الطفل بين الوراثة والتربية الجزء ٢

الطفل بين الوراثة والتربية0%

الطفل بين الوراثة والتربية مؤلف:
تصنيف: الأسرة والطفل
الصفحات: 377

الطفل بين الوراثة والتربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد تقي فلسفي
تصنيف: الصفحات: 377
المشاهدات: 32631
تحميل: 8041


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32631 / تحميل: 8041
الحجم الحجم الحجم
الطفل بين الوراثة والتربية

الطفل بين الوراثة والتربية الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قالت: أنا أبنته.

ثم قالت له بكل صراحة: يا أمير، اسمع ما أقول... وأنشأت تقول:

أحجاج، إما أن تمن بتركه

علينا وإمّا أن تقتلنا معا

أحجاج، لا تفجع به إن قتلته

ثماناً وعشراً واثنتين وأربعا

حجاج، لا تترك عليه بناته

وخالاته يندبنه الدهر أجمعا

هذه الكلمات الصريحة والقوية من هذه الطفلة الجريئة أبكت حجاجاً القاسي، وجعلته ينصرف عن قتل عبّاد، ويكاتب عبد الملك بشأنه حتى حصل على عفو الخليفة عنه (1) .

2 - الصبي الخطيب:

لما آلت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز، أخذت الوفود تتقاطر عليه من أنحاء الدولة لتهنئته... وكان من تلك الوفود وفد الحجاز. كان في ذلك الوفد صبي صغير، قام في مجلس الخليفة ليتكلم، فقال الخليفة: ليتكلم من هو أكبر منك سن. فقال الطفل: أيها الخليفة، إن كان المقياس للكفاءة كبر السن ففي مجلسك من هو أحق بالخلافة منك. فتعجب عمر بن عبد العزيز من هذا الكلام وأيده على ذلك، ثم أذن له في التكلم. فقال:

لقد قصدناك من بلد بعيد. وليس مجيئاً لطمع فيك أو خوف منك... لا نطمع فيك لأننا متنعمون بعدلك ومستقرون في بيوتنا بكل أمن واطمئنان... ولا نخاف منك لأننا نجد أنفسنا في أمن من ظلمك، وإن مجيئنا إلى هنا إنما هو لغرض التقدير والشكر.

فقال له عمر بن عبد العزيز: عظني.

قال الصبي: لقد أصيب بعض بالغرور حلم الله عليهم، أصيب آخرون

____________________

(1) المستطرف في كل فن مستظرف للابشيهي ج1|195.

٢٢١

بذلك لمدح الناس إياهم، فاحذر من أن يبعث هذان الأمران الغرور فيك، فتنحرف في تدبير شئون الدولة.

لقد سُرّ عمر بن عبد العزيز لهذا الكلام كثيراً، وسأل عن عمر الصبي فقيل له: هو ابن اثنتي عشر سنة (1) .

الشعور بالاستقلال:

إن التربية العائلية الصحيحة هي التي تستطيع أن تربي الطفل على الاستقلال والاعتماد على النفس، وتقوده نحو التكامل المادي والمعنوي. إن الأطفال الذين نشئوا طفيليين على أثر الأسلوب الفاسد للتربية المتخذ بحقهم، والذين لا يشعرون بالاستقلال والاعتماد على النفس، يرزحون تحت كابوس الحقارة والذلة مدى العمر. إنهم لا يطمئنون إلى أنفسهم، ولذلك فهم ينتظرون العون والمساعدة من هذا وذاك دائماً، وهذا يكشف لنا عن إصابتهم بعقدة الحقارة وتجرعهم نتائجها الوخيمة.

(إن المأساة العظمى هي أنه من بين جميع الأحياء فإن وليد الإنسان يتميز بطول فترة الطفولة. فوليد الحيوانات الأخرى يصل إلى مرحلة البلوغ في خلال بضعة أسابيع أو أشهر، أي أنه يستطيع أن يستغني عن مساعدة الآخرين فيعيش لوحده. فمثلاً على ذلك نجد صغار الكلب أو القط ما إن تمر بضعة أشهر على تولدها تبلغ، ولا تعود محتاجة إلى أبويها والآخرين في إعداد الطعام والمأوى والدفاع عن أنفسها، وفي حين أن هذه المرحلة عند صغار الإنسان تستغرق عدة سنين، وقد يبقى البعض منهم طفيلياً على غيره حتى آخر يوم من حياته).

(يعتقد كثير من المفكرين أن النصف الأكثر من الأمراض العصرية يعود إلى أن البشر لم يبلغ حد الرشد، ولا يملك القدرة على

____________________

(1) المصدر السابق ج1|46.

٢٢٢

الاستقلال في العمل، أي أنه لا يزال يشعر بالحاجة إلى القيّم. إن السبب المباشر لوجود الديكتاتوريات في بعض نقاط العالم هو هذا الأمر. إن نتائج الرشد الناقص تظهر في أن صاحبه ينظر إلى الحياة ومسائلها نظرة طفولية، وينكر أية مسئولية اجتماعية. هذا الأسلوب من التفكير الطفولي يمكن قراءته بوضوح من بين أسطر الجرائد وأخبارها. إن عبادة نجوم السينما والممثلين، والحب الجنوني تجاه أبطال الرياضة، وحوادث الطلاق المستمرة.. وما شاكل ذلك، أمارات تدل على هذا التسيب الخلقي) (1) .

