الطفل بين الوراثة والتربية الجزء ٢

الطفل بين الوراثة والتربية0%

الطفل بين الوراثة والتربية مؤلف:
تصنيف: الأسرة والطفل
الصفحات: 377

الطفل بين الوراثة والتربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد تقي فلسفي
تصنيف: الصفحات: 377
المشاهدات: 32624
تحميل: 8040


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32624 / تحميل: 8040
الحجم الحجم الحجم
الطفل بين الوراثة والتربية

الطفل بين الوراثة والتربية الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

لقد تمكن العلم الحديث في تقدمه وازدهاره من إصلاح بعض العاهات العضوية كإرجاع العيون التي بها حول إلى وضعها الطبيعي، وردّ الأنوف القبيحة جميلة، وتقويم السيقان المتقوسة، وترميم شقوق الشفاه. والخلاصة: أن الجرّاحين يجرون عمليات جراحية على بعض الأعضاء بحيث تأخذ شكلاً طبيعياً جميلاً، ويرتاح المصاب ببعض العيوب الظاهرية من الشعور بالحقارة والتعاسة. في حين توجد عيوب ونقائص لم يتوصل العلم الحديث إلى علاجها وإصلاحها.

تدارك النقص:

على الأفراد الذين يكابدون نقصاً لا يقبل العلاج ويبعث فيهم الشعور بالألم والإحساس بالحقارة أن يستفيدوا من سائر أعضائهم السليمة أكبر حد ممكن، ويسعوا وراء تحصيل علم من العلوم المهمة أو فنٍ يحتاجه المجتمع بحيث يتمكّنون من إحرازه ونيل مقام شامخ فيه، وعندئذٍ لا شك في أن الكمال الذي يحصلون عليه بواسطة العلم يكون سببا لجمالهم الاجتماعي، ويخفي نقصهم العضوي، ويمنع من انتباه الناس إلى عيوبهم.

فكم من أفراد حرموا نعمة البصر أو السمع أو النطق، أو كانت فيهم نقائص أخرى لم يلتفتوا إلى ذلك وراحوا يجدّون بكل رغبةٍ وشوق وراء الثقافة حتى أحرزوا مكانة سامية في المجتمع وعاشوا حياتهم بكل عز وفخر. فلقد تمكن هؤلاء بفضل مثابرتهم من إنقاذ أرواحهم من الشعور بالحقارة، أو الحد من هذا الشعور نسبياً.

إن المصيبة العظمى لذي النقائص والعاهات إنما هي تحقير الناس واستهزائهم، فإن السخرية والإهانة والتقريع والكلمات البذيئة تعتبر سهاماً مسمومة تصيب قلوب هؤلاء من الإحساس بالحقارة فيهم، وبالتالي تجعل العيش عليهم مراً وجحيماً لا يطاق، والحل الوحيد للتخلص من ذلك كله تهذيب أخلاق المجتمع وإيجاد السجايا الفاضلة فيه.

في البلاد التي يتحلى شعبها بالصفات الفاضلة، والشعوب التي يقوم

١٦١

الأفراد فيها بواجباتهم الخلقية خير قيام، لا يحتقر الأعمى أو الأبكم أو الأشل أو غيرهم من أصحاب الأمراض والآفات، ولا يصدر من الأفراد ما يزيد من آلامهم. فالرجال المحسنون هم الذين إن لم يتمكنوا من وضع مرْهم على قلوب المصابين الجريحة، فإنهم لا يشمتون بهم ولا يزيدون مصيبتهم عليهم أكثر.

النظرة المؤلمة:

لقد منعت التعاليم الخلقية في الإسلام الاستهزاء والإهانة واللوم والشماتة مطلقاً وحذّر علماء المسلمين الناس من هذه الصفات الذميمة. ولقد وردت أخبار في خصوص المصابين وذوي العيوب والنقائص الجسمية، وفي أسلوب المعاشرة معهم، بحيث لو طبقت وروعيت لما تأثر المصابون في المجتمع، ولما شعروا بالحقارة.

1 - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (لا تُديموا النظر إلى أهل البلاء والمجذومين، فإن ذلك يحزنهم) (1) .

2 - عن الإمام الصادق (عليه السلام): (لا تنظروا إلى أهل البلاء فإن ذلك يحزنهم) (2) .

3 - وعنه (عليه السلام): (إسماع الأصم من غير تضجر صدقة هنيئة) (3) .

4 - وعنه (ع) أيضاً: (من نظر إلى ذي عاهة، أو من قد مُثّل به، أو صاحب بلاء، فليقل سراً في نفسه من غير أن يسمعه: الحمد لله الذي عافاني) (4) .

____________________

(1) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج16|122.

(2) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج16|123.

(3) المصدر السابق ج16|111.

(4) وسائل الشيعة للحر العاملي ج3|209.

١٦٢

إن الأعور أو المجذوم يتألم في باطنه ويحس بالحقارة، فلو أن أحداً أطال النظر إلى عضوه الناقص كان ذلك سبباً في زيادة حزنه وشعوره بالضعة. وكذا الأصم أو ضعيف السمع، فإنه يتألم في نفسه ويحس بنقص كبير، فلو كلمه المتكلم بلهجة شديدة زاد تألمه. أما لو كلمه بطلاقة وجه وابتسام، رافعاً صوته لإسماعه من غير أن يزجره، فذلك يترك أثراً طيباً في نفسه، أو يقلل من تأثره الشديد. وقد عرّف الإمام الصادق (عليه السلام) هذا الفعل بالصدقة الهنيئة.

5 - عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: (كفى بالمرء عيباً أن يبصر من الناس ما يعمى عنه من نفسه، أو يعيّر الناس بما لا يستطيع تركه، أو يؤذي خليله بما لا يعنيه) (1) .

