الحديث النبوي بين الرواية والدراية

الحديث النبوي بين الرواية والدراية0%

الحديث النبوي بين الرواية والدراية مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 676

الحديث النبوي بين الرواية والدراية

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 676
المشاهدات: 85434
تحميل: 5984

توضيحات:

الحديث النبوي بين الرواية والدراية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 676 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85434 / تحميل: 5984
الحجم الحجم الحجم
الحديث النبوي بين الرواية والدراية

الحديث النبوي بين الرواية والدراية

مؤلف:
العربية

وثمة شكوك تحوم حول تلك الروايات:

أوّلاً: انّ الرواية الاُولى تنفي العدوى، وهي انتقال المرض من سقيم إلى سليم، فلو صحّ النفي، فلماذا يروي سعدعن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في روايته الثانية والثالثة انّه أمر بأن لا يُهبط بأرض فيها الطاعون، وإذا هُبط فيها فلا يُخرج منها ؟ فانّ ذلك صريح في الاعتراف بمبدأ العدوى.لاَنّه إذا كان في أرض ليس فيها طاعون وأُخبر بوجوده في أرض أُخرى فلا يهبط فيها خوفاً من الابتلاء، كما انّه إذا كان في أرض فيها طاعون فلا يخرج منها لئلا ينقل المرض معه إلى أرض أُخرى، وهو نفس القول بالعدوى.

وبالتالي فقد عزي إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق سعد قولين متناقضين.

ثانياً: انّ الذكر الحكيم يصف العالم بالحسن والجمال وانّه سبحانه ما خلق شيئاً إلاّ حسناً وجميلاً قال سبحانه:( رَبُّنَا الّذي أَعطَى كُلَّ شيءٍ خَلَقَهُ ثُمَّ هَدَى ) (طه/٥٠) وقال سبحانه:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدأَ خَلق الاِنْسان مِنْ طين ) (السجدة/٧) وقال سبحانه:( وَصَوّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَركُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبات ) (غافر/٦٤) فهذه الآيات تصف فعل اللّه سبحانه وكلّ ما خلقه بالجمال، فكيف يحلّ الشوَم في المرأة والفرس والدار ؟!

إنّالشوَم والطيرة إنّما هو وليد عمل الاِنسان، فهو بفعله يجعل اليوم سعداً أو نحساً، وإلاّ فاليوم هو اليوم، والشمس هي الشمس، والقمر هو القمر، يجريان بأمر اللّه سبحانه:( قالُوا إِنّا تَطَيّرنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرجُمَنَّكُمْ وَلَيَمسّنّكُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ * قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَومٌ مُسْرِفُونَ ) (يس/١٨- ١٩).

يعني: قال أصحاب القرية لرسلهم انّا تشاءمنا بكم، فوافاهم الجواب بأنّ طائركم معكم، وانّ الذي ينبغي أن تتشاءموا به هو معكم، وهو حالة اعراضكم عن الحق وإقبالكم على الباطل.

٢٨١

وعلى كلّ تقدير، فالشرّ الذي يصيب الاِنسان في داره وبعد زواجه، له سبب واقعي، لا صلة له بالدار والزوجة التي تخدم الزوج وأولاده بجدٍّ ومثابرة.

كيف يكون الشوَم في المرأة مع أنّها إحدى الثلاث التي اختارهنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الدنيا ؟ قال:

حُبّب إليَّ من الدنيا :النساء، والطيب، وجعل قرّة عيني في الصلاة.(١)

أخرج مسلم عن عبد اللّه بن عمر ، انّ رسول اللّه «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » قال: الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة.(٢)

هذا هو الاِمام أبو الحسن علي الهاديعليه‌السلام يخاطب أحد أصحابه الذي كان يقول: «كفاني اللّه شرك من يوم فما أيشمك» بقوله: ترمي بذنبك من لا ذنب له، ما ذنب الاَيام حتى صرتم تتشأمون بها إذا جُوزيتم بأعمالكم فيها، ثمّ قال: إنّ اللّه هو المثيب والمعاقب، والمجازي بالاَعمال عاجلاً وآجلاً، لا تعد ولا تجعل للاَيام صنعاً في حكم اللّه.(٣)

٥. التنديد بالشعر

أخرج مسلم، عن محمد بن سعد، عن سعد، عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ، قال: لا ََن يمتلىَ جوف أحدكم قيحاً يريه خير من أن يمتلىَ شعراً.(٤)

إنّ الشعر على نمطين:

____________________

١ مسند أحمد: ٣/١٢٨، ١٩٩، ٢٨٥.

٢ صحيح مسلم: ٤/١٨٧، باب استحباب نكاح البكر.

٣ الحراني، تحف العقول: ٤٨٢- ٤٨٣ بتلخيص.وسنوافيك عند دراسة أحاديث أبي هريرة انّ عائشة كذبت أمثال هذه الرواية ، لاحظ ص ٣٠٨.

٤ صحيح مسلم: ٧/٥٠، باب كتاب الشعر؛ سنن الترمذي: ٥/١٤١ برقم ٢٨٥٢ ؛ مسند أحمد: ١/١٧٥ وفيه (حتى يريه) بدل يريه.

