الحديث النبوي بين الرواية والدراية

الحديث النبوي بين الرواية والدراية0%

الحديث النبوي بين الرواية والدراية مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 676

الحديث النبوي بين الرواية والدراية

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 676
المشاهدات: 85416
تحميل: 5984

توضيحات:

الحديث النبوي بين الرواية والدراية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 676 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85416 / تحميل: 5984
الحجم الحجم الحجم
الحديث النبوي بين الرواية والدراية

الحديث النبوي بين الرواية والدراية

مؤلف:
العربية

الحديث النبوي بين الرواية والدراية

دراسة موضوعية منهجية لأحاديث

أربعين صحابياً

على ضوء

الكتاب، السنّة، العقل، اتفاق

الأمّة، والتاريخ

العلامة المحقّق

جعفر السبحاني

١

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنينعليهما‌السلام للتراث والفكر الإسلامي

بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى

قريبة إنشاء الله تعالى.

٢

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه الذي تواترت نعماوَه، واستفاضت آلاوَه، والصلاة والسّلام على سيّد المرسلين، وخاتم النبيّين محمّد وآله الطيّبين الطاهرين، صلاة موصولة، لا مقطوعة، إلى يوم الدين.

إنّ السنّة النبوية هي المصدر الثاني للعقيدة والشريعة، ولذلك عكف المسلمون على جمع ما روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قول أو فعل أو تقرير بنحو لا مثيل له في الاُمم السابقة، وقد استأثرت السنّة بأهمية بالغة عند المسلمين، حدت بهم إلى تأسيس علوم بُغية فهم كتاب اللّه وسنة نبيّه. هذا من جانب.

ومن جانب آخر قد دسّ فيها أحاديث كثيرة مكذوبة وموضوعة من قبل أصحاب الاَهواء ورجال العيث والفساد.

وقد صار ما ذكرنا سبباً لوضع ضوابط لتمييز الصحيح منها عن السقيم، وألّف الباحثون في ذلك المضمار مصنفات عديدة أثْرت المكتبة الاِسلامية. شكر اللّه مساعيهم الجميلة.

وقد نهجوا سبيل النقاش في مسانيد الحديث ورجاله، وخرجوا بنتائج باهرة، ففرزوا الموضوعات والمندسّات عن غيرهما، وصار التوفيق حليفاً لهم إلى حدّ.

٥

ولكن ثمة طريق آخر فاتهم سلوكه، وهو عرض مفاد الحديث ومضمونه على ضوابط رصينة حتى يتميز بها الحق من الباطل والصحيح عن الزائف، وهذه الضوابط عبارة عن الاَمور التالية:

١. الكتاب العزيز.

٢. السنّة المتواترة أو المستفيضة.

٣. العقل الحصيف.

٤. ما اتفق عليه المسلمون.

٥. التاريخ الصحيح.

فيعرض الحديث على هذه الضوابط التي لا يستريب فيها أي مسلم واع، فإذا لم يخالفها نأخذ به إذا كان جامعاً لسائر الشرائط(١) وإذا خالفها نطرحه وإن كان سنده نقياً.

هذا هوالمقياس لتمييز الصحيح عن السقيم، وإن كان الاِمعان في الاَسانيد أيضاً طريقاً آخر لنيل تلك الغاية.

ولكن المحدّثين سلكوا النهج الاَوّل دون الثاني.

ونحن بفضل اللّه سبحانه و تعالى نسلك الطريق الثاني، ونتناول بالبحث روايات أربعين صحابياً على ضوء الضوابط السابقة، ليكون نموذجاً لما اخترناه بغية فتح الباب على مصراعيه في وجه الآخرين.

نعم نختار من كلّ صحابي قسماً من رواياته لا كلّها، كما نذكر قسماً من روائع رواياته التي رويت عنه.

____________________

١ نعم يكفي في حجية الحديث كونه غير مخالف للا َ مور القطعية ، كما سيوافيك بيانه.