إن النظر الدقيق المؤذي إلى نقائص الناس لا نفع فيه، لكنه يسبب في ذي البلاء تضجراً وضغطاً روحياً وألماً. ومن عامل جليسه بهذه الصورة أظهر له بذلك سوء خلقه.

لقد ظهرت بقع بيضاء في وجه (يونس بن عمار) أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)، وآلمه ذلك، إلا أنه كان يضيق ذرعاً بالكلمات المسمومة الصادرة من الناس تجاهه، فقد كانوا يقولون له: لو كنت أهلا لفضل الله، وكان الدين الحق بحاجة إليك، لما ابتليت بهذا الداء. فتألم يونس من ابتلائه بالمرض، وكذلك من تحقير الناس وإهانتهم إياه تألماً شديداً، وجاء إلى الإمام الصادق (عليه السلام) وقال: إن هذا الذي ظهر بوجهي يزعم الناس أن الله لم يبتل به عبداً له فيه حاجة، قال: فقال لي: (لقد كان مؤمن آل فرعون مكنّع الأصابع، فكان يقول هكذا ويمدّ يديه ويقول: ( يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) ) (2) .

في هذا الحديث نجد الإمام الصادق (عليه السلام) يردّ على كلام الناس الركيك بجملة قصيرة، ويفهم يونس بن عمار ضمناً أنه يتمكن - كمؤمن آل فرعون - أن يخدم شريعة الله، وأن يكون داعية خير وصلاح بين الناس على ما هو عليه من النقص. وطبيعي أن يخفف هذا الكلام من ألم الشعور بالحقارة فيه من جهة، ويبعث فيه رجاء خدمة دين الله من جهة أخرى.

و النتيجة: أن العاهات والنقائص التي لا تقبل العلاج عامل كبير للشعور بالحقارة

____________________

(1) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2|459.

(2) المصدر السابق ج2|259.

١٦٣

في الأطفال والكبار. فلو كان المجتمع الذي يعيش فيه أفراد مصابون منحطاً خلقياً، وفاقداً للتربية السليمة بحيث يحتقر أولئك الأفراد، فإن شعورهم بالحقارة سيتحول إلى عقدة نفسية موغلة في التعقد، ويقعون فريسة لمشاكل كثيرة.

البحث عن عيوب الناس:

لقد حذر الإسلام في تعاليمه الأخلاقية الناس من اللمز. وقد ورد ذلك بصورة صريحة في القرآن الكريم: ( وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ) .

وعلاوة على ذلك فإنه أكد على مراعاة الآداب العامة والأخلاق الفاضلة مع ذوي العاهات والنقائص. فالمسلم الواقعي لا يحتقر ولا يهين بلسانه وحركاته أحداً، ولا يؤلم قلب شخص أصلاً. فعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن المؤمن ليسكن إلى المؤمن كما يسكن الظمآن إلى الماء البارد) (2) .

الاسم القبيح:

والعلة الأخرى من علل الشعور بالحقارة التي تبدأ من دور الطفولة ومن الممكن أن تكون سبباً لنشوء عقدة الحقارة والتعاسة: الاسم القبيح، واللقب الكريه. إن الاسم الذي يضعه الوالدان للطفل يبقى معه إلى آخر لحظة من حياته، فلو كان قبيحاً ومنكراً كان سبباً لإيذائه في كل آن، ومعرضاً إياه لسخرية الأطفال والكبار واستهزائهم به.

يحب كل فرد أن يكون جميل الوجه، حسن الهندام، متزن الملامح، نظيف الملابس، حتى لو التقط مصور صورة جميلة له طبع منها مئة نسخة أو تزيد، ووزعها على جميع أصدقائه للتذكار. وبالعكس لو أخذت له صورة مشوَّشة لم يسمح بطبعها وليس ذلك فحسب، بل إنه يسعى لتحطيم الزجاجة السوداء، كي يمحو هذا الأثر السيئ تماماً.

وكذلك عندما يريد أن يطبع بطاقة شخصية فإنه يصرف مبلغاً من النقود في سبيل

____________________

(2) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2|247.

١٦٤

أن يكون الخط جميلاً، والكليشة واضحة، والورق صقيلاً... إلى غير ذلك من المحسنات، ثم يطبع على ذلك آلاف النسخ.

كل هذا يدلنا على أن الجمال من أهم عوامل المحبة، وهو رمز السعادة والنجاح.

الاسم الجميل:

من المظاهر المهمة لدى كل إنسان اسمه واسم عشيرته. فكما أن صورة كل شخص سبب لاستحضاره في أذهان الناس، كذلك اسمه فإنه يحكي عن صاحبه ويعطي صورة عنه. وكما أن الإنسان يلتذ من صورته الجميلة، ويتألم ن كانت قبيحة، كذلك يستر من الاسم الجميل ويتأذى من الاسم القبيح له أو لعشيرته. في حين أن الصورة القبيحة يمكن تمزيقها ومحوها بكل سهولة أما تغيير الاسم واللقب فهو صعب جداً.

إن الذين يمتازون بأسماء جميلة أو ينتمون إلى عشيرة ذات اسم جميل يفتخرون بذلك ويذكرونه بكل ارتياح وطلاقة دون شعور بالحقارة، ولربّما تفاءل السامع وذكر بالمناسبة كلاماً يليق ويتلاءم مع جمال الاسم. ومثل ذلك نجده في القصة التالية:

فقد النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) أمه في أيام رضاعه، ولم يقبل ثدي مرضعة قط، وكان هذا مبعث حزن وألم في البيت الهاشمي. إلى أن جاءت حليمة السعدية فعرضت ثديها عليه فقبله وتكفلت برضاعه، عندئذ عم البيت السرور والفرح إلى أقصى حد فقال عبد المطلب مخاطباً إياها:

ـ من أين أنتِ؟

قالت: امرأة من بني سعد.

