الأمر بين الامرين

الأمر بين الامرين33%

الأمر بين الامرين مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 106

الأمر بين الامرين
  • البداية
  • السابق
  • 106 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 37549 / تحميل: 5548
الحجم الحجم الحجم
الأمر بين الامرين

الأمر بين الامرين

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الأفعال من خلق الله، وهذه النقطة هي المفترق بين مدرسة أهل البيت والمدرسة الجبرية المعروفة في التاريخ الإسلامي.

فقد كانوا يرون أنّ ما يصدر عن الإنسان من الأفعال صادر عن الله تعالى في الحقيقة ومخلوق له، وليس الإنسان إلاّ ظرفاً لهذه الأفعال ولا شأن له بها غير ذلك ، وإنّما كانوا يصرّون على ذلك للاحتفاظ بأصل التوحيد ونفي وجود مصادر متعددة في الكون للأشياء وللأفعال ، وهذه المدرسة لا تنفي ( أصل العلّية ) رأساً ، ولكنّها لا تعرف للكون غير علّة واحدة وهو الله تعالى ، وينسب كلّ شيء وكلّ فعل إلى الله تعالى مباشرة ، ويواجه المفيدرحمه‌الله هذا الاتجاه من الرأي بعنف ، ويرده من غير رفق.

استدلال الشيخ المفيد بالنصوص الواردة من أهل البيت على رفض النسبة :

يقولرحمه‌الله : ( الصحيح عن آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ أفعال العباد غير مخلوقة لله ).

وقد روي عن أبي الحسن الثالث ( الإمام الهاديعليه‌السلام ) أنّه سئل عن أفعال العباد. فقيل له هل هي مخلوقة لله تعالى ؟ فقالعليه‌السلام : « لو كان خالقاً لها لما تبرأ منها وقد قال سبحانه :( إنّ الله بريء من المشركين ورسوله ) ( التوبة ٩ : ٣ ) ولم يُرد البراءة من خلق ذواتهم ، وإنّما تبرأ من شركهم وقبائحهم ».

وسأل أبو حنيفة أبا الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام عن أفعال العباد ممّن هي ؟

فقال أبو الحسنعليه‌السلام : «إنّ أفعال العباد لا تخلو من ثلاثة منازل :

٦١

إمّا أن تكون من الله تعالى خاصّة ، أو منه ومن العبد على وجه الاشتراك فيها ، أو من العبد خاصّة.

فلو كانت من الله تعالى خاصّة لكان أولى بالحمد على حسنها والذمّ على قبحها ، ولم يتعلّق بغيره حمد ولا لوم فيها.

ولو كانت من الله ومن العبد ، لكان الحمد لهما معاً فيها والذمّ عليهما جميعاً فيها. وإذا بطل هذان الوجهان ثبت أنّها من الخلق. فإن عاقبهم الله على جنايتهم بها فله ذلك ، وإن عفى عنهم فهو أهل التقوى وأهل المغفرة ».

وفي أمثال ما ذكرناه من الأخبار ومعانيها ممّا يطول به الكلام.

استدلال الشيخ المفيد بالقرآن على رفض النسبة :

ويستدل الشيخ المفيد بالقرآن على رفض نسبة أفعال الناس إلى الله.

يقولرحمه‌الله : ( وكتاب الله مقدّم على الأحاديث والروايات ، وإليه يتقاضى في صحيح الأخبار وسقيمها ، فما قضى به فهو الحقّ دون ما سواه ).

قال الله تعالى :( الّذي أحسن كلّ شيء خلقه وبدأ خلق الانسان من طين ) ( السجدة ٣٢ : ٧ ). فخبر بأنّ كلّ شيء خلقه فهو حسن غير قبيح ، فلو كانت القبائح من خلقه لما حكم بحسنها.

وفي حكم الله تعالى بحسن جميع ما خلق شاهد ببطلان قول من زعم أنّه خلق قبيحاً )(١) .

__________________

(١) تصحيح الاعتقاد ، للشيخ المفيد : ٢٠٠ ( المطبعة الحيدرية النجف ١٣٩٣ ه‍ ).

٦٢

ويعلّق السيّد هبة الدين الشهرستانيرحمه‌الله على كلمة الشيخ المفيدرحمه‌الله ، فيقول : ليس هذه الآية وحدها شاهد الفئة العدلية لإسناد أفعال العباد إلى أنفسهم ، إذ كلّ آية نزّهت ربّنا سبحانه عن الشرور وخلق الآثام تؤيده(١) .

مناقشة استدلالهم بالآيات على النسبة :

ويفتح الشيخ المفيدرحمه‌الله باباً واسعاً لمناقشة أدلّة الّذين يستدلّون بالقرآن على صحة نسبة أفعال الناس إلى الله تعالى.

ومن ذلك استدلالهم بقوله تعالى :( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً ) ( الأنعام ٦ : ١٢٥ ).

حيث نسبت الآية الكريمة الاضلال إلى الله تعالى. وقوله تعالى :( ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً ) ( يونس ١٠ : ٩٩ ).

حيثُ استفادوا منها صحّة نسبة الاضلال في غير المؤمنين إلى الله تعالى لأنه لو شاء لآمنوا جميعاً.

وقد ناقش الشيخ المفيد هذه الأدلّة بتفصيل نذكر نماذج منه :

يقولرحمه‌الله : ( فأمّا ما تعلقوا به من قوله تعالى :( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً ) ( الانعام ٦ : ١٢٥ ) فليس للمجبرة به تعلّق ولا فيه حجّة ، والمعنى فيه : أنّ من أراد الله تعالى أن ينعّمه ويثيبه جزاءً على طاعته شرح صدره

__________________

(١) تصحيح الاعتقاد ، للشيخ المفيد : ٢٠٠.

٦٣

للإسلام بالألطاف الّتي يَحْبُوهُ بها فييسّر له بها استدامة أعمال الطاعات. والهداية في هذا الموضع هي : النعيم.

قال الله تعالى فيما خبّر به عن أهل الجنّة :( الحمد لله الّذي هدانا لهذا ) ( الأعراف ٧ : ٤٣ ) أي نعمنا به وأثابنا إيّاه. والضلال في هذه الآية هو : العذاب ، قال الله تعالى :( إنّ المجرمين في ضلال وسُعُر ) ( القمر ٥٤ : ٤٧ ) فسمى العذاب ضلالاً والنعيم هداية ، والأصل في ذلك أنّ الضلال هو الهلاك والهداية هي النجاة.

قال الله تعالى حكاية عن العرب :( أإذا ضللنا في الأرض أإنّا لفي خلق جديد ) ( السجدة ٣٢ : ١٠ ) يعنون إذا هلكنا فيها ، وكان المعنى في قوله :( فمن يرد الله أن يهديه ) ما قدّمناه وبيّناه ومن يرد أن يضلّه ما وصفناه ، والمعنى في قوله :( يجعل صدره ضيّقاً حرجاً ) يريد سلبه التوفيق عقوبة له على عصيانه ومنعه الألطاف جزاء له على إساءته ، فشرح الصدر ثواب الطاعة بالتوفيق ، وتضييقه عقاب المعصية بمنع التوفيق ، وليس في هذه الآية على ما بيّناه شبهة لاَهل الخلاف فيما ادّعوه من أنّ الله تعالى يضلّ عن الإيمان ويصدّ عن الإسلام ويريد الكفر ويشاء الضلال.

وأمّا قوله تعالى :( ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلّهم جميعاً ) ( يونس ١٠ : ٩٩ ) ، فالمراد به الاخبار عن قدرته ، وأنّه لو شاء أن يلجئهم إلى الإيمان ويحملهم عليه بالإكراه والإضطرار لكان على ذلك قادراً ، لكنّه شاء تعالى منهم الإيمان على الطوع والاختيار ، وآخر الآية يدلّ على ما ذكرناه وهو قوله تعالى :( أفأنت تكره النّاس حتّى يكونوا مؤمنين ) ( يونس ١٠ : ٩٩ ) يريد أنّه قادر على إكراههم على الإيمان لكنّه لا يفعل

٦٤

ذلك ولو شاء لتيسّر عليه ، وكلّما يتعلقون به من أمثال هذه الآية فالقول فيه ما ذكرناه أو نحوه على ما بيّناه ، وفرار المجبرة عن إطلاق القول بأنّ الله يريد أن يُعصى ويُكفر به ويُقتل أولياؤه ويُشتم أحبّاؤه إلى القول بأنّه يريد أن يكون ما علم كما علم ويريد أن تكون معاصيه قبائح منهياً عنها ، وقوع فيما هربوا منه وتورّط فيما كرهوه ، وذلك أنـّه إذا كان ما علم من القبيح كما علم وكان تعالى مريداً لأن يكون ما علم من القبيح كما علم فقد أراد القبيح وأراد أن يكون قبيحاً ، فما معنى فرارهم من شيء إلى نفسه وهربهم من معنى إلى عينه ، فكيف يتم لهم ذلك مع أهل العقول ، هل قولهم هذا إلاّ كقول إنسان : أنا لا أسب زيداً لكنّي أسبّ أبا عمرو. وأبو عمرو هو زيد، أو كقول اليهود إذ قالوا سخرية بأنفسهم : نحن لا نكفر بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله لكنّا نكفر بأحمد ، فهذا رعونة وجهل ممّن صار إليه وعناء وضعف عمل ممّن اعتمد عليه ).

