الحديث النبوي بين الرواية والدراية

الحديث النبوي بين الرواية والدراية0%

الحديث النبوي بين الرواية والدراية مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 676

الحديث النبوي بين الرواية والدراية

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 676
المشاهدات: 85435
تحميل: 5984

توضيحات:

الحديث النبوي بين الرواية والدراية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 676 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85435 / تحميل: 5984
الحجم الحجم الحجم
الحديث النبوي بين الرواية والدراية

الحديث النبوي بين الرواية والدراية

مؤلف:
العربية

٤. غزا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسع عشرة غزوة

أخرج مسلم في صحيحه، عن عبد اللّه بن بريدة، عن أبيه، قال: غزا رسول اللّه تسع عشرة غزوة، قاتل في ثمانٍ منهنّ.(١)

أقول: إنّ غزوات الرسول أكثر ممّا ذكره، فقد بسط الواقدي الكلام في مغازي النبي وسراياه في الجزء الاَوّل ثمّ استنتج ممّا ذكره ما يلي:

فكانت مغازي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي غزا بنفسه تسعاً وعشرين غزوة، وكان ما قاتل فيها تسعاً: بدر القتال، وأحد، والمريسيع، والخندق، وقريظة، وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف.

وكانت السرايا سبعاً وأربعين سريّة، واعتمر ثلاث عُمَر، ويقال: قد قاتل في بني النضير ولكن اللّه جعلها له نفلاً خاصّة، وقاتل في غزوة وادي القرى في منصرفه عن خيبر وقتل بعض أصحابه، وقاتل في الغابة حتى قتل محرز بن نظلة، وقتل من العدو ستة.(٢)

وقد سرد الواقدي أسماء غزواتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتاب المغازي:

١. غزوة الاَبواء٢. غزوة بواط٣. غزوة بدر الكبرى ٤. غزوة ذات العُشير٥. غزوة القينقاع ٦. غزوة السويق ٧. غزوة قرارة الكُدر٨. غزوة غطفان٩. غزوة بني سليم ١٠. غزوة أُحد ١١. غزوة حمراء الاَسد١٢. غزوة بئر معونة ١٣. غزوة الرجيع١٤. غزوة بني النضير١٥.غزوة بني الموعد ١٦. غزوة ذات الرقاع١٧. غزوة دومةالجندل١٨. غزوة المريسيع

____________________

١ صحيح مسلم: ٥/٢٠٠. باب عدد غزوات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كتاب الجهاد والسير.

٢ الواقدي، المغازي: ١/٧.

٤٢١

١٩. غزوة الخندق٢٠. غزوة بني قريظة ٢١. غزوة القرطاء ٢٢. غزوة بني لحيان ٢٣. غزوة الغابة٢٤. غزوة الحديبية ٢٥.غزوة خيبر ٢٦. غزوة القضية٢٧. غزوة موَتة ٢٨. غزوتة ذات السلاسل ٢٩. غزوةالفتح.

وقد ذكر ابن هشام قصيدة حسّان الذي عد فيها المغازي، ومطلعها:

ألست خير معد كلّها نفراً

ومعشراً ان هم عموا وإن حصلوا

قوم هم شهدوا بدراً بأجمعهم

مع الرسول فما آلوا وما خذلوا(١)

كلّ ذلك يعرب عن أنّ غزوات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر من تسع عشرة غزوة ويُحتمل أن يكون المراد الغزوات التي شارك فيها بريدة مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهي عبارة عن تسع عشرة غزوة.

ولكنّه احتمال ضعيف، لاَنّه روي عن بريدة في موضع آخر من صحيح مسلم، أنّه قال:

غزا مع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ست عشرة غزوة(٢)

وعلى كلّتقدير فالرواية مضطربة.

٥. تحرك الجبل والاَمر بثباته

أخرج أحمد في مسنده، عن عبد اللّه بن بريدة، عن أبيه، انّرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان جالساً على حراء ومعه أبو بكر وعمر و عثمان، فتحرك الجبل، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أثبت حراء، فانّه ليس عليك إلاّنبي وصديق وشهيد.(٣)

____________________

١ سيرة ابن هشام: ٢/٢٠٠.

٢ مسند أحمد: ٥/٣٤٦.

٣ صحيح مسلم: ٥/٢٠٠ باب عدد غزوات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كتاب الجهاد والسير.

٤٢٢

لا شكّ انّ الاَنبياء والاَولياء يمتلكون قدرة خارقة للعادة يتصرّفون في الكون بإذنه ومشيئته سبحانه ولا غرو في ذلك، فقد قال سبحانه مخاطباً عيسى ابن مريم:( وَإِذْتَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْر بَإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طِيراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىُ الاَكْمَهَ وَالاَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ المَوتى بِإِذْنِ-ي ) (المائدة/١١٠).