٢٨٢

نمط منه لا يهدف إلاّ إلى نشر الفساد والدعارة ودعم الظلم وتوطيد أركانه إلى غير ذلك من غايات ساقطة، فصاحبه هو الذي نزل في حقّه قوله سبحانه:( وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الغاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ في كُلِّ وادٍيَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ ) (الشعراء/٢٢٤- ٢٢٦) فأصحاب هذا النوع من الشعر هم سماسرة الاَهواء يتبعون الهوى، و يبرمون أمراً، اليوم وينقضونه غداً، فليس لهم مآرب في الحياة إلاّ إشباع رغباتهم وميولهم الفاسدة.

ونمط آخر منه يهدف إلى بثّ الاَخلاق الحميدة وإنهاض الهمم، لبسط العدل ونشره، وكبح جماح الظلم، والدعوة إلى الحقّ بأُسلوب بديع، يمازج الاَرواح ويخالط الاَدمغة، فهذا النوع من الشعر بغية العالم، ومقصد الحكيم، ومأرب الاَخلاقي، وطلبة الاَديب، وأمنية العالم الاجتماعي، فأصحاب هذا النوع من الشعر هم الذين استثناهم اللّه سبحانه بقوله:( إِلاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات وَذَكَرُوا اللّهَ كَثِيراً وَانْتَصِرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) (الشعراء/٢٢٧).

إنّ التقدير الوافر لهذا النمط من الشعر وتكريم قائله عملٌ قام به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فانّه أوّل فاتح لهذا الباب على مصراعيه مدحاً وهجاءً باصاخته للشعراء المادحين له ولا َُسرته الكريمة، وكان يَنشد الشعر ويستنشده، ويجيز عليه ويرتاح له، ويكرم الشاعر مهما وجد في شعره هذه الغاية الوحيدة، كإرتياحه لشعر عمِّه شيخ الاَباطح أبي طالبعليه‌السلام لمّا استسقى فسُقي، قال: للّه درّ أبي طالب لو كان حياً لقرّت عيناه، من ينشدنا قوله؟ فقام عليعليه‌السلام قال: كأنّك أردت يا رسول اللّه قوله:

وأبيضَ يُستسقى الغمام بوجهه ربيع اليتامى عصمة للاَرامل

تلوذ به الهُلاّك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل

٢٨٣

وكإرتياحهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لشعر كعب بن زهير لما أنشده في مسجده الشريف لاميته التي مطلعها:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

متيّم إثرها لم يفد مكبول

فكساه النبي صبردة اشتراها معاوية بعد ذلك بعشرين ألف درهم، وهي التي يلبسها الخلفاء في العيدين.(١)

روى الحاكم النيسابوري: لما أنشد كعب قصيدته وبلغ قوله:

انّ الرسول لسيف يستضاء به

وصارم من سيوف اللّه مسلول

أشارصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكمه إلى الخلق ليسمعوا منه.

ويروى انّ كعباً أنشد من سيوف الهند، فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » من سيوف اللّه(٢) إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة التي قدّر فيها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشعر و الشعراء، وبذلك أثبت انّ الشعر المذموم غير الشعر الممدوح، وانّه سبحانه إنّما يذم النمط الاَوّل ولو جاء في حديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما نقله «سعد» فإنّما يرمي إلى الصنف الاَوّل وإلاّ فالشعر في العصور الاُولى كان سهماً في أكباد أعداء اللّه ، وخير دعاية إلى الاِسلام في كلّصقع وناحية، ولذلك كان أئمّة الدين يبذلون من مال اللّه للشعراء ما يغنيهم عن التكسب والاشتغال بغير هذه المهنة.

ولما نصب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياًعليه‌السلام للخلافة والاِمامة يوم الغدير استجاز حسان ابن ثابت أن يصبّ كلامه في قالب الشعر، فلما قرأ على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تزال يا حسّان موَيّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك.(٣)

____________________

١ الشعر والشعراء، ابن قتيبة، ص ٦٢ كما في الغدير: ٢/٤.

٢ مستدرك الحاكم:٣/٥٨٢.

٣ الفصول المختارة: ٢٣٦.

٢٨٤

٦. لم يسلم أحد قبل سعد

أخرج البخاري في باب مناقب سعد، قال: عن سعيد بن المسيب يقول: سمعت سعد بن أبي وقاص قال: ما أسلم أحد إلاّ في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام وإنّي لثُلُثُ الاِسلام.(١)

إنّ معنى الرواية كما ذكره ابن حجر هو انّه لم يسلم أحد قبله، ولما وقف ابن حجر على بطلانه، عاد يوَوِّل المرويّ عن سعد، ويقول: والسبب فيه انّ من كان أسلم في ابتداء الاَمر كان يخفي إسلامه، ثمّ أوضح معنى قوله وانّي لثلث الاِسلام بأنّه أراد بالاثنين الآخرين خديجة وأبا بكر، أو النبي وأبا بكر وقد كانت خديجة أسلمت قطعاً ولعلّه خصَّ الرجال.

