الحديث النبوي بين الرواية والدراية

الحديث النبوي بين الرواية والدراية0%

الحديث النبوي بين الرواية والدراية مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 676

الحديث النبوي بين الرواية والدراية

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 676
المشاهدات: 85404
تحميل: 5984

توضيحات:

الحديث النبوي بين الرواية والدراية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 676 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85404 / تحميل: 5984
الحجم الحجم الحجم
الحديث النبوي بين الرواية والدراية

الحديث النبوي بين الرواية والدراية

مؤلف:
العربية

سنّة اللّه وسنة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١)

فإنّ السنة المتواترة عند الفريقين هو تقديمهما عليها، ولم يرو عن أحد من أنّ الرسول قدَّم صلاة الجمعة عليهما.

الثالث: عرض الحديث على العقل الحصيف

لقد احتلّ العقل مكانة رفيعة في الاِسلام وليس المراد من العقل، الاَساليب والاستدلالات العقلية التي يختص فهمها بأصحاب الفكر والحكمة، وإنّما المراد ما اتّفق عليه جميع العقلاء إذا تجرّدوا عن كل النزعات والرواسب والخلفيات نظير حكم العقل بحاجة كل ظاهرة إلى علة، وامتناع الدور والتسلسل وحسن العدل وقبح الظلم، وعلى تلك الاَحكام العقلية يدور رحى العقيدة والشريعة فلو لم يعترف أحد بها لانسدّ باب اثبات الصانع على وجهه كما ينسد عليه إثبات الشرائع السماوية وانّها من جانب اللّه سبحانه.

قال سبحانه:( فَبَشِّر عِبادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئكَ الّذينَ هَداهُمُ اللّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الاَلْباب ) (الزمر/١٧- ١٨).

فالمراد من القول الاَحسن، الواجب الاتّباع هو ما يدركه الاِنسان من صميم ذاته ونداء ضميره ووجدانه، ولاَجل ذلك نرى أنّه سبحانه يذكر في فواصل الآيات ويقول:( لآياتٍ لقومٍ يَعْقِلُون ) (البقرة/١٦٤) ويقول:( أَفَلا تَعْقِلُون ) (البقرة/٤٤و٧٦) ويقول:( وَما يَعْقِلُها إِلاّ العالِمُون ) (العنكبوت/٤٣) ويقول أيضاً:( إِنَّ في ذلِكَ لذِكرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أو ألقى السَّمعَ وهُوَ شَهِيد ) (ق/٣٧).

____________________

١ مسند أحمد بن حنبل: ٤/٤.

٦١

إنّ المتكلّمين من الاِمامية والمعتزلة وإن اختلفوا مع الاَشاعرة في مسألة تحسين العقل وتقبيحه، لكن مع غض النظر عن هذا الجدال العقيم، نرى أنّ القرآن العظيم يحتج بالعقل الصريح و يقول:( إِنَّ لِلْمُتَّقينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتِ النَّعيمِ * أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمينَ * ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ* إِنَّ لَكُمْ فيهِ لَما تَخَيّرون ) (القلم/٣٤- ٣٨).

وفي آية أُخرى:( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات كَالْمُفْسِدينَ فِي الاََرْض أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقينَ كَالفُجّار ) (ص/٢٨).

قال سبحانه:( وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيها آباءَنا وَاللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُبِالْفَحْشاء ) (الاَعراف/٢٨).

وقال سبحانه حاكياً عن إبراهيم:( قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبيرُهُمْ هذا فَاسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُون * فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهمْ فَقالُوا إِنّكُمْ أَنْتُمُ الظالِمُون ) (الاَنبياء/٦٣ - ٦٤).

فهذه الآيات كلّها تدلّ على أنّ منطق العقل حجّة قطعية بين اللّه سبحانه وعباده، وهو سبحانه يحتج به عليهم حتّى أنّ عبدة الاَوثان لما أُفحِمُوا أمام منطق إبراهيم المتين، أذعنوا بفشل رأيهم، ورجعوا إلى وجدانهم، ووصفوا أنفسهم بالظلم والتعدي.

فمنطق العقل القطعي يعد مقياساً لتمييز الحقّ عن الباطل، ولتصحيح ما يعزى إلى منطق الوحي وما لا يعزى إليه.

وعلى ضوء ذلك فالروايات الصريحة في إثبات الجهة للّه تبارك وتعالى، وفي إثبات الجبر و سلب الحرية والاختيار عن الاِنسان فيما يناط به الاِيمان والكفر كلّها تخالف العقل الحصيف الذي به عُرف اللّه سبحانه وأنبياوَه ورسله.

فالاِنسان المسيّر غير مسوَول عن عمله وتصرفاته في قضاء العقل، مع أنّه مسوَول في كتاب اللّه تبارك وتعالى فلا يجتمعان.