٢ ـ نفي استقلال الانسان في أفعاله :

النقطة الثانية في كلام الشيخ المفيدرحمه‌الله هي نفي استقلال الإنسان في فعله ، يقولرحمه‌الله في تصوير القول الوسط بين القولين ( الجبر والتفويض ) : ( والواسطة بين هذين القولين : أنّ الله تعالى أقدر الخلق على أفعالهم ومكّنهم من أعمالهم ، وحدّ لهم الحدود فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبراً لهم عليها ، ولم يفوّض إليهم الأعمال لمنعهم من أكثرها ووضع الحدود لهم فيها )(١) .

__________________

(١) تصحيح الاعتقاد : ٢٠٢.

٦٥

استنطاق النصوص :

عندما نقرأ النصوص الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام في مجرى الصراع العقائدي والحوار الدائر بين أطراف هذا الصراع نلتقي صورة حيّة عن حقيقة الصراع وعن حقيقة موقف أهل البيتعليهم‌السلام تختلف عن الصورة الّتي تعكسها الدراسات الكلامية بعض الاختلاف.

فقد دخل أهل البيتعليهم‌السلام في الفترتين السياسيتين الأموية والعبّاسية صراعاً عقائدياً قوياً في هذه المسألة ...

ولم يكن هذا الصراع صراعاً عقائدياً كلامياً خالصاً كما ذكرت من قبل، بل تداخلت فيه العوامل السياسية إلى جانب العامل العقلي في البحث الكلامي العقائدي. وكان طرف هذا الصراع حيناً النظام الحاكم ومتبنيات النظام العقائدية ، وحيناً آخر المعارضة السياسية للنظام. فقد كان المعتزلة يقعون أحياناً في طرف المعارضة السياسية ، أو أنّ المعارضة السياسية كانت تكتسب منهم دعماً سياسياً وشعبياً.

ومهما يكن من أمر ، فقد كان هذا الصراع من أعمق الصراعات العقائدية التي خاضها أهل البيتعليهم‌السلام وأكثرها حسّاسية وخطورة ، فقد كانت السلطة تتبنّى وجهة نظر الجبر بشكل واضح وصارخ ، حتّى أنّ غيلان الدمشقي قُتل على يد هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي ـ بتلك الطريقة الفظيعة الّتي يرويها المؤرخون ـ بجريمة الإيمان ب‍ ( الأختيار ) و ( التفويض ).

وكان لكلّ من هذين المذهبين آثاراً سلبية واسعة على العقلية

٦٦

الإسلامية كما كان لهما آثاراً على الحالة السياسية في العالم الإسلامي.

وكان أهل البيتعليهم‌السلام يقفون ضد هذا التيار تارة وضد ذلك التيار تارة في جبهتين مختلفتين.

الجبهة الأولى من جبهات الصراع العقلي :

وأولى هاتين الجبهتين هي الجبهة الكلامية الرسمية أو شبه الرسمية التي كانت تلتزم مبدأ ( الحتمية ) بشكل سافر ، وتؤمن بتدخّل الإرادة الإلهية بصورة مباشرة في كلّ فعل للإنسان ، وهي جبهة ( الأشاعرة ) فقد كان الأشاعرة ينفون علاقة السبب والعلّية بين الأشياء ، ولا يرون علاقة بين شيء وآخر في هذا الكون ، ولا يرون في هذا الكون مؤثّراً مباشراً إلاّ الله تعالى.

فإذا تعوّمت خشبة على الماء ، ولم تتعوّم حجارة ، فليس لسبب في الخشبة يقتضي التعويم لا يوجد في الحجارة ، وإنّما لأنّ الله تعالى شاء أن تتعوّم الخشبة ولا تتعوّم الحجارة ، وجرت عادته على ذلك.

وليس في هذا الكون قانون ولا علّة ولا سبب غير عادة الله ( وهذا هو القانون ) وسلطان الله وإرادته وهذا هو ( السبب ).

وأفعال الإنسان ليس بدعاً عن سائر ما يجري في هذا الكون فهي من خلق الله تعالى وليس للانسان فيه دور وسلطان.

وهذا التصور على مافيه من فجاجة ظاهرة كان هو التصوّر الرسمي لطائفة واسعة من علماء المسلمين ، وكان جهاز الخلافة الأموية ثمّ العبّاسية ـ عدا فترة قصيرة ـ يتبنّى ذلك ويحاسب ويعاقب عليه.

٦٧

وقد وجد أهل البيتعليهم‌السلام في هذا الاتجاه الفكري خطراً على العقلية الإسلامية ، وعلى حياتهم السياسية ، وعلى فهمهم للقرآن والسنّة.

فإنّ هذا التصور يلغي قانون العلّية ويسمح بأن يكلف الله تعالى الإنسان على ما لا يقدر عليه.

ويسمح بعقوبة الإنسان من جانب الله تعالى على ما لا سلطان له فيه ، وما لا قدرة له عليه ، ويقرّ نسبة الظلم والتعسف إلى الله تعالى.

ويحوّل الإنسان إلى خشبة عائمة في مجرى التاريخ ، لا سلطان له ، ولا فعل ولا تأثير في تقرير مصيره.

ويطلق أيدي السلطة الحاكمة في الاستبداد والإرهاب وسلب حقوق الناس والفتك والبطش بهم.

وبعض هذه التبعات والآثار السلبية تكفي لضرورة الوقوف في وجه هذا التيار.

وكانت هذه هي المواجهة الأولى في الصراع الفكري الذي خاضته مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام .

الجبهة الثانية للصراع الفكري :

وفي مقابل هذا الاتجاه ظهرت المعتزلة كرد فعل للاتجاه الأشعري وتطرّف المعتزلة في فهم الكون والانسان ـ كأي رد فعل آخر ـ وذهبوا إلى أنّ الله تعالى خلق الكون وانقطع بعد ذلك مابينه وبين هذا الكون من صلة ، ويجري هذا الكون ضمن أنظمة وقوانين ثابتة ، منفصلة في مرحلة الاستمرار عن إرادة الله تعالى ، كما لو أنّ مهندساً أنشأ معملاً كاملاً وأودعه

٦٨

لدى المهندسين المكلفين بتشغيله وانصرف هو لشأنه، فإنّ هذا المعمل يجري ويعمل ضمن أنظمة ثابتة حتى مع غياب المهندس الذي أنشأ هذا المعمل كذلك تتصور المعتزلة علاقة الله تعالى بهذا الكون ، علاقة في مرحلة الحدوث فقط ، والانسان بعد ذلك يعمل باختياره وإرادته في الأرض ، وقد فوّض الله تعالى إليه أمره كلّه ولم يكن بينه تعالى وبين الإنسان من علاقة إلاّ ما كان من أمر الإيجاد والابداع والخلق والتكوين في مرحلة الحدوث.

وهذا التصور يسلم عن نسبة الظلم إلى الله تعالى ، ولكنّه يسلب سلطان الله عن الكون والإنسان ، ويحصر سلطان الله تعالى على الكون في مرحلة واحدة ، ويقطع ـ نظرياً ـ إمداد الله تعالى وتوفيقه وفضله عن حياة الإنسان، ويذهب إلى أنّ الله تعالى خلق الإنسان ومنحه ما وهبه من المواهب ثمّ تركه وأوكله إلى نفسه يواجه مصيره ومسؤولياته لوحده.

وأخطر ما في هذا الاتجاه ، بعد الجانب العقائدي والناحية العقلية ، أو قبلهما ، أنّه يقطع أو يضعف علاقة الإنسان بالله تعالى في حياته اليومية وعمله وتحركه.

فإنّ أكثر اتصال الإنسان بالله تعالى ليس من خلال ( العقيدة ) و ( العبادة ) فقط وإنّما من خلال حاجاته اليومية في حركته وعمله إلى الله تعالى ، وتأييده وإسناده وإمداده ، في السوق والبيت ، والعمل السياسي ، ومشاكله ومتاعبه.

وهذه المشاكل والمتاعب التي تواجه الإنسان هي التي تلجئه إلى الله تعالى وتربط ما بينه وبين الله تعالى.

٦٩

وهي سر ابتلاء الله تعالى لعباده الصالحين.

يقول تعالى :( فأخذناهم بالبأساء والضرّاء لعلّهم يتضرّعون ) ( الأنعام ٦ : ٤٢ ).

ونظرية استقلال الإنسان في الاختيار والفعل تقع في النقطة المقابلة لهذا الاتجاه تماماً، وتقطع ما بين الإنسان وبين الله تعالى من صلة في حركته اليومية ، فإنّ الاتجاه المعتزلي يعمّق في مقابل الاتجاه الأشعري حالة استقلال الإنسان في الاختيار واتخاذ القرار والفعل والحركة ، ويؤكد أنّ الله تعالى خوّل للانسان هذه المهام ومنحه كل متطلبات ذلك ، ومنحه الاستقلال في القرار والاختيار والفعل.

وهو ما يؤكد القرآن خلافه ، ويعمّق في النفس إحساساً مخالفاً له.

والذي يقرأ القرآن لا يشك أنّ هذا الكتاب يحاول ويعمل على أن يشدّ إحساسنا ، وعقولنا ، وقلوبنا ، بالله تعالى من خلال هذه النقطة بالذات ، بعكس الاتجاه المعتزلي تماماً.