التكامل الفردي والاجتماعي:

لقد توصلنا في بحثنا هذا إلى أن من الشروط الأساسية للتكامل الفردي الاجتماعي، الشعور بالمسئولية الشخصية والاعتماد على النفس. على كل فرد أن يستند إلى علمه وأخلاقه، وجدّه وجهده، ويسعى في طريق ضمان سعادته نظرياً وتطبيقياً، وأن يحذر من الاعتماد على الآخرين وكونه عالة على غيره. إن الوالدين مسئولان عن تنمية هذه السجية الخلقية في أطفالهما منذ الصغر.

وكما سبق، فإن هذا الموضوع من أهم المسائل الأساسية في الإسلام حسب ما تؤكد عليه الآيات والأحاديث من جانب، ومن جانب آخر فإنه من المواضيع العلمية المهمة في نظر علماء النفس المعاصرين، وأساتذة التعليم والتربية.

إن قادة الإسلام العظماء علّموا المسلمين قبل أربعة عشر قرناً بأن كل فرد مسئول عن أعماله، وأنه مرهون بعمله، وهو الذي يتحمل تبعة ما صدر منه من خير أو شر، وأن الجزاء الذي يناله أو يصيبه إنما هو النتيجة الطبيعية لما اكتسبت يداه.

كذلك العلماء المعاصرون فإنهم يعتقدون بأن النجاح الفردي والجماعي مستند إلى الاعتماد على النفس، وإلى الجهود التي يبذلها الأفراد بهذا الصدد. وكلما

____________________

(1) عقده حقارت ص 10.

٢٢٣

كان الاستقلال الروحي والنشاط المبذول أكثر، كانت دائرة النجاح والتقدم أوسع.

الاتكال على الله:

تمتاز المدرسة الإسلامية بميزة فريدة في هذا الصدد، لا توجد في سائر المدارس الفلسفية والنفسية... وتلك هي مسألة الاتكال على الله. لقد أكد القرآن الكريم والأحاديث المستفيضة على موضوع الاتكال على الله والاستمداد من قدرته اللامتناهية. إن الشجاعة الفائقة وصلابة النفس التي امتاز بها الأنبياء، وكذلك الانتصارات المذهلة التي أحرزوها مدينة إلى طاقة الإيمان العظيمة، وقوة الاتكال على الله.

وهنا أجد من المناسب أن أتطرق في ختام البحث، إلى الاتكال على الله وأثر ذلك في السعادة المادية والمعنوية للبشر؛ عسى أن تتضح للمستمعين الكرام أهمية المدرسة الإسلامية في التربية ورجحانها على سائر المدارس العالمية.

الاتكال على الناس، والاتكال على النفس، والاتكال على الله... ثلاث مراحل مستقلة ومتتابعة في مضمار التقدم البشري، ولكل منها نتائج وآثار نفسية وعملية خاصة.

الاتكال على الناس عبارة عن أن يستند الفرد إلى الآخرين في سبيل تحقيق سعادته، ويتخلى عن الواجبات المفروضة عليه اعتماداً على هذا وذاك. هذه الحالة النفسية تعتبر من الصفات المذمومة من وجهة نظر الدين والعلم، وإن الأفراد الاتكاليين هم أحقر الناس.

إن ضرورات الحياة توجب على كل فرد أن يحتك بالآخرين ويعاشرهم، لكن الاحتكاك بالناس يختلف عن الاتكال عليهم. إن الإنسان العاقل يتصف بالأدب واللين في العلاقات الاجتماعية التي ينشئها مع الآخرين، فهو يحترم شخصية الآخرين، ويقابلهم بالبشر والحنان، ويراعي حقوقه وحدوده تجاه غيره... لكنه لا يرضى بالذلة، ولا يستسلم للهوان، ولا ينتظر من الآخرين أن يقوموا بالعمل الذي يجب عليه القيام به.

٢٢٤

(وكان أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) يقول: (ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس والاستغناء عنهم. فيكون افتقارُك إليهم في لين كلامك وحُسن بشرك. ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزّك) (1) .

الاتكال على النفس:

أما الاتكال على النفس فهو عبارة عن أن يستند كل فرد إلى نفسه، ويعتمد على عقله وعلمه، وسلوكه وأخلاقه، وعزمه وتصميمه، وجدّه وجهده، وأن يقف على قدميه في الحياة فيعلم أنه مسئول بنفسه عن أفعاله الصالحة أو الفاسدة. لقد اعتبر هذا الموضوع في القرآن الكريم والأحاديث الإسلامية من أشد المسائل الدينية بداهة. وكذلك العلماء المعاصرون فإنهم يرون في الاعتماد على النفس أساساً لجميع النجاحات الفردية الاجتماعية، ويؤكدون على أن سعادة كل فرد تبتني على استقلال شخصيته واعتماده على نفسه. إن الأفراد الذين يعتمد على أنفسهم يشعرون بالاستقرار والهدوء، الأفراد الذين يعتمدون على أنفسهم رجال نشاط وعمل، الأفراد الذين يعتمدون على أنفسهم يملكون شخصية رصينة واستقلالاً في الإرادة وطموحاً كبيراً يجعلهم يغضون النظر عما في أيدي الآخرين، ولا يستسلمون للذل والهوان أبداً.