٦٢

كما أنّ الموجود في جهة، موجود محدود، والمحدود من آثار الاِمكان وهو سبحانه منزه عنه وعن آثاره.

وأظهر من ذلك ما رواه غير واحد من أصحاب الصحاح من أنّه سبحانه يُرى في الآخرة بنفس العين الحاسة مع أنّ هذه الروَية مستحيلة عقلاً، لاَنّ المرئي لا يرى إلاّ في جهة، وقد قلنا بامتناع الجهة له، كما المرئي منه سبحانه يوم القيامة لا يخلو إمّا أن يكون بعضه أو كله.

فالاَوّل يثبت له جزءاً والثاني يلازم كونه سبحانه محاطاً مع أنّه محيط.

والعجب انّ بعض المقتصرين على الضوابط المقررة في علم الحديث بغية تمييز الصحيح عن السقيم يتبجّح عند نقد روايات العقل، و يقول:

ومما يحسن التنبيه عليه انّ كلّ ما ورد في فضل العقل من الاَحاديث لا يصحّ منها شيء، وهي تدور بين الضعف والوضع وقد تتبعت ما أورده منها أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه «العقل وفضله» فوجدتها كما ذكرت لا يصحّ منها شيء، ثمّ نقل عن ابن قيم الجوزيّة قوله أحاديث العقل كلّها كذب.

وأوّل حديث نقده ذلك البعض هو حديث «الدين هو العقل، ومن لا دين له لا عقل له».

وذكر في موضع آخر بأنّ رواية: «قوام المرء عقله، ولا دين لمن لا عقل له» موضوعة.(١)

أقول: إنّ الغاية من وراء تضعيف أحاديث العقل(وإن كانت حجيته مستغنية عن هذه الاَحاديث، ويكفي فيها انّ الذكر الحكيم ذكره خمسين مرّة بصيغ مختلفة) هي التساهل أمام الروايات الدالة على أنّ الاِنسان مسيّر ، والقضاء

____________________

١ الالباني، سلسلة الاَحاديث الضعيفة والموضوعة، ص ١٣ وص ٣٧٠.

٦٣

والقدر حاكم على مصيره وتصرفاته، وليس له أي اختيار في انتخاب ما ينوط به الاِيمان والكفر.

أو التساهل أمام الروايات الهائلة المدسوسة في الاَحاديث الاِسلامية من قبل مستسلمة أهل الكتاب، الدالة على التشبيه والتجسيم وإثبات الجهة.

إنّ المتبجحين برفض العقل كابن تيمية والذهبي وابن قيم الجوزية ومن حذا حذوهم كمحمد بن عبد الوهاب وأخيراً الشيخ الالباني، قد اتخذوا لاَنفسهم موقفاً مسبقاً في مجال أخذ الحديث ورفضه، فالمعيار عندهم هو اتّباع السلف ومخالفة الخلف أخذاً بقول الشاعر:

وكلّ خير في اتّباع من سلف

وكلّ شرّ في ابتداع من خلف(١)

وكلامهم هذا نظير ما حكاه سبحانه عن المشركين قال:( ... قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَ لَوْ كانَ آباوُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيئاً وَلا يَهْتَدُونَ ) (البقرة/١٧٠).

فإذا كان هذا هو المعيار فأكثر المحدثين - المغترّين بروايات مستسلمة أهل الكتاب ككعب الاَحبار وتميم الداري ووهب بن منبه وغيرهم ممّن بثوا في الاَوساط الاِسلامية الاسرائيليات والمسيحيات - كانوا هم القائلين بالجبر والتجسيم والتشبيه، ومن كان هوَلاء أئمّته فأولى أن يتبجح برفض العقل.

____________________

١ المصدر السابق: ١١٧.

٦٤

الرابع: عرض الحديث على التاريخ الصحيح

إنّ التاريخ الصحيح الّذي اتّفق عليه أعلامُالمسلمين وأهلُالسير والتاريخ أحد المعايير لتمييز الصحيح عن السقيم، ولنعرض نموذجين.

١. أخرج البخاري في باب تزويج الصغار من الكبار من كتاب النكاح عن عروة انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب عائشة إلى أبي بكر، فقال له أبو بكر: إنّما أنا أخوك. فقال: أنت أخي في دين اللّه و كتابه، وهي لي حلال.(١)

وأخرج أيضاً في باب الفضائل عن أبي سعيد الخدري (رض) قال: ...ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتّخذت أبا بكر، ولكن أخوَّة الاِسلام ومودّته لا يَبْقَين في المسجد باب إلاّ سدّ إلاّباب أبي بكر.(٢)

وأخرج أيضاً عن ابن عباس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لو كنت متخذاً من أُمّتي خليلاً لاتخذت أبا بكر ولكن أخي و صاحبي.(٣)

إنّ التاريخ الصحيح يدل على سقم الرواية الاُولى، لاَنّه ماذا أراد أبو بكر من كلامه - عند ما خطب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عائشة - وقال: «إنّما أنا أخوك» ؟

فإن أراد الاُخوة النّسبية فهي واضحة البطلان.