ولكنّهم لا يقومون بخوارق العادات إلاّ لغايات خاصة استدعت الضرورة ذلك، وهي إثبات نبوّتهم واتصالهم بالغيب، وعند ذلك تطرح الاستفسارات التالية، فأي غاية كانت في تثبيت جبل حراء؟

فهل كان ثمة شاك في نبوة النبي وأرادصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا العمل أن يزيل الشك عن قلبه؟!

أو كان وراء حركة الجبل خسف وزلزال مهلك لمن كان عليه؟!

ثمّهل كانت الحركة مختصة بالجبل دون سائر الجبال والاَراضي المتاخمة؟

وبما انّ «حراء» كان جبلاً من جبال مكة وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأوي إليه في أشهر معدودات قبل البعثة فهل كان هوَلاء الثلاثة موحدين يومذاك حتى يكونوا مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الجبل؟

ولو افترضنا انّ النبي يأوي إليها بعد البعثة، فقد أسلم عمر بن الخطاب في السنة السادسة من البعثة، فهل كان هناك اجتماع في هذه السنة أو بعدها؟

وأسلم بريدة عند مسير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة، فكيف ينقل تلك الحادثة وهي ترتبط بما قبل إسلامه؟!

كلّهذه الاستفسارات تزيد الشك في صحّة الرواية وتجعلها من الموضوعات، وقد لعبت العاطفة الدينية دورها في جعل هذه الرواية.

كما وأخرجها مسلم عن أبي هريرة بنحو آخر، قال: إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٤٢٣

كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة.

فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اهدأ، فما عليك إلاّ نبي أو صديق أو شهيد.(١)

وتنتهي الرواية إلى أبي هريرة مع أنّه أسلم بعد الهجرة عام سبع، وقد اضيف فيها علي وطلحة والزبير، وابدل الجبل بالصخرة، كما رواه أيضاً الترمذي عن أبي هريرة في باب مناقب عثمان.(٢)

٦. ضرب الدفّ عند رأس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

أخرج الترمذي في سننه، عن عبد اللّه بن بريدة، قال: سمعت بريدة، يقول: خرج رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء، فقالت: يا رسول اللّه، إنّي كنت نذرت إن ردّك اللّه صالحاً ان أضرب بين يديك بالدّفّ وأتغنّى.

فقال لها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن كنت نذرت فاضربي، وإلاّفلا، فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثمّ دخل عليّوهي تضرب، ثمّدخل عثمان وهي تضرب، ثمّ دخل عمر فألقت الدفَّ تحت إستها، ثمّ قعدت عليه، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّالشَّيطان ليخاف منك يا عمر، إنّي كنت جالساً وهي تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثمّ دخل عليّوهي تضرب، ثمّ دخل عثمان وهي تضرب، فلمّا دخلتَ أنت يا عمر ألقتْ الدف.(٣)

وقد نقله أحمد على اختلاف.

____________________

١ صحيح مسلم:٧/١٢٨، باب فضائل طلحة والزبير.

٢ سنن الترمذي:٥/٦٢٤ برقم ٣٦٩٦.

٣ سنن الترمذي: ٥/٦٢٠- ٦٢١ برقم ٣٦٩٠.

٤٢٤

فتارة نقل دفَّ الجارية على رأس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط دون أن يذكر شيئاً من دخول أبي بكر وعمر و عثمان عليه.(١) وأُخرى نقل دف الجارية مع دخول أبي بكر ثمّعمر دون أن يذكر دخول عليعليه‌السلام وعثمان.(٢)

وعلى أيّة حال فقد اتّفق الفقهاء على لزوم كون المنذور أمراً راجحاً لا محرماً ولا مكروهاً، فلا ينعقد النذر إذا كان المنذور مكروهاً فضلاً عن كونه حراماً.

والضرب بالدف امّا مكروه أو حرام، فكيف أجازها النبيالضرب بالدفِّ عند رأسه؟! وقد أخرج أحمد عن أبي أمامة، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال تبيت طائفة من أُمّتي على أكل وشرب ولهو ولعب ثمّيصبحون قردة وخنازير ، فيُبعث على أحياء من احيائهم ريح فتنسفهم كما نسفت من كان قبلهم باستحلالهم الخمور وضربهم بالدفوف واتخاذهم القينات.(٣)

على أنّالظاهر من الحديث انّ الضرب بالدفّ كان أمراً قبيحاً ولذلك لما دخل عمر ألقت الجارية الدفَّ تحت إستها ثمّ قعدت عليه لتخفيه عن عمر، فالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولى بأن ينهاها عن ذلك الاَمر القبيح ولا يسمح لها بالدفِّ على رأسه.

ثمّإنّ ظاهر الرواية انّعثمان دخل وهي تضرب وجلس دون أن تمسك الجارية، وهي تخالف ما رواه ابن أبي أوفى، قال: استأذن أبو بكر على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجارية تضرب الدف فدخل، ثمّ استأذن عمر فدخل، ثمّ استأذن عثمان فامسكت، قال: فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ عثمان رجل حييّ.(٤)

ومن البعيد أن تكون الواقعة متعددة.

