الحديث النبوي بين الرواية والدراية

الحديث النبوي بين الرواية والدراية0%

الحديث النبوي بين الرواية والدراية مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 676

الحديث النبوي بين الرواية والدراية

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 676
المشاهدات: 85432
تحميل: 5984

توضيحات:

الحديث النبوي بين الرواية والدراية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 676 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85432 / تحميل: 5984
الحجم الحجم الحجم
الحديث النبوي بين الرواية والدراية

الحديث النبوي بين الرواية والدراية

مؤلف:
العربية

٤. مانقله أيضاً في باب الغيرة، عن المسور بن مخرمة، قال: سمعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول و هو على المنبر :إنّ بني هشام بن المغيرة استأذنوا أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، فلا آذن، ثمّ لا آذن، ثمّ لا آذن، إلاّ أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنّما هي بضعة مني يريبني ما أرابها، ويوَذيني ما آذاها.(١) هذه هي صور أربع لرواية واحدة، وأنت ترى انّ البخاري كيف يلعب بالرواية سنداً و متناً، فتارة يذكره مسنداً إلى مخرمة، وأُخرى ينقله مرسلاً، وثالثة يضم إلى قصة الخطبة قصة أُخرى وهي طلب المسور سيف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأُخرى يجردها عنها. وأمّا الاختلاف في اللفظ فحدّث عنه ولا حرج، ومع ذلك فالرواية مكذوبة وموضوعة على لسان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وضعها الاَمويون في عهدهم للحطّ من شأن عليّعليه‌السلام ، وإليك بيانها. أمّا ما رواه الترمذي و أحمد مسنداً إلى ابن أبي مليكة، عن عبد اللّه بن الزبير فلا يصحّ الاحتجاج به لما عرفت من أنّالرجل كان من أعداء عليّ «عليه‌السلام » ، فلا يمكن الاعتماد على قوله، وقد عرفت شيئاً من عدائه. وأمّا ما أخرجه البخاري عن المِسْوَر، ففيه وجوه من الاشكال: الاَوّل: انّ الصلة بين القصتين في الصورة الاُولى مقطوعة، حيث إنّ ابن مخرمة يطلب سيف رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولما يواجه امتناع علي بن الحسين يتبعه بقصة أُخرى ويقول: إنّ علي بن أبي طالب خطب ابنة أبي جهل، فأيُّ صلة بين القصتين؟ وان

____________________

١ صحيح البخاري: ٧/٣٧، باب ذبّ الرجل عن ابنته في الغيرة والانصاف من كتاب النكاح.

٥٠١

أتعب ابن حجر نفسه في شرحه على البخاري حتى يوّضح الصلة بينهما.(١) الثاني : انّ المسور بن مخرمة ولد بمكة بعد الهجرة بعامين وله من العمر عند وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمان سنين، فكيف يقول في الصورة الاُولى ممّا نقلها البخاري: فسمعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخطب الناس في ذلك على منبره، وانا يومئذٍ محتلم. ولا يطلق على من له ثمان سنين انّه محتلم، بل ولا كالمحتلم؟ فما ذكره الذهبي انّ المسور كان كبيراً محتلماً يوم ذاك فهو غفلة عن سنة مولده، وقد أرّخ هو ميلاده بما ذكرنا.(٢) الثالث : كيف ينقل علي بن الحسينعليهما‌السلام - حينما قفل راجعاً من كربلاء إلى المدينة المنورة وقلبه مثقّل بالهموم والمصائب - تلك القصة الموهنة التي تحطّ من شخصية جدّهعليه‌السلام ، للزهريّ فهل يقوم بذلك إنسان عادي فضلاً عن علي بن الحسينعليهما‌السلام ؟ حتى ولو افترضنا انّه سمعه من المِسْور بن مخرمة. الرابع: انّ جميع صور الرواية الّتي رواها البخاريّ تنتهي إلى المسور بن مخرمة، الّذي كان منحرفاً عن عليّ، ويشهد على ذلك ما نقله الذهبي. قال: قدم دمشق بريداً من عثمان يستصرخ بمعاوية. وقال أيضاً: كانت الخوارج تغشاه وينتحلونه. وقال أيضاً: قال عروة: فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلاّ صلّى عليه. وذكر انّ ابن الزبير لا يقطع أمراً دون المسور بمكة.(٣) كلّ ذلك يشهد على أنّه قد نصب العداء لاَمير الموَمنينعليه‌السلام

____________________

١ لاحظ فتح الباري: ٦/٢١٤ فذكر انّ الصلة هي انّ رسول اللّه كان يحب رفاهية فاطمة فأنا أيضاً احب رفاهية خاطرك لكونك ابن ابنها فعاطني السيف حتى أحفظه لك. وهو كما ترى.

٢ سير أعلام النبلاء: ٣/٣٩٣ برقم ٦٠.

٣ سير أعلام النبلاء:٣/٣٩٠- ٣٩٤ برقم ٦٠.