هناك توافق وانسجام في هاتين المرحلتين بين المناهج الإسلامية القيمة والأساليب العلمية المعاصرة. أي أن علماء التربية والنفس المعاصرين يؤكدون في كتبهم العلمية ما علّمه الإسلام قبل أربعة عشر قرناً لأتباعه في مناهجه التربوية، والتي تتمثل في القرآن الكريم والأخبار المستفيضة.

لقد اعتبر قادة الإسلام الاعتماد على الناس أمراً مذموماً، ورأوا الخير بالسعادة في قطع الطمع عما في أيدي الآخرين. وكذلك العلماء المعاصرين فإنهم يذمّون الاعتماد على الناس، والطفيلية بشدة.

كما عمل قادة الإسلام على إحياء المسئولية الشخصية، والشعور بالاستقلال

____________________

(1) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2|149.

٢٢٥

والاعتماد على النفس في الأفراد، وأكدوا على أن كل فرد مسئول عن أفعاله، ورهين بما كسبت يداه. وكذلك فعل العلماء المعاصرون فإنهم اعتبروا الاعتماد على النفس من أهم أركان السعادة الفردية والاجتماعية.

الاتكال على الله:

الاتكال على الله عبارة عن أن يستند كل فرد مؤمن، بالإضافة إلى استغلال جميع طاقاته النفسية والجسمية والطبيعية، إلى القدرة اللامتناهية لله تعالى، وأن يستمد العون منه (عَزَّ وجَلَّ) في جميع المناسبات والظروف. وبعبارة أوضح: فإن الرجال المؤمنين يستغلون في سبيل الوصول إلى السعادة المادية والمعنوية، جميع طاقات العقل والعلم، والذكاء والأخلاق، والقوى الجسمية والطاقات الطبيعية، ويستخدمون جميع الوسائل التي خلقها الله تعالى لذلك. ولكنهم لا يقصرون آمالهم على هذه الطاقات والقوى أبداً، ولا يحصرون أرواحهم في سجنها الضيق، بل يعتقدون بأن وراء جميع العلل والعوامل الاعتيادية وفوق كل الطاقات الجسمية والروحية، قدرة لا تتناهى، وطاقة لا تقبل التحديد هي قدرة الله تعالى، المسيطرة على الكون كله. إنهم يعتقدون بأن جميع العلل إنما اتصفت بالعلية بإرادته ومشيئته، فهو علة العلل. وإن جميع الأسباب إنما اتصفت بالسببية بقدرته وأمره، فهو مسبّب الأسباب. إن أصحاب هذه العقيدة لا يخسرون المعركة أمام مشاكل الحياة أبداً، ولا يعرف اليأس طريقاً إلى أرواحهم. هؤلاء يملكون بالاستناد إلى القدرة الإلهية العظيمة أرواحاً مطمئنة، وعزماً ثابتاً، وإرادة حديدية.

طاقة الإنسان المحدودة:

يهد علماء النفس المعاصرون إلى أن ينشئوا أفراداً مستقلين ومعتمدين على أنفسهم، ويمنعوا من نشوئهم طفيليين. لا شك في أن تربية كهذه قيّمة جداً، وتستحق الإكبار والتقدير، كما تظهر آثارها النيرة طيلة أيام الحياة بصورة تدريجية، ولكن يجب أن لا ننسى أن الطاقة الجسدية والروحية للإنسان محدودة، ولذلك فإن درجة اطمئنانه ونشاطه ستكون محدودة أيضاً.

٢٢٦

إن من كان محروماً من الإيمان بالله، وكانت تربيته مطابقة للأساليب العلمية المحضة، فنشأ معتمداً على نفسه... فهو رجل العمل والنشاط ما لم يصل في حياته إلى مأزق حرج. أما عندما يصطدم بمشاكل تستعصي على الحل، وتغلق جميع الأبواب والرق الطبيعية بوجهه، يشعر باليأس والفشل، ويشلّ نشاطه، عندئذ يعجز الاعتماد على النفس من تهدئة خاطره والتخفيف من اضطرابه، وبعث الأمل في نفسه.

أما المؤمنون بخالق الكون، والذين يستندون إلى قدرة العظيمة بالإضافة إلى الاستقلال الروحي الذي يملكونه، والاعتماد على النفس الذي يتميزون به، فإنهم لا يصابون باليأس والقنوط أبداً. إنهم يذكرون الله تعالى في الأحوال الاعتيادية، ويستغلون جميع الوسائل والعوامل التي أوجدها خالق الكون في هذا العالم لتحقيق غاياتهم النبيلة وأهدافهم السامية. إنهم لا يتركون أبسط الفرص المؤدية إلى السعادة تذهب عبثاً، وعندما يقعون في مأزق حرج لا يفقدون الأمل والتطامن، لأنهم لم يحصروا أروحهم في دائرة العلل الطبيعية فقط، ولم يغفلوا عن القدرة الإلهية العظيمة التي هي فوق جميع القوى والطاقات لحظة واحدة. إنهم يستمدون العون من عناية الله في أشد الظروف وأحرج المواقف، ولا يطفأ له الأمل في أرواحهم أبد. إن أعظم عامل لاستقرار النفس وقوة الإرادة هو الاتكال على الله ( أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) (1) .. وهذه سمة فريدة يمتاز بها المنهج التربوي لرسل السماء. إن المناهج العلمية والتطبيقية تستطيع أن تربي الناس على الاعتماد بالنفس. أما المنهج التربوي في الإسلام فإنه بالإضافة إلى تأكيده على قيمة الاعتماد بالنفس، يربى الأفراد على الإيمان بالله والاتكال عليه، وهذا هو من أعظم ميزات المدرسة الإسلامية في التربية.