يقول زهدي جارالله في كتابه عن ( المعتزلة ) :

( وكأنّ المعتزلة في دفاعهم عن مبدأ الوحدانية راحوا يحاربون كلّ شيء يتعارض مع هذا المبدأ ويفندونه وقالوا : إنّه تعالى ساوى في النعم الدينية ، ولم يخص الأنبياء والملائكة بشيء من التوفيق والعصمة ولا بشيء من نعم الدين ، دون سائر المكلفين.

ثمّ إنّ المعتزلة أنكروا الشفاعة في الذنوب يوم القيامة لأنّها تتضمن معنى المحاباة.

٧٠

وإذا وردت في القرآن آيات كثيرة تحمل معنى الهداية من الله لخلقه والتوفيق والاضلال والخذلان والختم والطبع على القلوب اعتقدوا أنّ مثل هذه الآيات مناقضة لمبدأ العدل الإلهي ، ولفكرة ( الحرية الفردية ) فإنّهم شددوا في وجوب تأويلها جميعاً فقالوا في الهداية : إنّها على معنى التسمية والحكم والارشاد وإبانة الحقّ ، وليس له تعالى من هداية القلوب شيء.

وقالوا في التوفيق : إنّه توفيق عام ، يكون باظهار الآيات وإرسال الرسل وإنزال الكتب.

أمّا الاضلال : فقد أوّلوه على معنيين أحدهما :

أنّ الله تعالى أضلّ ، بمعنى : أسماه ضالاً ، أو أخبر أنّه ضالّ.

والثاني : على معنى أنّه جازاه على ضلالته ، وكذلك الخذلان معناه التسمية أو الحكم بأنّهم مخذولون ، وليس الاضلال والاغواء والصد عن الباب ...

وكان ( الفوطي ) وتلميذه عباد بن سليمان أكثر المعتزلة تشدداً في هذا الأمر ، فإنّ الفوطي كان يمنع إضافة بعض الأفعال إلى الله تعالى ، ولو ورد بها التنزيل ، فلا يجب أن نقول أنّه تعالى يؤلّف بين قلوب المؤمنين ، بل هم المؤتلفون باختيارهم ، ولا أنّه تعالى يحبّب إليهم الإيمان ، ويزيّنه في قلوبهم ، ولا أنّه يضلّ الفاسقين(١) .

وإذا كان التصور الأول يمسّ ( عدل ) الله تعالى فإنّ هذا التصور يمسّ

__________________

(١) المعتزلة ، لزهدي جارالله : ١٠٠ ـ ١٠٢.

٧١

( توحيد ) الله وعلاقة الإنسان بالله ، وقد وجد أهل البيتعليهم‌السلام أنفسهم أمام جبهة ثانية للصراع لا تقل خطورة وأهمية عن الجبهة الأولى.

وإذا كانوا في الجبهة الأولى في موقع الدفاع عن ( العدل ) فإنّهم في الجبهة الثانية كانوا في موقع الدفاع عن ( التوحيد ).

لقد واجه أهل البيتعليهم‌السلام هذا الركام الهائل من الأخطاء والانحرافات في اُصول التصور الإسلامي التي تمسّ العدل والتوحيد في الصميم ، وكانت أصابع السياسة تمتد إلى هذه الاُصول والأفكار بوضوح فلننظر كيف واجه أهل البيتعليهم‌السلام هذه الحالة وكيف عالجوها.

٧٢

الفصل الرابع

أهل البيت: في موقع الدفاع عن ( التوحيد ) و ( العدل )

وفي ما يلي نحاول أن نجمع ونصنف الاُصول الفكرية التي طرحها أئمة أهل البيتعليهم‌السلام لإزالة هذه الغشاوة والالتباس عن التصور الإسلامي وهذه الاُصول عشرة نقدمها واحداً بعد آخر.

١ ـ نظام القضاء والقدر في الكون :

النظام الحاكم على هذا الكون نظام ( ضروري حتمي ) و ( متقن ودقيق ) ولا يمكن أن يحدث في نفس الظروف والعوامل إلاّ ما حدث. وهذا النظام قائم على أساس نظام العلّية والمعلوليّة الساري في كلّ الكون ولا يختص هذا النظام بالعالم المادي الفيزياوي وإنّما يشمل عالم ماوراء المادة والفيزياء ( الميتافيزيقي ) كذلك.

ونظام (العلّية) هو نظام القضاء والقدر. فإنّ من اُصول العلّية ( حتمية ) وجود المعلول عند وجود العلّة و ( تشخّص ) المعلول من حيث الكم والكيف. فإنّ احتكاك عود الثقاب بالغشاء الكبريتي يُولد الحرارة والنار بالضرورة ( لولا الموانع ) وبشكل حتمي وقطعي كما أنّ كمية الحرارة المنبعثة من هذا الاحتكاك كمية محدودة معروفة مشخّصة تناسب عود

٧٣

الثقاب ودرجة الاحتكاك والغشاء الكبريتي ، وحتمية حدوث المعلول هي ( القضاء ) ، وتشخّص المعلول من حيث النوع والكم والكيف هي ( القدر ). فإنّ ( القضاء ) بمعنى الحتم والحكم الالزامي ، و ( القدر ) بمعنى التقدير والمقدار.

روى الكليني عن يونس بن عبد الرحمن ، عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال : «يا يونس فتعلم ما القدر » ؟ قلت : لا. قالعليه‌السلام : «هي الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء ».

ثمّ قال : «والقضاء هو الإبرام ... »(١) .

إذن هذا الكون مجموعة منظمة مرتبة من حلقات متسلسلة والقانون العام الذي يجري في هذا الكون هو الحتمية والضرورة والتقدير والتحديد.

وحياة الإنسان الفردية والاجتماعية ليست بدعاً ولا استثناءً في هذا الكون. وإنّما يعمه ما يعم الكون ، من الاُصول والقوانين ، فيدخل الإنسان وفعله وحركته الفردية والاجتماعية في دائرة القضاء والقدر. فإذا نَصَرَ الله وأعطى وضحّى نصره الله ، قال تعالى :( إن تنصروا الله ينصركم ) ( محمّد ٤٧ : ٧ ) ، وإذا تخاذل وتهاون أوكله الله إلى نفسه ، وإذا تحرّك ونشط وعمل أغناه الله ، وإن كسل وضعف أوكله الله إلى ضعفه وكسله ، وإذا صدق وفّقه الله وأعانه ، وإذا كذب وتحايل أوكله الله إلى كذبه وتحايله ومكره وخداعه. وكل ذلك من سنن الله وقضائه وقدره. والإنسان

__________________

(١) اُصول الكافي ١ : ١٢١ / ٤ باب الجبر والقدر ، والأمر بين الأمرين ـ كتاب التوحيد ، منشورات المكتبة الإسلامية ١٣٨٨ ه‍.

٧٤

يعيش في دائرة قضاء الله وقدره بشكل كامل ، بما للقضاء والقدر من حتمية ونظام وتقدير.

روى محمّد بن يعقوب الكليني مرفوعاً قال: كان أميرالمؤمنينعليه‌السلام جالساً بالكوفة بعد منصرفه من صفين إذ أقبل شيخ فجثى بين يديه وقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء من الله وقدر ؟ فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «أجل يا شيخ ، ما علوتم تلعة ولاهبطتم بطن واد إلاّ بقضاء من الله وقدر ». فقال له الشيخ : عند الله أحتسب عنائي يا أميرالمؤمنين. فقال له : «مَه يا شيخ ، فو الله لقد عظّم الله لكم الأجر في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي مقامكم وأنتم قائمون (١) ، وفي من وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين ». فقال له الشيخ : وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا ؟

فقالعليه‌السلام : «وتظنُّ أنّه كان قضاء حتماً وقدراً لازماً ؟! إنّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي ، والزجر من الله ، وسقط معنى الوعد والوعيد ، فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن ، ولكان المذنب حسن أولى بالاحسان من المحسن ، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب ، تلك مقالة إخوان عبدة الاَوثان ، وخصماء الرحمن ، وحزب الشيطان ، وقدرية هذه الاُمّة ومجوسها ، إنّ الله تبارك وتعالى كلّف تخييراً ، ونهى تحذيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يُعصَ مغلوباً ، ولم يُطعْ مكرهاً ، ولم يُمّلك مفوّضاً ، ولم يخلق السموات والأرض وما بينهماباطلاً ،

__________________

(١) في نسخة : مقيمون.

٧٥

ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثاً ، ذلك ظنُّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ». قال : فنهض الشيخ وهو يقول :

أنت الإمام الّذي نرجو بطاعته

يوم النجاة من الرحمن غفراناً

أوضحت من أمرنا ما كان ملتبساً

جزاك ربّك بالإحسان إحساناً(١)

والشطر الأول من النص هنا ظاهر في عموم القضاء والقدر ، وشموله لكل فعاليات الإنسان وحركته وهو قولهعليه‌السلام : «أجل يا شيخ ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلاّ بقضاء من الله وقدر ».