٥٠٢

واتخذ عداءه بطانة له حتى بلغ به الاَمر إلى انّه لا يذكر معاوية إلاّصلى عليه، و ان الزبير لا يقطع أمراً دونه.كلمة لاَبي جعفر الاسكافي حول الرواية وثمةكلمة قيمة لاَبي جعفر الاسكافي، لا بأس بنقلها هنا نقلها ابن أبي الحديد عنه: قال: إنّ معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في عليعليه‌السلام ، تقتضي الطعنَ فيه والبراءة منه؛ وجعل لهم على ذلك جُعلاً يُرْغَبُ في مثله؛ فاختلقوا ما أرضاه، منهم: أبو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين: عروة بن الزبير. روى الزهريّ أنّعروة بن الزبير حدّثه، قال: حدّثتني عائشة، قالت: كنت عند رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أقبل العباس وعليّ، فقال: يا عائشة، إنّهذين يموتان على غير ملّتي، أو قال: غير ديني. وروى عبد الرزاق، عن معمر، قال: كان عند الزهريّ حديثان، عن عُروة، عن عائشة في عليّعليه‌السلام ؛ فسألتُه عنهما يوماً؟ فقال: ما تصنع بهما وبحديثهما! اللّه أعلم بهما؛ إنّي لاَتهمهما في بني هاشم. قال: فأمّا الحديث الاَوّل؛ فقد ذكرناه؛ وأمّا الحديث الثاني فهو أنّعُروة زعم أنّعائشة حدثته، قالت: كنت عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أقبل العباس وعلي، فقال: «يا عائشة؛ إن سرّكِ أن تنظري إلى رجلين من أهل النار فانظري إلى هذين قد طلعا»، فنظرت، فإذا العباس وعلي بن أبي طالب. وأمّا عمرو بن العاص، فروي عنه الحديث الذي أخرجه البخاري و مسلم في صحيحيهما مسنداً متصلاً بعمرو بن العاص، قال: سمعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٥٠٣

يقول: «إنّ آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء إنّما وليّي اللّه وصالح الموَمنين». وأمّا أبو هريرة، فروي عنه الحديث الذي معناه أنّ علياًعليه‌السلام خطب ابنة أبي جهل في حياة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأسخطه، فخطب على المنبر، وقال: لاها اللّه! لا تجتمع ابنة وليّ اللّه وابنة عدو اللّه أبي جهل! إنّفاطمة بضعة منّي يوَذيني ما يوَذيها؛ فإن كان علي يريد ابنة أبي جهل فليفارق ابنتي، وليفعل ما يريد، أو كلاماً هذا معناه، والحديث مشهور من رواية الكرابيسي. قلت: هذا الحديث أيضاً مخرج في صحيحي مسلم والبخاري عن المِسْوَر ابن مخرَمة الزهريّ؛ وقد ذكره المرتضى في كتابه المسمى «تَنزيه الاَنبياء و الاَئمّة»، وذكر أنّه رواية حسين الكرابيسيّ، وأنّه مشهور بالانحراف عن أهل البيتعليهم‌السلام ، وعداوتهم والمناصبة لهم، فلا تقبل روايته. ولشياع هذا الخبر وانتشاره ذكره مروان بن أبي حفصة في قصيدة يمدح بها الرشيد، ويذكر فيها ولد فاطمةعليهم‌السلام ويُنحي عليهم، ويذمّهم، وقد بالغ حين ذمّعلياًعليه‌السلام ونال منه، وأوّلها:سَلامٌ على جُمْلٍ، وهَيْهاتَ من جملِ * ويا حبّذا جملٌ وإن صَرَمَتْ حَبْلي يقول فيها:عليّ أبوكم كان أفضلَ منكمُ * أباه ذوُو الشورى وكانوا ذَوِي الفَضْلِ وساء رسول اللّه إذ ساء بنته * بخِطْبته بنتَ اللعين أبي جهل فذمَّ رسول اللّه صهر أبيكم * على مِنْبَرٍ بالمنطق الصادع الفصلِ وحكّم فيها حاكمين أبوكُم * هما خلعاه خَلْعَ ذِي النَّعْل للنعلِ وقد باعها من بعده الحسنُ ابنُه * فقد أبطلت دعواكمُ الرثةُ الحبلِ وخلّيتُموها وهي في غير أهلها * وطالبتُموها حين صارت إلى أهلِ

٥٠٤

وقد رُوي هذا الخبر على وجوه مختلفة، وفيه زيادات متفاوتة؛ فمن الناس من يروي فيه: «مهما ذممنا من صهر فإنّا لم نذمّ صهر أبي العاص بن الربيع»، ومن الناس من يروي فيه: «ألا إنّ بني المغيرة أرسلوا إلى علىٍّ ليزوجوه كريمتهم»؛ وغير ذلك.(١) وفي الختام نقول: إنّ قصارى ما بذله ابن حجر في كتابه فتح الباري(٢) في غير واحد من أجزاء كتابه، لا يخرج عن تبرير عمل عليعليه‌السلام و انّه لم تكن خطبته مخالفة للاِسلام و انّه انتهى عن العمل بعدما وقف على أنّ الزواج ببنت أبي جهل سينتهي إلى إيذاء بضعة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان عليه أن يبذل جهوده في تقييم الرواية وعرضها على التاريخ الصحيح في سيرة عليّعليه‌السلام وقربه من النبي وانّه كان يتبعه اتباع الظل لذي الظل وكان واقفاً على ما يبغض النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو يرضيه، فهل يتصور منهعليه‌السلام أن يخطب بنت أبي جهل - الذي هو من ألد أعداء الاِسلام - على فاطمة الزهراء من دون استئذان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟! نعم لا نقول إنّتزويج بنت أبي جهل المسلمة كان حراماً، ولكن ليس كل حلال يعمل به، خصوصاً مثل عليعليه‌السلام بالنسبة إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبضعته. ولعل في هذا البحث غنى وكفاية. فقد بان من هذا انّ عليّاًعليه‌السلام لم يُغضب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وها أنا أعرّف لك من أغضب الرسول و آذاه. فهذا هو رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: فاطمة بضعة مني