____________________

١ مسند أحمد: ٥/٣٥٦.

٢ مسند أحمد: ٥/٣٥٨.

٣ مسند أحمد: ٥/٢٥٩.وأخرجه مسلم عن أبي هريرة ج٧/١٨٥، باب فضل الصحابة.

٤ مسند أحمد: ٤/٣٥٣.

٤٢٥

ولعمر القارىَ انّهذه الروايات تشوّه سمعة الاِسلام والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومعناها جلوس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغية استماع ضرب الجارية للدف وغنائها.

٧. خير القرون قرني

أخرج أحمد، عن عبد اللّه بن مولة، قال: كنت أسير مع بريدة الاَسلمي، فقال: سمعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: «خير هذه الاُمّة القرن الذي بعثت أنا فيهم، ثمّالذين يلونهم، ثمّالذين يلونهم، ثمّ الذين يلونهم، ثمّيكون قوم تسبق شهادتُهم ايمانَهم، وايمانهم شهادَتهم.(١)

القرن في اللغة عبارة عن الفترة من الزمان وإطلاقه على مائة سنة، إطلاق حادث لا تحمل عليه الرواية، وعلى ضوء ذلك فالقرن الذي بعث فيه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خير القرون من الاَزمنة باعتبار نفس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط، فكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نوراً انبعث في الظلمة حيث تقوضت به دعائم الشرك والوثنية، وأُشيد دعائم التوحيد والحنفية.

هذا يرجع إلى نفس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا غيره فالظاهر من الرواية انّها تصنِّف الناس حسب التفضيل بالنحو التالي:

الصحابة (القرن الذي بعثت فيه).

التابعون(ثمّ الذين يلونهم).

تابعو التابعين (ثمّ الذين يلونهم) و هكذا.

فكلّمن قرب زمنه من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو أفضل ممن بعد عنه.

هذا ما تفيده الرواية، وللاَسف الشديد انّالواقع الملموس يثبت خلاف

____________________

١ مسند أحمد: ٥/٣٥٧، ولاحظ ص ٣٥٠.

٤٢٦

ذلك، لا سيما من تصفح في التاريخ والحديث.

فهذا هو الاِمام البخاري يروي في حقّ الصحابة.

أخرج البخاري عن ابن أبي مليكة، قال: قالت أسماء عن النبيقال: أنا على حوضي أنتظر من يرد عليّ، فيوَخذ بناس من دوني فأقول أُمّتي، فيقول: لا تدري مشوا على القهقرى. قال ابن أبي مليكة: اللّهمّ إنّا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن.

وأخرج أيضاً عن أبي وائل، قال: قال عبد اللّه، قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا فرطكم على الحوض، ليرفعنَّ إليّرجال منكم حتى إذا أهويت لاَناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي ربّأصحابي، يقول: لا تدري ماأحدثوا بعدك.(١)

والرواية الثانية دليل على أنّ المراد من قوله : «بناس» في الرواية الاُولى هم الصحابة.

أضف إلى ذلك انّ قوله: هم الذين يلونهم: يهدف إلى التابعين، وفيهم الاَمويون، فهل يمكن أن نعد عصر الاَمويين خير القرون وقد خضّبوا وجه الاَرض بدماء الاَبرياء وقتلوا سبط النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كربلاء عطشاناً وذبحوا أولاده وأصحابه وهتكوا حرمة الكعبة؟!

وهذا هو الحجاج صنيعة أيديهم اقترف من الجرائم البشعة ما يقشعر لها جبين الاِنسانية، ولا أطيل الكلام في ذلك والتاريخ خير شاهد على كذب هذه الرواية ووضعها من قبل سماسرة الحديث لتطهير الجهاز الاَموي الحاكم ممّا ارتكبه. وقد مضى الكلام حول الحديث عند دراسة أحاديث عمران بن الحصين(٢) .

____________________

١ صحيح البخاري: ٩/٤٦، كتاب الفتن.

٢ لاحظ ص ٢٤٩.

٤٢٧

٨. سبق بلال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الجنة

أخرج الترمذي، عن عبد اللّه بن بريدة، قال حدثني أبي بريدة، قال: أصبح رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدعا بلالاً، فقال: يا بلال بم سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قط إلاّ سمعت خشخشتك أمامي، دخلت البارحة الجنّة فسمعت خشخشتك أمامي، فأتيت على قصر مربّع مشرّف من ذهب، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لرجل من العرب، فقلت: أنا عربي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من قريش، قلت: أنا قرشيّ، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من أُمّة محمّد، قلت: أنا محمد، لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر بن الخطاب. فقال بلال: يا رسول اللّه ما اذّنت قطّ إلاّ صلّيت ركعتين، وما أصابني حدث قطّ إلاّ توضأت عندها ورأيت انّ للّه عليّ ركعتين، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بهما.(١)

إنّ أبا أمامة الباهلي نقل نظير هذه الرواية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأضاف بعد عمر، عبد الرحمن بن عوف الثريّ المعروف(٢) وبين الروايتين من حيث المضمون اختلاف فاحش، فحلّ فيها محل القصر وضع الميزان وترجيح كفة كلّمن النبي صوعمر وأبي بكر على جميع الاُمّة، ونذكر الرواية عند دراسة رواياته.