وعلى أيّة حال فلم يكن سعد أوّل من أسلم لا خفاءً ولا علانية، وقد تضافرت الروايات على أنّ أوّل من أسلم هو علي بن أبي طالب، و إليك بعض ما أثر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الصدد.

١. أخرج الحاكم في مستدركه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال: أوّلكم وارداً - وروداً - على الحوض أوّلكم إسلاماً علي بن أبي طالب.(٢)

كيف يكون هو أوّل من أسلم مع أنّ حديث بدء الدعوة يشهد بوضوح انّعليّاًعليه‌السلام هو أوّل من أسلم.

روى الطبري في تاريخه: انّه لما نزل قوله سبحانه:( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَقْرَبينَ ) دعا النبي عليّاًعليه‌السلام فقال له : يا علي إنّاللّه أمرني أن أنذر عشيرتي الاَقربين، إلى أن قال: فلما جاء القوم خاطبهم بقوله: يا بني عبد المطلب

____________________

١ صحيح البخاري: ٥/٢٢، باب مناقب سعد.

٢ الحاكم، المستدرك: ٣/١٣٦ وصححه تاريخ بغداد: ٢/٨١.

٢٨٥

إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللّه أن أدعوكم إليه، فأيّكم يوَازرني على هذا الاَمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ فأحجم القوم عنها جميعاً، فقام عليعليه‌السلام ، وقال: أنا يا نبيّ اللّه فأخذ برقبته، وقال: إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا.(١)

٢. قال الحاكم النيسابوري: ولا أعلم خلافاً بين أصحاب التواريخ انّ علي ابن أبي طالب (رض) أوّلهم إسلاماً.(٢)

٣. وقال ابن عبد البر: اتّفقوا على أنّ خديجة أوّل من آمن باللّه ورسوله وصدقه فيما جاء به ثمّ علي بعدها.(٣)

٤. وقال المقريزي: وأمّا علي بن أبي طالب فلم يشرك باللّه قط، وذلك انّ اللّه تعالى أراد به الخير فجعله في كفالة ابن عمه سيد المرسلين محمد، فعندما أتى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوحي وأخبر خديجة وصدّقت كانت هي، وعلي بن أبي طالب وزيد ابن حارثة يصلون معه... إلى أن قال: فلم يحتج عليّ(رض) أن يُدعى ولا كان مشركاً حتى يوحّد فيقال أسلم، بل كان عمره عندما أوحى اللّه إلى رسوله ثماني سنين وقيل سبع سنين، وقيل: إحدى عشر سنة، وكان مع رسول اللّه في منزله بين أهله كأحد أولاده يتبعه في جميع أحواله.(٤)

روى ابن الاَثير عن أبي يحيى بن عفيف، عن أبيه، عن جدّه عفيف، قال: جئت في الجاهلية إلى مكة وأنا أُريد أنْ ابتاع لاَهلي من ثيابها وعطرها، فأتيت العباس بن عبد المطلب، وكان رجلاً تاجراً، فأنا عنده جالس حيث انظر إلى

____________________

١ تاريخ الطبري: ٢/٢١٦ وللحديث مصادر كثيرة اكتفينا بما ذكر.

٢ المعرفة:٢٢.

٣ الاستيعاب: ٢/٤٥٧.

٤ الامتاع: ٤٢.

٢٨٦

الكعبة وقد حلقت الشمس في السماء فارتفعت وذهبت إذ جاء شاب فرمى ببصره إلى السماء ثمّ قام مستقبل الكعبة، ثمّ لم ألبث إلاّ يسيراً حتى جاء غلام فقام على يمينه، ثمّ لم ألبث إلاّ يسيراً حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما فركع الشاب فركع الغلام والمرأة، فرفع الشاب فرفع الغلام والمرأة، فسجد الشاب فسجد الغلام والمرأة، فقلت: يا عباس أمر عظيم، قال العباس: أمر عظيم تدري من هذا الشاب؟ قلت: لا، قال: هذا محمد بن عبد اللّه ابن أخي، أتدري من هذا الغلام؟ هذا علي بن أخي، أتدري من هذه المرأة؟ هذه خديجة بنت خويلد زوجته، انّابن أخي هذا أخبرني انّ ربّه ربّالسماء والاَرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه ولا واللّه ما على الاَرض كلّها أحد على هذا الدين غير هوَلاء الثلاثة.(١)

٧. دخول الاُمّة قاطبة الجنة بشفاعة النبيّ

أخرج أبو داود، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: خرجنا مع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكة نريد المدينة، فلما كنّا قريباً من عَزْوَرا نزل ثمّ رفع يديه فدعا اللّه ساعة ثمّ خرّ ساجداً، فمكث طويلاً ثمّ قام فرفع يديه فدعا اللّه ساعة ثمّ خرّ ساجداً، فمكث طويلاً ثمّ قام فرفع يديه ساعة ثمّ خرّ ساجداً.