____________________

١ شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ٤/٦٣ - ٦٥

٢ فتح الباري:٦/٢١٤؛ ٧/٨٥؛٩/٣٢٧.

٥٠٥

فمن أغضبها أغضبي.(١) ومن جانب آخر يروي البخاري انّ فاطمةعليها‌السلام ابنة رسول اللّه سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقسم لها ميراثها ما ترك رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما أفاء اللّه عليه. فقال لها أبوبكر: إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال: لا نُورث ما تركناه صدقة. فغضبت فاطمةعليها‌السلام بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهجرت أبا بكر فلم تزل بها هاجرته حتى توفيت.(٢) وروى البخاري أيضاً انّ فاطمةعليها‌السلام بنت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول اللّه مما أفاء اللّه عليه بالمدينة وفدك وما يبقى من خمس خيبر - إلى ان قال: - فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرتْه، فلم تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد النبي ستة أشهر، فلمّا توفيت دفنها زوجها عليّ ليلاً، ولم يوَذن بها أبا بكر، وصلّى عليها.(٣) وروى البخاري أيضاً: انّ فاطمةعليها‌السلام والعباسعليه‌السلام أتيا أبا بكر يلتمسان من ميراثهما من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهما حينئذ يطلبان أرضيهما من فدك و سهمهما من خيبر، فقال لهما أبو بكر: سمعت رسول اللّه يقول: لا نورث ما تركنا صدقة، إنّما يأكل آل محمد من هذا المال. قال أبو بكر: واللّه لا أدع أمراً رأيت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصنعه فيه إلاّ صنعته قال: فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتّى ماتت.(٤) ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَو أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهيدٌ ) ( ق/٣٧).

____________________

١ صحيح البخاري: ٥/٥١ في كتاب مناقب قرابة الرسولص.

٢ صحيح البخاري: ٤/٧٩، باب فرض الخمس.

٣ صحيح البخاري: ٥/١٣٩، باب غزوة خيبر ؛ وأخرجه أيضاً مسلم في صحيحه :٥/١٥٣، كتاب الجهاد، باب قول النبي لا نورث ما تركناه صدقة؛ وأخرجه أحمد بن حنبل في مسنده: ١/٩.

٤ صحيح البخاري: ٨/١٤٩، كتاب الفرائض.

٥٠٦

٣٠- أبو سعيد الخدري

(١٠ ق.ه- - ٧٤ه-)

سيرته وأحاديثه الرائعة

أحاديثه السقيمة:

١. ثلاثمائة وخمس عشرة شريعة

٢. نزول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند رغبة عمر

٣. احتجاج آدم على موسى بالقدر

٤. قتال المارّ بين يدي المصلي

٥. النبي يغفل عن صلاته

٦. الوقوع على السبايا قبل الاستبراء

٧. الصوم في السفر

٨. سلطان إبليس على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٩. كذب إبراهيم ثلاث مرّات

١٠. التحدث عن بني إسرائيل.

هو سعد بن مالك بن سنان الخزرجي وأخوه لاَُمّه هو قتادة بن النعمان الظفري أحد البدريين، استشهد أبوه «مالك» يوم أُحد، و شهد أبو سعيد الخندقَ وبيعة الرضوان.

قال أبو سعيد: عُرضتُ يوم أحد وأنا ابن ثلاث عشرة، فجعل أبي يأخذ بيدي و يقول: يا رسول اللّه إنّه عَبْلَ العظام، و جعل نبيّ اللّه يصعِّد في النظر ويصوِّبه ثمّ قال: رُدّه فردّني.

قال الذهبي: مسند أبي سعيد ١١٧٠ حديثاً، ففي البخاري و مسلم ٤٣ وانفرد البخاري ب- ١٦ حديثاً و مسلم ب-٥٢ حديثاً.(١)

ولكن الموجود من أحاديثه في الصحاح و المسانيد لا يبلغ هذا المقدار

____________________

١ سير أعلام النبلاء:٣/١٦٨ برقم ١٨.

٥٠٧

بل ينقص عنه بكثير، و قد جمعت في المسند الجامع رواياته فبلغت ٦٢٥ حديثاً(١) . ولعلّه لم يستوفها كما هو دأبه في غير مورد.