٦

وثمة نكتة جديرة بالاِشارة، وهي انّه لانحمِّل سُقم الروايات على عاتق الصحابي الذي رويت عنه أو التابعي الذي روى عنه، بل نركز على أنّالرواية سقيمة، وأمّا من تولّى كِبْره فهو أمر غير مطروح في هذا المقام إلاّ في موارد خاصّة.

وفي خاتمة المطاف أودُّ أن أُشير إلى أنّنا راعينا - في دراسة سيرة الصحابة والاَحاديث التي نقلت عنهم - ترتيب أسمائهم حسب وفياتهم.

وحيث إنّ طائفة كبيرة من الاَحاديث الضعيفة أو الموضوعة رُويت عن غير واحد منهم، فقد أوجب ذلك تكراراً في دراسة بعض الروايات، نظير:

نزوله سبحانه إلى السماء الدنيا، الشوَم في المرأة، بول النبي قائماً، سلطان إبليس على النبي في حال صلاته، طواف النبي على نسائه في ليلة و احدة، وضع الربّ رجله في نار جهنم، أو انّه سبحانه ليس بأعور، إلى غير ذلك من الاَحاديث. ولذلك بسطنا الكلام في كلٍّ منها عند ترجمة واحد منهم، وأوجزنا الكلام عند ترجمة الآخرين.

ولا ندّعي انّنا استوفينا البحث في أكثر الروايات الموضوعة، فضلاً عن جميعها، وانّما قدّمنا للقارىَ الكريم أنموذجاً من تلك الروايات التي عزيت إلى أربعين صحابياً، عسى أن تكون فاتحة خير لمساهمات لاحقة من قبل الباحثين في هذا المضمار.

ولنذكر قبل الدخول في المقصود عدة أُمور تمهّد السبيل لفهم ما نصبو إليه. واللّه من وراء القصد.

جعفر السبحاني

٧

٨

١- مكانة السنّة النبوية

السنّة في اللّغة الطريقة، وفي الاصطلاح ما صدر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من: قول أو فعل أو تقرير. وهي الحجّة الثانية بعد الكتاب العزيز، سواء أكان منقولاً باللفظ أم منقولاً بالمعنى، وقد خصّ اللّه بها المسلمين دون سائر الاَمم، واهتمّ المسلمون بنقل ما أُثر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتحرّوا في نقله الدقة، وكفى في كونها من مصادر العقيدة والتشريع قوله سبحانه:( وَما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى* إِنْ هُوَ إِلاّوَحْيٌ يُوحى ) (النجم/٣ - ٤) والآية وإن كانت ناظرة إلى الوحي القرآني لكن قوله:( وَما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى ) غير قابل للتخصيص، فهي قاعدة كلية في كلّ ما يصدر منه ويصدق عليه أنّه مما نطق به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال سبحانه:( وَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعلّمَكَ ما لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) (النساء/١١٣) والمراد من الفضل العظيم، الذي أُشير إليه في ذيل الآية هو علم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشهادة قوله:( وَعلَّمك ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَم ) .

إلى غير ذلك من الآيات التي تبعث المسلمين إلى اقتفاء أثر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٩

، مثل قوله سبحانه:( ما آتاكُمُ الرَّسُوُل فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (الحشر/٧) بناء على أنّ المراد من قوله (آتاكُم) - بقرينة (ما نَهاكُمْ عنه)- خلاف «ما نهاكم»، لا ما آتاكم من الغنائم.

إنّ السنّة هي المبيِّنة للقرآن الكريم، قال سبحانه:( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون ) (النحل/٤٤).

اتفقت الاُمّة الاِسلامية على أنّ السنّة الشريفة هي المصدر الثاني بعد الكتاب، بل ذهب أئمة أهل البيتعليهم‌السلام إلى أنّ جميع ما يحتاج إليه الناس موجود في الكتاب والسنّة.