والمقارنة بين الروايتين تعرب انّ يد الدس تصرفت في الرواية سواء أصحت أم لم تصح.

وبعد ذلك فكيف سمع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خشخشة بلال وهو حيّ يُرزَق في المدينة؟!

ثمّ إنّ جواب المجيب لسوَال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ القصر

____________________

١ سنن الترمذي: ٥/٦٢٠ برقم ٣٦٨٩.

٢ مسند أحمد:٥/٢٥٩.

٤٢٨

لرجل من العرب ثمّ الاِجابة ثانياً - بعد سوَال النبي - بأنّه لعربي قرشي يعرب عن غلبة روح الطائفية و العنصرية على صانع الحديث، فانّ معيار الفضل عنده سبحانه هو التقوى والعمل الصالح، وسيوافيك بعض ما في الرواية من الاِشكالات عند دراسة أحاديث أبي أمامة الباهلي.

ودراسة هذه الروايات دراسة مقارنة تعرب عن أنّ يد الوضع والتحريف قد نالت من هذه الروايات بغية رفع منزلة الخلفاء لدى المسلمين عبر القرون.

هذه دراسة ما عزي إلى أبي بريدة الاَسلمي من الروايات ولا تُحْمل مسوَولية هذه الروايات على بريدة وإنّما عهدة ذلك على الرواة الذين نقلوا عنه أمثال هذه الروايات، ومع ذلك لا نبرّىَ ساحة بريدة عنها، والمهم في المقام هي دراسة ما روي عن النبيدراسة منزهة عن كلّرأي مسبق.

٤٢٩

٢٥- عبد اللّه بن عمرو بن العاص

(٨ق. ه- - ٦٥ه-)

سيرته وأحاديثه الرائعة

أحاديثه السقيمة:

١. الفراغ من الاَمر: الجبر

٢. منع المرأة من التصرّف في مالها

٣. عدم توارث ملتين

٤.وجوب الوفاء بنذر المعصية

٥. لا يركب البحر إلاّ ثلاث

٦. الفرقة الناجية أنا وأصحابي

٧. قلوب بني آدم بين اصبعين

٨. عدم اضرار الخطيئة مع الايمان

هو ابن وائل بن هاشم بن سعيد بن سعد بن عمرو، يكنّى أبا محمد، وقيل أبا عبد الرحمان.

أُمّه هي رائطة بنت الحجاج بن منبِّه السَّهمية.

وقد أسلم قبل أبيه، ويقال كان اسمه العاص، وسمي في الاِسلام بعبد اللّه.(١)

وهو ممن كتب حديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يُعر أهمية

____________________

١ سير أعلام النبلاء: ٣/٧٩ برقم ١٧.

٤٣٠

للحظر الذي فرضه الخليفة الثاني على تدوين الحديث، روى ابن سعد في طبقاته عن عبد اللّه بن عمرو: قال: استأذنت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتاب ما سمعت منه، قال: فأذن لي فكتبته، فكان عبد اللّه يسمى صحيفته تلك «الصادقة».

وروى أيضاً عن مجاهد، قال: رأيت عند عبد اللّه بن عمرو بن العاص صحيفة وسألت عنها، فقال: هذه الصادقة، فيها ما سمعت من رسول اللّه «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ليس بيني و بينه فيها أحد.(١)

ويظهر ممّا نقله ابن سعد في طبقاته انّه كان في حياة الرسول كثير الصوم فينقل هو ويقول: قال لي رسول اللّه: ألم اُنبأ انّك تقوم الليل وتصوم النهار ؟ قال: قلت إنّي أقوى، قال: فانّك إذا فعلت ذلك هجمت العينُ وتنفه النفسُ، صم من كلّ شهر، ثلاثة أيام فذلك صوم الدهر.(٢)

وهذا يعرب عن أنّه لم يكن متزناً في سلوكه، يروي طاووس قال: رأى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عبد اللّه بن عمرو ثوبين معصفرين، فقال: أُمّك أمرتك بهذا؟ فقال: أغسلهما يا رسول اللّه؟ فقال رسول اللّه: حرّقهما.

وروى ابن سعد أيضاً عن رشدين بن كريب، قال: رأيت عبد اللّه بن عمرو يعتم بعمامة حرقانيّة ويُرخيها شبراً.