ذكره أحمد ثلاثاً: قال: «إنّي سألت ربي وشفعت لاَُمتي، فأعطاني ثلث أُمتي، فخررت ساجداً شكراً لربي، ثمّ رفعت رأسي فسألت ربّي لاَُمّتي، فأعطاني ثلث أُمتي، فخررت ساجداً لربي شكراً، ثمّ رفعت رأسي فسألت ربي لاَُمتي، فأعطاني الثلث الآخر، فخررت ساجداً لربي.(٢)

____________________

١ أُسد الغابة: ٣/٤١٤- ٤١٥؛ ورواه النسائي في خصائصه: ٣؛ ولاحظ الاستيعاب: ٢/٥٥٩. وكان النبي يصلّي إلى الكعبة قبل الهجرة و إنّما صلّى إلى بيت المقدس في المدينة بعدها إلى سبعة عشر شهراً.

٢ سنن أبي داود: ٣/٩٠ برقم ٢٧٧٥.

٢٨٧

إنّ الامعان في الآيات الواردة حول الشفاعة تثبت بأنّها حقّ خاص باللّه سبحانه يأذن لعدّة خاصّة من عباده المقربين، ولا يأذن لهم أن يشفعوا إلاّ في حقّ عدّة معينة، فقد وضع القرآن حدوداً وقيوداً في الشافع والمشفوع له.

إنّ الشفاعة في حقّ من قطعوا صلتهم باللّه سبحانه فلم يوَمنوا به أو بوحدانيته أو بقيامته ، منتفية قطعاً لا تنالهم شفاعة الاَنبياء.

قال سبحانه:( يَقُولُ الّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَد جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أو نُردُّ فَنَعْمَلَ غَيرَ الّذي كُنّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) (الاَعراف/٥٣) وقال سبحانه:( وَكُنّا نُكَذِّبُ بِيَومِ الدِّين * حَتّى أَتانا اليَقينُ * فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشّافِعين ) (المدثر/٤٦ - ٤٨).

وثمة روايات متضافرة تحدد شفاعة الاَنبياء، ومع ذلك فكيف ورد في هذه الرواية انّ الاُمّة بقاطبتها عادلها وظالمها، تقيّها وفاجرها، صالحها وطالحها على حدّ سواء في الشفاعة، واللّه سبحانه يقبل شفاعة نبيّه في حقّهم؟!

ولا يراد من الاُمّة في الرواية إلاّ من آمن باللّه ورسوله وإن فسق وفجر وخضب الاَرض بإراقة دماء الاَبرياء.

٨. عمر أفظّ وأغلظ من رسول اللّه

أخرج البخاري في صحيحه، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: استأذن عمر بن الخطاب على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنده نسوة من قريش يكلّمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته، فلما استأذن عمر بن الخطاب قمنَ فبادرن الحجاب، فأذن له رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدخل عمر ورسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يضحك.

فقال عمر: أضحك اللّه سنَّك يا رسول اللّه، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

٢٨٨

عجبت من هوَلاء اللاتي كنَّ عندي، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب، فقال عمر: فأنت أحقّ أن يهبن يا رسول اللّه، ثمّ قال عمر: يا عدوّات أنفسهنّ أتهبنني ولا تهبنَ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟! فقلن: نعم، أنت أفظُّ وأغلظ من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اِيهاً يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجّاً قطّ إلاّ سلك فجّاً غير فجِّك».(١)

وثمة شكوك تحوم حول تلك الرواية:

أوّلاً: انّ ظاهر الرواية انّ النبي اجتمع مع نسوة من قريش وهنّ أجنبيات من دون أن يضرب ساتر بينهما، وهذا لا يليق بأن ينسب إلى موَمن فضلاً عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويعلم ذلك من خلال بيان أمرين:

الاَمر الاَوّل: انّ التعبير بقوله: «وعنده نسوة من قريش» يعرب انّفيهنّ أجنبيات عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإلاّ فلو كان المراد زوجاته لكان اللازم التعبير بالزوجات لا بنسوة من قريش.

على أنّ بعض زوجاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكنَّ من قريش فمثل ميمونة بنت حُييّ بن أخطب كانت يهودية فأسلمت، ومارية القبطية أهديت إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنجبت له إبراهيم.

وقوله يستكثرنه بمعنى انّهنّ يكثرن الكلام عنده لا أنّهن يطلبن نفقة كثيرة.

الاَمر الثاني: انّ الاجتماع كان بعد نزول آية الحجاب، بشهادة انهن ابتدرن للحجاب عندما أقبل عليهنّ عمر بن الخطاب.

ولازم هذين الاَمرين أن يجتمع النبي مع نساء أجنبيات دون أن يضرب ساتر بينهما.

____________________

١ صحيح البخاري: ٥/١١، باب مناقب عمر.ونقله مسلم في صحيحه:٧/١١٥ باب فضائل عمر.

٢٨٩

ثانياً: انّ لازم صحّة الخبر أن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - والعياذ باللّه - فظاً غليظ القلب وإن كان أقلّ من فظاظة عمر، مع أنّه سبحانه ينفي عنه هذه التهمة، قال سبحانه:( وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (آل عمران/١٥٩) إلاّ أن يحمل على جهل النسوة بحال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورأفته.