يقول ابن الاَثير : أبو سعيد الاَنصاري الخدري و هو مشهور بكنيته من مشهوري الصحابة و فضلائهم و هو من المكثرين من الرواية عنه، وأوّل مشاهده الخندق، و غزا مع رسول اللّه اثنتي عشرة غزوة، وروى عنه من الصحابة: جابر وزيد بن ثابت وابن عباس و أنس و ابن عمر وابن الزبير؛ ومن التابعين: سعيد بن المسيب وأبو سلمة وعبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة و عطاء بن يسار و أبو أمامة بن سهل بن حنيف و غيرهم، توفي سنة ٧٤ه- يوم الجمعة و دفن بالبقيع، وهو ممّن له عقب من الصحابة، و كان يحفي شاربه و يصفر لحيته.(٢)

وقال في قسم الكنى: و كان من الحفاظ لحديث رسول اللّهالمكثرين ومن العلماء الفضلاء العقلاء.(٣)

وقال ابن عبد البر: وكان ممّن حفظ عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنناً كثيرة وروى عنه علماً جماً، و كان من نجباء الاَنصار و علمائهم وفضلائهم.(٤)

وروى السيد نور الدين السمهودي في «جواهر العقدين» نقلاً عن الحافظ أبي نعيم الاصبهاني في حلية الاَولياء عن أبي الطفيل، قال: إنّ عليّاً «عليه‌السلام » قام فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: أنشد اللّه من شهد يوم غدير خم إلاّ قام، ولا يقوم رجل يقول: إنّي نُبئت أو بلغني، إلاّ رجل سمعتْ أُذناه و وعاه قلبه.

____________________

١ المسند الجامع: ٦/٥٧٥.

٢ أُسد الغابة: ٢/٢٨٩.

٣ المصدر نفسه: ٥/٢١١.

٤ الاستيعاب: ٢/٦٠٢ تحقيق علي محمد البجاوي.

٥٠٨

فقام سبعة عشر رجلاً منهم أبو سعيد الخدري.(١)

وقال ابن قتيبة - عند سرده لوقعة الحرّة لما أراد أهل الشام نهبَ المدينة وقتلَ رجالها الذين خلعوا بيعة يزيد عن أعناقهم - قال: ولزم أبو سعيد الخدري في بيته فدخل عليه نفر من أهل الشام، فقال: أيّها الشيخ من أنت؟ فقال: أنا أبو سعيد صاحب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالوا: مازلنا نسمع عنك فبحظك أخذت في تركك قتالنا و كفك عنّا ولزوم بيتك، ولكن أخرج إلينا ما عندك، قال: واللّه ما عندي مال فنتفوا لحيته و ضربوه ضربات، ثمّ أخذوا كلّما وجدوه في بيته حتّى الثوم و حتى زوج حمام كان له.(٢)

تعاطفه مع أهل البيتعليهم‌السلام

إنّ أبا سعيد الخدري من أجلاّء الصحابة الذين كانت لهم مواقف مشرِّفة مع أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، و قد عرفتَ أنّه أحد من شهد لعلي «عليه‌السلام » بالولاية يوم الغدير، وأخرج الاِمام أحمد عنه، انّه قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الاَرض، وعترتي أهل بيتي، وانّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.(٣)

وقد أخرج هذا الحديث الترمذي في سننه، عن جابر بن عبد اللّه، قال: رأيت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجته يوم عرفة و هو على ناقته القصواء يخطب فسمعته، يقول: ياأيّها الناس إنّي قد تركت فيكم ما إن

____________________

١ الغدير: ١/١٧٦.

٢ ابن قتيبة، الاِمامة والسياسة، ص ١٩٥.

٣ مسند أحمد: ٣/١٤.

٥٠٩

أخذتم به لن تضلّوا؛ كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي.(١)

هذه إلمامة عابرة بترجمة ذلك الصحابي العظيم، و إليك استعراض ما روي عنه من روائع الاَحاديث.

روائع أحاديثه

١. أخرج ابن ماجة في سننه، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من خرج من بيته إلى الصلاة، فقال: «اللهمّ إنّي أسألك بحقّ السائلين عليك، و أسألك بحقّممشاي هذا فإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعة وخرجت اتقاء سخطك و ابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي انّه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت». أقبل اللّه عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك.(٢)

وبالرغم من أنّ المعلق على سنن ابن ماجة ضعّف الحديث لمكان عطية العوفي، لكنّه رجل ثقة، وما نقموا منه إلاّ تشيّعه وحبّه لاَهل البيت «عليهم‌السلام ».

٢. أخرج ابن ماجة، عن جابر بن عبد اللّه، عن أبي سعيد الخدري، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إذا قضى أحدكم صلاته فليجعل لبيته نصيباً، فانّ اللّه جاعل في بيته من صلاته خيراً.(٣)

ولاَجل ذلك كان النبي يوَدِّي نوافل رمضان في بيته فرادى، و قلّما يتفق أن يصليها في المسجد، و ما هذا إلاّ لاَنّ للبيت نصيباً من الصلاة، و بذلك يعلم

____________________

١ سنن الترمذي:٥/٦٦٢ برقم ٣٧٨٦.

٢ سنن ابن ماجة:١/٢٥٦ برقم ٧٧٨؛ مسند أحمد: ٣/٢١، قوله «أقبل اللّه عليه بوجهه» خلاف قوله «صرف اللّه وجهه عنه» وكلاهما كنايتان عن شمول الرحمة وخلافه.