وروى أيضاً عن العريان بن الهيثم، قال: وفدت مع أبي إلى يزيد بن معاوية، فجاء رجل طوال أحمر عظيم البطن فسلّم ثمّ جلس، فقال أبي: من هذا؟ فقيل: عبد اللّه بن عمرو.(٣)

والرجل وإن كان راوية الحديث، ولكن لم يكن واعية له وذا بصيرة في

____________________

١ طبقات ابن سعد: ٢/٣٧٣.

٢ طبقات ابن سعد: ٤/٢٦٢.

٣ المصدر السابق: ٤/٢٦٥-٢٦٦.

٤٣١

الدين، فقد زلّت قدمه في حياة الاِمام أمير الموَمنينعليه‌السلام حيث شارك في قتاله وحمل الراية ضده.

قال الجزري: وشهد مع أبيه فتح الشام، وكانت معه راية أبيه يوم اليرموك، وشهد معه أيضاً صفين وكان على الميمنة، قال له أبوه: يا عبد اللّه : أخرج فقاتل، فقال: يا أبتاه أتأمرني أن أخرج فأُقاتل وقد سمعتَ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعهد إليَّ ما عهد؟! قال: أنشدك اللّه يا عبد اللّه، ألم يكن آخر ما عهد إليك رسول اللّه أن أخذ بيدك فوضعها في يدي، وقال: أطع أباك؟ قال: اللهم بلى. قال: فانّي أعزم عليك أن تخرج فتقاتل، فخرج فقاتل وتقلّد بسيفين، وندم بعد ذلك فكان يقول: مالي ولصفين، مالي و لقتال المسلمين لوددت انّي متّ قبله بعشرين سنة.

وقيل انّه شهدها بأمر أبيه له ولم يقاتل، قال ابن أبي مليكة: قال عبد اللّه بن عمرو: «أما واللّه ما طعنتُ برمح ولا ضربتُ بسيف ولا رميت بسهم، وما كان رجل أجهد منّي من رجل لم يفعل شيئاً من ذلك».(١)

أقول: لو افترضنا صحة عهد الرسول بلزوم إطاعة أبيه، فلا يرمي الحديث إلاّ إلى إطاعته في الاُمور المباحة، كيف! وقد روى هو عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال: لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم ولا في معصية اللّه عزّ وجلّ.(٢)

فالاحتجاج بقول رسول اللّه «أطع أباك» كأنّه واجهة لما ارتكب من الموبقات حيث شارك في حرب إمام تعد حربه حرباً لرسول اللّه وسلمه سلماً لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي: أنا حرب لمن حاربتم و سلم لمن سالمتم.(٣)

____________________

١ أُسد الغابة:٣/٢٣٤.

٢ مسند أحمد: ٢/٢١٢.

٣ كفاية الطالب ، ص ٢٩٥؛ سنن الترمذي :٢/٣١٩؛ مستدرك الصحيحين : ٣/١٤٩؛ أُسد الغابة :٥/٥٢٣؛ كنز العمال:٦/٢١٦.

٤٣٢

ولكنّه أظهر الندم فيما لا ينفع الندم فيه.

كيف استجاب عبد اللّه بن عمرو لدعوة أبيه، وهو يعلم أنّ الخليفة الذي أصفق المهاجرون والاَنصار على خلافته وإمامته قد صار واجب الطاعة، والخروج عليه معصية وإثم مبين؟ قال سبحانه:( وإن جاهدَاكَ على أن تُشْ-رِكَ بِ-ي ما لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهما ) (لقمان /١٥) ولا خصوصية للشرك في هذه الآية بل الملاك معصية اللّه سبحانه.

وعلى كلّ تقدير فقد توفي عبد اللّه بن عمرو في الشام سنة ٦٥، وهو يومئذ ابن ٧٢ سنة.(١)

وقال ابن حجر نقلاً عن أبي عمر الكندي في تاريخه انّه توفي في نصف جمادى الآخرة سنة ٦٥ بمصر، فلم يستطع أن يخرج بجنازته لشغب الجند على مروان فدفن في داره.(٢)

وهذا يعرب عن تعاطفه مع الاَُمويين إلى نهاية عمره.

وعلى أية حال فقد بلغ ما اسند إليه سبعمائة حديث اتفقا له على سبعة أحاديث، وانفرد البخاري بثمانية ومسلم بعشرين(٣) وقد بلغت رواياته في المسند الجامع أربعمائة وتسع وخمسين حديثاً(٤)

فلنذكر من روائع أحاديثه نماذج.

____________________

١ الطبقات الكبرى: ٤/٢٦٨.

٢ تهذيب التهذيب: ٥/٣٣٧ برقم ٥٧٥.

٣ سير أعلام النبلاء:٣/٧٩ برقم ١٧.

٤ المسند الجامع: ١١/٥ برقم٣٨٧.