قال: ما اسمك؟

قالت: حليمة.

قال: بخ بخ، خُلقان حسنتان... سعدٌ وحلم (1) .

أما الذين يحملون أسماء مستهجنة أو ينتمون إلى عشيرة ذات نسبة قبيحة، فطالما

____________________

(1) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج6|91.

١٦٥

يأبون عن ذكر ذلك، وإن التجئوا إلى ذكره في مناسبة ما شعروا بالخجل والضعة. إنهم يسرّون كثيراً عندما يبدل اسمهم إلى اسم حسن.

عندما نلقي نظره عابرة على الأسماء المتداولة في المجتمع بين المتجددين والمتحضرين ممن يعيش في القرى والمدن نجد فيها أسماء وألقاب قبيحة قد يؤدي ذكرها والتصريح بها في هذا المجلس المزدحم إلى السأم والضجر بالنسبة إلى البعض، ولكني أذكر على سبيل التمثيل نموذجاً من أهل القرى والأرياف.

هناك بعض العوائل في الأرياف تسمى المولود الجديد باسم اليوم الذي ولد فيه كالجمعة والسبت. فإن بقي هذا الطفل إلى آخر عمره في القرية يشتغل بالرعي فلا شيء عليه. أما لو دخل المدرسة وهاجر إلى المدينة، ثم مارس الحياة الجامعية وحصل على شهادة علمية ونال مقاماً، فإن ذلك الاسم القبيح يلازمه ويولد فيه عقدة الحقارة، وكلما نادوه باسم (جمعة) أو (سبت) تألم لذلك بلا شك.

اختيار الاسم:

من الحقوق الدينية للأولاد على الآباء أن يختاروا لهم أسماء جميلة غير مستهجنة. وقد ورد الحث على هذا في الروايات كثيراً:

1 - قال النبي (صلّى الله عليه وآله): (من حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويحسن أدبه) (1) .

2 - قال رجلٌ: يا رسول الله، ما حق ابني هذا؟ قال: (تحسن اسمه وأدبه، وتضعه موضعاً حسناً) (2) .

3 - في حديث آخر عن النبي (صلّى الله عليه وآله): (من حق الولد على والده ثلاثة: يحسن اسمه، ويعلمه الكتابة، ويزوجه إذا بلغ) (3) .

____________________

(1) مستدرك الوسائل للمحدث النوري.

(2) مكارم الأخلاق للطبرسي ص 114.

(3) وسائل الشيعة للحر العاملي ج5|115.

١٦٦

4 - عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: (أول ما يبرّ الرجل ولده، أن يسميه باسم حسن. فليحسن أحدكم اسم ولده) (1) .

5 - في وصية النبي (ص) لعلي (عليه السلام): (يا علي، حق الولد على والده أن يحسن اسمه وأدبه) (2) .

6 - وفي حديث آخر: (إن أول ما ينحِل أحدكم ولده: الاسم الحسن) (3) .

تبديل الأسماء القبيحة:

إن الشقاء المتسبب من عقدة الحقارة لا يزول إلا بانحلال تلك العقدة حتى يتحرر الضمير الباطن من الضغط الذي يلاقيه. فالذي يحمل اسماً قبيحاً يشعر بالضعة بلا شك، والعلاج الوحيد له تغيير ذلك الاسم. فإذا وفق لذلك زال الضغط النفسي لوحده.

لقد كان الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) يغير الأسماء المستهجنة للأفراد، وكذا الاسم القبيح للبلد الذي طالما تألم المنتسب له، وبهذه الطريقة كان يتحرر الأشخاص من العقدة التي يكابدون منها الأمرّين، ويعيشون حياة ملؤها الارتياح والسكينة.

1 - عن الإمام الصادق عن أبيه (عليهما السلام): (إن رسول الله كان يغيّر الأسماء القبيحة في الرجال والبلدان) (4) .

2 - عن ابن عمر: (أن ابنةً لعمر كان يقال لها عاصية، فسماها رسول الله (صلّى الله عليه وآله): جميلة) (5) .

3 - عن أبي رافع: (إن زينب بنت أم سلمة كان اسمها برّة، فقيل: تزكي نفسها فسماها رسول الله (صلّى الله عليه وآله): زينب) (6) .

____________________

(1) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج6|18.

(2) بحار الأنوار للعلامة المجلسي.

(3) وسائل الشيعة للحر العاملي ج5 ك115.

(4) قرب الإسناد 45.

(5) صحيح مسلم ج6|173.

(6) نفس المصدر.

١٦٧

ولقد كانت العادة جارية في القبائل العربية قبل ظهور الإسلام بتسمية أولادهم بأسماء الوحوش والجوارح، وقد كانت هذه العادة البذيئة باقية بعد الإسلام أيضاً عند بعض القبائل. وفي حديث يسأل أحمد بن هيثم من الإمام الرضا (عليه السلام) عن سبب ذلك قائلاً: قلت له: لِمَ تسمى العرب أولادهم بكلب وفهد ونمر وما أشبه ذلك؟ قال: (كانت العرب أصحاب حرب وكانت تهوّل على العدو بأسماء أولادهم) (1) .