ثالثاً: انّ ظاهر قوله: إيهاً يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجّاً قط إلاّسلك فجّاً غير فجّك» يدل على عصمته وكونه من المخلَصين ودخوله في قوله سبحانه:( ولاُغْويَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلاّعِبادكَ مِنْهُمُ المُخْلَصينَ ) (الحجر/٣٩-٤٠).فالشيطان عندما يلتقي مع الاَنبياء لا يسلك فجّاً غير فجّهم بل يقابلهم فيوسوس إليهم: قال سبحانه :( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطان قالَ يا آدَمُ ) (طه/١٢٠) ولكنّه عندما يلتقي مع عمر، يسلك فجّاً آخر، فهل يصحّ ذلك يا تُرى؟!

وثمّة رواية أُخرى عن جابر رواها مسلم ربما تكون قرينة على تفسير الحديث السابق.

روى مسلم، عن جابر بن عبد اللّه، قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوجد الناس جلوساً ببابه لم يوَذن لاَحد منهم، قال: فأذن لاَبي بكر ودخل، ثمّ أقبل عمر فأستأذن فأذن له فوجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حوله نساوَه واجماً ساكتاً، قال: لاَقولنّ شيئاً أُضحك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : يا رسول اللّه لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال: هنّ حولي كما ترى يسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة : يجأ عنقها، فقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألنّرسول اللّه ما ليس عنده فقلن: واللّه لا نسأل رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً أبداً ليس عنده، ثم اعتزلهنَّ شهراً أو تسعاً وعشرين ثمّ نزلت إليه هذه الآية:( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لاَزْواجِكَ - حتى بلغ -لِلْمُحْسناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ) (الاَحزاب/٢٨- ٢٩).

٢٩٠

فبدأ بعائشة وقال: يا عائشة إنّي أُريد أن أعرض عليك أمراً أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك، قالت: وما هو يا رسول اللّه؟فتلا عليها الآية، قالت: أفيك يا رسول اللّه استشير أبويّ؟ بل أختار اللّه و رسوله والدار الآخرة وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت، قال: لا تسألني امرأة منهنّ إلاّأخبرتها، انّاللّه لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسِّراً.(١)

وعلى ضوء هذا الحديث يكون المراد من نساء قريش هو زوجاته ونساوَه، ولا يكون اجتماعه اجتماعاً مع أجنبيات، ولكنّه وإن رفع الاِشكال الاَوّل لكنّه زاد في الطين بلّة، لاَنّه يصرح بأنّ كلاً من الشيخين قاما ليجآ ويضربا بنتيهما (زوجتي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) مع أنّهما كانتا تطلبان النفقة الواجبة التي عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشهادة قولهما: (فقلن واللّه لا نسأل رسول اللّه شيئاً أبداً ليس عنده) فعند ذلك كان سوَالهما سوَالاً شرعياً، وطعن الشيخين وضربهما أمراً غير مشروع بالمرة، إلاّ أن يكون تكلمهما وضربهما لاِيجاد السرور ورفع الحزن عن قلب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ إنّه ليس فيما رواه مسلم من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمر: إيهاً يا ابن الخطاب «والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً... الخ » عين ولا أثر ولا أظن أحداً من المحدثين يتمسّك في المقام لاِثبات صحّة ما سقط في حديث مسلم بقاعدة «تقدم النقيصة على الزيادة وانّ القول بسقوط الزيادة عن رواية مسلم أولى من القول بأنّ الراوي أضاف من نفسه بلا وعي» فانّ تلك القاعدة إنّما تتمشى إذا لم تكن قرينة على العكس، فانّه من البعيد أن يقوم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمدح عمر بن الخطاب وينساه الراوي، أو يمدحه وعنده من هو أفضل منه وأقدم منه إسلاماً، فانّ ذلك يعد نوع إهانة لاَبي بكر.

____________________

١ صحيح مسلم: ٤/١٨٧، باب تخيير امرأته لا يكون طلاقاً إلاّ بالنية.

٢٩١

وعلى أيّة حال فالروايتان - على الرغم من رواية مسلم والبخاري لهما - لا يخلوان من إشكالات وتساوَلات، والنفس لا تسكن لما جاء فيهما.

٩. سوَال النبي من اللّه ثلاثاً

أخرج مسلم، عن عامر بن سعد، عن أبيه: انّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مرّ بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه، ودعا ربّه طويلاً، ثمّ انصرف إلينا، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سألت ربي ثلاثاً فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة، سألت ربّي أن لا يهلك أُمتي بالسَّنَةِ فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أُمّتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها.(١)

هذا ما رواه مسلم عن سعد، ولكن روى الاِمام أحمد، عن معاذ بن جبل نفس الرواية بنحو آخر، قال: وجدت رسول اللّه قائماً يصلي، فقمت خلفه، فأطال الصلاة، فلما قضى الصلاة قال: قلت يا رسول اللّه لقد صليتَ صلاة طويلة؟ فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي صليت صلاة رغبة ورهبة، سألت اللّه عزّ وجلّثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته أن لا يهلك أُمّتي غرقاً فأعطانيها، وسألته أن لا يُظهر عليهم عدواً ليس منهم فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فردّها عليَّ.(٢)

فالنبي حسب رواية سعد سأل اللّه سبحانه الثلاثة التالية:

١. أن لا يهلك أُمّته بالسّنة، والمراد بها المجاعة العامّة التي تعم الجميع، لا أن تصيب ناحية دون أُخرى.