٢ ـ القضاء والقدر هو النظام الإلهي في الكون وحياة الإنسان :

هذا النظام بكل تفاصيله من خلق الله تعالى وإبداعه. وهو تجسيد لإرادة الله ومشيئته. وما نجد في الكون كله وفي حياة الإنسان من فعل وإنفعال وحركة وولادة وهلاك ونمو وضعف إنّما يجري بموجب إرادة الله تعالى ومشيئته في دائرة القضاء والقدر. ونظام السببية الساري في الكون. ومن العجب أن بعض الناس يبحثون دائماً عن الله تعالى وفعله في اختراق هذا النظام الكوني فقط وليس في أصل النظام وكأن هذا النظام يجري من جانب آخر غير جانب الله تعالى ، وفعل الله تعالى في هذا النظام هو اختراقه وإيقافه وتبديله. يقول صدر المتألهينرحمه‌الله في مناقشة فخرالدين الرازي : ( وأعجب الأمور أنّ هؤلاء القوم متى حاولوا إثبات أصل من اُصول الدين ، كإثبات قدرة الصانع ، أو إثبات النبوّة والمعاد ، اضطروا إلى إبطال خاصية الطبائع ونفي الرابطة العقلية بين الأشياء والترتيب الذاتي

__________________

(١) اُصول الكافي ١ : ١١٩ ـ ١٢٠ / ١ باب الجبر والقدر ، والأمر بين الأمرين ـ كتاب التوحيد ، المكتبة الإسلامية ١٣٨٨ ه‍. والتوحيد ، للصدوق : ٣٨٠ / ٢٨ مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم.

٧٦

الوجودي والنظام اللائق الضروري بين الموجودات التي جرت سنّة الله عليها ولا تبديل لها ).

وهذه عادتهم في إثبات أكثر الاُصول الاعتقادية ، كما فعله هذا الرجل إمام أهل البحث والكلام ( أي الرازي صاحب التفسير الكبير ).

والإيمان بأنّ كلّ ما يجري في الكون وفي حياة الإنسان من خير وشر من قضاء الله تعالى وقدره ولا يجري في الكون شيء إلاّ بقضاء من الله وقدره من الإيمان الذي لابدّ منه في عقيدة الإنسان المسلم.

روى الصدوق عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « لا يؤمن أحدكم حتّى يؤمن بالقدر خيره وشرّه وحلوه ومرّه »(١) .

وروى الكليني في الكافي عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام : كان أميرالمؤمنينعليه‌السلام يقول : « لا يجد عبد طعم الإيمان حتّى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وأنّ الضارّ النافع هو الله عزّ وجلّ »(٢) .

وعن الصدوق في التوحيد عن علي بن موسى الرّضاعليه‌السلام عن أبيه عن آبائه عن علي بن أبي طالبعليه‌السلام قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «قال الله جلّ جلاله من لم يرض بقضائي ولم يؤمن بقدري فليلتمس إلهاً غيري »(٣) .

__________________

(١) التوحيد ، للصدوق : ٣٨٠ / ٢٧ ( مؤسسة النشر الإسلامي قم ).

(٢) الكافي ٢ : ٥٨ / ٧ باب فضل اليقين.

(٣) التوحيد ، للصدوق : ٣٧١ / ١١ باب القضاء والقدر.

٧٧

٣ ـ القيمومة الإلهية الدائمة على نظام القضاء والقدر في الكون :

قد يتصور البعض أنّ الله تعالى أبدع نظام القضاء والقدر في الكون ، وفي حياة الإنسان وانفصل عنه بعد ذلك ويجري ويتحرك هذا النظام في الكون والمجتمع كما يتحرك ويعمل المعمل الذي أنشأه المهندس الذي صمّمه وصنعه من دون حاجة إلى حضوره هو في تشغيله وحركته. والكون كذلك يجري بموجب نظام القضاء والقدر الذي أبدعه الله تعالى غير أنّ ارتباط هذا النظام كان بالله تعالى في مرحلة الحدوث ثمّ انفصل عنه تعالى بعد ذلك واستقل.

وكذلك الإنسان يختار ويعمل في دائرة نظام القضاء والقدر مستقلاً عن إرادة الله تعالى ومشيئته ، وإن كان هذا النظام من إرادة الله ومشيئته في حال حدوثه وخلقه وهو تصور قديم لليهود في انقطاع سلطان الله ونفوذه في الكون بعد أن خلق الكون( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) ( المائدة ٥ : ٦٤ ).

والتصور القرآني يختلف اختلافاً جوهرياً عن التصور المتقدّم ويتلخصّ هذا التصور : في قوله تعالى :( بل يداه مبسوطتان ) ، وفي أنّ الله هو الحي القيّوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ولا تنقطع قيمومته عن هذا الكون إطلاقاً. إذن هذا النظام يجري في الكون والمجتمع بإرادة الله تعالى ومشيئته ، ولا ينفصل الإنسان ولا الكون عن إرادة الله ومشيئته لحظة واحدة.

حتى أنّ مشيئة الإنسان تجري بمشيئة الله. يقول تعالى( وما تشاءون

٧٨

إلاّ أن يشاء الله ربّ العالمين ) ( التكوير ٨١ : ٢٩ ).

( وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله إنّ الله كان عليماً حكيماً ) ( الانسان ٧٦ : ٣٠ ).

روى الصدوق عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « عن الله أروي حديثي : إنّ الله تبارك وتعالى يقول : يابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد ، وبفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي ، وبعصمتي وعوني أديت إليّ فرائضي الخ »(١) .

وفي حديث لاَمير المؤمنين إلى الشيخ الّذي سألهعليه‌السلام عن مسيرهم إلى صفّين « ولم يملّك مفوّضاً » بمعنى أنّ الله تعالى لم يفوّض أحداً في ملكه وسلطانه ، بل هو قائم عليه قيم به ، وهو الحي القيّوم ، والّذي يتصور أنّ الله تعالى فوّض إليه أمره ، ورفع عنه قيمومته واستقل عن الله تعالى في فعله واختياره ، فقد أوهن الله عزّ وجلّ في سلطانه كما ورد في النص.

عن الصدوق عن حريز بن عبد الله عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال : «إنّ الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل يزعم أنّ الله عزّ وجلّ أجبر الناس على المعاصي ، فهذا قد ظلم الله في حكمه ، فهو كافر ، ورجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليه ، فهذا قد أوهن الله عزّ وجلّ في سلطانه ، فهو كافر ، ورجل يزعم أنّ الله كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلّفهم مالايطيقون ، وإذا أحسن

__________________

(١) التوحيد ، للصدوق : ٣٤٠ / ١٠ ، ٣٣٨ / ٦ ، ط ١٣٩٨ ه‍. وانظر اُصول الكافي ١ : ١٤٢ / ٦ باب المشيئة والارادة ـ كتاب التوحيد ، ط ١٣٨٨ ه‍. وبحار الأنوار ٥ : ٥٧ / ١٠٤.

٧٩

حمد الله ، وإذا أساء استغفر الله ، فهذا مسلم بالغ »(١) .

فلا يوجد في هذا الكون ولا في حياة الإنسان قبض وبسط وسعة وضيق ويسر وعسر إلاّ بحكم الله ومشيئته.

عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : «ما من قبض ولا بسط إلاّ ولله فيه مشيئة وقضاء وابتلاء »(٢) .

إذن لله تعالى الحضور الدائم المتّصل في هذا الكون كلّه ، وفي كلّ مساحة القضاء والقدر ، لا يغيب عنه شيء ، ولا يجري في هذه المساحة بشيء من دون حضوره ، وله قيمومة دائمة على كلّ الكون وهو الحيّ القيّوم( الله لا إله إلاّ هو الحيُّ القيُّوم لا تأخذه سِنةُ ولا نوم ) ( البقرة ٢ : ٢٥٥ ).

٤ ـ تتّم المعاصي من الناس بقضاء الله وقدره ولا يُعصى مغلوباً :

وإذا كان كلّما يجري في هذا الكون وفي حياة الإنسان يجري بقضاء وقدر. وإذا كان ما يجري من القضاء والقدر بإرادة الله ومشيئته ، فلا محالة تجري أفعال الإنسان جميعاً من خير وشرّ ، وطاعة ومعصية بإذنه وإرادته ، ولا يمكن أن يقع من الإنسان عصيان أو ذنب خارج دائرة سلطانه وقضاءه وقدره وإذنه. يقول تعالى :( وما هم بضارّين به من أحد إلاّ بإذن الله ) ( البقرة ٢ : ١٠٢ ).

( ولو شاء الله ما فعلوه ) ( الأنعام ٦ : ١٣٧ ).

__________________

(١) بحار الأنوار ٥ : ٩ ـ ١٠ / ١٤ عن الخصال للصدوق.

(٢) الكافي ١ : ١٥٢ / ١ باب الابتلاء والاختيار ـ كتاب التوحيد.

٨٠

( ولو شاء الله ما اقتتلوا ) ( البقرة ٢ : ٢٥٣ ).

( ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ) ( البقرة ٢ : ٢٠ ).

فإذا عصى الإنسان ربّه عزّ وجلّ فإنّما يعصيه بما آتاه من سلطان وحول وقوة ، ولو أنّ الله تعالى سلب عنه حوله وقوّته لم يتمكّن من معصية الله ، وهي حقيقة يقرّها القرآن ولابدّ من الاعتراف بها. رغم مناقشات الأشاعرة الطويلة حول هذا الموضوع.