وإن أراد الاُخوة الاِسلامية المتجلية في قوله سبحانه:( إِنّما الموَمنونَ إِخْوَة ) (الحجرات/١٠) فهذه غير مانعة من النكاح، لاَنّ الاخوة الدينية العامة لا تمنع من التزويج، و إلاّ يلزم عدم صحّة نكاح المسلمين قاطبة كما هو واضح.

فانحصر المراد منها، بالاخوة الخاصة الواردة في الرواية الثالثة: «ولكن

____________________

١ صحيح البخاري: ٧/٥، باب تزويج الصغار والكبار، من كتاب النكاح.

٢ صحيح البخاري: ٥/٤، باب قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو كنت متخذاً خليلاً.

٣ صحيح البخاري: ٥/٤، باب قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو كنت متخذاً خليلاً.

٦٥

أخي وصاحبي»، ومن الواضح انّها لم تتحقق إلاّ في المدينة المنورة بشهادة ذيل الحديث بأنّه «لا يبقين في المسجد باب إلاّ سدّ، إلاّ باب أبي بكر».

فإذاً كيف يخطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عائشة في مكة المكرمة قبل الهجرة ويعتذر هو بالاخوة الخاصة المتحققة في المدينة، فالتاريخ يشهد على وضع الرواية الاُولى وكذبها، وليست هذه الرواية فريدة من نوعها، بل حيكت على منوالها رواية أُخرى أيضاً أخرجها ابن الجوزي في كتابه عن أبي صالح عن أبي هريرة، قال:

لما دخل رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة مهاجراً من مكة أشعث أغبر أكثر عليه اليهود المسائل والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجيبهم جواباً متداركاً بإذن اللّه عزّ وجلّ، وكانت خديجة قد ماتت بمكة، فلما ان دخل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة واستوطنها طلب التزويج، فقال لهم:

أنكحوني، فآتاه جبريلعليه‌السلام بخرقة من الجنة طولها ذراعين في عرض شبر، فيها صورة لم ير الراوَون أحسن منها، فنشرها جبريل، وقال: يا محمد إنّ اللّه تعالى يقول لك: أن تزوج على هذه الصورة، فقال له النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » : أنا من أين لي مثل هذه الصورة يا جبريل؟

فقال له جبريل: إنّ اللّه يقول لك تزوج ابنة أبي بكر الصديق.

فمضى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى منزل أبي بكر فقرع الباب، ثمّ قال: يا أبا بكر إنّ اللّه أمرني أن أُصاهرك، وكان له ثلاث بنات فعرضهن على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ اللّه أمرني أن أتزوج بهذه الجارية، وهي عائشة، فتزوجها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال الخطيب: رجاله كلّهم ثقات غير محمد بن الحسن ونراه مما صنعت يداه.

وأعقبه ابن الجوزي بقوله: ما أبعد الذي وضعه عن العلم، فإنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تزوج عائشة وهو بمكة ولم يكن لاَبي بكر حينئذٍ

٦٦

ثلاث بنات، ما كان له غير أسماء وعائشة وإنّما جاءته بنت بعد وفاته يقال لها أُمّ كلثوم.(١)

٢. أخرج مسلم في صحيحه، في فضائل الصحابة، عن ابن عباس: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنبي: يا نبي اللّه ثلاث اعطنيهنّ؟

قال: نعم.

قال: عندي أحسن العرب وأجمله أُمّحبيبة بنت أبي سفيان، أزوجكها؟

قال: نعم.

قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك؟

قال: نعم.

قال: وتوَمّرني حتى أُقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين؟ قال: نعم.

قال أبو زميل: ولولا انّه طلب ذلك من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أعطاه ذلك، لاَنّه لم يكن يسأل شيئاً إلاّ قال: نعم.(٢)

أقول: لا يشك أي باحث متضلع في التاريخ الاِسلامي انّ الحديث موضوع من قبل سماسرة الاَهواء وأذناب البيت الاَموي الذين كانوا يحملون نزعات أموية، وذلك لاتّفاق المسلمين على أنّ النبيتزوج بأُمّ حبيبة قبل فتح مكة، وانّ أبا سفيان دخل المدينة بغية لقاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل إسلامه وكانت أُمّحبيبة زوجته، وإنّما استسلم أبو سفيان بعد ما اجتثت جذور الشرك في جزيرة العرب وفتحت معاقله.

حكى ابن هشام في ذكر الاَسباب التي دعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المسير نحو مكة في شهر رمضان سنة ٨ ه- وقال: ثمّ خرج أبو سفيان

____________________

١ ابن الجوزي، كتاب الموضوعات:٢/٨.