٢. أن لا يهلكهم بالغرق.

____________________

١ صحيح مسلم: ٨/١٧١-١٧٢، باب هلاك هذه الاُمّة بعضهم ببعض.

٢ مسند أحمد: ٦/٣١٧.

٢٩٢

٣. أن لا يجعل بأسهم بينهم.

ولكن الثلاثة التي سألها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رواية معاذ بن جبل(١) ، عبارة عن الاُمور التالية:

١. أن لا يُظهر عليهم عدواً ليس منهم.

٢. أن لا يهلك أُمّته غرقاً.

٣. أن لا يجعل بأسهم بينهم.

فالحديثان يشتركان في الثاني والثالث دون الاَوّل.

وقد رواه مسلم أيضاً عن ثوبان بنحو آخر، قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي سألت ربّي لاَُمّتي أن لا يهلكها بسَنَةٍ بعامّةٍ، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وانّ ربي قال: يا محمد إنّي إذا قضيت قضاء فإنّه لا يرد وإنّي أعطيتك لاَُمّتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أُسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتّى يكون بعضهم يهلك بعضاً و يسبي بعضهم بعضاً.(٢)

فقد جاء في هذا الحديث السوَالان المقضيان دون الثالث، كلّ ذلك يعرب عن اضطراب الحديث في النقل ولا يصحّ الاعتماد عليه.

ثمّ إنّ ثمة تساوَلات وهي:

١. انّ النبي سأل أن لا يهلك أُمّته، فما هو المراد من هذا السوَال؟ أسأل أن لا يكون غلاء في صقع معين من نواحي الاَمصار الاِسلامية، أو المراد هو المجاعة العامة التي تُهلك الاُمة من رأس؟

____________________

١ لاحظ ص ٨٦.

٢ صحيح مسلم: ٨/١٧١، باب هلاك هذه الاُمّة بعضهم ببعض.

٢٩٣

أمّا الاَوّل فلم يستجب دعاوَه، فما أكثر الغلاء في الاَقطار الاِسلامية لا سيما في العصر الحاضر.

وأمّا الثاني فالدعاء كان أمراً لغواً لاَنّه سبحانه وعد في الذكر الحكيم بقاء الاُمّة الاِسلامية إلى يوم القيامة، قال سبحانه:( أَنَّ الاَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُون ) (الاَنبياء/١٠٥) وقال سبحانه:( هُوَ الّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (التوبة/٣٣) وقال سبحانه:( وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الاَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَني لا يُشْرِكُونَ بي شَيئاً وَمَنْ كَفَر بَعْدَذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ ) (النور/٥٥).

٢. انّ السوَال الاَخير أي «لا يجعل بأسهم بينهم» من الاَدعية التي لا تستجاب أبداً، لاَنّه على خلاف السنن السائدة في الكون، و الاختلاف أمر طبيعي لكافة أبناء البشر، فكيف يطلب النبي من اللّه سبحانه أن لا يجعل بأسهم بينهم وهو القائل: افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وافترقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة؟

رواه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم.(١)

١٠. اللّه ليس بأعور

أخرج أحمد في مسنده، عن داود بن عامر بن سعد بن مالك، عن أبيه،

____________________

١ المستدرك على الصحيحين: ١/١٢٨، وقد أشبعنا الكلام في هذا الموضوع عند دراسة أحاديث معاذ بن جبل، فلاحظ.

٢٩٤

عن جدّه سعد انّه قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه لم يكن نبي إلاّ وصف الدجال لاَُمّته، ولاَصفنّه صفة لم يصفها أحد قبلي، انّه أعور و انّ اللّه عزّ وجلّ ليس بأعور.(١)

هذا الحديث يثبت العضو للّه سبحانه، وانّ للّه عيناً، لكنّه ليس أعور، واللّه سبحانه أجلّ من التجسيم. وقد مرّ الكلام فيه عند دراسة أحاديث معاذ بن جبل.

١١. عبد اللّه بن سلام من أصحاب الجنّة

أخرج مسلم عن عامر بن سعد، قال سمعت أبي يقول: ما سمعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لحيٍّ يمشي انّه في الجنّة إلاّلعبد اللّه بن سلام.(٢)

إنّ أثر الوهن باد على هذا الخبر بوضوح لانطوائه على تناقض سافر للحديث التالي.

أخرج أبو داود في سننه، عن عبد الرحمان بن الاَخنس، انّه كان في المسجد فذكر رجل عليّاًعليه‌السلام فقام سعيد بن زيد، فقال: «أشهد على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّي سمعته وهو يقول عشرة في الجنّة: النبيّفي الجنة، وأبو بكر في الجنّة، وعمر في الجنّة، وعثمان في الجنّة، وعلي في الجنّة، وطلحة في الجنّة، والزبير بن العوام في الجنّة، وسعد بن مالك في الجنّة ، و عبد الرحمان بن عوف في الجنّة ولو شئت لسميت العاشر، قال: فقالوا: من هو؟ فسكت: قال: فقالوا: من هو؟ فقال: هو سعيد بن زيد.(٣)

____________________

١ مسند أحمد: ١/١٧٦.