التشاور والعزم والتوكل:

لا شك في أن الأنبياء كانوا رجالاً ذوي إرادة قوية، ومعتمدين على

____________________

(1) سورة الرعد | 28.

٢٢٧

أنفسهم، ولكن أساس الطاقات المذهلة التي كانوا يملكونها هو الاتكال على الله. لقد كان يستحيل على موسى بن عمران أن يقارع فرعون بفضل اعتماده على نفسه فقط، وأن يقوم بوحده بهدم تلك الحكومة الظالمة القوية، لكن اتكاله على قدرة الله وعظمته هو الذي منحه القدرة على ذلك كله.

وكذلك نبينا محمد (صلّى الله عليه وآله) فإنه كان ذا شخصية روحية صلبة، واستقلال في الإرادة لا يضاهى، ولكن الطاقة التي منحته القوة في ذلك الظرف الأهوج، والدور العصيب، وأعطته الاستقرار والهدوء في أشدّ المواقف، ومكنته من خوض المعارك العقيدية والسياسية والاجتماعية بكل نجاح... إنما هي الإيمان بالله والاستناد إلى عظمته.

لقد ذكر القرآن الكريم منهج الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، الذي سرّ نجاحه وتقدمه في عبارة موجزة حيث قال: ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) (1) .

لقد ذكرت هذه الآية الكريمة واجب النبي تجاه الناس، وواجبه تجاه نفسه، وواجبه تجاه الله تعالى:

أما واجبه تجاه الناس، فقد كان عبارة عن استشارتهم في الأمور الاجتماعية، ورسم الخطط العسكرية، وغير ذلك من الأمور التي لم يرد بشأنها نصّ. وعن طريق التشاور وتبادل الآراء يعيّن للمسلمين طرق انتصارهم وتقدمهم. إن الاعتماد على الناس، والفرار من عبء المسئولية استناداً إلى جهود الآخرين، مذموم في الإسلام. أما احترام شخصية الأفراد ومعاشرتهم بالجميل، واستشارة العقلاء وذوي الرأي منهم فهو محبذ ومرغوب فيه.

وأما واجبه تجاه نفسه، فهو عبارة عن عزمه وتصميمه في الأمور وقيامه بأدائها بنفسه. يجب عليه أن يكون صلباً أمام الحوادث، لا تزعزعه المشاكل المختلفة، بل يقابلها بإرادة حديدية وثبات لا يغلب عليه.

وأما واجبه تجاه الله، فهو أن يتوكل عليه بعد استشارته المسلمين،

____________________

(1) سورة آل عمران | 159.

٢٢٨

والوقوف على رأي قاطع... يجب عليه أن يستمد العون منه (عَزَّ وجَلَّ)، ويعزّز مكانته بالاستناد إلى قدرته اللامتناهية.

إن تبادل الآراء والتشاور مع الناس لتنظيم شئون العمل، وكذلك الاعتماد على النفس، والعزم والتصميم في تنفيذ خطة العمل، عاملان كبيران لنجاح البشرية وتقدمها، وقد تكفل صدر الآية الكريمة ببيان ذلك. وإن العلم الحديث يهتم بهذين الأمرين اهتماماً بالغاً أيضاً. لكن الطاقة التي لا تقبل الاندحار، والشعلة التي لا تنطفئ، والثروة التي تنبع منها جميع الطاقات الروحية ويستند إليها الاستقرار والتطامن، إنما هي النقطة التي تكفّل ختام الآية ببيانها، وهو الاتكال على الله. إن الاتكال على الله أعظم من الاعتماد على النفس بكثير.

إن أعظم المراتب في المدارس التربوية العالمية هي تمنية الاعتماد على النفس وحسب. أما المدرسة الإسلامية في التربية، فإنها ترقى إلى ما هو أهم من ذلك، حيث تغذي النفوس من نمير الإيمان بالله والاعتماد عليه، وهذه هي سمة فريدة يمتاز بها المنهج القرآني، دون غيره.

٢٢٩

٢٣٠

المحاضرة الخامسة والعشرون:

الحياء المحبَّذ والحياء غير المحبَّذ

قال الله تعالى في كتابه العظيم: ( يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ) (1) .

الخجل المفرط:

من الصفات الذميمة التي قد تصيب الإنسان منذ طفولته، وتلازمه حتى نهاية عمره بصورة مرض مزمن يؤلم صاحبه، الخجل المفرط والحياء في غير محله. هذه الحالة النفسية تنبع من الشعور بالخسة وعقدة الحقارة في الغالب.