٢ صحيح مسلم: ٧/١٧١، باب فضائل أبي سفيان بن حرب.

٦٧

حتى قدم على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة، فدخل على ابنته أُمّ حبيبة بنت أبي سفيان، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول اللّه طوته عنه ، فقال: يا بُنيَّة ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟

قالت: بل هو فراش رسول اللّه وأنت رجل مشرك نجس ولم أحب أن تجلس على فراش رسول اللّه.(١)

وقد اتّفق كُتّاب السير على أنّ أُمّ حبيبة أسلمت في مكة المكرمة قبل الهجرة، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة، وذكرها ابن هشام من المهاجرات إلى الحبشة.

قال ابن هشام: ومن بني أُميّة عبيد اللّه بن جحش بن رئاب الاَسدي حليف بني أُميّة ابن عبد شمس معه امرأته أُمّ حبيبة بنت أبي سفيان، فلما قدم عبيد اللّه أرض الحبشة تنصّر بها وفارق الاِسلام ومات هناك نصرانياً، فخلف رسول اللّه على امرأته من بعده أُمّ حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب.(٢)

ثمّ إنّ ابن حزم ممّن تنبه إلى الاشكال في الرواية وقال: والآفة فيه من عكرمة بن عمار الراوي عن أبي زميل.

وأنكر الشيخ أبو عمرو بن صلاح على ابن حزم، فقال: لا نعلم أحداً من أئمّة الحديث نسب عكرمة بن عمار إلى وضع الحديث، وقد وثقه وكيع ويحيى بن معين وغيرهما، ثمّ حاول أن يصحح مضمون الحديث بأنّ أبا سفيان سأل تجديد عقد النكاح تطييباً لقلبه، لاَنّه كان ربما يرى عليها غضاضة من رياسته ونسبه أن تزوج بنته بغير رضاه، أو أنّه ظن ان إسلام الاَب في مثل هذا يقتضي تجديد العقد.(٣)

____________________

١ سيرة ابن هشام:٢/٣٩٦، وغيرها من المصادر المتوفّرة.

٢ سيرة ابن هشام:٢/٣٦٢.

٣ شرح صحيح مسلم للنووي: ١٦/٢٩٦.

٦٨

يلاحظ عليه : أنّ عكرمة بن عمار مختلف فيه، وقد ذكر الذهبي أقوال العلماء في حقّه.(١)

ولكن الكلام في التأويل الذي ارتكبه ابن الصلاح بغية تصحيح الرواية، ولو ارتكبه غيره لرُمي بالجهمية، وأين أبو سفيان من هذه الدرجة من التقوى التي يصوّرها لنا ابن الصلاح؟! وها نحن نذكر نبذة مختصرة عن سيرته في أُخريات حياته ليتضح مدى تمسكه بالاِسلام وإيمانه به.

قال أحمد بن عبد العزيز : وحدّثني المغيرة بن محمد المهلبيّ، انّ أبا سفيان قال لعثمان: بأبي أنت! أنفق ولا تكن كأبي حجر، وتداولوها يا بني أُمية تداول الولدان الكرة، فواللّه ما من جنَّة ولا نار و كان الزبير حاضراً، فقال عثمان لاَبي سفيان: اعزب فقال: يا بنيَّ أهاهنا أحد؟! قال الزبير: نعم واللّه لا كتمتها عليك.(٢) ِ فمن كان منكراً للبعث بعد ما أسلم سنين، فهل يصحّ وصفه بما ذكره ابن الصلاح؟!

الخامس: عرض الحديث على اتّفاق الاُمّة

إنّ اتّفاق الاُمّة على حكم من الاَحكام دليل قطعي عليه دون فرق بين المنهج الشيعي أو السنّي.

وعلى ضوء ذلك فلو ورد حديث يخالف المتفق عليه بين الاُمّة فيحكم عليه بالدس والوضع، ولنضرب مثالاً:

أخرج الطحاوي في مشكل الآثار عن طريق علي بن زيد بن جدعان، عن أنس، قال: مطرت السماء برداً، فقال لنا أبو طلحة: ناولوني من هذا البرد، فجعل

____________________

١ سير أعلام النبلاء:٧/١٣٤ برقم ٤٩.

٢ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد:٢/٤٥.

٦٩

يأكل وهو صائم وذلك في رمضان! فقلت: أتأكل وأنت صائم؟ فقال: إنّما هو برد نزل من السماء نطهَّر به بطوننا وانّه ليس بطعام ولا بشراب! فأتيت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبرته بذلك.

فقال: خذها عن عمك.(١)

إنّ اتّفاق الاُمة على أنّ مطلق الاَكل والشرب مبطل للصوم يكفي في الحكم على هذا الحديث بالوضع والدس.

