الطاعة، والعاصي لم يكن له إلاّ العصيان فلم يكن في وسع المطيع، العصيانُ كما انّه لم يكن في وسع العاصي، الطاعةُ.

فالقول باللابدية في هذا النوع من الاَفعال عين الجبر وهو ينافي القرآن الكريم المنادي للاختيار والذي يخاطب المجتمع الاِنساني بقوله:( فَمَنْ شاءَ فَلْيُوَمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُر ) (الكهف/٢٩).

نعم، ينطبق ما ورد في الحديث على الاَمور الخارجة عن مجال الاختيار، فالحوادث والنوازل أُمور يواجهها الاِنسان بلا اختيار وقد قدِّر، ولم يكن محيص من التقدير، قال سبحانه:( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الاََرْض وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّفِي كتابٍ مِنْ قَبْلِأَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلى اللّهِ يَسِير ) (الحديد/٢٢).

____________________

١ مسند أحمد: ٦/٤٤١.

١٣٣

وقد ذكرنا غير مرّة انّ تعظيم القدر وتفخيم شأنه وجعل زمام حياة الاِنسان بيده من الاَفكار المستوردة.

٣. أخرج النسائي، عن عطاء بن يسار: انّ معاوية باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينهى عن مثل هذا إلاّمثلاً بمثل.(١)

وما رواه، من الاَحكام الضرورية في الفقه الاِسلامي، وقد روي عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، انّه قال: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلاّمثلاً بمثل.(٢)

والعجب انّ معاوية الذي ادّعى الخلافة عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جهل هذا الحكم الاِسلامي أو تجاهله فباع السقاية بأكثر من وزنها.

٤. أخرج أحمد في مسنده عن حمزة بن حبيب، عن أبي الدرداء،عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، انّه قال: «إنّ اللّه تصدّق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم».(٣)

٥. أخرج أبو داود، عن أُمّالدرداء، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ اللّه أنزل الداء والدواء، وجعل لكلّ داء دواء، فتَداوَوْا ولا تَداوَوْا بحرام.(٤)

٦. أخرج الترمذي، عن أُم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا أُخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، فانّ فساد ذات البين هي الحالقة.(٥)

____________________

١ سنن النسائي: ٧/٢٧٩، باب بيع الذهب بالذهب.

٢ أخرجه غير واحد من أصحاب الصحاح والسنن.

٣ مسند أحمد: ٦/٤٤١.

٤ سنن أبي داود: ٤/٧ برقم ٣٨٧٤.

٥ سنن الترمذي: ٤ /٦٦٣ برقم ٢٥٠٩، ورواه أبو داود في سننه: ٤/٢٨٠ برقم ٤٩١٩ مع تفاوت يسير.

١٣٤

وما رواه أبو الدرداء قد رواه الاِمام أمير الموَمنين عليعليه‌السلام ، وقد ذكر في وصية لولديه الحسن والحسينعليهما‌السلام :« وصلاح ذات بينكم، فإنّي قد سمعت جدكماصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول إصلاح ذات البين أفضل من عامَّة الصَّلاةو الصِّيام».(١)

٧. أخرج أبو داود في سننه، عن عبد اللّه بن أبي زكريا، عن أبي الدرداء، قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فاحسنوا أسماءكم.(٢)

٨. أخرج أبو داود في سننه، عن بلال بن أبي الدرداء، عن أبي الدرداء، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال: «حبك الشيء يُعمي ويُصم».(٣)

ويوَيده قوله سبحانه:( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالاََخْسَرِينَ أَعْمالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) ( الكهف/١٠٣- ١٠٤).

وقال سبحانه:( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ) (فاطر/٨).

٩. أخرج الترمذي في سننه، عن أُم الدرداء، عن أبي الدرداء، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال: من ردَّ عن عرض أخيه، ردَّ اللّه عن وجهه النّار يوم القيامة.(٤)

١٠. أخرج أحمد في مسنده، عن عبد اللّه بن عبيد بن عمير، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :من سمع من رجل حديثاً لا يشتهي أن يذكر عنه، فهو أمانة وإن لم يستكتمه.(٥)

ما نقلناه شيء من روائع أحاديثه استعرضناها كنماذج لما لم نأت به، وفي الوقت نفسه عزيت إليه روايات لا تدعمها الضوابط السالفة الذكر، ونشير إلى

____________________

١ نهج البلاغة، قسم الرسائل، برقم ٤٧.

٢ سنن أبي داود: ٤/٢٨٧ برقم ٤٩٤٨.

٣ سنن أبي داود: ٤/٣٣٤ برقم ٥١٣٠.

٤ سنن الترمذي: ٤/٣٢٧ برقم ١٩٣١.

٥ مسند أحمد: ٦/٤٤٥.