ما أكثر التلاميذ الذين درسوا بكل جد وتتبع، واستوعبوا المناهج الدراسية بإتقان، ولكنهم أصيبوا في الامتحان - وفي القسم الشفوي منه بالخصوص - بالخجل والحياء الشديدين بسبب من ضعف النفس، فخسروا المعركة، وكأنهم لم يقرءوا شيئاً، أو نسوا ما قرءوه تماماً، وبالتالي عجزوا عن الجواب وحصلوا على درجات واطئة، وبالنتيجة حرموا من التقدم المعتاد في السنوات الدراسية.

وما أكثر الأطفال الذين لا يملكون الجرأة على الاتصال بالناس على إثر الخجل المفرط، فيشعرون بالحقارة والدونية، ويتخفون من المشاركة في المجالس العامة والاتصال بالأشخاص، حتى إنهم يمتنعون أحياناً عن الذهاب على بيوت أقاربهم والتحدث معهم نظراً لما يحسون به من خجل وحياء. وقد يستأصل داء الخجل

____________________

(1) سورة المائدة | 54.

٢٣١

وضعف الشخصية في أعماق قلوب البعض إلى درجة أنه يحطم شخصيتهم، ويجعلهم مصابين به حتى بعد البلوغ، فالشيخوخة.

تألم الروح:

هناك عوامل عديدة تتسبب في ظهور صفة الحياء المفرط والخجل الشديد عند الأطفال... ولكن الجامع بينها هو السلوك المصحوب بالتحقير والإهانة تجاه الطفل.

إن الطفل الذي يقع موقع السخرية والتحقير من الآخرين منذ الصغر وتألمت روحه على أثر الضربات المتتالية، يرى نفسه حقيراً وتافهاً ويشعر بالضعفة والدونية. إن طفلاً كهذا يصاب بالانفعال والخجل، ومن البديهي أن يتخوف من الاتصال بالناس. (إن الخلود والفرار من المجتمع، والمظاهر الأخرى والمشابهة لذلك كالخجل وحب الانزواء.. وليدة كون الشخص معرّضاً للإهمال والتحقير في دور الطفولة أو البلوغ في الغالب. ولا يمكن أن نجد علة لذلك غير ما ذكر، بمعنى أن الشخص عندما يتعرض للتحقير من قبل الآخرين، ويبقى أثر ذلك في مخيّلته، فلا شك في أنه يشعر بالحقارة والتفاهة في نفسه تجاه المجتمع) (1) .

الحياء المعقول وغير المعقول:

الحياء عبارة عن الشعور بالانفعال والانكسار النفسي نتيجة للخوف من اللوم والتوبيخ من الآخرين. هذا الحالة النفسية تكون صحيحة ومناسبة في بعض الحالات وتعتبر من الصفات الطيبة، وتكون تافهة وغير مناسبة في حالات آخر وتعتبر من الصفات الذميمة.

____________________

(1) عقده حقارت ص 21

٢٣٢

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (الحياء حياءان: حياء عقل وحياء حمق. فحياء العقل هو العلم، وحياء الحمق هو الجهل) (1) .

عن الإمام الصادق عن آبائه (عليهم السلام)، قال: (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): الحياء على وجهين، فمنه الضعف ومنه قوة وأحلام وإيمان) (2) .

يجب على الوالدين في المنهج التربوي الذي يتخذانه تجاه طفلهما أن ينميا فيه الشعور بالحياء المعقول من جهة، بحيث لا ينشأ مستهتراً وعابثاً وعليهما من جهة أخرى أن يراقبا عدم إصابته بضعف الشخصية والحياء غير المعقول لأن ذلك يبعث فيه الشعور بالخجل المفرط لأبسط حادثة.

ولكي يهتم المستمعون الكرام في أسلوب تربية أطفالهم بهذا الواجب الخطير، فينشئوا أولادهم على الحياء ومراعاة القيم الاجتماعية، بجانب حفظهم من الإصابة بالخجل المفرط وضعف الشخصية، أرى من اللازم التطرق إلى مسألة الحياء، وفوائده الاجتماعية، ثم التوصل إلى الحياء المحبذ والحياء غير المحبذ.

هناك صفات نفسانية مشتركة بين الإنسان وسائر الحيوانات، كحب الولد أو الخلود وما شاكل ذلك. أما الحياء فإنه من الحالات النفسية التي تختص بالإنسان فقط، ولا يتمتع بها شيء من الحيوانات مطلقاً. لقد ذكر الإمام الصادق (عليه السلام) ذلك لتلميذه المفضل الجعفي في الحديث القيم الذي أملاه عليه حول التوحيد، فقال: (أنظر الآن - يا مفضل - إلى ما خص به الإنسان دون جميع الحيوان من هذا الخلق الجليل قدره، العظيم غناؤه، أعني الحياء) (3) .

لقد صرّح الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا الحديث بأن الحياء إنما يختص بالإنسان وهو مفقود في الحيوانات. وكذلك العلماء المعاصرون فإنهم يعتبرون الحياء من الصفات الخاصة بالإنسان:

____________________

(1) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج 2|106.

(2) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج15|197.

(3) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج2|25.

٢٣٣

(يعتقد مارك توين أن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يستحي أو يشعر بأنه في حاجة إلى الحياء. يقول الدكتور فلاسن أستاذ جامعة روجستر في تأييد هذه النظرية: إن الحياء علامة السلامة، وهو متداول ومألوف عند جميع أفراد البشر حتى أولئك الحفاة العراة. ولذلك فإنه يعتقد بأن ما يبعث على تصاعد الدم في وجه الإنسان هو الشعور الناشىء من إخفاء حقيقة ما) (1) .