٤٣٣

روائع أحاديثه

١. أخرج البخاري في صحيحه، عن الشعبي، عن عبد اللّه بن عمرو، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال:

«المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى اللّه عنه».(١)

٢. أخرج الاِمام أحمد في مسنده، عن عمرو بن شعيب، عن جدّه عبد اللّه بن عمرو، قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مُروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعاً، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشراً وفرِّقوا بينهم في المضاجع.(٢)

٣. أخرج الاِمام أحمد في مسنده، عن شعيب، عن جدّه عبد اللّه بن عمرو، قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من بنى للّه مسجداً، بُني له بيت أوسع منه في الجنة.(٣)

٤. أخرج الترمذي عن ريحان بن يزيد، عن عبد اللّه بن عمرو، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال: «لا تحل الصدقة لغنيٍّ ولا ذي مرّة سويٍّ».(٤)

٥. أخرج أحمد عن مسروق، عن عبد اللّه بن عمرو، عن النبيقال:أربع من كن فيه كان منافقاً، أو كانت فيه خصلة من الاَربع، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر.(٥)

٦. أخرج مسلم في صحيحه، عن أبي عبد الرحمان الحُبليّ، عن عبد اللّه بن عمرو انّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة.(٦)

____________________

١ البخاري، الصحيح: ١/٧، كتاب الاِيمان؛ مسند أحمد: ٢/٢٠٥.

٢ مسند أحمد:٢/١٨٠.

٣ مسند أحمد:٢/٢٢١.

٤ سنن الترمذي: ٣/٤٢ برقم ٦٥٢.

٥ مسند أحمد:٢/١٨٩.

٦ صحيح مسلم: ٤/١٧٨، باب خير متاع الدنيا المرأة الصالحة.

٤٣٤

٧. أخرج ابن ماجة، عن مسروق، عن عبد اللّه بن عمرو، قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خياركم، خياركم لنسائهم.(١)

٨. أخرج أبو داود في سننه، عن عمرو بن شعيب، عن جدّه عبد اللّه بن عمرو انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «لا طلاق إلاّ فيما تملك، ولا عتق إلاّ فيما تملك، ولا بيع إلاّ فيما تملك«زاد ابن الصباح» ولا نذر إلاّ فيما تملك».(٢)

٩. أخرج ابن ماجة عن عمرو بن شعيب، عن جدّه عبد اللّه بن عمرو انّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: ما أسكر كثيره فقليله حرام.(٣)

١٠. أخرج أبو داود في سننه، عن الوليد بن عبدة، عن عبد اللّه بن عمرو، إنّ نبي اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن الخمر والميسر والكوبة(٤)

والغُبيراء(٥) ، وقال: كلُّ مسكرٍ حرام.(٦)

١١. أخرج الاِمام أحمد في مسنده، عن عمرو بن شعيب، عن جدّه عبد اللّه ابن عمرو انّه سمع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: ألا أخبركم بأحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ فسكت القوم، فأعادها مرتين أو ثلاثاً، قال: القوم: نعم يا رسول اللّه، قال: أحسنكم خلقاً.(٧)

١٢. أخرج البخاري في الاَدب المفرد ، عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص يبلغ به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: من لم يرحم صغيرنا ويعرف حقّ كبيرنا فليس منّا.(٨)

١٣. أخرج الاِمام أحمد في مسنده، عن أبي قلابة، عن عبد اللّه بن عمرو،

____________________

١ سنن ابن ماجة: ١/٦٣٦ برقم ١٩٧٨.

٢ سنن أبي داود: ٢/١٥٨ برقم ٢١٩٠.

٣ سنن ابن ماجة: ٢/١١٢٤ برقم ٣٣٩٤.

٤ الكوبة بضم الكاف، قيل: النرد، وقيل: الطبل الصغير، وقيل: البربط.

٥ الغُبيراء: ضرب من الشراب يتخذه الاَحباش من الذرة.

٦ سنن أبي داود: ٣/٣٢٨ برقم ٣٦٨٥.

٧ مسند أحمد: ٢/١٨٥.

٨ البخاري: الاَدب المفرد، ص ١٣٠ برقم ٣٥٦.

٤٣٥

عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: من قتل دون ماله مظلوماً فهو شهيد.(١)

هذه نماذج من روائع أحاديثه، وكم لها من نظير، وإليك ما أسند إليه من الاَحاديث السقيمة، وقبل عرض نماذج منها، نسلط الاضواء على أحاديثه.

يظهر من غير واحد من الروايات انّ الرجل كان معجباً بالعهدين وغيرهما فيروى عنهما كثيراً، ويشهد على ذلك الاُمور التالية:

١. روى الاِمام أحمد عن أبي سعد، قال: جاء رجل إلى عبد اللّه بن عمرو، فقال: إنّما أسألك عمّا سمعت من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا أسألك عن التوراة، فقال: سمعت من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده...(٢) ولولا انّه كان يروي عن العهدين بكثرة، وبنحو يشتبه مصدر الرواية على السامع لما قال له: «أسألك عمّا سمعت من رسول اللّه ولا أسألك عن التوراة».