ولاَجل ذلك نرى أنّ السيوطي أورده في ذيل الاَحاديث الموضوعة، ص ١١٦. وضعفه الطحاوي في مشكل الآثار بوجود علي بن زيد في سنده وانّه ليس من أهل التثبيت(٢)

٨- لا كتاب صحيح سوى القرآن الكريم

ثمّ إنّ المشكلة تكمن في أنّ المحدّثين والباحثين وصفوا جامع البخاري ومسلم بالصحيحين وحكموا بصحّة كلّ ما جاء فيهما من الاَحاديث، فعاق ذلك كثيراً من المحقّقين عن الفحص والتنقيب بما جاء فيهما من الروايات المخالفة للكتاب والسنّة والعقل، ولاَجل ذلك بقي الكتابان في منأى عن التحقيق بخلاف السنن الاَربع الباقية من الاَُصول الستة، فقد تطرق إليها التحقيق منذ زمن بعيد.

كيف يحكم بأنّ كلّ ما في البخاري صحيح مع أنّه أورد فيه الاَحاديث

____________________

١ مشكل الآثار:٢/٢٣٨ برقم ١٩٨٣.

٢ المصدر نفسه.

٧٠

المعلّقة، مرفوعة وموقوفة، وإن اعتذر عنه ابن حجر في مقدمة فتح الباري.(١)

وقد رُمي ثمانون رجلاً ممّن أخرج عنهم البخاري بالضعف، كما رُمي مائة وستون رجلاً ممن أخرج منهم مسلم به أيضاً.(٢)

نعم حاول ابن حجر عقد فصلاً خاصاً(٣) في الذبِّ عن ضعفهم، إلا أنّ محاولته باءت بالفشل.

والعجب انّ الاِمام البخاري، احتجّ بمثل مروان بن الحكم، وعمران بن حطّان وحريز بن عثمان الرحبي وغيرهم ولم يرو عن الاِمام الصادق «عليه‌السلام ».

أمّا الاَوّل فهو الوزغ ابن الوزغ، اللعين ابن اللعين على لسان رسول رب العالمين، وأمّا الثاني فهو الخارجي المعروف الذي أثنى على ابن ملجم بشعره لا بشعوره، وأمّا الثالث فكان ينتقص عليّاً وينال منه، و مع ذلك لم نجد في صحيح البخاري رواية عن الاِمام الصادق ونعم ما قال القائل:

قضية أشبه بالمرزئة

هذا البخاري إمام الفئة

بالصادق الصدّيق ما احتجّ في

صحيحه واحتجّ بالمرجئة

ومثل عمران بن حطان أو

مروان وابن المرأة المخطئة

مشكلة ذات عوار إلى

حيرة أرباب النهى ملجئة

انّ الاِمام الصادق المجتبى

بفضله الآي أتت منبئة

أجلّ من في عصره رتبة

لم يقترف في عمره سيّئة(٤)

____________________

١ هدية الساري مقدمة فتح الباري، ص ١٧، ط دار المعرفة.

٢ المصدر نفسه، ص ١١.

٣ المصدر نفسه، ص ٤٥٦ - ٤٦٤.

٤ السيد محمد بن عقيل: النصائح الكافية: ١١٩. ط بيروت.

٧١

وسيتضح مدى صحة قولهم: «كل ما في الصحيحين، صحيح».

نعم أوّل من تجرّأ من السنّة على التحقيق في الصحيحين هو الحافظ ابن الجوزي حيث ألّف كتاباً باسم مشكل الصحيحين أو مشكل الصحاح، و لم يزل مخطوطاً في أربعة أجزاء، فلو قام باحث موضوعي بنشر هذا السفر الجليل لخدم السنّة النبوية.

وحكى العلاّمة المحقّق الشيخ حسن السقاف انّ شيخه السيد الاِمام أبا الفضل الغماري صنف كتاباً في هذه المسألة وسماه «الفوائد المقصودة في الاَحاديث الشاذة المردودة».

وقد قام شيخ مشايخنا الشيخ فتح اللّه النمازي الاصفهاني - المشهور بشيخ الشريعة (١٢٦٦- ١٣٣٩ه-) بنقد الصحاح، فألف كتاباً باسم «القول الصراح في نقد الصحاح»(١) ، غير انّه لم يُوفّق لاِتمامه.

كما ألّف سيد الطائفة، شرف الدين العاملي (١٢٩٠- ١٣٧٧ه-) كتاباً باسم «أبو هريرة» بحث فيه عن سيرته ورواياته في الصحيحين وغيرهما بحثاً أضاء الطريق لمن بعده.

وأخيراً ألّف الشيخ المجاهد محمد الغزالي كتابه «الحديث النبوي بين أهل النقل والفهم» وقد سلك في نقل الاَحاديث قريباً مما سلكناه في هذا الكتاب، وقد أثار ضجّة المتحجرين لما اعتادوه من العكوف على كلّحديث عكف عليه السلف.