الأثر الاجتماعي للحياء:

إن الفائدة الاجتماعية لخصلة الحياء عبارة عن منع الإنسان عن ارتكاب الجرائم، وحفظه من التلوث بالذنوب والأعمال المنافية للآداب. إن كل فرد يرغب في أن يكون حراً في إشباع ميوله وأهوائه، حتى يستطيع ممارستها مطلقاً من كل قيد أو شرط... لكن هذه الحرية المطلقة لا تتلاءم مع مصلحته وسعادته. ولهذا فإن الأمور المضرة بالمصالح الفردية والاجتماعية ممنوعة على الفرد في التعاليم السماوية، والقوانين الوضعية في العالم أيضاً... وعلى الجميع أن يتجنبوها، ويمتنعوا عن ممارستها.

لا بد من وجود قوة تحمي القانون حتى يستطيع من فرض إرادته على الأفراد فيضبطوا ميولهم غير المشروعة، وتنفّذ الأساليب المحققة للمصالح المادية والمعنوية... ولا بد من وجود سلطة تضمن إتباع الأفراد وانصياعهم لنصوص القانون وإن كانت مخالفة لمشتهيات أنفسهم، فإن القانون يحتاج إلى من يتعهد بتطبيقه وتنفيذه، ولا يكفي تشريعه لإصلاحه المجتمع... إذ ما لم توجد الضمانات التنفيذية له فلا سبيل إلى التغلب على ميول الأفراد ورغباتهم ومنعهم من متابعة شهواتهم اللامشروعة.

يختلف الضمان التنفيذي للقانون باختلاف المستوى العلمي والتربوي لشعوب العالم، لأنهم متفاوتون في درجة تكاملهم المعنوي ورشدهم الروحي بالنسبة إلى بعضهم البعض.

____________________

(1) جريدة (اطلاعات) الإيرانية العدد | 10366.

٢٣٤

إن أفضل الوسائل التنفيذية للأمم الوحشية أو شبه الوحشية، التي لم تحصل على المقدار الكافي من التكامل الروحي والتعالي النفسي، والتي لم تتلقّ تربية صحيحة، وهو السجن، والجلد، الإعدام وسائر الوسائل الجزائية المشددة. في مثل هذه المجتمعات تستند الحكومة إلى العنف والقسوة، وتحمل الناس على إطاعة القوانين الموضوعة من قبلها بالتعذيب والضغط والتهديد، الحديد والنار.

أما في الأمم المتمدنة والراقية.. في المجتمع الذي يكون الأفراد قد نالوا، قليلاً أو كثيراً، بعض الكمالات الروحية، فإن التضامن لتنفيذ القوانين وحسن تطبيقها ليس المواد الجزائية والتعذيب فقط، بل إن العوامل التربوية والذخائر الروحية للأفراد تساعد كثيراً على رعاية القوانين وتطبيقها، وإن لمعنويات الأفراد أثراً كبيراً في استيلاء النظام وسيادة القانون على ذلك المجتمع.

إن التربية الصحيحة منذ الطفولة، وارتفاع مستوى العلم والمعرفة، والاستفادة من قوة العقل والتفكير، وإحياء الوجدان الأخلاقي، واستخدام ذلك... عوامل ساعدة في تطبيق القوانين، ويلعب كل منها دوراً مستقلاً في حسن راعياتها.

القيام بالواجب:

إن الأفراد الذين تلقوا تربية صالحة منذ الصغر، ونشئوا على الشعور بالمسئولية ومعرفة الواجب الملقى على عاتق كل منهم، يسلكون في الحياة باستقامة من دون تكلف، ويلزمون رعاية الحق والعدل دائماً. إنهم لا يحومون حول الذنب أصلاً، ولا يفكرون في الخروج على القانون والاعتداء على حقوق الآخرين أبداً؛ من هنا نستنتج أن التربية الصالحة المتبعة في دور الطفولة من أهم العوامل المساعدة لتنفيذ القوانين وحسن رعايتها.

كذلك الأشخاص الذين حصلوا على ثقافة علمية، ونالوا بعض مدارج الكمال فإنهم يدركون الخير والشر أفضل من غيرهم، ويعرفون الأضرار الفردية والاجتماعية للإجرام قبل الآخرين هناك بعض الانحرافات والجرائم التي يرتكبها

٢٣٥

الأفراد المحرومون من العلم والثقافة ولا يحوم حولها الأفراد المثقفون والواعون. إن العلم والثقافة يمكن أن يمنع من الخروج على القانون بدوره، ويكون أداة لحسن تطبيق الأنظمة والقوانين.

بالرغم من جميع الدول الحية والمتقدمة في العالم تملك أنظمة جزائية لمعاقبة الأفراد الخارجين على القانون، فإن الملجأ الأول لرعاية تطبيق القوانين في تلك الدول هو القوى الثقافية والخلقية والتربوية للأفراد وبعبارة أخرى فإن تأثير الشعور بالمسئولية، والمستوى التربوي في حسن تطبيق القوانين من قبل أفراد الشعب المتقدم والمثقف، أقوى من تأثير الجزاءات المادية المفروضة في نصوص القانون.