٣ سنن ابن ماجة: ١/٤٣٨ برقم ١٣٧٦ ؛ مسند أحمد: ٣/١٥.

٥١٠

انّ إقامة صلاة التراويح جماعة، إخلاء للبيت من إقامة الصلاة فيه، و قد أخرج ابن ماجة عن عبد اللّه بن سعد، قال: سألت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيما أفضل، الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ قال: ألا ترى إلى بيتي؟ ما أقربه من المسجد! فلئن أصلّي في بيتي أحبُّ إليّمن أن أُصلّي في المسجد إلاّأن تكون صلاة مكتوبة.(١)

ونقل المعلق عن الزوائد انّ اسناده صحيح و رجاله ثقات.

٣. أخرج البخاري في صحيحه، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: ما استخلف خليفة إلاّ له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، و المعصوم من عصم اللّه.(٢)

٤. أخرج الترمذي عن عطية ،عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اتقوا فراسة الموَمن فانّه ينظر بنور اللّه، ثمّ قرأ:( إِنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِين ) (٣)

٥.أخرج أبو داود في سننه، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري: قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر أو أمير جائر.(٤)

٦. أخرج مسلم في صحيحه، عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: من رأى منكم منكراً فليغيّ-ره بيده، ومن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه و ذلك أضعف الاِيمان.(٥)

٧. أخرج أحمد في مسنده، عن أبي عيسى الاَسواري، عن أبي سعيد

____________________

١ سنن ابن ماجة: ١/٤٣٩ برقم ١٣٧٨.

٢ صحيح البخاري: ٨/١٢٥، باب المعصوم من عصم اللّه.

٣ سنن الترمذي: ٥/٢٩٨ برقم ٣١٢٧ والآية ٧٥ من سورة الحجر.

٤ سنن أبي داود: ٤/١٢٤ برقم ٤٣٤٤.

٥ صحيح مسلم: ١/٥٠، باب كون النهي عن المنكر من الاِيمان.

٥١١

الخدري، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال: عوِّدوا المريض، واتّبعوا الجنائز تذكِّركم الآخرة.(١)

٨. أخرج الاِمام مسلم في صحيحه، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد الخدري: انّ ناساً من الاَنصار سألوا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعطاهم، ثمّ سألوه فأعطاهم، حتى إذا نفد ما عنده، قال: مايكن عندي من خير فلن أدّخره عنكم، و من يستعفف يعِفّه اللّه و من يستغن يُغنه اللّه و من يصبر يصبِّ-ره اللّه، و ما أُعطي أحد من عطاء خيراً وأوسع من الصبر.(٢)

٩. أخرج البخاري في الاَدب المفرد، وأحمد في مسنده، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من لا يرحم الناس لا يرحمه اللّه.(٣)

١٠. أخرج الترمذي، عن عبد اللّه بن غالب الحرّاني، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خصلتان لا تجتمعان في قومي: البخل وسوء الخلق.(٤)

١١. أخرج الترمذي، عن ابن أبي ليلى، عن عطية، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من لم يشكر الناس لم يشكر اللّه.(٥)

هذه جملة من روائع أحاديثه اقتصرنا عليها، لاَنّ المقصود عرض نماذج من أحاديثه التي علا هامتَها نورُ النبوّة، و إليك شيئاً ممّا نسب إليه والذي لا يوافق المعايير المذكورة في صدر الكتاب.

____________________

١ مسند أحمد: ٣/٢٢٣.

٢ صحيح مسلم: ٣/١٠٢، باب فضل التعفف والصبر.

٣ البخاري: الاَدب المفرد، ص ٩٥؛ مسند أحمد:٣/٤٠.

٤ سنن الترمذي: ٤/٣٤٣ برقم ١٩٦٢.

٥ سنن الترمذي: ٤/٣٣٩ برقم ١٩٥٥.

٥١٢

١. ثلاثمائة و خمس عشرة شريعة

أخرج عبد بن حميد، عن عبد اللّه بن راشد مولى لعثمان بن عفان، قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

إنّ بين يدي الرحمن تبارك وتعالى لوحاً فيه ثلاثمائة و خمس عشرة شريعة، يقول الرحمن: وعزتي وجلالي لا يجيئني عبد من عبادي لا يشرك بي شيئاً فيه واحدة، وإحدى منكنّ إلاّ أدخلته الجنة.(١)

تتضمن الرواية انّه سبحانه و تعالى أنزل شرائع كثيرة تربو على ٣١٥ شريعة ولكن الظاهر من الذكر الحكيم انحصار شرائعه في خمس، قال سبحانه:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّين ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَالّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهيمَوَ مُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) (الشورى/١٣) فلو كان هناك شريعة قبل نوح أو شريعة في ثنايا شرائع السابقين لاَشار إليها.

وقال سبحانه:( وَإِذْأَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهيمَ وَمُوسى وَعِيسى ابنِ مَرْيمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) (الاَحزاب/٧).