١٣٥

بعضها:

١. عدم منازعة ولاة الاَمر

أخرج البخاري في الاَدب المفرد، عن أُم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: أوصاني رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتسع :لا تشرك باللّه شيئاً وإن قُطِّعت أو حُرِّقت، ولا تتركنَّ الصلاة المكتوبة متعمداً، ومن تركها متعمداً برئت منه الذمة، ولا تشربنّ الخمر فانّها مفتاح كلّ شر، وأطع والديك وإن أمراك أن تخرج من دنياك فاخرج لهما، ولا تُنازعنَّ ولاة الاَمر(١)

أقول: لا شكّ انّ التوحيد هو الاَصل الموحد في الشرائع السماوية ولكن يجوز الاظهار بالشرك عند التقية حفاظاً على النفس والنفيس عند الاضطرار، قال سبحانه:( إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالاِيمان ) (النحل/١٠٦) وقال سبحانه:( إِلاّأَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) (آل عمران/٢٨).

وليست هذه الفقرات من الوصية شيئاً يختص بأبي الدرداء، بل هو المخاطب ولكن المضمون يرجع إلى قاطبة المسلمين، ومن الواضح جواز التظاهر بالشرك لغايات نبيلة، وقضية عمار في ذلك معروفة، فما معنى قوله: «لا تشرك باللّه شيئاً وإن قُطّعت أوحُرّقت».

وتصور انّ المراد هو الاِشراك القلبي (بأنّه لا يجوز وإن قطع أو حرق)، فهو غير تام، لاَنّ الاَمر القلبي لا يخضع للاِكراه حتى يتعلق به النهي، بل يتعلق الاِكراه ثم النهي، بالاَمر الظاهري وقد عرفت انّ التظاهر بالشرك جائز لغاية مهمة.

____________________

١ البخاري: الاَدب المفرد، ص ٢٣ برقم ١٨؛ ورواه ابن ماجة في سننه :٢/١١٩ برقم ٣٣٧١، وقد اكتفى بالنهي عن شرب الخمر ،كما رواه في موضع آخر: ٢/١٣٣٩ برقم ٤٠٣٤، وليس فيه قوله: «ولا تنازعنّ ولاة الاَمر» «ولا اطاعة الوالدين».

١٣٦

وفي الرواية فقرة أُخرى وهي قوله: « لا تنازعنّ ولاة الاَمر» فما هو المراد؟ فهل المراد هم ولاة الاَمر العدول، فالنزاع معهم خروج عليهم وهو أمر محرم.

أو المراد ولاة الاَمر الجائرون، فالخروج عليهم جائز أو واجب حسب درجات ما يترتب على ولايتهم من المفاسد، فمنازعتهم من باب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على المسلم إذا كان جامعاً للشرائط، وقد حكى السبط الشهيد الحسين بن عليعليهما‌السلام عن جدّه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرُم اللّه، ناكثاً لعهد اللّه، مخالفاً لسنة رسول اللّه، يعمل في عباد اللّه بالاِثم والعدوان، فلم يعيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على اللّه أن يدخله مدخله.(١)

وحصيلة الكلام انّ ما أوصى به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبا الدرداء، وصية لعامة المسلمين وتوافق روح الاِسلام و أُصوله إلاّالفقرتين الاَخيرتين ، الا َولى: «وإن قطعت وحرقت» ، والثانية: «لا تنازعنّ ولاة الاَمر».

٢. إبليس يواجه النبي بشهاب من نار

أخرج مسلم عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي الدرداء، قال: قام رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسمعناه، يقول: أعوذ باللّه منك، ثمّ قال: ألعنك بلعنة اللّه ثلاثاً، وبسط يده كأنّه يتناول شيئاً، فلمّا فرغ من الصلاة، قلنا: يا رسول اللّه قد سمعناك تقول في الصلاة شيئاً لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك؟ قال : إنّ عدوّ اللّه إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي، فقلت: أعوذ باللّه منك ثلاث مرّات، ثم قلت: ألعنك بلعنة اللّه التامة، فلم يستأخر ثلاث مرّات، ثمّ أردت أخذه، واللّه لولا دعوة أخينا سليمان لاَصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة.(٢)

____________________

١ تاريخ الطبري: ٤/٣٠٤ حوادث سنة ٦١.

٢ صحيح مسلم:٢/٧٣، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة.

١٣٧

وثمة تساوَلات حول الرواية؟

الاُولى: انّ ما رواه أبو الدرداء هو نفس ما رواه أبو سعيد الخدري عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين الروايتين اختلاف شاسع، وسنذكر الرواية عند دراسة ما عزيت إليه من الروايات تحت عنوان سلطان إبليس على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

روى أبو سعيد الخدري انّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام فصلى صلاة الصبح وهو خلفه، فقرأ فالتبست عليه القراءة، فلمّا فرغ من صلاته، قال: لو رأيتموني وإبليس، فأهويت بيدي، فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين اصبعي هاتين: الابهام والتي تليها، ولولا دعوة أخي سليمان لاَصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة، فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل.(١)

وأنت ترى انّ الرواة تصرّفوا في الرواية فقد نقلوها بصورتين مختلفين جداً. بل بصور مختلفة، فقد رواها مسلم عن أبي هريرة بوجه يخالف كلتا الصورتين كما سيوافيك في ترجمته، كلّ ذلك يسلب الاعتماد على تلك المروّيات، وتصوّر تعدّد الواقعة بعيد جداً.