٢. روى واهب بن عبد اللّه، عن عبد اللّه بن عمرو، انّه قال: رأيت فيما يرى النائم لكأنّ في إحدى اصبعيّ سمناً وفي الاُخرى عسلاً فأنا ألعقهما، فلما أصبحت ذكرت ذلك لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: تقرأ الكتابين التوراة والفرقان فكان يقروَهما.(٣)

ولذلك لا تعجب إذا وقفت على أنّه كان يروي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله: «بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج....(٤)

وقد فسر أبو جعفر الطحاوي التحديث عن بني اسرائيل بنقل ما جرى عليهم من العقوبات لينتفع به المسلمون، وأضاف أنّ التحديث عنهم إختياري وليس بإيجابي(٥)

أقول: لو كان المراد ما ذكره فقد سبق الكتاب العزيز إلى نقله فلم يكن

____________________

١ مسند أحمد: ٢/٢٢١ و ٢٠٢ و ٢٢٢.

٢ مسند أحمد: ٢/٢٢١ و ٢٠٢ و ٢٢٢.

٣ مسند أحمد: ٢/٢٢١ و ٢٠٢ و ٢٢٢.

٤ صحيح البخاري: ٤/١٧٠، باب ما ذكر عن بني اسرائيل من كتاب الاَنبياء.

٥ مشكل الآثار : ١/٣٠.

٤٣٦

مجهول الحكم حتى يبين الرسول حكمه، على أنّ كون النقل غير إيجابي لا يدفع الاِشكال، فإنّه يكمن في فسح المجال لهذه النقول سواء أكان إختيارياً أم إيجابياً.

وقد جاءت الاَخبار بأنّ عبد اللّه بن عمرو أصاب يوم اليرموك زاملتين من علوم أهل الكتاب فكان يحدث منهما بأشياء كثيرة من الاِسرائيليات، وقد قال فيهما الحافظ ابن كثير: إنّ منها المعروف و المشهور والمنكور والمردود.(١)

وعلى ضوء ذلك فلا عجب أن يروى عنه مالا يفارق عقيدة اليهود من الجبر والتشبيه، وإليك نماذج من رواياته السقيمة.

١. الفراغ من الاَمر: الجبر

أ. روى الاِمام أحمد عن شفيَّ الاصبحي، عن عبد اللّه بن عمرو، عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: خرج علينا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي يده كتابان ، فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ قال: قلنا لا، إلاّ أن تخبرنا يا رسول اللّه. قال - للذي في يده اليمنى -: هذا كتاب من ربّ العالمين تبارك و تعالى بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثمّ أجمل على آخرهم لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً، ثمّ قال - للذي في يسار -: هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثمّ أجمل على آخرهم لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً.

فقال أصحاب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فلاَي شيء إذاً نعمل إن كان هذا أمر قد فرغ منه؟ قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سدودا وقاربوا، فانّ صاحب الجنة يختم له بعمل الجنة وان عمل أيَّ عمل، وانّ صاحب النار ليختم له بعمل أهل النار وان عمل أيّ عمل، ثمّ قال بيده فقبضها، ثم قال: فرغ ربكم عزّ وجلّ من العباد، ثمّ قال باليمنى: فنبذ بها، فقال: فريق في الجنة ونبذ باليسرى، فقال: فريق في السعير.(٢)

____________________

١ أضواء على السنة المحمدية، ص ١٥٥.

٢ مسند أحمد: ٢/١٦٧.

٤٣٧

ب. أخرج الترمذي، عن عبد اللّه بن الديلمي، قال:سمعت عبد اللّه بن عمرو يقول: سمعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنّ اللّه خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأ ضلّ، فلذلك أقول: جفّالقلم على علم اللّه.(١)

ج. أخرج مسلم في صحيحه، عن أبي عبد الرحمان الحبليّ، عن عبد اللّه ابن عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: كتب اللّه مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والاَرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء.(٢)

هذه الاَحاديث التي رواها عبد اللّه بن عمرو بن العاص لا تفارق الجبر قيدَ شعرة، وتعرب عن أنّه تمّ القضاء على الناس منذ الاَزل وجعلهم صنفين فكل ميسَّر لما خلق له، لا لما لم يخلق له، فأهل السعادة ميسّرون للاَعمال الصالحة فحسب، وأهل الشقاء ميسّرون للاَعمال الطالحة فحسب.

هذه المرويات الّتي تكتظ بها الصحاح والمسانيد ، تناقض الاُصول العقلية والنقلية المسلّمة، وحاشا رسول اللّه وخيرة أصحابه أن ينبسوا بها ببنت شفة، وإنّما حيكت على منوال عقيدة الجهاز الاَمويّ الحاكم، ولذلك لا تعجب عمّا يقوله إمام الحنابلة في رسائله:

والقدر خيره وشره، وقليله وكثيره، وظاهره وباطنه، وحلوه ومرّه ،ومحبوبه ومكروهه، وحسنه وسيئه، وأوّله وآخره من اللّه. قضاء قضاه، وقدر قدره عليهم، لا يعدو واحد منهم مشيئة اللّه ولا يجاوز قضاءَه، بل هم كلّهم صائرون إلى ما خلقهم له واقفون فيما قدر عليهم لاَفعاله وهو عدل منه عزّ ربّنا

____________________

١ الترمذي : السنن: ٥/٢٦ رقم الحديث ٢٦٤٢.