فالمتبادر من الآيتين انّ هوَلاء هم أصحاب الشرائع وانّ الباقين كانوا من الدعاة إلى شرائعهم، يقول ابن كثير في تفسير الآية الاُولى: «فذكر أوّل الرسل بعد آدم و هو (نوحعليه‌السلام ) وآخرهم و هو (محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) ثمّ ذكر من بين ذلك من أُولي العزم: إبراهيم وموسى و عيسى بن مريم، وهذه الآية تضمنت ذكر الخمسة كما اشتملت آية الاَحزاب عليهم في قوله تبارك وتعالى:( وَإِذْأَخَذْنا مِنَ النَّبِيينَ مِيثاقهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهيمَ وَمُوسى وَعِيسى ابنِ مَرْيم ) (٢)

____________________

١ المسند الجامع: ٦/١٥٨- ١٥٩، قال أخرجه عبد بن حميد برقم ٩٦٨.

٢ مختصر تفسير ابن كثير: ٣/٢٧٢.

٥١٣

وقال جلال الدين السيوطي في تفسير آية الشورى الماضية: وأخرج ابن المنذر عن زيد بن رفيع، بقية أهل الجزيرة، قال: بعث اللّه نوحاًعليه‌السلام وشرع له الدين فكان الناس في شريعة نوحعليه‌السلام ما كانوا، فما اطفأها إلاّ الزندقة، ثمّبعث اللّه موسىعليه‌السلام وشرع له الدين، فكان الناس في شريعة من بعد موسى، ما كانوا، فما اطفأها إلاّ الزندقة، ثمّ بعث اللّه عيسى «عليه‌السلام » وشرع له الدين، فكان الناس في شريعة عيسىعليه‌السلام ما كانوا فما أطفأها إلاّالزندقة، قال: ولا يخاف على هلاك هذا الدين إلاّ الزندقة».(١)

يقول العلاّمة الطباطبائي:يستفاد من الآية (آية الشورى) أُمور (نذكر ممّا ذكره أمرين):

الاَوّل: انّ الشرائع الاِلهية المنتسبة إلى الوحي إنّما هي شريعة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى و محمدعليهم‌السلام ، إذ لو كان هناك غيرها لذكر قضاء لحقّ الجامعية المذكورة، و لازم ذلك أوّلاً : ان لا شريعة قبل نوح «عليه‌السلام » بمعنى القوانين الحاكمة في المجتمع الاِنساني الرافعة للاختلافات الاجتماعية.و ثانياً: انّ الاَنبياء المبعوثين بعد نوح كانوا على شريعته إلى بعثة إبراهيم وبعدها على شريعة إبراهيم إلى بعثة موسى و هكذا.

الثاني: انّ الاَنبياء أصحاب الشرائع وأُولي العزم هم هوَلاء الخمسة المذكورون في الآية إذ لو كان معهم غيرهم لذكر فهوَلاء سادة الاَنبياء، ويدل على تقدمهم أيضاً قوله:( وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهيمَ وَمُوسى وَعِيسى ابنِ مَرْيَم ) (الاَحزاب/٧).(٢)

نعم ليس كل نبي ذا شريعة، ولاَجل ذلك يربو عدد الاَنبياء على الاُلوف

____________________

١ الدر المنثور: ٧/٣٤٠.هكذا في المصدر و قد سقط من الرواية ذكر شريعة إبراهيم.

٢ الطباطبائي، الميزان: ١٨/٢٩.

٥١٤

مع أنّ الشريعة لا تتجاوز الخمس.

ولو فرض إطلاق صاحب الشريعة على كلّ نبي باعتبار انّه مروّجها ومبينها فلا تنحصر الشريعة في العدد المذكور في الرواية بل يزيد عددهم بكثير.

ثمّ أين هذه الشرائع الكثيرة التي تحكي عنها الرواية، ولا أثر لها في الكتب السماوية الموجودة؟

٢. نزول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند رغبة عمر

أخرج مسلم في صحيحه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد، قال: لما كان غزوة تبوك، أصاب الناس مجاعة، قالوا: يا رسول اللّه لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادّهنّا.

فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : افعلوا.

قال فجاء عمر، فقال: يا رسول اللّه إن فعلت قلّ الظّهر ولكن ادعهم بفضل ازوادهم. ثمّ ادع اللّه لهم عليها بالبركة لعلّ اللّه أن يجعل في ذلك.

فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نعم.(١)

أقول: إنّه سبحانه يصف نبيَّه بقوله:( وَعلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) (النساء/١١٣).

والمراد من الفضل هو علمه ومن وصف سبحانه علمه بالعظمة، فهل من المعقول أن يكون غير واقف على ما جاء في هذه الرواية وكان بعض أتباعه أعلم منه؟!

إنّ الحنكة السياسية والعسكرية تفرض على القائد أن يكون واقفاً على

____________________

١ صحيح مسلم: ١/٤٢، باب من لقي اللّه بالاِيمان وهو غير شاك فيه، من كتاب الاِيمان.

٥١٥

المصالح والمفاسد التي تحدق بعسكره، فإذا كان عمر قد اطّلع على ذلك فالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولى بالاطّلاع منه فكيف وقف الاَوّل عليها دون أفضل الخليقة؟!