قال الاِمام الباقرعليه‌السلام : «إنّ اللّه تبارك و تعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الاُمّة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله وجعل لكلّ شيء حدّاً، وجعل عليه دليلاً ، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّاً».(١)

وقال الاِمام الصادقعليه‌السلام : «ما من شيء إلاّ فيه كتاب أو سنّة».(٢)

إنّ السنّة النبوية تكون تارة ناظرة إلى القرآن الكريم فتُبيّن مجملاته كالزكاة والصلاة والصوم، أو تخصص عموماته، أو تقيّد مطلقاته، وأُخرى تكون ناظرة إلى بيان العقيدة والشريعة فحسب، وفي كلا القسمين تكون الصياغة والتعبير للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن المحتوى والمضمون وحي من اللّه سبحانه ولذلك تُعدُّ السنّة عِدْلاً للقرآن الكريم، فالصلاة والزكاة والصوم والحجّ أُمور توقيفيّة لا تُعْلم إلاّ من قبل الرسولص، فهو المبيِّن لحقائقها، وشروطها وموانعها، وقد صلّ-ىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال: «صلّوا كما رأيتموني أُصلّي» وبذلك رفع الاِجمال عن ماهية الصلاة المأمور بها، ومثلها باب الزكاة والحجّ وغيرها من أبواب الفقه.

____________________

١ الكليني: الكافي: ١/٩٥، باب الرد إلى الكتاب والسنّة، الحديث ٢و٤.

٢ الكليني: الكافي: ١/٩٥، باب الرد إلى الكتاب والسنّة، الحديث ٢و٤.

١٠

فالسنّة النبوية هي المصدر الاَصيل - كالقرآن - للتشريع ولا غنى لفقيه أو محدّث عنها، و من قال«حسبنا كتاب اللّه» فإنّما قاله بلسانه وأنكره بجنانه، إذ هو يعلم انّ كتاب اللّه وحده غير وافٍ بالتشريع، وقد أكد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تفنيد هذه المزعمة بقوله في حديث الاَريكة الذي رواها أصحاب الصحاح والمسانيد بصور مختلفة.

أخرج ابن ماجة بسنده عن المقدام أنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: يوشك الرجل متّكئاً على أريكته، يحدِّث بحديث من حديثي ، فيقول: بيننا وبينكم كتاب اللّه عزّوجلّ، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه،وما وجدنا فيه من حرام حرّمناه.

ألا، وإنّ ما حرّم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل ما حرّم اللّه».(١)

وقال ابن حزم: لو انّ امرأً قال: لا نأخذ إلاّ ما وجدنا في القرآن لكان كافراً بإجماع الاُمّة وقائل هذا: كافر مشرك حلال الدم والمال.(٢)

إلى غير ذلك من الكلمات التي أغنانا عن نقلها وضوح الموضوع واتفاق المسلمين عليه و إنّما اللازم طرح سائر ما يمتُّ إلى السنّة النبوية بصلة.

____________________

١ سنن ابن ماجة:١/٦ برقم ١٢، باب تعظيم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتغليظ على من عارضه؛ مسند أحمد:٤/١٣١؛ و سنن أبي داود:٤/٢٠٠ برقم ٤٦٠٤، باب في لزوم السنة، وفيه مكان «الرجل»: «رجل شبعان» ؛ و سنن الترمذي: ٥/٣٧ برقم ٢٦٦٣، الباب ١٠؛ إلى غير ذلك.

٢ الاحكام في أُصول الاحكام:١/٢٠٨.

١١

٢- اهتمام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتدوين الحديث

قد اشتهر بين المحدّثين أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن تدوين الحديث وكتابته لعلل سيوافيك شرحها وتحليلها. ولكن الشهرة في غير محلّها، وقد قيل: كم شهرة لا أصل لها، بل الصحيح هو انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر في غير مرّة بتدوين حديثه وكتابته، وإليك نماذج منها:

١. ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة انّخزاعة قتلوا رجلاً من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه، فأخبر بذلك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فركب راحلته فخطب، فقال: إنّ اللّه حبس عن مكة القتل أو الفيل(شك أبو عبد اللّه) وسلّط عليهم رسول اللّهوالموَمنين، ألا وانّها لم تحلّ لاَحد قبلي ولم تحلّ لاَحد بعدي - إلى أن قال - : فجاء رجل من أهل اليمن.