وبالرغم من أن تلك الأسماء المستهجنة كانت شائعة ومتداولة بينهم، فإنها كانت في بعض الأحيان ذريعة قوية للطعن والتحقير في أصحابها، فكان الواحد يلوم الآخر بسببها. من ذلك القضيتان الآتيتان:

بين معاوية وجارية:

كان أحد رؤساء عشائر الشام يسمى بـ (جارية) (2) وكان رجلاً قوياً صريح اللهجة، وكان يبطن لمعاوية حقداً وعداءً، وسمع معاوية بذلك فأراد أن يحتقره أمام ملأ من الناس ويتخذ اسمه وسيلة للاستهزاء به والسخرية منه، وصادف أن التقيا في بعض المجالس، فقال له معاوية:

ـ ما كان أهونك على قومك أن سموك جارية؟

ـ فقال له جارية: وما كان أهونك على قومك إذ سموك معاوية، وهي الأنثى من الكلاب.

قال: اسكت لا أم لك!

قال: لي أم ولدتني. أما والله إن القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا، والسيوف التي قاتلناك بها لفي أيدينا، وإنك لم تهلكنا قسوة، ولم تملكنا عنوة. ولكنه أعطيتنا عهداً وميثاقاً، وأعطيناك سمعاً وطاعة، فإن وفيت لنا وفينا لك، وإن نزعت إلى غير ذلك فإنا تركنا وراءنا رجالاً شداداً وأسنة حداداً.

____________________

(1) وسائل الشيعة للحر العاملي ج5|115.

(2) من معاني (جارية): الحية من جنس الأفعى كما في (أقرب الموارد).

١٦٨

فقال معاوية: لا أكثر الله في الناس مثلك يا جارية (1) .

قبح الاسم والمنظر:

وكان شريك بن الأعور سيداً في قومه وكبيراً عليهم، عاصر معاوية. وفي أحد الأيام دخل مجلس معاوية فأراد هذا أن يحتقره ويسخر به لقبح اسمه واسم أبيه وللنقص الذي فيه، فقال له:

ـ والله إنك لشريك وليس لله من شريك، وأنك ابن الأعور والصحيح خير من الأعور، وإنك لدميم والوسيم خير من الدميم، فبِمَ سوّدك قومك؟!

فقال له شريك: والله إنك لمعاوية وليست معاوية إلا كلبة عوت فاستعوت فسميت معاوية، وإنك ابن حرب والسلم خير من الحرب، وإنك ابن صخر والسهل خير من الصخر، وإنك ابن أمية وما أمية إلا أمة صغِّرت فسميت أمية، فكيف صرت أمير المؤمنين؟ فقال له معاوية: أقسمت عليك إلا ما خرجت عني (1) .

ولهاتين القضيتين نظائر وقعت في الماضي والحاضر. فكما أن الهندام غير المتزن والأعضاء الناقصة والمنظر الكريه سبب للشعور بالحقارة، ويؤدي ذلك غالباً إلى نشوء عقدة نفسية، كذلك الاسم القبيح واللقب الكريه والنسبة المستهجنة، فإن ذلك كله يدعو إلى نشوء عقدة الحقارة. ولو فرضنا أن 99% من أفراد المجتمع كانوا خليقين متزنين، لا يجرحون عواطف هؤلاء ولا يحتقرونهم، فإن الـ 1% الباقية لم تربّ تربية حسنة تكفي في إيذائهم بالاستهزاء والإهانة.

العيوب غير القابلة للعلاج:

عندما يتولد الطفل على أساس قوانين الخلقة ذا عاهة غير قابلة للعلاج، فإن مصيبة

____________________

(1) المستطرف في كل فن مستظرف للأبشيهي ج1|58.

(2) ثمرات الأوراق لابن حجة الحموي ج1|59.

١٦٩

الحقارة قطعية بالنسبة إليه، ولا يمكن التخلص منها. هذا الطفل لا بدّ له من تحمل الألم الداخلي مدى العمر، وليس للآباء والأمهات في هذه الحالات الصبر والتحمل. إذ إن رفع هذه العاهات والنقائص الطبيعية ليس بيدهم، في حين أن انتخاب الاسم الحسن في مقدورهم، وهو من حقوق الأولاد الواجبة على الآباء أنهم يتمكنون من القيام بواجبهم على خير وجه في تسمية أطفالهم، وباستطاعتهم اجتباء أسماء لأطفالهم لا تصير سبباً للحقارة والضعة مدى العمر.

إن الطفل الذي يستهزأ به من قبل سائر الأطفال لاسمه المستهجن أو لانتسابه إلى عشيرة ذات اسم قبيح، يخسر نشاطه ويسير دوماً إلى اضمحلال وانهيار، فيتجنب من الألعاب الجماعية للأطفال، ويخاف من معاشرتهم، ويخفي نفسه قدر المستطاع في ساحة المدرسة، ويقف في صف التلاميذ وقفة لا يراه معها مدير المدرسة أو المشرف حذراً من أن ينادى باسمه من بين الأطفال وتتجدد عليه الكارثة.

(تشمل عقدة الحقارة جميع المظاهر التي ظهر بها عدم الاعتماد على النفس، والشعور بضعف الشخصية، وعدم الكفاءة، وفقدان الإرادة. إن الطفل الذي يبتلى بالشعور بالحقارة عندما يشب يلزم سيرة الوحدة والانزواء، أو لا أقل من أن يوجد عنده الشعور بالغربة والابتعاد عن أقرانه، لأن الوقائع والحوادث في دور الطفولة أفهمته أن الألفة والاجتماع مع الغير هو الذي جلب له السخرية والانتقاد. إن الذي يتجنب أقاربه وأترابه يقودنا إلى أنه معذّب من الشعور بحقارة وجدت فيه من تجاربه في الطفولة. ولهذا - وبناء على قواعد علم النفس - فإن كل حادثة تضعف أو تعدم عزة النفس عند الإنسان، وتقلّل من طموحه عامل مهم لتوسعة (عقدة الحقارة) وتقويتها ووسيلة لجعله بين الأعضاء المختلين وضعاف النفوس في المجتمع) (1) .