وثمة نكتة جديرة بالاِشارة وهي انّ ما جاء في تلك الرواية ليس فريداً من نوعه بل تكرر ذلك في موارد أُخرى بنحو تُصوِّر انّ عمر كان أعلم من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا النوع من الروايات نابع عن الاِفراط في العاطفة تجاه الخليفة، فلنذكر بعض الموارد.

المورد الاَوّل: قتل الاَسرى

أخرج الاِمام أحمد عن أنس (رض) قال: استشار النبي الناس في الاَُسارى يوم بدر، فقال: إنّ اللّه أمكنكم منهم.

فقام عمر بن الخطاب (رض) فقال: يا رسول اللّه، اضرب أعناقهم؟فأعرض عنه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا أيّها الناس إنّ اللّه قد أمكنكم منهم و إنّما هم إخوانكم بالاَمس. فقام عمر، فقال: يا رسول اللّه اضرب أعناقهم؟

فأعرض عنه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ عاد فقال مثل ذلك. فقام أبو بكر الصديق فقال: يا رسول اللّه نرى أن تعفو عنهم و ان تقبل منهم الفداء. فعفا عنهم و قبل منهم الفداء، فنزل( لَولا كتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) الآية.(١)

يلاحظ عليه أوّلاً: انّ هناك موضوعات عرفية ربما يستشير فيها النبي أصحابه لا لاَجل الوقوف على ما هو الاَصلح بل لاَجل منحهم الشخصية، يقول سبحانه:( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِر لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الاَمْر ) (آل عمران / ١٥٩). وربما تكون في المشاورة مصالح أُخرى كتعليم أصحابه كيفية معالجة المشاكل

____________________

١ الدر المنثور: ٤/١٠٤ والآية ٦٨ من سورة الاَنفال.

٥١٦

كما شاورصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة أُحد والاَحزاب.

وأمّا الاَحكام الشرعية التي يختص تشريعها باللّه سبحانه وأُمِرَ النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإبلاغها دون أيّ تصرف، فهي أُمور لا تخضع للمشاورة بل على النبي أن يمكث حتى يوافيه الوحي بها، وقد تكرر ذلك فسُئل النبي عن أشياء، فمكث حتى وافاه الوحي.

ومسألة الاُسارى من المسائل الشائكة المهمة في الحياة الاجتماعية والسياسية للمسلمين فللّه سبحانه فيها تشريع كتشريعه في سائر الموضوعات ولا يسع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المبلِّغ عن اللّه أحكامه، أن يشاور هذا أو ذاك حتّى يشير أحدهم بالقسوة والآخر بالرأفة.

وعلى ذلك فليس هناك أيُ مسوغ للنبي للمشاورة حسب الموازين الشرعية.

ثانياً: كيف يكون الرسول غير واقف على الحكم الاَصلح في حقّ الاَُسارى ويكون غيره واقفاًعليه، والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكرم الخليقة و أفضل من أبينا آدم الذي علَّمه سبحانه الاَسماء كلّها وصار بذلك خليفة للّه ومعلّماً للملائكة.

ثالثاً: انّ ظاهر الحديث يعرب عن كون الخطاب في قوله: (لمسّكم فيه عذاب عظيم) - نعوذ باللّه - عاماً شاملاً للنبيّ، لاَنّه - صلوات اللّه عليه - اختار الاَخذ و الفداء دون ضرب الاَعناق، فيدخل - صلوات اللّه عليه - تحت قوله (لولا كتاب من اللّه سبق...) وفي الوقت نفسه ليس شاملاً لعمر، وهذا على طرف النقيض من القول بعصمته بعد البعثة التي اتفقت عليه عامة المسلمين. مع أنّ سياق الآية وما قبلها يشهد على خروج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن مصب الخطاب، لاَنّه سبحانه يذكره بصيغة الغائب، و يقول:( ما كانَ لِنَبِىٍّ أنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى... ) (الاَنفال / ٦٧) وعندما يندد بهذا العمل يخص المجاهدين بالخطاب، ويقول: (ولولا كتاب من اللّه سبق لمسّكم...) والتغاير في التعبير آية عدم الشمول.

٥١٧

المورد الثاني : عدم إقامة الصلاة على المنافقين

أخرج البخاري في تفسير قوله سبحانه:( اسْتَغْفِرْ لَهُمْأَوْ لا تَسْتَغْفِر لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِر لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِين ) (التوبة/٨٠).

قال: لما توفي عبد اللّه (ابن أُبي) جاء ابنه عبد اللّه بن عبد اللّه إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يُكفّن فيه أباه فأعطاه، ثمّ سأله أن يصلّي عليه فقام رسول اللّه ليصلّ-ي، فقام عمر فأخذ بثوب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال :يا رسول اللّه تصلي عليه و قد نهاك ربّك أن تصلي عليه؟ فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّما خيّ-رني اللّه فقال: ( استغفر لهم أو لاتستغفر لهم ان تستغفر لهم سبعين مرة)، وسأزيده على السبعين، قال: إنّه منافق، قال: فصلّى عليه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل اللّه( وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ ) (البقرة/٨٤).(١)

وفي الحديث تأملات وتساوَلات:

أوّلاً: المتبادر من الآية عند الناطقين بالضاد هو أنّ عدد السبعين فيها كناية عن الكثرة بمعنى انّ الاستغفار لا يجدي لهم مهما بلغ عددها سواء أكان أقل من السبعين أو أزيد منه و هذا ما يفهمه العربيّ الصميم من الآية، ويوَيد ذلك انّه سبحانه علّل عدم الجدوى بقوله: ( بأنّهم كفروا باللّه ورسوله) والكافر مادام كافراً لا يستحق الغفران أبداً، وإن استغفر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّه مائة مرة.