فقال: اكتب لي يا رسول اللّه، فقال: اكتبوا لاَبي فلان - إلى أن قال: - كتب له هذه الخطبة.(١)

٢. أخرج البخاري باسناده عن وهب بن منبه عن أخيه قال: سمعت أبا هريرة، يقول: ما من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد أكثر حديثاً عنه مني إلاّ ما كان من عبد اللّه بن عمرو فانّه كان يكتب ولا أكتب.(٢)

____________________

١ صحيح البخاري: ١/٢٩-٣٠، باب كتابة العلم، الحديث ١١٢.

٢ المصدر نفسه: ١/٣٠، باب كتابة العلم، الحديث ١١٣.

١٢

٣. ما أخرجه البخاري عن عبيد اللّه بن عبد اللّه، عن ابن عباس، قال:

لمّا اشتدّ بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعه، قال: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده».

قال عمر: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غلبه الوجع وعندنا كتاب اللّه حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط، قال: قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع.

فخرج ابن عباس، يقول: إنّ الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بين رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين كتابه.(١)

٤. أخرج أبو داود في سننه عن عبد اللّه بن عمرو، قال: كنت أكتب كلّ شيء أسمعه من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُريد حفظه فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كلّ شيء تسمعه ورسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشر يتكلم في الغضب و الرضا؟ فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأومأ باصبعه إلى فيه، وقال: «اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلاّ حقّ».(٢)

٥. أخرج الترمذي في سننه عن أبي هريرة، قال: كان رجل من الاَنصار يجلس إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيسمع من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحديث فيعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى النبي ،فقال:يا رسول اللّه إنّي أسمع منك الحديث فيعجبني و لا أحفظه، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «استعن بيمينك» وأومأ بيده للخط.(٣)

٦. أخرج الخطيب البغدادي عن رافع بن خديج، قال: مرّ علينا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً، ونحن نتحدث، فقال: «ما تحدّثون؟».

____________________

١ صحيح البخاري: ١/٣٠، باب كتابة العلم.

٢ سنن أبي داود:٣/٣١٨ برقم ٣٦٤٦، باب في كتاب العلم؛ ومسند أحمد:٢/١٦٢؛ سنن الدارمي : ١/١٢٥، باب من رخّص في كتابة العلم.

٣ سنن الترمذي: ٥/٣٩ برقم ٢٦٦٦.

١٣

فقلنا: نتحدث عنك يا رسول اللّه.

قال: «تحدّثوا، وليتبوّأ من كذّب عليّ مقعداً من جهنم».

ومضىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحاجته، ونكس القوم روَوسهم...، فقال: «ما شأنكم؟ ألا تحدّثون؟».

قالوا: الذي سمعنا منك، يا رسول اللّه.

قال: «إنّي لم أرد ذلك، إنّما أردت من تعمد ذلك»، قال:فتحدثنا.

قال: قلت: يا رسول اللّه، إنّا نسمع منك أشياء، فنكتبها.

قال: «اكتبوا ولا حرج».(١)

ثمّ إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعرب عن موقفه حيال كتابة الحديث بفعله حيث كتب إلى عمّاله وغيرهم كُتباً تتعلق بالاُمور الدينية، وقد حفظها التاريخ في طياته وإليك الاِشارة إلى بعضها:

١. كتابه إلى عمرو بن حزم الاَنصاري عامله على اليمن.(٢)

٢. كتابه إلى وائل بن حجر الحضرمي وقومه في حضرموت.(٣)

٣. كتاب في الزكاة والديات وكان عند أبي بكر.(٤)

إلى غير ذلك من الكتب المتعلقة بالاُمور الدينية، مضافاً إلى كتاباته ومواثيقه وعهوده مع شيوخ القبائل كما سيوافيك بيانها.