كما قام غير واحد من علمائنا بتمحيص ما روي عن أئمّة أهل البيت من الاَحاديث نذكر منهم على سبيل المثال:

____________________

١ نحتفظ منه بنسخة مخطوطة في مكتبة موَسسة الاِمام الصادقعليه‌السلام عسى أن يقوم الباحثون بنشرها.

٧٢

١.الاَخبار الدخيلة: تأليف المحقّق محمد تقي التستري (١٣٢٠- ١٤١٥ه-) وقد طبع وانتشر.

٢. الموضوعات في الآثار والاَخبار : تأليف المحقّق هاشم معروف الحسني.

ولسنا في هذا المقام بصدد دراسة أحد الصحاح والمسانيد، أو دراسة جميع روايات راو واحد فقط، بل بصدد دراسة أحاديث ثلة من الصحابة تربو على أربعين صحابياً، بعد ذكر نبذة مختصرة من سيرته، ونماذج من روائع حديثه.

ولا نعني بروائع الاَحاديث، كونها صحيحة سنداً بل ربما يكون سندها غير نقيّ لكن مضمون الحديث يدعمه الكتاب أو السنة والقرائن والمفاهيم العامة الاِسلامية.

كما لا تعني هذه الدراسة القدحَ بذلك الصحابي، بل تعني وجود الاِشكال والعلّة في الرواية سواء أكان منشوَها هو ذلك الصحابي أو الذين رووا عنه وعزوه إليه، والمطلوب هو نقد المضمون والمحتوى دون أن نحمِّل المسوَولية على عاتق أحد إلاّ في موارد شاذّة.

وهذه الدراسة هي خدمةمتواضعة للحديث النبوي، نرجو أن تنال القبول وأن ينتفع بها المعنيون وأن تكون فاتحة خير لمساهمات لاحقة، وندعو اللّه تعالى أن يهبنا السداد في القول، والتوفيق في العمل، ويهيّىَ لنا من أمرنا رشداً انّه نعم المولى و نعم النصير.

ونحن على ثقة بأنّ كلّ قارىَ واع ينبض قلبه حبّاً للاِسلام، سيُثمِّن الجهود التي بذلناها في سبيل تأليف هذا الكتاب، والعناء الذي تحمّلناه في هذا المضمار.

وما توفيقي إلاّ باللّه عليهِ توكلتُ وإليه أُنيب

٧٣

٧٤

١- معاذ بن جبل الصحابي

(٢٠ قبل الهجرة - ١٨ هجرية)

سيرته وأحاديثه الرائعة.

أحاديثه السقيمة:

١. التجسيم في حديثه.

٢. افشاء سرِّ النبي بلا إذنه.

٣. السذاجة في فهم الشريعة.

٤. عدم استجابة دعاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٥. دراسة تحليلية حول حديث اجتهاده في القضاء.

معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس، أبو عبد الرحمان الاَنصاري الخزرجي المدنيّ البدريّ، ولد عام ٢٠ قبل الهجرة، شهد العقبة وهو شابّ، كما شهد بدراً والمشاهد، و روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحاديث ناهزت ١٠٨، بعثه النبي للقضاء إلى اليمن بعد ما علّمه آداب القضاء، وتوفي في الشام عام ١٨ بعد الهجرة على أحد الاَقوال.

والسابر في طيات كتب الرجال يجد في حقّه كلمات تدل على مكانته

٧٥

الرفيعة في القراءة ومعرفة الحلال و الحرام:

١. عن عبد اللّه بن عمر، قال: أربعة رهط لا أزال أحبهم بعدما سمعت رسول اللّه، قال: «خذوا القرآن من أربعة، من: ابن مسعود، و سالم مولى أبي حذيفة، وأُبي بن كعب، و معاذ بن جبل».(١)

٢. عن أبي قلابة، عن أنس مرفوعاً: وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، و يروى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرسلاً ومتصلاً: «يأتي معاذ يوم القيامة أمام العلماء برتوة».

وعن أبي سعيد قال: قال رسول اللّه: «معاذ بن جبل أعلم الناس بحلال اللّه وحرامه.(٢) إلى غير ما ذكر من كلمات الاِطراء والثناء في حقّه المروية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن الصحابة.