ولكن الظاهر من الرواية انّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهم من الآية انّلعدد السبعين خصوصية وانّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أقدم على الصلاة على عبد اللّه بن أُبي(وهو رأس المنافقين) إلاّ لاَجل أن يستغفر له أزيد من السبعين الذي ربما تكون الزيادة نافعة لحاله ولا خفاء في أنّه على خلاف ما

____________________

١ البخاري: الصحيح: ٦/٦٧، قسم التفسير.

٥١٨

يفهمه العربي الصميم من الآية فكيف بنبيّ الاِسلام وهو أفصح من نطق بالضاد؟!

وثانياً: انّ المتبادر من لفظة «أو» في الآية من قوله: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) أنّ-ها للتسوية أي الاستغفار وعدمه سيان، لاَنّ المحل غير قابل للاستفاضة ولكن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسب الرواية حملها على التخيير حيث قال: إنّما خيّ-رني اللّه وقال: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم)فكيف خفي على النبي مفاد الآية؟!

نعم نقل ابن حجر في فتح الباري لفظة: «اخبرني» مكان «خيرني» و لكنه يخالف ما هو المتضافر من نسخ البخاري على أنّه روى هذه الرواية بصورة أُخرى وهي: «اخّر عني يا عمر فلما أكثرت عليه، قال: إنّما خُيّرت فاخترت لو أعلم انّي زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها».(١)

وثالثاً: كيف قام النبي بالصلاة على المنافق، وهو يشتمل على الاستغفار مع أنّ المروي في الصحاح انّه سبحانه نهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الاستغفار للمشركين، وهو في مكّة المكرّمة وقال:( ما كانَ للنَّبيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكينَ وَ لَوكانُوا أُولي قُربى مِنْ بَعْدِما تَبَيّ-نَ لَهُمْأَنَّ-هُمْ أصحابُ الْجَحِيم ) (التوبة/١١٣).

قال ابن حجر: نزلت الآية في قصة أبي طالب حين قالص : لاستغفرنّلك ما لم أنه عنك، فنزلت الآية وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتّفاقاً(٢) وقصة عبد اللّه بن أُبي كانت في السنة التاسعة من الهجرة فكيف يجوز للنبيّ مع النهي المتقدم الاستغفار للمنافق مع الجزم بكفره؟!(٣)

____________________

١ فتح الباري: ٨/٣٣٨.

٢ توفي سيد الاَباطح أبو طالب موَمن قريش في العام العاشر من البعثة، وقد ثبت في محله إيمان أبي طالب ببراهين ساطعة وقد نزلت الآية في حقّ غيره.

٣ فتح الباري: ٨/٣٣٩.

٥١٩

ورابعاً: انّه سبحانه نهى النبي عن الاستغفار في سورة المنافقين، وقد نزلت في غزوة بني المصطلق وغزاهم النبي في العام السادس من الهجرة ، قال سبحانه:( سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِر لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدي القَوْمَ الفاسِقينَ ) (المنافقون/٦).

ومع هذا البيان الصريح كيف أقدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الصلاة على المنافق والتي لم تكن إلاّ عملاً لغواً غير مفيد؟

وما ربما يتوهم من أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدم على الصلاة استمالة لقلوب عشيرته فهو كما ترى، لاَنّ القرآن يخبر بصراحة انّ الصلاة والاستغفار لا تفيد بحاله، أفيكون عمل النبي بعد هذا التصريح سبباً للاستمالة.

وخامساً: انّمعنى الحديث انّ الخليفة كان أعلم من رسول اللّه بحكم اللّه تعالى بشهادة انّ الوحي وافاه وصدّق قول الخليفة وخطّأ قول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالملازمة، وما هذا إلاّ قول عازب و رأي كاذب صدر عن عاطفة انجر القائل معها إلى ترجيح التابع على المتبوع «ما هكذا تورد يا سعدُ الابل».

وأخيراً انّ الحديث بلغ من الشناعة بمكان أنكره جمع غفير من المحقّقين لا سيما أبو بكر الباقلاني، حيث قال في التقريب: هذا الحديث من أخبار الآحاد لا يعلم ثبوته، وقال إمام الحرمين في مختصره: هذا الحديث غير مخرج في الصحيح، وقال أيضاً في البرهان: لا يصححه أهل الحديث.

وقال الغزالي في المستصفى: الاَظهر انّ هذا الخبر غير صحيح.

وقال الداوودي الشارح: هذا الحديث غير محفوظ.

إلى غير ذلك من كلمات أعلام السُّنَّة حول الحديث.(١)

____________________

١ انظر فتح الباري: ٨/٣٣٨.

٥٢٠