روى الكلينيرحمه‌الله عن حمزة بن حمران قال : سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الاستطاعة فلم يجيبني ، فدخلت عليه دخلة أُخرى فقلت : أصلحك الله، إنّي أقول : إنّ الله تبارك وتعالى لم يكلّف العباد مالايستطيعون ، ولم يكلّفهم إلاّ ما يطيقون ، وإنّهم لا يصنعون شيئاً من ذلك إلاّ بإرادة الله ومشيئته وقضائه وقدره.

قال : فقالعليه‌السلام : « هذا دين الله الّذي أنا عليه وآبائي »(١) .

وروى علي بن إبراهيم الهاشمي قال : سمعت أبا الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام يقول : «لا يكون شيء إلاّ ما شاء الله ، وأراد وقدّر وقضى »(٢) .

وروى الصدوق في التوحيد باسناده عن علي بن يقطين عن أبي إبراهيمعليه‌السلام قال : «مرّ أميرالمؤمنين عليه‌السلام على جماعة بالكوفة وهم يختصمون في القدر ، فقال لمتكلّمهم : أبالله تستطيع أم مع الله ، أم من دون الله تستطيع ؟ فلم يدر ما يردّ عليه ، فقال له أميرالمؤمنين عليه‌السلام : إنّك إن

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ١٢٤ / ٤ باب الاستطاعة ـ كتاب التوحيد. والتوحيد ، للصدوق : ٣٤٦ / ٣.

(٢) اُصول الكافي ١ : ١٥٠ / ١ باب المشيئة والارادة ـ كتاب التوحيد.

٨١

زعمت أنّك بالله تستطيع فليس لك من الأمر شيء ، وإن زعمت أنّك مع الله تستطيع ، فقد زعمت أنّك شريك معه في ملكه ، وإن زعمت أنّك من دون الله تستطيع فقد ادّعيت الربوبية من دون الله عزّ وجلّ »(١) .

وروى الكليني ، عن علي بن الحكم ، وعبدالله بن يزيد جميعاً ، عن رجل من أهل البصرة ، قال : سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الاستطاعة ، فقالعليه‌السلام : «أتستطيع أن تعمل ما لم يكوّن » ؟ قال : لا ، قالعليه‌السلام : «فتستطيع أن تنتهي عمّا قد كوّن » ؟ قال : لا ، قال: فقال له أبو عبد اللهعليه‌السلام : « فمتى أنت مستطيع » ؟ قال : لا أدري ، قال : أبو عبد اللهعليه‌السلام : «إنّ الله خلق خلقاً فجعل فيهم آلة الاستطاعة ثمّ لم يفوّض إليهم ، فهم مستطيعون للفعل وقت الفعل مع الفعل إذا فعلوا ذلك الفعل ، فإذا لم يفعلوه في ملكه لم يكونوا مستطيعين أن يفعلوا فعلاً لم يفعلوه ، لأن الله عزّ وجلّ أعزّ من أن يضادّه في ملكه أحد » ، قال البصري : فالناس مجبورون ؟ قالعليه‌السلام : «لو كانوا مجبورين كانوا معذورين » ، قال : ففوّض إليهم ؟ قالعليه‌السلام : « لا » ، قال : فما هم ؟ قالعليه‌السلام : «عَلِمَ منهم فعلاً فجعل فيهم آلة الفعل ، فإذا فعلوا كانوا مع الفعل مستطيعين ». قال البصري : أشهد أنّه الحقّ وأنّكم أهل بيت النبوّة والرسالة(٣) .

روى الكلينيرضي‌الله‌عنه عن محمّد بن أبي عبد الله ، عن سهل بن زياد ، وعلي ابن إبراهيم ، عن أحمد بن محمد ، ومحمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد جميعاً ، عن علي بن الحكم ، عن صالح النيلي قال : سألت أبا

__________________

(١) اُصول الكافي ١ : ١٦١ ـ ١٦٢ / ٢ باب الاستطاعة ـ كتاب التوحيد ، ط دار الاضواء ـ بيروت. التوحيد ، للصدوق : ٣٥٢ / ٢٣ ط ١٣٩٨ ه‍. وبحار الأنوار ٥ : ٣٩ / ٦١.

(٢) أُصول الكافي ١ : ١٢٣ / ٢ ط ١٣٨٨ ه‍.

٨٢

عبداللهعليه‌السلام : هل للعباد من الاستطاعة شيء ؟ قال : فقال ليعليه‌السلام : «إذا فعلوا الفعل كانوا مستطيعين بالاستطاعة الّتي جعلها الله فيهم ». قال : قلت : وما هي ؟ قالعليه‌السلام : «الآلة مثل الزاني إذا زنى كان مستطيعاً للزناً حين زنى ، ولو أنّه ترك الزنا ولم يزن كان مستطيعاً لتركه إذا ترك ـ قال : ثمّ قال ـ ليس له من الاستطاعة قبل الفعل قليل ولا كثير ، ولكن مع الفعل والترك كان مستطيعاً ». قلت : فعلى ماذا يعذّبه ؟ قالعليه‌السلام : «بالحجّة البالغة والآلة التي ركّب فيهم ، إنّ الله لم يجبر أحداً على معصيته ، ولا أراد ـ إرادة حتم ـ الكفر من أحد ، ولكن حين كفر كان في إرادة الله أن يكفر ، وهم في إرادة الله وفي علمه أن لا يصيروا إلى شيء من الخير ». قلت : أراد منهم أن يكفروا ؟ قالعليه‌السلام : «ليس هكذا أقول ، ولكنّي أقول : علم أنّهم سيكفرون ، فأراد الكفر لعلمه فيهم وليست هي إرادة حتم إنّما هي إرادة اختيار »(١) .

وروى الصدوق عن حفص بن قرط عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من زعم أنّ الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أن الخير والشرَّ بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه ، ومن زعم أنّ المعاصي بغير قوّة الله فقد كذب على الله ، ومن كذب على الله أدخله الله النار »(٢) .

روي في الصحيح من طريق الصدوقرضي‌الله‌عنه في التوحيد والعيون أنّه

__________________

(١) اُصول الكافي ١ : ١٢٣ / ٣ باب الاستطاعة ـ كتاب التوحية ، ط ١٣٨٨ ه‍.

(٢) الكافي ١ : ١٥٨ / ٦ باب الجبر والقدر ، والأمر بين الأمرين ـ كتاب التوحيد. التوحيد ، للصدوق : ٣٥٩ / ٢. وبحار الأنوار ٥ : ٥٢ / ٨٥.

٨٣

قال: حدّثنا أبي قال : حدّثنا سعد بن عبد الله قال : حدّثنا أحمد بن محمّد ابن خالد البرقي عن أبيه عن سليمان بن جعفر الجعفري عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال : ذكر عنده الجبر والتفويض فقال : «ألا اُعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ولا تخاصمون عليه أحد إلاّ كسرتموه » ؟ قلنا : إن رأيت ذلك. فقالعليه‌السلام : «إنّ الله عزّ وجلّ لم يُطَعْ بإكراه ، ولم يُعصَ بغلبة ، ولم يهمل العباد في ملكه ، هو المالك لما ملّكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه ، فإنّ ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صاداً ولا منها مانعاً ، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الّذي أدخلهم فيه. ثمّ قال عليه‌السلام : من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه »(١) .

وروى الكليني عن إسماعيل بن جابر قال : كان في مسجد المدينة رجل يتكلّم في القدر والناس مجتمعون ، قال فقلت : يا هذا أسألك ؟ قال : سل ، قلت : يكون في ملك الله تبارك وتعالى مالا يريد ؟ قال : فأطرق طويلاً ثمّ رفع رأسه إليّ فقال : يا هذا ! لئن قلت : إنّه يكون في ملكه مالا يريد ، إنّه لمقهور ، ولئن قلت : لا يكون في ملكه إلاّ ما يريد أقررت لك بالمعاصي ، قال : فقلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : سألت هذا القدري فكان من جوابه كذا وكذا ، فقالعليه‌السلام : «لنفسه نظر أما لو قال غير ما قال لهلك »(٢) .

وروى الصدوق في التوحيد بإسناده عن عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام قال : «حدّثنا أبي عن آبائه عن الحسين بن علي عليهم‌السلام قال : سمعت أبي عليّ

__________________

(١) التوحيد ، للصدوق : ٣٦١ / ٧. وبحار الأنوار ٥ : ١٦ / ٢٢.

(٢) الكافي ١ : ١٥٩ / ٧ باب ٣٠ كتاب التوحيد.

٨٤

ابن أبي طالبعليه‌السلام يقول : الأعمال على ثلاثة أحوال :

١ ـ فرائض.

٢ ـ وفضائل ( نوافل ).

٣ ـ ومعاصي.

فأمّا الفرائض : فبأمر الله عزّ وجل وبرضا الله وبقضاء الله وتقديره ومشيّته وعلمه.

وأمّا الفضائل : ـ النوافل ـ فليست بأمر الله ، ولكن برضاء الله وبقضاء الله وبقدر الله وبمشيّته وبعلمه.

وأمّا المعاصي : فليست بأمر الله ، ولكن بقضاء الله وبقدر الله وبمشيّته وبعلمه ، ثمّ يعاقب عليها »(١) .