وقد نقل عنه أصحاب الصحاح والمسانيد انّه قال: لما بعثني النبي إلى اليمن، قال لي كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟ قال: قلت: أقضي بما في كتاب اللّه فإن لم يكن فبما قضى به رسول اللّه، قال: فإن لم يكن فبما قضى به الرسول؟ قال: اجتهد رأيي ولا آلو، فضرب صدري، وقال: «الحمد للّه الذي وفق رسول رسول اللّه لما يرضي رسول اللّه».(٣)

____________________

١ تهذيب التهذيب: ١٠/١٨٧ برقم ٣٤٧ ؛ سير أعلام النبلاء: ١/٤٤٥ برقم ٨٦ يقول المعلّق على الكتاب الاَخير: أخرجه البخاري (٤٩٩٩) في فضائل القرآن باب القرّاء من أصحاب النبي، ومسلم (٢٤٦٤ ) في الفضائل، والترمذي (٣٨١٢) في المناقب، وأبو نعيم في الحلية: ١/٢٢٩.

٢ تهذيب التهذيب: ١٠/١٨٧ برقم ٣٤٧ ؛ سير أعلام النبلاء: ١/٤٤٦ برقم ٨٦ .و نقل المعلق على كتاب سير اعلام النبلاء انّه أخرجه أحمد: ٣/١٨٤ و ٢٨١، والترمذي (٣٧٩٣) في المناقب، وابن ماجة (١٥٤) في المقدمة باب فضائل خباب، و أبو نعيم في الحلية: ١/٢٢٨.

٣ أخرجه من أصحاب المسانيد: أحمد في مسنده: ٥/٢٣٦، ٢٤٢؛ و من أصحاب السنن: أبو داود برقم ٣٥٩٢ و ٣٥٩٣ في الاَقضية، والترمذي (١٣٢٧) مثله (١٣٢٨) في الاَحكام باب ما جاء في القاضي كيف يقضي؟ و سيوافيك نقل أسناده مفصلاً.

٧٦

هذه نبذة إجمالية عن سيرة معاذ بن جبل، والكلمة التي ذكرها النبي عند بعثه إلى اليمن للقضاء.

إنّ الوقوف على مكانة ذلك الصحابي رهن دراسة أمرين:

أ. دراسة الاَحاديث التي رواها عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ب. دراسة حديث الاجتهاد الذي بلغ من الشهرة بمكان حتى اتخذه أصحاب القياس سنداً لاِعماله في استنباط الاَحكام الشرعية. وقد فسر الاِمام الشافعي الاجتهاد الوارد فيه بالقياس، كما سيوافيك تفصيله.

أحاديثه الرائعة

روى أصحاب الصحاح والسنن و المسانيد روايات عنه في شتى الموضوعات، كالاِيمان و الطهارة والجنائز والصلاة و الزكاة والصيام والنكاح والعتق و الفرائض والحدود والديات والقضاء والطب والمرض والاَدب والذكر والدعاء و القرآن والعلم والجهاد والاَمارة و المناقب والزهد والفتن وأشراط الساعة والجنة، ويناهز مجموع ما نقل عنه من الاَحاديث قرابة ١٠٨، فهو تارة ينقل نص قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأُخرى فعلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي الوقت نفسه فإنّ قسماً من تلك الروايات هي في الواقع رواية واحدة نقلت بصور مختلفة فعدُّوها روايات متعددة كأكثر ما رواه في باب الاِيمان مثلاً حديثه المعروف «ما حقّ اللّه على العباد» رويت بصور تسع مع أنّ-ها في الحقيقة رواية واحدة، وعلى هذا الغرار يقلُّ عدد أحاديثه عن العدد المذكور بكثير، فلنذكر شيئاً من روائع أحاديثه:

١. عن ابن عباس انّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال: إنّك تأتي قوماً أهل كتاب فادعُهم إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه و انّي رسول اللّه، فان هم أطاعوك لذلك فاعلمهم انّ اللّه افترض عليهم

٧٧

خمس صلوات في كلّ يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فاعلمهم أنّ اللّه افترض عليهم صدقة في أموالهم توَخذ من أغنيائهم وتردّ في فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإيّاك و كرائم أموالهم، و اتق دعوة المظلوم فانّها ليس بينها و بين اللّه عزّ وجلّ حجاب.(١)

٢. قال: إنّ النبي قال سأنبئك بأبواب من الخير: الصوم جُنّة، والصدقة تطفىَ الخطيئة كما يطفىَ الماء النار، وقيام العبد من الليل ثمّ قرأ:( تَتَجافى جُنُوبهُمْ عَنِ المَضاجِعِ ) (٢)

٣. كان معاذ باليمن فارتفعوا إليه في يهودي مات، و ترك أخاً مسلماً، فقال معاذ: إنّي سمعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول:

«إنّ الاِسلام يزيد و لا ينقص» فورّثه.(٣)

٤. وقال: إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «الجهاد عمود الاِسلام و ذروة سنامه».(٤)

إلى غير ذلك من روائع الاَحاديث التي يعلو هامتها نور النبوة و يشهد علو مضامينها على صدورها في بيت الوحي.