تخليد الأسماء العظماء:

من الأسماء المحبذة والمرغوبة في الشرق أسماء وألقاب الرسول الأعظم (صلّى الله

____________________

(1) عقده حقارت ص 6.

١٧٠

عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام). إن أذواق الملايين من المسلمين وطباعهم تستلطف الأسماء التالية: محمد، أحمد، محمود، مصطفى، علي، مرتضى، حسن، حسين، كاظم، رضا.. وأمثالها. ومن كان قد سمي باسم من هذه الأسماء لم يشعر في نفسه بالحقارة والتعاسة، ولم يأب من أن يعرّف نفسه به.

لقد أوصى أئمة الإسلام أتباعهم بتسمية أولادهم بأسماء القادة الإلهيين العظماء، ففي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: من ولُد له أربعة أولاد ولم يسمّ أحدهم باسمي فقد جفاني) (1) .

إن إيحاء أسماء الرجال العظماء أمر يهتم به الشرق والغرب، وتحاول الحكومات استخدام جميع الوسائل لذلك، فتسمى الاكتشافات والاختراعات العلمية والفنية باسم المكتشف والمخترع كي يبقى هذا الاسم خالداً على مر الأجيال، يتلفظ الأساتذة والطلبة والمهندسون والعمال الفنيون آلاف المرات يومياً بأسمائهم في الجامعات والمختبرات والمؤسسات الصناعية في العالم.

لقد سميت بعض المدن الكبيرة باسم الرجال العظماء في قسم من الدول، كما سميت الساحات والشوارع باسم الشخصيات البارزة في تلك البلدة. وفي إيران سميّت ساحات وشوارع عديدة باسم: حافظ، سعدي، خيام، فردوسي، أبو علي، أبو ريحان، وغيرهم، وبهذه الطريقة خلّدوا أسماءهم.

ومن وسائل تخليد اسم النبي العظيم والأئمة (عليهم السلام) تسمية المسلمين أولادهم بأسمائهم. فالآباء والأمهات الذين يهتمون بهذا الأمر ويسمّون أطفالهم بأسماء القادة الإلهيين، قد أدّوا حق أولادهم في انتخاب الاسم الحسن لهم، وحفظوهم بذلك من الإحساس بالحقارة.. هذا من جانب. ومن الجانب الآخر يكونون قد أظهروا بذلك ولاءهم لقادتهم، ويستحقون الأجر بذلك من الله بلا ريب. وقد ورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) يسأل الراوي فيه: (إنا نسمي بأسمائكم وأسماء أبائكم، فينفعنا ذلك؟ فقال: (إي والله) (1) .

____________________

(1) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج23|122.

١٧١

الكنية:

لم تكن قيمة الكنية الجميلة فيما مضى - والاسم الجميل للعشيرة في عصرنا - أقل من قيمة الاسم الجميل، فكم من أفراد يحملون أسماء حسنة ولكنهم انتخبوا اللقب العائلي غريباً، نراهم غير مرتاحين. فقد اتخذ بعض الأشخاص لقباً سيئاً لنفسه من دون رويّة، فجاء أولاده بعد سنين طويلة متأثرين لسوء اختيار والدهم، شاعرين بالحقارة عند ذكر تلك الكلمة. لقد أردف في بعض الروايات ضرورة تحسين اسم الطفل بضرورة تحسين كنيته أيضاً. فعن فقه الرضا (عليه السلام): (سمّه بأحسن الأسماء، وكنّه بأحسن الكنى) (1) .

وعند استعراضنا لبعض النصوص نجد قادة الإسلام يتأثرون من سماع الكنى القبيحة التي يتخذها بعض الأشخاص لأنفسهم، وينبهون في بعض الأحيان على ذلك حفظاً لمكانة أصحابها.

(عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (إن رجلاً كان يغشى علي بن الحسين (عليه السلام) وكان يكنى: أبا مرّة. فكان إذا استأذن عليه يقول: (أبو مرة بالباب). فقال له علي بن الحسين (عليه السلام): بالله، إذا جئت إلي ثانياً فلا تقولن: (أبو مرة) ) (2) . لأن (أبا مرة) كنية الشيطان، فمن اختار لنفسه هذه الكنية عرف نفسه بأنه متصف بصفة الشيطان، ونيّته كنيته، ولسوء اختياره هذا جعل نفسه معرضاً لتحقير الآخرين وإهانتهم.

الأثر النفسي للاسم واللقب:

واللقب أيضاً مثل الاسم والعائلي، يعرّف صاحبه. وهو ذو أثر نفسي فعال، فإن كان قبيحاً صار سبباً للشعور بالحقارة وطالما حمل صاحبه - كالاسم واسم العائلة القبيحين - على الضجر والسأم.

____________________

(1) مستدرك المسائل للمحدث النوري ج2|618.

(2) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج6|21.

١٧٢

لقد كان المواطنون فيما سبق يهتمون باللقب. وكانت الألقاب عندهم معروفة للمكانة والمنزلة الاجتماعية للأفراد، فكان لكل من الرجال العظماء في العلم أو السياسة، والشخصيات العسكرية أو المدنية لقب مخصوص يتناسب ومنصبه ومنزلته.

وعلى رغم الاختلاف الكبير بين مجتمعنا الحالي والأوضاع السابقة في موضوع الألقاب وفقدان كثير منها قيمتها السابقة، فإنه توجد ألقاب في مجتمعنا يسبب بعضها الفخر والعظمة لصاحبه، ويورث بعضها الألم الروحي والشعور بالحقارة له. ثم إن لبعض الألقاب جهة عمومية فإنه يتبع الشغل أو الرتبة أو المقام، ومن كان حائزاً على الشروط المطلوبة نودي بذلك اللقب. كما أن بعض الألقاب يختارها الشخص لنفسه ولأولاده كما يختار الاسم، ثم بشهرته شيئاً فشيئاً في المجتمع.