وهذا النصّ واضح في أنّ ما يجري من الإنسان من المعاصي والذنوب هي بقضاء الله وقدره وعلمه ، وليست بأمر الله.

٥ ـ التفكيك بين إرادة الله التكوينية والتشريعية :

وإذا كان الله تعالى لا يعصى مقهوراً ، فلابدّ أن تكون المعصية بإذنه ومشيئته وإرادته. وهذه حقيقة لابد أن ننتهي إليها. وعندئذ من الحقّ أن نتسائل : كيف يريد الله معصية الله ، وهو ينهى عنها ولا يرضاها ولا يريدها ؟ وهذه ( عقدة ) كان يقف عندها غالباً الحوار الّذي يجري بين

__________________

(١) التوحيد ، للصدوق : ٣٦٩ / ٩. وبحار الأنوار ٥ : ٢٩ / ٣٦.

٨٥

الأشاعرة والمعتزلة في التاريخ.

يقول ابن الخيّاط : إنّ هشام بن عبد الملك لمّا بلغه قول غيلان ( الدمشقي ) بالاختيار ، قال : ويحك يا غيلان ! لقد أكثر الناس فيك ، فنازعنا في أمرك ، فإنّ كان حقّاً اتّبعناك. فاستدعى هشام ميمون بن مروان ليكلّمه ، فقال له غيلان : أشاء الله أن يعصى ؟ فأجابه ميمون : أفعصي كارهاً ؟ فسكت غيلان ، فقطع هشام بن عبد الملك يديه ورجليه(١) .

وقيل إنّ ( غيلان الدمشقي ) الّذي كان يذهب مذهب الاختيار وقف على رأس ( ربيعة الرأي ) الذي كان يذهب مذهب ( الجبر ) في القضاء والقدر. فقال : أنت الّذي يزعم أنّ الله يحبّ أن يعصى ؟

فقال له ربيعة : أنت الّذي يزعم أنّ الله يعصى قهراً(٢) .

وتنحل هذه العقدة العجيبة بالتفكيك بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية ، وهو ما صنعه أهل البيتعليهم‌السلام في حلّ هذه المشكلة ، ولربّما لاوّل مرّة في التاريخ العقلي الإسلامي. وعندئذ يكون جواب غيلان لميمون بن مروان أو لربيعة الرأي واضحاً ، ولن يطول تردّده طويلاً في الاجابة القاطعة على هذا التساؤل الغريب.

والجواب : إنّ الله لا يعصى كارهاً ولا مقهوراً ، إذا كان المقصود من الكراهية والقهر ( الإرادة التكوينية ) وإنّما يعصى بإرادته سبحانه وتعالى من دون كراهية وقهر كما بيّنا ذلك بوضوح في الفقرة السابقة.

__________________

(١) الانتصار ، للخياط : ١٧٩ ـ نقله عن منية الامل : ٣٠ ـ ٣٢.

(٢) الإنسان والقدر ، الشيخ المطهري : ٣٨.

٨٦

وأمّا إن كان المقصود منها ( الإرادة التشريعية ) فليس من بأس أن يعصى الله تعالى وهو يكره المعصية ، فإنّ الناس يكثرون من معصية الله تعالى ، والله تعالى يكره معصيتهم ويمقتها ويغضب عليهم من أجلها ، وإن كانت هذه المعاصي تجري جميعاً بإرادته وإذنه ، وفي ملكه وسلطانه ، وبما أتى عباده من حول وقوّة وطول. واختلاف الإرادتين في الإذن وعدم الإذن ليس من التناقض في شيء ، إذا ميّزنا بشكل دقيق بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية ، ولسنا نعلم هل كان التفكيك بين الإرادتين والتمييز بينهما معروفاً في هذا التاريخ أم لا.

ويغلب على الظنّ أنّ هذا التفكيك لم يكن معروفاً. وإلاّ لم يتوقّف ( غيلان الدمشقي ) يومذاك عن جواب ميمون ، أو ربيعة الرأي ، إذا صحّت الرواية.

وعلى أيّ ، فلنتأمّل في النصوص الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام في التفكيك بين هاتين الإرادتين :

روى الكليني بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : سمعته يقول : «أمر الله ولم يشأ ، وشاء ولم يأمر. أمر إبليس أن يسجد لآدم ، وشاء أن لا يسجد ، ولو شاء لسجد. ونهى آدم عن أكل الشجرة وشاء أن يأكل منها ، ولو لم يشأ لم يأكل »(١) .

ومنها ما روي من طريقهرضي‌الله‌عنه أيضاً عن علي بن إبراهيم ، عن المختار بن

__________________

(١) اُصول الكافي ١ : ١١٧ / ٣ باب المشيئة والارادة ـ كتاب التوحيد ، المكتبة الإسلامية ط ١٣٨٨ ه‍. وبمضمونه التوحيد ، للصدوق : ٣٤٣ / ١٢ ، ط ١٣٩٨ ه‍.

٨٧

محمّد الهمداني ومحمّد بن الحسن ، عن عبد الله بن الحسن العلوي جميعاً ، عن الفتح بن يزيد الجرجاني ، عن أبي الحسنعليه‌السلام قال : « إنّ لله إرادتين ومشيئتين : إرادة حتم ، وإرادة عزم ، ينهي وهو يشاء ويأمر وهو لا يشاء ، أو ما رأيت انّه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك ، ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى. وأمر إبراهيم أن يذبح إسماعيل ولم يشأ أن يذبحه ، ولو شاء لما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالى »(١) .

٦ ـ حرّية الاختيار لدى الإنسان داخل الدائرة الحتمية للقضاء والقدر :

وهذه النقطة بالذات هي عقدة البحث ، فإذا انحلّت هذه النقطة واتّضحت اتضح ما قبلها وبعدها.

إنّ الإنسان يملك بصريح الوجدان والقرآن كامل حرّيته في الاختيار والفعل وإمارة حريته في الاختيار تردده في الانتخاب. ومسؤوليته عن فعله وإحساسه بالندم والراحة عند انتخاب ما يصلح وما لا يصلح. والوجدان أقوى شاهد على هذه الحقيقة. وقد رأينا في موضع سابق من هذا البحث أنّ القرآن يقرر حرّية اختيار الإنسان في طوائف كثيرة من الآيات. ولسنا بصدد إثبات هذه الحقيقة الآن أكثر من ذلك. واختيار الإنسان يقع على مفترق طرق يقف عنده الإنسان غالباً أو دائماً. ولأيّ سبيل من هذه السبل يختاره الإنسان حكم قطعي وحتمي في دائرة القضاء والقدر المحكم والمتقن الّذي شرحناه من قبل.

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ١١٧ / ٤ باب المشيئة والارادة ـ كتاب التوحيد.

٨٨

فليس من سبيل للإنسان أن يخرج عن دائرة ( القضاء والقدر ) وحكمه القطعي المتقن والدقيق ، وهو لا محالة يعيش ويتحرّك ويعمل ويختار في هذه كما ذكرنا. ولكنه يملك مطلق الاختيار دائماً أو غالباً في اختيار سبيل من هذه السبل المختلفة الّتي يجدها أمامه عن معرفة ووعي.

المريض إذا اهتم بمرضه وراجع الطبيب واتّخذ العلاج يشفى ، وإن أهمل مرضه يتضاعف المرض عنده. والطالب إذا نشط واجتهد ينجح وإذا كسل وأهمل دروسه يفشل. والعامل إذا عمل وتحرّك في السوق ، يغنيه الله ، وإذا تهاون في البحث عن العمل يفتقر. والإنسان إذا عاشر الصالحين يصلح ويأخذ منهم الصلاح. وإذا عاشر الفاسدين يأخذ منهم الفساد.

وكلّ هذه النتائج من القضاء والقدر الحتم والمتقن الّذي لا سبيل للتشكيك فيه. فإنّ الإنسان الّذي يجتهد في طلب العلم يكون عالماً بالضرورة والحتم ، وهذا هو ( القضاء ) وتكون معرفته في الحقل الّذي اجتهد فيه ، دون غيره من الحقول ، وبمقدار اجتهاده ودراسته ، وهذا هو ( القدر ).

إنّ اختيار الإنسان في المبادئ دائماً والأحكام الفعلية الّتي قلنا إنّها من القضاء والقدر هي في النتائج دائماً.

وهذه المبادئ تستتبع هذه النتائج دائماً بصورة قطعية ومتقنة. ولا سبيل للإنسان للتخلّص من هذه النتائج القطعية ، وإن كان له مطلق الحرية في اجتناب واحد أو أكثر من هذه السبل في البدء.

ولعلّ الآية الكريمة من سورة الرعد ، لا تكون بعيدة عن هذا المعنى :

٨٩

( إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم ) ( الرعد ١٣ : ١١ ) وبهذه الصورة نرى أنّ الله تعالى مكّن الإنسان أن يمارس اختياره وحرّيته في وسط نظام محكم ومتقن من القضاء والقدر في الحياة الاجتماعية وفي الكون. فلا يضرّ الاختيار بحتمية القضاء والقدر ولا يمس القضاء والقدر من حرّية الإنسان في الاختيار على الإطلاق. وإلى هذا المعنى الدقيق يشير حديث أميرالمؤمنينعليه‌السلام مع الشيخ الّذي سأله عن مسيرهم إلى أهل الشام بعد منصرفه من صفّين. وقد قدّمنا هذا الحديث في النقطة الأولى من هذه النقاط. ففي بدء الحديث يقول له الإمامعليه‌السلام : «أجل يا شيخ ما علوتم من تلعة ولاهبطتم بطن واد إلاّ بقضاء من الله وقدر » وهذه الفقرة واضحة أنّهم في خروجهم إلى صفّين ومحاربتهم لمعاوية وعودتهم إلى الكوفة ، كانوا يتحرّكون في دائرة القضاء والقدر ولم يخرجوا من دائرة القضاء والقدر إطلاقاً.