الجزاء:

توجد في الشريعة الإسلامية المقدسة سلسلة من القوانين الجزائية لغرض المحافظة على أرواح الأفراد وأموالهم وأعراضهم، وعلى المحاكم والقضاة التصدي للجرائم والمخالفات ضمن الحدود المقررة، ومعاقبة كل مجرم بحسب ما ارتكبه.

لا شك في أن النظام الجزائي في الإسلام عامل فعال في حسن تطبيق القوانين، وحاجز دون انتهاك الأفراد لحرمتها والخروج عليها. ولكن الضمان التنفيذي للقوانين في الإسلام لا يتمثل في النظام الجزائي فقط. لقد استخدم المشرع الإسلامي قبل أربعة عشر قرناً جميع ما يستفاد منه في تطبيق القوانين الدول المتمدنة اليوم.

يرى العلماء المعاصرون أن التربية الصحيحة للطفل، وتنمية الشعور بالمسئولية فيه، وإحياء وجدانه الخلقي، واستغلال الطاقات العلمية والعقلية المودعة عنده... عوامل مساعدة لتطبيق القوانين وإحقاق الحق.

لقد أولى قائد الإسلام العظيم كل هذه الوسائل المعنوية عناية كاملة وكما ذكرنا في المحاضرات السابقة فإن التعاليم الإسلامية القيمة تهدف إلى التكامل الروحي والتعالي النفسي والوصول إلى أعلى قمم الرقي الإنساني. إن قتل النفس البريئة جرم عظيم وعمل غير قانوني، وجزاءه إعدام القاتل. هذا الجزاء هو الذي يضمن

٢٣٦

عدم انتشار حوادث القتل... في حين أن الشخص الذي تربى على الفضيلة والطهارة منذ البداية ونشأ على الاستقامة والتزام المثل العليا، لا يفكر في الإجرام أبداً، ولا يحدث نفسه بالتجاوز على حياة الآخرين. إن شخصاً كهذا يحترم حق الآخرين في الحياة قبل أن يخاف الجزاء، ولذلك فلا يقدم على قتل النفس المحرمة. وهكذا تجري إطاعة القانون والحذر من الإجرام على هذا المنوال. فالخوف من الجزاء يمنع الفرد من الاعتداء على حقوق الآخرين حيناً، والشعور بالمسئولية والرغبة في التكامل الروحي هو الدافع لاحترام الفرد حقوق غيره حيناً آخر.

لا فخر للإنسان إن كان الدافع إلى انقياده للقوانين العادلة واحترامه حقوق الآخرين هو الخوف من العقوبة، لأن كثيراً من الحيوانات تنقاد لأصحابها خوفاً من حدة السوط. إن الانقياد المنبعث من أعماق وجود الإنسان الناشىء من حب الكمال، هو الذي يعتبر محبذاً وقابلاً للتقدير والاستحسان وهو أمارة الإنسانية. والهدف من التعاليم الإسلامية القيمة هو تربية هؤلاء الأفراد.

الإيمان والانقياد للقانون:

بالرغم من أن هناك عقوبات وقرارات جزائية في الإسلام بشأن رعاية تطبيق القوانين، لكن الأساس الذي استند إليه مشروع الإسلام العظيم في تطبيق القوانين هو المبادئ المعنوية والتعاليم الروحية التي لقنها لأصحابه. وبعبارة أخرى: فإن دور العقوبات في الإسلام بالنسبة إلى تنفيذ القرارات العامة ضئيل جداً... على العكس من الطاقات الإيمانية العظيمة المستقرة في باطن الرجال المؤمنين فإنها العامل الفعال في تنفيذ القوانين وحسن رعايتها.

إن جميع النصوص والأسس الإسلامية الواصلة إلينا حول التنظيم الجزائي لا تتجاوز البضع مئة آية وحديث... في حين أن هناك ألوف الآيات والأحاديث في الإيمان بالله واليوم الآخر، وفي بيان الفضائل والرذائل وحول الشعور بالمسئولية والقيام بالواجب، والحث على التقوى والتكامل الروحي... وغير ذلك من المعنويات والقيم والمثل. وهذا يدلنا على أن أساس اهتمام قائد الإسلام العظيم

٢٣٧

في تنفيذ القوانين كان منصبا على استغلال القوى المعنوية والإيمانية. إن العقوبات أنما هي لغرض تأديب أفراد معدودين لم يستفيدوا شيئاً من ثروة الإيمان والفضائل.

وهذا سمة فريدة يمتاز بها النظام التربوي في الإسلام على سائر النظم التربوية والنفسية في العالم المتحضر، وهي عبارة عن أن الإسلام يرسي قواعده على الإيمان بالله. أما النظم الأخرى، فإنها فاقدة لهذا الأثر الكبير. يستفيد العلماء المعاصرون في مناهجهم العلمية من قوة التربية والأخلاق، ومستوى الثقافة والوجدان ونحو ذلك، فينشئون الأفراد على الشعور بالواجب والإسلام يستفيد من هذه الأسس أيضاً في أساليبه التربوية، إلا أنه يتضمن منهجاً فريداً من نوعه في ضمان سعادة الإنسان وإحياء الشعور بالواجب في نفسه وهو الإيمان بالله.