٢ صحيح مسلم : ٧/١٦٠، باب فضائل عبد اللّه بن سلام؛ و أخرجه أيضاً البخاري: ٥/٣٧، باب مناقب عبد اللّه بن سلام.

٣ سنن أبي داود: ٤/٢١١ برقم ٤٦٤٩.

٢٩٥

وهذا التناقض بين الحديثين يجرّنا إلى القول بوضع أحد الحديثين أو كليهما، ومن البعيد أن لا يسمع سعد ما سمعه سعيد بن زيد من النبيّ في حقّ العشرة المبشرة بالجنة مع أنّه هو منهم.

أضف إلى ذلك أنّ لازم صحّة الخبر الاَوّل أن يصل عبد اللّه بن سلام اليهودي - الذي أسلم وبث طائفة كبيرة من الاِسرائيليات في أوساط المسلمين - مرتبة يتفوّق فيها على أكابر الصحابة وأعيانهم الذين ضحوا بنفسهم ونفيسهم في سبيل إعلاء كلمة اللّه.

ثمّ إنّ الذي يسيء الظن بصحة الحديث الثاني انّالناقل هو سعيد بن زيد وهو أحد تلك العشرة المبشرة.

وما أحسن ما يقال: «بأبي زوجة تمدحها أُمّها» وأقول: «بأبي راوٍ ينقل عن النبي انّه من أهل الجنّة».

إنّ طبيعة الحال تقتضي أن يدلي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله في حشد كبير، يحضره أكثر العشرة المبشرة بالجنة، لا أن يدلي بكلامه هذا أمام أحدهم خاصّة، ولا يبوح هو أيضاً بما سمعه إلاّ عندما رأى نيل الناس من عليٍّعليه‌السلام وذكره بالسوء.

٢٩٦

١٩- أبو هريرة

(٢١ق.ه- ٥٧ه-)

سيرته و أحاديثه الرائعة

أحاديثه السقيمة

١. محاولة عفريت من الجن قطع صلاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢. الشيطان إذا سمع الاَذان ولى....

٣. وجوب الجهاد تحت راية كلّ بر و فاجر.

٤. قبول التوبة مع عدم الندم.

٥. النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمنع من كتابة الحديث.

٦. من هو خالق اللّه؟ ٧. انّ اللّه خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعاً.

٨. سليمان يطوف على ستين امرأة في ليلة واحدة.

٩. موسى يفقأ عين ملك الموت. ١٠. روَية اللّه بالعين الباصرة.

١١. لا تملاَ النار حتى يضع الرب رجله فيها.

١٢. نزول الرب كل ليلة إلى السماء الدنيا.

١٣. نقض سليمان حكم أبيه داود.

١٤. ظهور موسى عرياناً أمام الملاَ.

١٥. اتهام أُولو العزم من الاَنبياء بالعصيان.

١٦. شك الاَنبياء وتفضيل يوسف على نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٧. نبي من الاَنبياء يحرق قرية النمل. ١٨. أيوب يحثي رجل جراد من ذهب في ثوبه.

١٩. النبي يوَذي ويجلد ويسب ويلعن من لا يستحق.

٢٠. التلاعب بحديث بدء الدعوة. ٢١. إيقاع الفعل في وقت لا يسعه.

٢٢. امة مسخت فأراً.

٢٣. أبو طالب أبى النطق بالشهادتين عند الموت

٢٤. أبو هريرة ينسب ما سمعه عن الفضل إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢٥. إبراهيم يخاصم ربّه. ٢٦. دخول امرأة في النار بسبب هرّة.

٢٧. في إحدى جناحي الذبابة داء وشفاء.

٢٩٧

إنّ أبا هريرة غامض الحسب، مغمور النسب، اختلف الناس في اسمه واسم أبيه اختلافاً كثيراً، وقد نقل الذهبي أقوالاً عشرة في اسمه ورجّح انّ اسمه عبد الرحمان بن صخر، كما نقل الاَقوال في اسم أبيه، ولا يهمُّنا التحقيق في اسمهما فقد سرد هشام [بن محمدج بن الكلبي نسب أبيه، بقوله:هو عمير بن عامر بن ذي الشرى بن طريف بن عيّان بن أبي صعب بن هُنيَّة بن سعد بن ثعلبة إلى أن ينتهي إلى نصر بن الاَزد.(١)

ويكنّى أبا هريرة لهرّة صغيرة كان مغرماً بها.

قال ابن قتيبة: إنّ أبا هريرة كان يقول: وكُنِّيت بأبي هريرة بهرة صغيرة كنت ألعب بها.(٢)

وأخرج ابن سعد في ترجمة أبي هريرة في الطبقات بالاسناد إليه، قال: كنت أرعى غنماً، وكانت لي هريرة صغيرة، فكنت إذا كان الليل وضعتها في شجرة، وإذا أصبحت أخذتها فلعبت بها فكنّوني أبا هريرة.(٣) إسلامه

اتّفقوا على أنّه أسلم بعد فتح خيبر، يقول أبو هريرة:

خرج النبي إلى خيبر وقدمت المدينة مهاجراً ،فصلّيت الصبح خلف سِباع ابن عُرفُطة - كان استخلفه - فقرأ في السجدة الاُولى [كذاج بسورة مريم، وفي الآخرة( ويلٌ للمُطفِفين ) .