٢ صحيح مسلم: ٨/٥١، باب حجاج آدم و موسىعليهما‌السلام .

٤٣٨

وجلّ. والزنا والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس وأكل المال الحرام والشرك باللّه والمعاصي كلّها بقضاء وقدر.(١)

أقول: لا يكتب هذا القدر الجاف الجافي على الانسان المسكين إلاّ متعنّت حنق، قاس، حقود بلا سبب ولا مبرّر، وبذلك ابتلي الكفار والعصاة بشقاء أبدي، ولا مجال - بعد ذلك - لرأفته ورحمته وإحسانه بل قدّر كلّ ذلك لآخرين بلا جهة ولا سبب، كما يقول اللّه تعالى - في زعمهم - في بعض رواياتهم: خلقت هوَلاء للجنة ولا أبالي وخلقت هوَلاء للنار ولا أبالي.(٢)

أخرج مسلم في صحيحه، عن جابر قال: سراقة بن مالك بن جُعشم قال: يا رسول اللّه بيّن لنا ديننا كأنّا خلقنا الآن فيما العمل اليوم؟ أفيما جفّت به الاَقلام وجرت به المقادير ، أم فيما نستقبل؟ قال: لا، بل فيما جفّت به الاَقلام وجرت به المقادير قال: ففيم العمل؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اعملوا فكلّ ميسّر.(٣)

إنّ قول الرسول في الرواية الاُولى، أعني: «هذا كتاب من ربّ العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم فلا يزداد فيهم ولا ينقص منهم أبداً» أثار سوَالاً لبعض الصحابة، حيث قال: وفيم العملُ يا رسول اللّه إن كان أمر قد فرغ منه؟ فأجاب رسول اللّهبقوله: سدِّدوا وقاربوا.

ولكنّ الجواب لا صلة له بالسوَال، فانّ السائل يقول: إذا قُضي على أحد بالجنة فمصيره لا محالة إلى الجنة بصورة قضية ضرورية، فعند ذلك يصير تكليفه لغواً والعمل باطلاً بلا حاجة إلى التسديد والتقارب اللذين ركز عليهما النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله: «سددوا وقاربوا» خصوصاً بالنظر إلى ما

____________________

١ طبقات الحنابلة:١/٢٥.

٢ بحوث مع أهل السنة والسلفية، ص ٤٧.

٣ صحيح مسلم: ٨/٤٨. باب كيفية خلق الآدمي في بطن أُمّه من كتاب القدر.

٤٣٩

بعده، حيث قال: «فانّ صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أيَّ عمل، وانّ صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أيّ عمل».

فعلى هذا تكون الهداية في آخر لحظات العمر مدعاة للفوز بالجنة مع أنّه سبحانه يخطِّىَ تلك الفكرة، ويردّ على تلك المزعمة بأنّ فرعون حينما أظهر الاِيمان في آخر لحظات حياته وقال:( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمينَ ) ، فردَّ عليه سبحانه بقوله:( الآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ المُفْسِدِينَ ) (يونس/٩٠-٩١).

إنّ الحديث الثاني الذي رواه الترمذي عن عبد اللّه بن عمرو من أنّه سبحانه «خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأ ضلّ»، يثير سوَالاً و هو ما هو المراد من خلق الناس في ظلمة مع انّه سبحانه، يقول: خلق الناس على فطرة التوحيد قال سبحانه:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطرَتَ اللّهِ الّتِي فَطَرَالنّاسَ عَلَيْها ) (الروم/٣٠) فهل يصحّ أن نعبر عن فطرة التوحيد بالظلمة؟

ثمّ ما هو ذنب من لم يسطع النور على قلبه فمكث في ظلمته وصار شقياً؟!

فعلى ضوء تلك الاَحاديث لا يقدر الاِنسان على اضلال نفسه وهدايتها كما لا يقدر على إدخال نفسه في الجنّة أو النار، فكلما أراد من شيء يكون الكتاب السابق حائلاً بينه و بين إرادته.

ثمّ إنّ الكتاب الذي سبق، حاكم على الاِنسان فلا يزيد ولا ينقص، وهو يخالف النصوص الثابتة من القرآن والسنّة من تغيير المصير بالاَعمال الصالحة أو الطالحة كما انّ القول بأنّه جفّ القلم على ما كان لا يتغير ولا يتبدل فكرة يهودية كشف عنها القرآن حيث نقل عنهم قولهم( يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاء ) (المائدة/٦٤).

٤٤٠