وربما تقع قضايا وحوادث طيبة أو سيئة للأشخاص في أيام عمرهم فتترك أثراً حسناً أو قبيحاً في الأذهان، ثم يلخص الناس ذلك الأثر في كلمة أو جملة ويجعلونها لقباً لصاحبه. ومن هذا القبيل ما نلاحظه في قصة عبيد الله بن الزبير، حيث كان والياً على المدينة من قبل أخيه عبد الله، وقد شغل المنصب المعهود به إليه بكل سيطرة وكفاءة. وفي يوم من الأيام أخطأ في كلامه أمام جمع غفير من الناس وهو على المنبر، فبينما كان يعظ الناس تطرق لقصة ناقة صالح وظلم قومه لها، فقال لهم: قد ترون ما صنع الله بقوم في ناقة قيمتها خمسة دراهم، فسميّ (مقوم الناقة) (1) .

لقد كانت الموعظة بذاتها صحيحة إلا أن تقويمه للناقة كان خطأ، فلقبه الناس بـ (مقوم الناقة)، وشاع هذا اللقب، ولهج به الناس، وأورد نقصاً عظيماً في شخصيته، فخلعه عبد الله بن الزبير، ووليّ مكانه مصعباً.

في هذا المثال نجد أن والي المدينة يسقط عن أنظار الناس على أثر سبق لسان بسيط، ولقبه الناس بمقوّم الناقة مستهزئين به وذاكرين ذلك في كل منتدى ومجلس.

إن الوالي الذي يتعرض لتحقير الناس وإهانتهم، ويشعر في نفسه بالحقارة لا يتمكن من ممارسة السلطة والحكم مهما كان ذا سطوة وقوة.

____________________

(1) الكامل لابن الأثير ج4|87.

١٧٣

الألقاب المحتقرة:

في المجتمعات المختلفة أناس كثيرون اتخذوا لأنفسهم ألقاباً قبيحة بسوء اختيارهم، أو أن سلوكهم المنحرف طيلة الحياة هو الذي أوحى للناس بتلقيبهم بلقب قبيح. وتكون النتيجة أن يعيش هؤلاء حياة ملؤها التعاسة والشقاء والحقارة.

وفي مجتمعنا الحاضر توجد بين الطبقات المختلفة ألقاب كثيرة من هذا القبيل. وهاأنا ذا أتكلم إليكم وببالي أمثله منها بحيث لو نطقت بكلمة واحدة انتقلت أذهان المستمعين فوراً إلى شخص معين، لكن القوانين الإسلامية لا تسمح لي بذكر شيء منها وإن كان ذلك على سبيل الشاهد.

الحذر عن تحقير الناس:

لقد نهى الإسلام عن ذكر الناس باسم أو لقب يشينهم ويكون سبباً لأهانتهم وتحقيرهم، وقد حذرت التعاليم الإسلامية الناس عن هذا العمل المنكر الذي يبعث البغضاء والحقد في المجتمع، قال الله تعالى: ( وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ) .

لقد ذكر في مجلس الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) شاعر، فذكره أحد الحاضرين بكنيته، فقال له الإمام (عليه السلام): (هات اسمه ودَعْ عنك هذا. إن الله عَزَّ وجَلَّ يقول: ( وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ) ولعل الرجل يكره هذا) (1) .

وفي الحديث: (حق المؤمن على أخيه أن يسمّيه بأحب أسمائه) (2) .

يجب على عامة المسلمين أن يجتنبوا ذكر الأسماء والألقاب التي تسبب انزعاجاً وإيلاماً لأصحابها، وألا يدعوهم بتلك الأسماء والألقاب كيلا يوجب ذلك التأثر والتألم فيهم، ولكن كثيراً من الناس لا يراعون هذا الواجب المقدس. فبعضهم

____________________

(1) وسائل الشيعة الحر العاملي ج5|116.

(2) مجمع البحرين - مادة نبز.

١٧٤

لسوء خلقه وعدم العناية بواجباته، وبعضهم لعدم فهمه وقصور إدراكه يذكر الناس بأسماء وألقاب قبيحة، فيحتقرهم بعمله السيئ هذا.

كان في أوائل القرن الثالث الهجري رجل في العراق يكنى بـ (أبي حفص)، ولبعض أعماله لقبه الناس بـ (اللوطي) فكانا يحقّرونه بهذا اللقب في غيابه. ولقد أدّت شهرته هذه بين الناس إلى تأثره الشديد، وأوردت على شخصيته نقصاً غير قابل للتدارك فتمرض جار له، فعاده أبو حفص والمريض في غاية الضعف. فسأله أبو حفص عن صحته، وقال له: أعرفني؟ فأجاب المريض بصوت خافت جداً: ولم لا أعرفك؟ أنت أبو حفص اللوطي، فدهش أبو حفص من هذا اللقب ومصارحة المريض به، فقال له: لقد جاوزت حد المعرفة، أرجو أن لا تقوم من مرضك هذا أبداً... ثم قام من عنده وخرج (1) .

السمعة السيئة والحرمان:

ما أكثر الرجال العلماء والمثقفين الذين كانت لهم الكفاءة لتسنّم مناصب عالية في الدولة، والحصول على مقامات شامخة في المجتمع، لكنهم فقدوا جميع قيمهم الاجتماعية على أثر لقب قبيح أو شهرة سيئة، وأخذ الناس ينظرون إليهم بنظر الانتقاص والاحتقار. وبالتالي لم يستفيدوا من المواهب التي كانت تميزهم، بل لم يستطيعوا الاستمرار في الحياة كأفراد اعتياديين، فهؤلاء يكابدون الضغط الروحي دائماً ويقضون حياتهم في حرمان وشعور بالحقارة والدناءة.