ولعلّ هذا المقدار يفي بإثبات الاَهمية التي أولاها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكتابة حديثه.

____________________

١ تقييد العلم: ٧٢ و٧٣.

٢ دلائل النبوة للبيهقي:٥/٤١٣.

٣ طبقات ابن سعد: ١/٢٨٧.

٤ صحيح البخاري كما في فتح الباري: ٣/٣١٧ وفيه: انّ أبا بكر كتب له (لاَنس) هذا الكتاب لما وجّهه إلى البحرين: «بسم اللّه الرّحمن الرّحيم هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول اللّه على المسلمين...»والظاهر انّ الكتاب كان للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد احتفظ به أبو بكر، فكتب عنه عندما بعث أنس بن مالك إلى البحرين.

١٤

وقد قام لفيف من الصحابة بكتابة الحديث في عهدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده، نشير إلى طائفة منهم:

١. أنس بن مالك.

روى يزيد الرقاشي، قال: كنّا إذا أكثرنا على أنس بن مالك القى إلينا بمخلاة أو أتانا بمخال، فألقاها إلينا، وقال: هذه أحاديث كتبتها عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو سمعتها من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتبتها وعرضتها.(١)

٢. جابر بن عبد اللّه الاَنصاري، له صحيفة مشهورة ذكرها ابن سعد.(٢)

وقد أورد مسلم شيئاً من تلك الصحيفة في كتاب الحج من صحيحه.(٣)

٣. معاذ بن جبل كان لديه كتاب يحتوى على أحاديث.(٤)

٤. حنظلة بن ربيع الكاتب.

قال الشيخ الطوسي: روى كتاباً للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥)

٥. أبو رافع المدني، كان يملي على ابن عباس الحديث فيكتبه(٦) وهو مصنف كتاب السنن والاَحكام والقضايا.(٧)

إلى غير هوَلاء من الشخصيات الاِسلامية المعدودة من الصحابة، فقد كتبوا كتباً ودوّنوا صحفاً واحتفظوا بها في عهد الرسولوبعده، وإن كانت تلك الصحف صحفاً غير مرتبة ولا منظمة، بل كانت أشبه بالمسانيد.

هذا كلّه من طرق أهل السنّة.

____________________

١ محاسن الاصطلاح: ٢٩٧، كما في تدوين السنة الشريفة: ٢١٠.

٢ الطبقات الكبرى:٥/٤٦٧.

٣ صحيح مسلم: ٤/٣٨-٤٣ باب حجّة النبي من كتاب الحجّ.

٤ حلية الاَولياء:١/٢٤٠.

٥ الفهرست: ٩١.

٦ تقييد العلم: ٩١-٩٢.

٧ رجال النجاشي: ٢.

١٥

وأمّا ما روي عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، فحدث عنه ولا حرج، فقد دلت الاَخبار على أنّ عليّاً كان من السبّاقين في تدوين السنّة النبوية في عصرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد كتب ما أملاه عليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صحيفة عرفت بكتاب عليعليه‌السلام تارة، وبالجامعة أُخرى، وقد ورث هذه الصحيفة أبناوَه واحد تلو الآخر وكانوا يعتمدون عليها ويُفتون على ضوء ما يجدون فيها، وإليك بعض ما أثر عنهمعليهم‌السلام :

١. قال الاِمام الباقرعليه‌السلام لاَحد أصحابه - أعني حُمران بن أعين - وهو يشير إلى بيت كبير: «يا حمران إنّ في هذا البيت صحيفة طولها سبعون ذراعاً بخطّ عليعليه‌السلام وإملاء رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لو وُلّينا الناس لحكمنا بما أنزل اللّه لن نعدو ما فيها».

٢. قال الاِمام أبو جعفر الباقرعليه‌السلام لبعض أصحابه: «يا جابر إنّا لو كنّا نحدّثكم برأينا لكنّا من الهالكين، ولكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

٣. قال الاِمام الصادقعليه‌السلام عند ما سئل عن الجامعة: «فيها كلّما يحتاج الناس إليه، وليس من قضية إلاّفيها حتى أرش الخدش».