فلمّا فهم الشيخ من كلام الإمامعليه‌السلام إنّ هذه الحتمية ( القضاء ) كان في مرحلتي المبادئ والنتائج معاً ، وأنّهم لم يملكوا من أمرهم شيئاً في هذه المرحلة الطويلة ، فقال : ( عند الله أحتسب عنائي يا أميرالمؤمنين ) وضّح له الإمامعليه‌السلام ما اشتبه عليه من الأمر فقال : «أتظنّ قضاءً حتماً وقدراً لازماً ؟! لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي إنّ الله تعالى كلّف تخييراً ونهى تحذيراً ».

إنّ القضاء والقدر لن يكون إلاّ حتماً ومقدّراً بصورة دقيقة ، ولكن الّذي يملك الاختيار في المبادئ يملك الاختيار في النتائج بالضرورة. فإنّ النتائج تتبع المبادئ ، فإذا مكّن الله الإنسان من المبادئ مكّنه من النتائج أيضاً ، وإن احتفظت النتائج بصفتها الحتمية والمقدّرة في ظروفها

٩٠

وشروطها. وهذا هو معنى كلام الإمامعليه‌السلام للشيخ السائل «أتظنّ قضاءً حتماً وقدراً لازماً ؟ لو كان كذلك لبطل الثواب ».

وتعبير القرآن عن هذا التراوح الّذي يتمّ بين الاختيار في عمل الإنسان والحتمية في النتائج المترتبة على عمله تعبير دقيق يقول تعالى :( كلّ نفس بما كسبت رهينة ) ( المدّثر ٧٤ : ٣٨ ).

فالعمل الّذي يعمله الإنسان ويكسبه لنفسه باختياره وحرّيته ، ولكنّه لايملك التخلّص من النتائج القطعية المترتبة على هذا العمل فيبقى ( رهيناً ) له.

إذن الإنسان وإن كان يعيش في وسط نظام محكم متقن ، ولكن بامكانه أن يتحوّل من قضاء إلى قضاء ، ومن قدر إلى قدر.

روى الأصبغ بن نباته أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر ، فقيل له : يا أمير المؤمنين أتفرّ من قضاء الله ؟

قالعليه‌السلام : «أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله عزّ وجلّ »(١) .

وروى الصدوق باسناده عن إبي الحسن علي بن موسى الرضاعليه‌السلام عن أبيه عن آبائهعليهم‌السلام عن علي بن أبي طالبعليه‌السلام قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «في كلّ قضاء الله خيرة للمؤمنين »(٢) .

وروى الصدوقرحمه‌الله في الاعتقادات : انّه سئل الصادقعليه‌السلام عن الرُقى

__________________

(١) التوحيد ، للصدوق : ٣٦٩ / ٨.

(٢) التوحيد ، للصدوق : ٣٧١ / ١١.

٩١

هل ترفع من القدر شيئاً ؟ فقالعليه‌السلام : «هي من القدر ».

وروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه سُئل هل يغني الدواء والرُقية من القدر ؟ فقال لمن سأله : «الدواء والرُقية من قدر الله »(١) .

الله أرحم من أن يعذّب خلقه على ما أكرههم عليه :

ولمّا كانت هذه النقطة بالذات محور الصراع والخلاف الفكري مع الأشاعرة الّذين كانوا يذهبون إلى حتمية السلوك لدى الإنسان ، ويسلبون منه الإرادة والاختيار فقد ورد التأكيد عليه كثيراً في نصوص أهل البيت ، كما ورد التأكيد كثيراً في النقطة المقابلة لها ، وهي رفض استقلال الإنسان ورفض التفويض الّذي كانت المعتزلة تذهب إليه ، وهي النقطة الثالثة من هذه المجموعة من النقاط.

روى الكليني في الكافي ، والصدوق في التوحيد عن يونس بن عبد الرحمن عن غير واحد عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهما‌السلام قالا : «إنّ الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثمّ يعذّبهم عليها ، والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون »(٢) .

وروى الكلينيرحمه‌الله عن الحسين بن علي الوشّاء ، عن حمّاد بن عثمان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : «من زعم أنّ الله يأمر بالفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أنّ الخير والشرّ إليه فقد كذب على الله »(٣)

__________________

(١) المختار في الجبر والاختيار ، للسيد محمد علي الصادقي : ١٢٣.

(٢) أُصول الكافي ١ : ١٢١ / ٩ باب الجبر والقدر ، والأمر بين الأمرين ـ كتاب التوحيد ، المكتبة الإسلامية ١٣٨٨ ه‍.

(٣) أُصول الكافي ١ : ١٢٠ / ٢ باب الجبر والقدر ، والأمر بين الأمرين ـ كتاب التوحيد ، المكتبة الإسلامية ١٣٨٨ ه‍.

٩٢

والنقطة الأولى إشارة إلى الاتّجاه الجبري الّذي كان يتبنّاه الأشاعرة حيث ينسبون ما يأتي من الإنسان من المعاصي إلى الله تعالى مباشرة. والنقطة الثانية إشارة إلى ما يتبنّاه المفوّضة من نسبة قضاء الخير وقضاء الشرّ إلى الإنسان مباشرة.

والنصوص عن أهل البيتعليهم‌السلام كثيرة بهذا الصدد.

٧ ـ مسؤولية الإنسان في فعله :

وهذه النقطة تتبع النقطة السابقة ، والإنسان لو كان هو الّذي يختار ( في مرحلة المبادئ ) السبيل الّذي يسلكه يتحمّل بالضرورة ، نتائج ومسؤوليات كلّ ما يترتّب على فعله من آثار ونتائج قطعية ومتقنة. والمسؤولية هي نتيجة الاختيار ، وفي نفس الوقت فإنّ الاحساس الوجداني الواضح عند الإنسان بالمسؤولية هو أمارة الاختيار والقرآن يعمّق الاحساس بالمسؤولية عند الإنسان يقول تعالى :

( وقفوهم إنّهم مسؤولون ) ( الصافّات ٣٧ : ٢٤ ).

( فلنسألنّ الّذين أُرسل اليهم ولنسألنّ المرسلين ) ( الأعراف ٧ : ٦ ).

( فوربّك لنسألنّهم أجمعين ) ( الحجر ١٥ : ٩٢ ).

( ولتسألنّ عمّا كنتم تعملون ) ( النحل ١٦ : ٩٣ ).

( ثمّ لتسألنّ يومئذ عن النعيم ) ( التكاثر ١٠٢ : ٨ ).

٩٣

إذن لوجود عامل الاختيار في سلوك الإنسان تنسب أعمال الإنسان إليه ، كما يتحمّل هو مسؤولية نتائج أعماله.

روى الكليني في الكافي والصدوقرضي‌الله‌عنه في التوحيد عن الحسين بن علي الوشّاء ، عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال سألته : فقلت : الله فوّض الأمر إلى العباد ؟

قالعليه‌السلام : « الله أعزّ من ذلك ».

قلت : فجبرهم على المعاصي ؟

قالعليه‌السلام : « الله أعدل وأحكم من ذلك ».

ثمّ قالعليه‌السلام : «قال الله عزّ وجلّ : يا ابن آدم ، أنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيّئاتك منّي. عملتَ المعاصي بقوتّي الّتي جعلتها فيك »(١) .

٨ ـ الهيمنة الإلهية على حركة القضاء والقدر في الكون والتاريخ :

عرفنا من قبل أنّ نظام ( القضاء والقدر ) هو النظام الحاكم على الكون والتأريخ. وبعد ذلك عرفنا أنّ هذا النظام هو نظام ربّاني من خلق الله تعالى وإبداعه. ثمّ قلنا إنّ هذا النظام قائم بالله تعالى في كلّ لحظة ، وفي كلّ حال ، ولم ينفصل ولم يستقلّ عن الله في لحظة واحدة والله تعالى هو القيّوم والقيّم على هذا النظام ويتّصل سلطانه ونفوذه وقيمومته على الكون. هذا ما ذكرناه من قبل ، والآن نقول : إنّ علاقة الله تعالى بالكون لا تقف عند حدود القيمومة ، وحفظ النظام ولكن الله تعالى هو ( المهيمن )

__________________

(١) الكافي ١ : ١٥٧ / ٣ باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ـ كتاب التوحيد.

٩٤

على الكون.

وتحتاج هذه الفقرة إلى شيء من التوضيح : أنّ نظام القضاء والقدر الحاكم في الكون ليس نظاماً ذا بعد واحد وإنّما هو نظام متعدّد الابعاد ، وكلّ بُعد منه يجري بموجب النظام بشكل قطعي ومتقن. والله تعالى مهيمن على هذه الأبعاد جميعاً. يمحو منها ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب.