وكمثل على ذلك نذكر ما جرى لابن النديم بهذا الصدد. فقد كان إسحاق بن إبراهيم المعروف بابن النديم من العلماء الذين قلّ نظراؤهم في عصره، وكان قد أجهد نفسه في علوم كثيرة كالكلام والفقه والنحو والتاريخ واللغة والشعر، وبرع في جميع ذلك براعة تامة. وكان عملاقاً عظيماً في المناظرات العلمية، وكثيراً ما كان يتغلب على فضلاء عصره. وله في مختلف العلوم ما يقرب من أربعين مجلداً، وآثاره المهمة باقية حتى اليوم.

____________________

(1) قاموس دهخدا الفارسي ص 2225.

١٧٥

كان ابن النديم ذا صوت جميل، ورغبة شديدة في الغناء. وكثيراً ما كان يشترك في مجالس طرب الخلفاء ورجال الدولة، ويؤنس الحاضرين بغنائه المطرب، ويجذب قلوبهم نحوه. ولاستمراره في هذا العمل ضؤلت قيمة ثقافته العلمية شيئاً فشيئاً بالنسبة إلى غنائه حتى عرف في المجتمع بهذه الصفة ولقبه الناس بـ (المغنّي) و(المطرب).

لقد أوردت هذه الشهرة ضربة قاصمة على شخصيته، ولم يتمكن فيما بعد أن يعدّ نفسه في المجمع كرجل عالم مطلع، وأن يظهر كفاءته العلمية. وبالرغم من قربه لدى الخلفاء والشخصيات فإنهم لم يعهدوا إليه بمهمة أو عمل خطير في الدولة، وذلك حذراً من اضطراب الرأي العام.

وبهذا الصدد كان المأمون العباسي يقول: لو لم يكن يشتهر ابن النديم بالطرب والغناء لولّيته القضاء، لأنه يفوق جميع قضاة الدولة الموجودين من حيث الفضل والعلم، وأكثرهم استحقاقاً لهذا المنصب (1) .

نستنتج مما تقدم أن الاسم المستهجن، أو اسم العائلة القبيح أو اللقب الشنيع، أو الشهرة السيئة تسبب الشعور بالحقارة، وتأزم عقدة الحقارة، مما يؤدي إلى تنغص الحياة على الإنسان.

إن الشعور بالحقارة المنبعث من الاسم القبيح يلازم الطفل من أولى أدوار حياته. ومن الحقوق الدينية للأولاد على أوليائهم انتخاب الاسم واللقب الحسنين للطفل. على الآباء والأمهات المسلمين الاهتمام بهذا الواجب بأن يؤدوا حقوق الأولاد على أحسن ما يرام، ويختاروا لأولادهم الأسماء والألقاب المناسبة الجميلة، وإلا يكونوا سبباً - من غير ضرورة - لشعورهم بالحقارة والخسة والضعة طيلة أيام عمرهم.

____________________

(1) قاموس دهخدا الفارسي ص 2225.

١٧٦

المحاضرة الثالثة والعشرون:

الإفراط في المحبة

قال الله تعالى في كتابه الحكيم: ( لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (1) .

من عوامل نشوء عقدة الحقارة، الإفراط في إبداء مظاهر الحب والحنان بالنسبة إلى الطفل. إن الأطفال الذين يبذل لهم من العناية والحب أكثر مما ينبغي، ينشئون في النتيجة معجبين بأنفسهم، فيلاقون طيلة أيام حياتهم، وخاصة عند مواجهة مشاكل الحياة، والشعور بالحقارة والضعة بشدة، فيقدمون على أعمال غير مرضية... وقد يؤدي بهم الشقاء والضغط الروحي إلى الجنون والانتحار.

لقد ذكرنا في محاضرة سابقة أن المحبة ضرورية لنمو روح الطفل كالغذاء الضروري لنمو جسمه، وأن أهمية التوازن الصحيح في كمّ المحبة وكيفها وأسلوب إظهارها لا تقل عن أهمية المحبة ذاتها. وكما أن لكل من التقليل من الغذاء والإكثار منه وتسمّمه أثراً في بدن الطفل، كذلك لكل من التقليل من المحبة والإكثار منها، والمحبة في موضعها - والتي ينحرف بها الطفل - آثاراً مشؤمة في روح الطفل وتسبب له مشاكل كثيرة.

الاعتدال في المحبة:

الهدف من التربية الصحيحة هو أن تقرن حياة الطفل بالسعادة، وتكلّل جهوده بالنجاح. إذ الحياة على طولها تتضمن صراعاً مع المشاكل وهكذا يواجه الفرد

____________________

(1) سورة آل عمران | 188.

١٧٧

كثيراً من المنخفضات والمرتفعات والمعطفات والمصائب في مختلف أدوار حياته. والمربي القدير هو الذي يعمل على تنشئة جسم الطفل وروحه على أحسن الأساليب بحيث يعدّه للمقاومة والثبات أمام صعوبات الحياة.

وكما أن جسم الطفل يقوي نتيجة للمراقبة الصحية، والتوازن في أكله ونومه وحركته ورياضته، ويستطيع من مقاومة البرد والحر، والجوع والعطش، والمرض على أحسن وجه، فكذلك روحه فإنها تنمو قوية في ظل الصحة الروحية والتعاليم الخلقية، والتوازن بين أساليب العطف والحنان والشدة والخشونة، وبذلك يتمكن من الصمود أمام المصائب والمشاكل والاندحارات الروحية.