الثانية: انّ غاية ما يثبته القرآن لاِبليس هو سلطان الوسوسة وهو في حقّ غير عباده الصالحين، قال سبحانه:( إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) (النحل/٩٩).

ثمّ ليس له سلطان على بني آدم بالضرب والاِحراق فضلاً عن أن يكون له سلطان على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجعل شهاب من نار على وجهه.

الثالثة: انّ قوله : «أردت أخذه» يعرب عن كون الشيطان موجوداً عنصرياً قابلاً للاَخذ، ومثله لا يمكن أن يوسوس في صدور العالمين في زمان واحد.

____________________

١ مسند أحمد: ٣/٨٢.

١٣٨

الرابعة: انّه سبحانه يصرح بأنّ إبليس يرى الاِنسان وهو لا يراه، قال:( إنّهُ َيراكُمْ هُوَ وقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَروْنَهُمْ ) (الاَعراف/٢٧) ، فما معنى قوله: «ولولا دعوة أخينا سليمان لاَصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة» فانّ اللعب فرع الروَية.

الخامسة: يظهر من ذيل الرواية انّ سليمان أكثر قدرة من نبينا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يكن لاِبليس أي سلطان على سليمان «عليه‌السلام » بل كان مسخراً له، بخلاف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث كان بصدد وضع شهاب من نار في وجهه.

٣. الفراغ من التقدير

أخرج أحمد عن أبي إدريس، عن أبي الدرداء، قالوا: يا رسول اللّه : أرأيت ما نعمل أمر قد فرغ منه، أم أمر نستأنفه قال، قال: بل أمر قد فرغ منه، قالوا: فكيف بالعمل يا رسول اللّه؟ قال: كل امرىَ مهيّأ لما خلق له.(١)

وأخرج أيضاً عن أُم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول اللّه «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » :

إنّ اللّه عزّ وجلّ فرغ إلى كلِّ عبد، من خلقه، من خمس: من أجله، وعمله، ومضجعه، وأثره، ورزقه.(٢)

وفي رواية إسماعيل عن أُمّ الدرداء، عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: فرغ اللّه إلى كلِّ عبد من خمس: من أجله، ورزقه، وأثره، وشقيٍّ أم سعيد.(٣)

أقول: الفراغ من الاَمر يهدف إلى أنّ الاِنسان مسيَّر في حياته وليس بمخيّ-ر، وكلّ إنسان خلق لغاية خاصة أمّا النار أو الجنّة فهو مهيّأ لما خلق له، فلما كانت تلك الفكرة على طرف النقيض من بعثة الاَنبياء وإصلاح المصلحين عاد

____________________

١ مسند أحمد: ٦/٤٤١.

٢ مسند أحمد: ٥/١٩٧.

٣ مسند أحمد: ٥/١٩٧.

١٣٩

الحاضرون في مجلس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالوا : إذا كان هناك فراغ من العمل فما معنى العمل، فأُجيبوا بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّامرىَ مهيأ لما خلق له، ومن المعلوم انّالجواب لا يقلع الاِشكال، فإنّ تهيئة كلّإنسان لما خلق عبارة أُخرى عن الجبر لا الاختيار، فالكافر زُوِّد بأسباب توصله إلى النار فقط، والموَمن جهّز بأسباب أُخرى توصله إلى الجنة.

إنّ القول بالفراغ يضاد قوله سبحانه:( يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتاب ) (الرعد/٣٩) كما ينافي قوله سبحانه:( وَلَو أَنَّ أَهْلَ القُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالاَرْض وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) (الاَعراف/٩٦).

إنّ القول بالفراغ يبعث الخيبة والحرمان لدى عامة الناس لاَنّه إذا كان الاَمر قد فرغ منه، فنحن على كلّحال إمّا إلى الجنة أو إلى النار، فما فائدة القيام بالطاعة والانتهاء عن المعصية.

وقد كافح أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام تلك الفكرة بطرح البداء وانّ اللّه سبحانه يمحو ما يشاء و يثبت وليس للاِنسان مصير واحد قطعي لا يتبدل ولا يتغير وإن كان علمه سبحانه لا يتبدل ولا يتغير.

وقد ألمح إليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غير واحد من الروايات التي رواها جلال الدين السيوطي في تفسير قوله:( يَمْحُوا اللّه ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ) و من أراد التفصيل فليرجع إليه(١)

وبذلك يعلم انّ ما أخرجه أحمد عن أبي الدرداء أيضاً لا يقل في الوهن عمّا نقلناه عنه.

أخرج أحمد عن أبي إدريس، عن أبي الدرداء عن النبيقال:خلق اللّه آدم حين خلقه، فضرب كتفه اليمنى، فأخرج ذرِّية بيضاء كأنّهم الدّرّ، وضرب كتفه

____________________

١ السيوطي: الدر المنثور: ٥/تفسير سورة الرعد: الآية ٣٩.

١٤٠