٤. وقال الاِمام الصادقعليه‌السلام أيضاً، وهو يعرف كتاب علىٍّ: «طوله سبعون ذراعاً، إملاء رسول اللّه من فلق فيه، وخطّ علي بن أبي طالب «عليه‌السلام » بيده، فيه واللّه جميع ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة، حتى أنّ فيه أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة.

٥. ويقول سليمان بن خالد: سمعت أبا عبد اللّهعليه‌السلام ، يقول: «إنّ عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعاً إملاء رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخطّ عليّعليه‌السلام بيده، ما من حلال ولا حرام إلاّ وهو فيها حتى أرش الخدش».(١)

____________________

١ وقد جمع العلاّمة المجلسي ما ورد من الاَثر حول صحيفة الاِمام عليّعليه‌السلام في موسوعته بحار الاَنوار:٢٦/١٨-٦٦، تحت عنوان باب «جهات علومهم وما عندهم من الكتب»، فلاحظ الحديث ١٢، ١، ١٠، ٣٠.

١٦

٣- المنع الشرعي عن كتابة الحديث؟!

قد تجلّت الحقيقة بأجلى مظاهرها وظهر مما تقدم أنّ الرسول أولى عناية فائقة بكتابة الحديث وقام بكتابته عن طريق كُتّابه، وتبعه لفيف من أصحابه فألّفوا صحائف ورسائل في حديثهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كانت مختصرة وغير منظمة، لكنّها شكلت اللبنات الا َُولى لتدوين الحديث في القرن الثاني.

وربما يُتَخيل انّه كان هناك منع شرعي عن كتابة الحديث استناداً إلى الاَحاديث التالية:

حديث أبي سعيد الخدري

١. أخرج أحمد، عن همام بن يحيى، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن، ومن كتب شيئاً سوى القرآن فليمحه».(١)

٢. وأخرج أيضاً بهذا السند عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تكتبوا عني شيئاً، فمن كتب عني شيئاً فليمحه».(٢)

وقد رواه الخطيب بصور مختلفة(٣) كلّها تنتهي إلى زيد بن أسلم، عن

____________________

١ مسند أحمد: ٣/١٢ ولاحظ تقييد العلم: ٢٩و ٣٠.

٢ مسند أحمد: ٣/١٢ ولاحظ تقييد العلم: ٢٩و ٣٠.

٣ تقييد العلم:٢٩.

١٧

عطاء ابن يسار، عن أبي سعيد الخدري. وهو يكشف عن أنّ الحديث مضطرب المتن لوجود الاختلاف في مضامينه وصوره.

وقد اقتصرنا على الصورتين الماضيتين اللّتين رواهما أحمد في مسنده.

ولا يُحتج بمثل هذا الحديث في مقابل الاَحاديث السابقة الدالة على رجحان الكتابة، مضافاً إلى ما رواه الذهبي في حقّ «زيد بن أسلم» قال: روي عن حماد بن زيد، قال: قدمت المدينة وهم يتكلّمون في زيد بن أسلم، فقال لي عبيد اللّه بن عمر: ما نعلم به بأساً إلاّ أنّه يفسّر القرآن برأيه.(١)

٣. وهناك حديث آخر لاَبي سعيد، أخرجه الخطيب عن سفيان بن عيينة، عن عبد الرحمان بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، قال: استأذنت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أكتب الحديث، فأبى أن يأذن لي.(٢)

والحديث ضعيف بعبد الرحمان.

قال يحيى بن معين: بنو زيد بن أسلم ليسوا بشيء.

وروى عثمان الدارمي عن يحيى: ضعيف.

وقال البخاري: عبد الرحمان ضعّفه عليّ جداً.

وقال النسائي: ضعيف. إلى آخر ما ذكر.(٣)

ورواه الدارمي عن نفس زيد بن أسلم.(٤)

وقد ورد سفيان بن عيينة في جميع أسانيد الحديث الاَخير ، وهو معروف

____________________

١ ميزان الاعتدال: ٢/٩٨ برقم ٢٩٨٩.