وبالعكس، فإن الأطفال الذين يواجهون المحبة والرأفة الزائدتين، ويستسلم لهم آباؤهم وأمهاتهم بدون أي قيد أو شرط، ويستجيبون لجميع مطاليبهم من صالح أو طالح، وبالتالي ينشئون على الاستبداد والإعجاب بالنفس، فإنهم يحملون أرواحاً ضعيفة ونفوساً سريعة الانهزام من ساحة المعركة، ويتأثرون من دور الطفولة حتى آخر لحظة من العمر من مواجهة أبسط الأشياء، وأخف المصائب، وينكسرون أمام مشاكل الحياة بسرعة.

إن الأفراد الذين نشئوا في ظل الحنان المفرط، هم أتعس الأفراد، لأنهم يعجزون عن حل مشاكل الحياة الاعتيادية، فيلجئون في الشدائد إلى الانتحار متصورين أن النهاية الحتمية لفشلهم يجب أن تبرّر بالانهزام من معركة الحياة.

خطأة تربوية:

بالرغم من أن كل أسلوب أهوج يتّبعه الوالدان في تربية الأولاد يكون له الأثر السيئ، ويولد نوعاً من الانحراف، فإن الإكثار الضار من المحبة للأطفال يعد من أعظم الأخطاء التربوية. إن العواقب السيئة التي يلاقيها الأطفال بهذه المناسبة مهمة وخطرة. ولقد اهتم جميع علماء النفس بهذا الموضوع في بحوثهم التربوية، ولكل منهم حوله كلام مفصل.

ولأنقل لكم - على سبيل الشاهد - بعض النصوص لعدد من علماء الغرب:

١٧٨

1 - يقول (جلبرت روبين): (إن تعويد الطفل على الإعجاب بنفسه يورث الغضب الشديد فيه لأبسط الأشياء، والاستبداد في الرأي. وفي الغالب يدفعه إلى الرغبة في طلب الجاه. وفي النتيجة: يحصل الطفل على القدرة التي تساعده على التقدم، ومع كونه ذا أعصاب هزيلة، فإنه ينجح بواسطة الحيلة والشدة. إن جعل الأطفال معجبين بأنفسهم يكوّن منهم أفراداً تعساء، ضعفاء، عديمي الإرادة).

(لقد كان أولئك الذين يقولون للأم العابثة بلحن مصحوب بالسخرية: ليس طفلك معجباً بنفسه، بل هو غير صالح. لم يكن كلامهم خالياً عن المبالغة فحسب، بل كان تنبّؤهم صحيحاً أيضاً. هناك حالات تتقزز النفوس من مشاهدتها لعدم الالتزام في التربية، لأننا نشاهد في الحقيقة مقتولين أبرياء كان بالإمكان إنقاذهم) (1) .

الأطفال المدللون:

2 - يقول (مك برايد): (الشعور بالدلال والغنج أمارة أخرى من أمارات عقدة الحقارة، ويجب البحث عن أساسه في أسلوب التربية الخاطىء المتخذ في دور الطفولة. إن الطفل الذي كان يرى نفسه قرة عين والديه، عندما يكبر ويصبح رجلاً كاملاً يجب أن يكون في جميع نواحي الحياة محبوباً من غير علة ومحترماً لدى الجميع. فعندما يرى أنه لم يُعتن به، يفقد الهدوء والاستقرار، ويختل ما صفا من فكره، فإما أن يلتجأ إلى الانتحار، وإما أن يبغض الآخرين. إن عقدة الحقارة التي تنشأ في الناس بهذه الظاهرة مصيبة عظيمة للمجتمع) (2) .

3 - يقول (ريموند بيج): (يجب أن ننبه على بعض الأخطاء في

____________________

(1) چه ميدانيم؟ تربيت اطفال دشوار ص 23.

(2) عقده حقارت ص 27.

١٧٩

السنين الأولى من حياة الطفل. وأكثرها شيوعاً هو الأسلوب الذي يؤدي إلى غرور الطفل وأنانيته. إن المحبة بدون سبب في الأيام الأولى هي التي تسبب غرور الطفل وأنانيته).

(إن الآباء والأمهات يأملون في الطفل النجاح والسعادة طبعاً، ولهذا فهم يرأفون به أشد الرأفة، ويتملقون له ويبعدون كل عقبة أو مشكلة - حتى لو كانت تافهة - عن طريقه. وكلما كبر الطفل حاولوا تهيئة وسائل اللعب المناسبة له. إن هذه الأعمال تستوجب الاستحسان في الظاهر. أما في الباطن، فإن الخطر الكامن وراءها موحش جداً).

(إن الفرد الناشىء في ظل الرأفة الزائدة لا يطيق المقاومة أمام تقلبات الحياة، ولا يستطيع الصراع معها) (1) .

4 - يستشهد (الفرد آدلر) العالم النفسي الشهير، وزعيم المدرسة الفردية في علم النفس بامرأة (انتحرت لسبب تافه هو أن جارها كان يُعلي صوت المذياع، ولم يهتم باستنكارها المستمر. وأخيراً أقدمت على الانتحار! وتدل التحقيقات التي أجراها (آدلر) بهذا الصدد على أن هذه المرأة نشأت منذ طفولتها على الغرور والرضا بالنفس، وكان يُحضر إليها في المنزل ما تشاء من دون قيد أو شرط. ولهذا السبب فإنها لم تطق العيش في دنيا تسمع الجواب السالب على ما تطلب فيه) (2) .

الإفراط في المحبة:

لقد حذّرت الشريعة الإسلامية الغراء أولياء الأطفال في أسلوب تربيتهم من الإفراط في المحبة. إن الذين يفرطون في الرأفة بأطفالهم، ويدفعونهم بسلوكهم

____________________

(1) ما وفرزندان ما ص 39.

(2) روح بشر ص 131.

١٨٠