إذن : نظام القضاء والقدر في الوقت الّذي لا يتخلّف ولا يتزعزع ، نظام خاضع لسلطان الله تعالى وهيمنته بالمحو والاثبات ، فيثبت منه ما يشاء ويمحو منه ما يشاء ويغيره ، وليس معنى المحو إلغاء نظام القضاء والقدر أو تعطيله ، وإنّما معناه تبديله بغيره. وهذا أمر يدخل في حيّز سلطان الله تعالى المطلق. يقول تعالى :( يمحواْ الله ما يشاء ويثبت وعنده أُمّ الكتاب ) ( الرعد ١٣ : ٣٩ ) والإنسان يتعامل مع نظام القضاء والقدر ، ويتحرّك ويعمل ، ويختار ضمن هذا النظام الخاضع لقيمومة الله تعالى وهيمنته المطلقة. فلا يمكن أن ينفصل أو يستقلّ عن إرادة الله ومشيئته في حركته وعمله في دائرة هذا النظام. كيف وهذا النظام وسيط متّصل بالله تعالى. وخاضع لقيمومته ، وهيمنته في كلّ لحظة.

روى الصدوق في ( التوحيد ) عن عبد الله بن ميمون القداح ، قال : دخل على أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام أو أبي جعفر الباقرعليه‌السلام رجل من أتباع بني أميّة فخفنا عليه ، فقلنا له : لو تواريت ، وقلنا : ليس هو هـهنا. قالعليه‌السلام : « بل أئذنوا له فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ الله عزّ وجلّ عند لسان كلّ قائل ويد كلّ باسط. فهذا القائل لا يستطيع أن يقول إلاّ ما شاء الله ، وهذا الباسط

٩٥

لا يستطيع أن يبسط يده إلاّ بما شاء الله ». فدخل عليه فسأله عن أشياء وآمن بها وذهب(١) .

٩ ـ قانون الإمداد والخذلان الإلهي في حياة الناس :

لا شكّ أنّ الله تعالى وهب أفراد الإنسان الاختيار في الفعل عند مفارق الطرق ، ووهبهم العقل والوعي والتمييز ، وأتاهم البيّنات ، كلّ ذلك صحيح. ولسنا نتصور رحمة فوق هذه الرحمة ، ولكنّ الله تعالى وهو المهيمن على الكون ، والإنسان ، يمد الإنسان عند كلّ مفترق طريق ، وكلّما يشقّ على الإنسان الاختيار ، وعند كلّ خيار صعب من خيارات الهدى يمده من عنده بالتوفيق والتأييد والتسديد إذا أراد الطاعة.

وإذا أراد المعصية لم يتركه لنفسه ، وانما يخذله عن المعصية ، ويدفعه عنها.

فإذا أصرّ وأبى وركب رأسه وعاند تخلّى عنه وأوكله إلى نفسه وأضلّه الله تعالى.

روى الصدوقرضي‌الله‌عنه في ( عيون أخبار الرضا ) عن تميم القرشي ، عن أبيه، عن أحمد بن علي الانصاري ، عن يزيد بن عمير بن معاوية الشامي، قال : دخلت على علي بن موسى الرضاعليه‌السلام بمرو فقلت له : يابن رسول الله روي لنا عن الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام انّه قال : « لا جبر ولا تفويض بل أمرٌ بين أمرين » فما معناه ؟ فقالعليه‌السلام : « من زعم أن الله يفعل أفعالنا ثمّ يعذّبنا عليها فقد قال بالجبر ، ومن زعم أنّ الله عزّ وجلّ

__________________

(١) التوحيد ، للصدوق : ٣٣٧ / ٣.

٩٦

فوّض أمر الخلق والرزق إلى حججهعليهم‌السلام فقد قال بالتفويض ، فالقائل بالجبر كافر، والقائل بالتفويض مشرك ». فقلت له : يابن رسول الله فما أمر بين أمرين ؟ فقالعليه‌السلام : « وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا به وترك ما نهوا عنه ». فقلت له : فهل لله عزّ وجلّ مشيئة وإرادة في ذلك ؟ فقالعليه‌السلام : « أمّا الطاعات فارادة الله ومشيئته فيها الامر بها والرضا لها والمعاونة عليها ، وإرادته ومشيئته في المعاصي النهي عنها والسخط لها والخذلان عليها ». قلت : فللّه عزّ وجلّ فيها القضاء ؟ قالعليه‌السلام : « نعم ، ما من فعل يفعله العباد من خير وشرّ إلاّ ولله فيه قضاء ». قلت : فما معنى هذا القضاء ؟ قالعليه‌السلام : « الحكم عليهم بما يستحقّونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة ، ولكن العبد إذا أصرّ على العصيان والتمرّد أحاله الله تعالى إلى نفسه ، وأوكله إليها ، وحجبه عن الايمان ».

روي من طريق الصدوقرضي‌الله‌عنه في ( العيون ) أنّه قال : حدّثنا عبد الواحد ابن محمد بن عبدوس العطاررضي‌الله‌عنه قال : حدّثنا محمّد بن علي بن قتيبة النيسابوري ، عن حمدان بن سليمان النيسابوري قال : سألت الرضاعليه‌السلام عن قول الله عزّ وجلّ :( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً ) ( الانعام ٦ : ١٢٥ ) قالعليه‌السلام : «من يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدنيا إلى جنّته ودار كرامته يشرح صدره للتسليم لله والثقة به والسكون على ما وعده من ثوابه حتى يطمئن إليه ومن يرد أن يضله عن جنته ودار كرامته في الآخرة لكفره به وعصيانه له في الدنيا يجعل صدره ضيّقاً حرجاً ، يشكّ في كفره ، ويضطرب من اعتقاده قلبه حتى يصير كأنّما يصّعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون » ، وقد عرفت فيما مضى المراد من شرح الصدر وضيقه.

٩٧

٩٨

الخاتمة

والنتيجة الّتي ننتهي إليها بعد هذه الجولة في كلمات أهل البيتعليهم‌السلام ، في هذه المسألة الحسّاسة : إنّ الإنسان يقع وسطاً بين ( الجبر ) و ( التفويض ) وهو ما أسماه أهل البيتعليهم‌السلام ب‍ ( الأمر بين الأمرين ) وليس الأمر بين الأمرين تلفيقاً بين الجبر والتفويض بمعنى أن في سلوك الإنسان شيء من الجبر وشيء من التفويض. بل بمعنى نفي الجبر والتفويض و ( الاستقلال ) في سلوك الإنسان.

فهو من جانب : حرٌّ في الاختيار يختار بكامل حرّيته ، ومنحه الله تعالى كلّ المواهب التي تتطلبه هذه الحرّية من العقل والتمييز والرشد.

ومن جانب آخر : يرتبط ويتعامل في اختياره وفعله مع نظام القضاء والقدر الخاضع لقيمومة الله تعالى وهيمنته ، ويقع هو واختياره وفعله وسط هذه القيمومة ، والهيمنة والرعاية الإلهية.

روى الصدوق عن حريز بن عبد الله ، عن الصادقعليه‌السلام قال : « إنّ الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل يزعم أنّ الله عزّ وجلّ أجبر الناس على المعاصي ، فهذا قد ظلم الله في حكمه ، فهو كافر.

ورجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم ، فهذا قد أوهن الله عزّ وجلّ في سلطانه ، فهو كافر.

ورجل يزعم أنّ الله كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلّفهم ما لا يطيقون ، وإذا

٩٩

أحسن حمد الله واذا أساء استغفر الله ، فهذا مسلم بالغ ».

وروى الصدوق عن سليمان بن جعفر الجعفري ، عن الرضاعليه‌السلام قال : ذكر عنده الجبر والتفويض ، فقالعليه‌السلام : «ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ، ولا تخاصمون عليه أحداً إلاّ كسرتموه » ؟ قلنا : إن رأيت ذلك ، قالعليه‌السلام : «إنّ الله عزّ وجلّ لم يطع بإكراه ، ولم يعصَ بغلبة ، ولم يهمل العباد في ملكه، هو المالك لما ملّكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صاداً ، ولا منها مانعاً ، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل. وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الّذي أدخلهم فيه ـ ثمّ قالعليه‌السلام ـمن يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه »(١) .

وروى الصدوق عن المفضل بن عمر ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين الأمرين » ، قال : فقلت وما أمر بين الأمرين ؟

قالعليه‌السلام : «مثل ذلك : مثل رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته ، ففعل تلك المعصية ، فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت أنت الّذي أمرته بالمعصية »(٢) .

وقد يتصوّر الإنسان أن مساحة الأمر بين الأمرين مساحة محدودة في حياة الإنسان. وأمّا مساحة الجبر والتفويض فهي أوسع مساحة في حياته ، فإنّ الإنسان يتعامل فعلاً مع نظام القضاء والقدر بشكل مباشر من

__________________

(١) التوحيد ، للصدوق : ٣٦١ / ٧.

(٢) التوحيد ، للصدوق : ٣٦١ / ٧. وانظر اُصول الكافي ١ : ١٢٢ / ١٣ ، منشورات المكتبة الإسلامية ١٣٨٨ ه‍.

١٠٠

101

102

103

104

105

106