____________________

١ سير أعلام النبلاء: ٢/٥٧٨ برقم ١٢٦.

٢ ابن قتيبة: المعارف:١٥٨.

٣ الطبقات الكبرى لابن سعد:٤/٣٢٩. وقد جرت سنّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تبديل الاَسماء والكُنى غير الحسنة، إلى الحسنة منهما ولكنّهص أبقى كنية أبي هريرة على حالها و لم يُغيّرها ، فما هو السرّ في ذلك؟!

٢٩٨

فقلت: ويل لاَبي، قلّ رجل كان بأرض الاَزد، إلاّ وكان له مكيالان، مكيال لنفسه، و آخر يبخس به الناس.(١)

وعلى ذلك فقد أدرك من عهد الرسالة أربع سنين، إذا صحّ وقوع غزوة خيبر في شهر محرم الحرام، وهو بعدُ محل خلاف بين كُتّاب السيرة النبويّة. ولكن ، قال ابن أبي خالد: حدثنا قيس بن أبي حازم، قال لنا أبو هريرة: صحبت رسول اللّه ثلاث سنين.(٢)

والجمع بين القولين هو انّ النبي أمّر العلاء بن الحضرمي في البحرين وبعث معه أبا هريرة موَذِّناً له، فلو لبث فيها سنة واحدة، فقد صحب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ثلاث سنين، و إن أدرك من عهد الرسالة أربع.

ويظهر مما وَصف به أرض الاَزد وما دعا به على والده بقوله: «ويل لاَبي» أنّ منبَته لم يكن منبَت خير، و قد روى هو أيضاً: انّه قال لي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ممن أنت؟ قلت: من دوس، قال: ماكنت أرى انّ في دوس أحداً فيه خير(٣) .

كثرة أحاديثه

يصفه الذهبي بقوله: الاِمام، الفقيه، المجتهد، الحافظ، صاحب رسول اللّه، أبو هريرة الدوسي اليماني، سيد الحُفاظ الاَثبات، حمل عن النبي علماً كثيراً طيّباً مباركاً - لم يُلْحق في كثرته - و عن أُبيّ و أبي بكر و عمر و أُسامة وعائشة والفضل وبُصرة بن أبي بُصرة، وكعب الحبر.

حدَّث عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين، فقيل بلغ عدد أصحابه

____________________

١ سير أعلام النبلاء:٢/٥٨٩.

٢ مسند أحمد:٢/٤٧٥و مختصر تاريخ ابن عساكر:٢٩/١٨٢.

٣ مختصر تاريخ ابن عساكر:٢٩/١٨١.

٢٩٩

ثمانمائة، ثمّ نقل عن صاحب التهذيب أسماء من له رواية عنه في كتب الاَئمّة الستة.(١)

وبلغ مسنده ٥٣٧٤ حديثاً، المتّفق في البخاري و مسلم منها ٣٢٦، وانفرد البخاري ب- ٩٣ حديثاً، ومسلم ب- ٩٨ حديثاً.(٢)

ولم يتفق لاَحد من الصحابة ذلك الحجم الهائل من الروايات عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى الرغم من أنّه لم يكن يكتب الحديث ولكنّه حفظ هذا العدد الهائل من الروايات عن ظهر قلب.

وقد روى سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن وهب بن منبه، عن أخيه همام، قال: سمعت أبا هريرة، يقول: ما أحد من أصحاب رسول اللّه أكثر حديثاً عنه منّي، إلاّما كان من عبد اللّه بن عمرو، فانّه كان يكتب و كنت لا أكتب.(٣)

وعلى ضوء ذلك فيلزم أن يكونا متكافئين في نقل الحديث مع أنّ المروي عن عبد اللّه بن عمرو أقل بكثير عمّا روي عن أبي هريرة.

فإذا كان المروي عن أبي هريرة ٥٣٧٤ حديثاً، فلازمه أن يكون المروي عن عبد اللّه بن عمرو مثل هذا أو أكثر، مع أنّ المروي عنه سبعمائة حديث، فتكون النسبة بينهما هي السُّبْع، وهذا إن دلّعلى شيء فإنّما يدل على ضعف الاعتماد على مروياته.

وقد اعتذر المعلِّق على سير أعلام النبلاء عن هذا الفارق الشاسع بين الراويتين بوجوه ضعيفة لا يُركن إليها. فمن جملة ما اعتذر به: «انّ عبد اللّه كان مشتغلاً بالعبادة أكثر من اشتغاله بالتعليم، فقلّت الرواية عنه»(٤) وفي الوقت

____________________

١ سير أعلام النبلاء:٢/٥٧٨ برقم ١٢٦.

٢ سير أعلام النبلاء:٢/٥٧٨ برقم ١٢٦.

٣ مختصر تاريخ ابن عساكر: ٢٩/١٩١.

٤ سير أعلام النبلاء: ٢/٥٩٩.

٣٠٠