أحاديثه السقيمة

وقد روي عنه روايات شاذة لا تصح نسبتها إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإليك دراسة قسم منها:

١.روَية اللّه في أحسن صورة

أخرج الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن طريق مالك بن يحامر

____________________

١ أخرجه الاِمام أحمد في مسنده:١/٢٣٣.

٢ أخرجه الاِمام أحمد:٥/٢٤٨ والآية ١٦ من سورة السجدة.

٣ مسند الاِمام أحمد: ٥/٢٣٠ و ٢٣٦.

٤ مسند الاِمام أحمد: ٥/٢٣٤.

٧٨

السكسكيِّ، عن معاذ بن جبل (رض) قال: احتبس عنّا رسول اللّه ص ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين(١) الشمس، فخرج سريعاً فتثوّب بالصلاة، فصلّى رسول اللّهوتجوز في صلاته، فلمّا سلّم دعا بصوته، قال لنا: على مصافّكم كما أنتم، ثمّ انفتل(٢) إلينا، ثمّ قال: أما إنّي سأُحدثكم ما حبسني عنكم الغداة، إنّي قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قُدّر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت(٣) فإذا أنا بربي تبارك و تعالى في أحسن صورة. فقال: يا محمَّد، قلت: لبيك ربي، قال: فيم يختصم الملاَ الاَعلى؟ قلت: لا أدري، قالها ثلاثاً.

قال: فرأيته وضع كفه بين كتفيّ حتى وجدت برد أنامله بين ثدييّ(٤) فتجلّى لي كل شيء و عرفت، فقال: يا محمد قلت: لبيك ربِّ قال: فيم يختصم الملاَ الاَعلى قلت: في الكفارات، قال: ما هنَّ، قلت: مشي الاَقدام إلى الحسنات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء حين الكريهات(٥) .. الخ.

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. سألت محمد بن إسماعيل (يريد البخاري) عن هذا الحديث، قال: هذا حديث حسن صحيح.

ورواه الاِمام أحمد في مسنده في حديث معاذ.(٦)

وللنظر في هذه الرواية ساحة رحبة.

أوّلاً: انّ المتبادر من الحديث هو انّ الصحابة كانوا على انتظار بُغية مجيَ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليصلّوا معه، وما صلّوا حتى خرج إليهم رسول

____________________

١ في مسند أحمد: قرن الشمس.

٢ انفتل: أقبل.

٣ وفي مسند أحمد: استيقظت. والاَوّل هو الصحيح.

٤ وفي مسند أحمد: بين كتفيّ.

٥ سنن الترمذي: ٥/٣٦٨، كتاب تفسير القرآن برقم ٣٢٣٥.

٦ مسند الاِمام أحمد: ٥/٢٤٣ و بين المتنين اختلاف طفيف.

٧٩

اللّه وقد تراءى عين الشمس، ومعنى ذلك انّ الصحابة تركوا الصلاة عمداً والنبي فاتت عنه الصلاة لغلبة النعاس عليه، ولو انّ الصحابة أدّوا الصلاة قبل خروج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم لجاء ذكره في الحديث فهذا ما لا نحتمله في حق الصحابة فضلاً عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثانياً: انّ «التثوّب بالصلاة» المشار إليه في الحديث عبارة عن قول الموَذن في أذان صلاة الصبح «الصلاة خير من النوم» و إنّما يذكر هذ الفصل من الاَذان عند إقامة الصلاة أداءً لا قضاءً، و المفروض انّ النبي أدّى صلاته قضاءً.

مضافاً إلى أنّه لم يثبت وجود التثوب بالاَذان في عهد رسول اللّه «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ، و إنّما أضيف إليه بعد رحيله، روى الاِمام مالك في موطّئه: انّالموَذن جاء إلى عمر بن الخطاب يأذنه لصلاة الصبح، فوجده نائماً، فقال: الصلاة خير من النوم، فأمر عمر أن يجعلها في نداء الصبح.(١)

والكلام في التثوب ذو شجون، وقد استوفينا البحث عنه في كتابنا «الاعتصام بالكتاب والسنّة».(٢)

وثالثاً: انّه سبحانه أجلّ من أن يتجلّى لنبيه في النوم بأحسن صورة، و أن يكون له كف و أنامل لها برد، و أن يضعها بين كتفي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

هب انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما ينقل ما رآه في المنام دون أن يحكي عن الواقع، و لكن هل من الصحيح أن يذكر ما رآه دون أن يعقبه بكلمة وهي: انّ ربّه أجّل من أن يوصف بتلك الاَوصاف، لئلاّ يقع السُّذَّج من الناس في ورطة التجسيم والتشبيه؟!

وأغلب الظن انّ الرواية من مجعولات مستسلمة أهل الكتاب الذين

____________________

١ الاِمام مالك، الموطأ، ص ٧٨ برقم ٨.

٢ الاعتصام بالكتاب والسنة، ص ٤٨- ٦٠.

٨٠