٢ تقييد العلم:٣٢.

٣ ميزان الاعتدال: ٢/٥٦٤ برقم ٤٨٦٨.

٤ سنن الدارمي:١/١١٩، باب من لم ير كتابة الحديث.

١٨

بالتدليس. وأمارة التدليس في المقام واضحة، لاَنّه رواه تارة عن زيد بن أسلم وأُخرى عن ابنه عبد الرحمان.

حديث أبي هريرة

١. أخرج أحمد في مسنده، عن عبد الرحمان بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، قال: كنّا قعوداً نكتب ما نسمع من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخرج علينا، فقال: «ما هذا تكتبون؟».

فقلنا: ما نسمع منك، فقال: «أكتاب مع كتاب اللّه؟» فقلنا ما نسمع، فقال: «اكتبوا كتاب اللّه، امحضوا كتاب اللّه، أكتاب غير كتاب اللّه؟ امحضوا كتاب اللّه أو خلصوه»، قال: فجمعنا ما كتبنا في صعيد واحد ثمّ أحرقناه بالنار.

قلنا: أي رسول اللّه، أنتحدث عنك؟ قال: «نعم، تحدثوا عنّي ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار»، قال: فقلنا: يا رسول اللّه أنتحدث عن بني إسرائيل؟ قال: «نعم، تحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، فانّكم لا تحدّثون عنهم بشيء إلاّوقد كان فيهم أعجب منه».(١)

٢. وأخرج الخطيب، عن عبد الرحمان بن زيد بنفس السند السابق، عن أبي هريرة، قال: خرج علينا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحن نكتب الاَحاديث، فقال: «ما هذا الذي تكتبون؟».

قلنا: أحاديث سمعناها منك.

قال: «أكتاباً غيركتاب اللّه تريدون، ما أضلَّ الاُمم من قبلكم إلاّ ما اكتتبوا من الكتب مع كتاب اللّه».

____________________

١ مسند أحمد:٣/١٢.

١٩

قال أبو هريرة فقلت: أنتحدث عنك يا رسول اللّه؟

قال:« نعم تحدثوا عني ولا حرج، فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار».(١)

٣. أخرج الخطيب بنفس السند عن أبي هريرة قال: بلغ رسول اللّه «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » انّ ناساً قد كتبوا حديثه، فصعد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: ما هذه الكتب التي بلغني أنّكم قد كتبتم إنّما أنا بشر، من كان عنده منها شيء فليأت به، فجمعناها «فأخرجت»[كذاج ، فقلنا: يا رسول اللّه نتحدث عنك؟ قال: تحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمداً، فليتبوّأ مقعده من النار.(٢)

وهذه الاَحاديث المنتهية إلى أبي هريرة لا يحتج بها.

أوّلاً: لوقوع «عبد الرحمان بن زيد بن أسلم» في جميع الاَسانيد وقد عرفت حاله.

ثانياً: وجود الاختلاف في المضامين كما هو واضح عند المقارنة.

ثالثاً: تعارضها بما سبق من الروايات المتضافرة الدالة على خلافها.

حديث زيد بن ثابت

أخرج الخطيب البغدادي باسناده إلى كثير ابن زيد عن المطلب بن عبد اللّه ابن حنطب، قال: دخل زيد بن ثابت على معاوية، فسأله عن حديث، فأمر إنساناً يكتبه، فقال له زيد: إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرنا أن لا نكتب شيئاً من حديثه، فمحاه.(٣)

وقد رواه الخطيب بسندين ينتهيان إلى كثير بن زيد.

قال الذهبي: قال أبو زرعة: صدوق، فيه لين.

وقال النسائي: ضعيف.

____________________

١ تقييد العلم: ٣٣، ٣٤، ٣٥.

٢ تقييد العلم: ٣٣، ٣٤، ٣٥.

٣ تقييد العلم: ٣٣، ٣٤، ٣٥.

٢٠