إن تأثير الإيمان في ضمان تنفيذ القوانين وأداء الواجبات يفوق تأثير أي قدرة أخرى، ولهو أنشط من أي عامل آخر. ذلك أن جميع الوسائل التي تضمن تطبيق القوانين يقل تأثيرها أو ينعدم في الظروف الصعبة وعند مواجهة العقبات. أما القدرة التي تستطيع أن تقف حاجزاً أمام انحراف الأفراد في مختلف الظروف وشتى المواقع فهي الإيمان بالله. إن المؤمنين الواقعين مستقيمون في سلوكهم دائماً ويقومون بواجباتهم خير قيام. إنهم يسيرون في الصراط القويم في الفقر والغنى، والصحة والمرض، والأمن والفوضى، والسلم والحرب، وفي كل الحالات، لا ينحرفون عنه قيد شعرة.

يعترف علماء النفس في كتبهم العلمية بقيمة الإيمان وتأثيره العميق في المناهج التربوية. إن الطفل الذي تربى في حجر الوالدين المؤمنين، وتلقى درس الإيمان بالله منذ الطفولة يمتاز على الطفل الفاقد للإيمان بميزات كثيرة. إنه يملك طيلة أيام الحياة روحاً أقوى، واستقامة أكثر، وأملاً أوطد، فهو يرى الله في جميع حالاته مشرفاً عليه، ولذلك فإنه لا يتخلى عن واجباته ولا يفر من مسئولياته ولا يقدم على الإجرام والاعتداء.

الخوف من اللوم:

بعد هذه المقدمة الوافية عن الحياء وأثره الاجتماعي نتقل إلى صلب البحث فنقول:

٢٣٨

إن الحياء من العوامل النفسية المهمة التي تستطيع ضمان تنفيذ القوانين ومنع الناس من الإقدام على الإجرام والتجاوز. هناك أفراد مستهترون ومتسيبون في كل مجتمع، مأسورون لأهوائهم وشهواتهم، ولا يفهمون معنى للشعور بالمسئولية واحترام القانون ورعاية الآداب، ولذلك لا يتورعون عن ارتكاب مختلف الذنوب والجرائم. لكن الحاجز الوحيد الذي يقف أمام تنفيذ رغباتهم هو الحياء من الناس، ويخافون استياء الرأي العام واستنكاره، فيمتنعون عن القيام بذلك. لأنهم يعلمون أنه إذا أقدموا على تلك الجرائم تعرضوا لسخط الجميع واستنكارهم، وعند ذاك تكون الحياة بالنسبة لهم جحيماً لا يطاق.

يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في حديثه للمفضل الجعفي، حول الحياء وأثره النفسي: (فولاه لم يُقر ضيف، ولم يوفَ بالعداة، ولم تُقض الحوائج، ولم ينحر الجميل، ولم يتنكب القبيح في شيء من الأشياء. حتى أن كثيراً من الأمور المقترضة أيضاً إنما يفعل للحياء. فإن من الناس من لولا الحياء لم يرع حق والديه، ولم يصل ذا رحم، ولم يؤد أمانة، ولم يعفّ عن فاحشة) (1) .

إن خشية استنكار الرأي العام، وخوف اللوم من الناس من أعظم العوامل الباعثة على رعاية القوانين للعالم المتحضر. ما أكثر القادة المتنفذين والأثرياء الماديين، والشبان والفتيات المستهترين، الذين يرغبون في تنفيذ رغباتهم وأهوائهم اللامشروعة، ولكنهم يخافون اعتراض الناس، ويخشون استنكار الرأي العام يضطرون للتراجع عن تحقيق ميولهم، وكبح أهوائهم والانقياد ليكونوا بمنجى عن اللوم والتفريع.

وقع الاستنكار:

لا شك في أن وقع استنكار الرأي العام في بعض الأحيان يكون أشد من عفوية السجن والسوط بكثير. ومن البديهي أنه عندئذ يكون تأثير الحياء في ضمان تطبيق القوانين أقوى من تأثير القرارات الجزائية.

____________________

(1) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج2/25.

٢٣٩

إن الرجل الذي سجن بسبب ارتكابه جريمة السرقة يتألم من محاكمته، ولكن إذا افتضح أمره وعرف في المجتمع بالخيانة والسرقة، فإن تألمه يكون أكثر. والمرأة التي ترتكب عملاً منافياً للعفة والشرف تتوطن لأن تسجن لمدة ستة أشهر، ولا ترضى بأن تعرف بين الناس بالاستهتار والزنا ستة أيام. وطبيعي أنه كلما كان المستوى التربوي والثقافي للأمة عالياً كان نفورها واستياؤها من الأعمال المنكرة أشد.

هذا النوع من الحياء الذي يضمن تطبيق القوانين، ويمنع الأفراد من الانحراف الاعتداء، من الصفات المحبذة والفاضلة بلا شك. وهو ممدوح في الإسلام وقد ورت أحاديث كثيرة تؤكد عليه.

وها أنا أقرأ عليكم نموذجاً منها:

1 - قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): (إذا لم تستح فافعل ما شئت) (1) أي أن الأفراد الفاقدين للحياء لا يتورعون عن الإجرام والاعتداء على حقوق الآخرين.

2 - عن علي (عليه السلام): (من قلّ حياؤه قلّ ورعه) (2) .

3 - وعنه (عليه السلام): (الحياء يصد عن فعل القبيح) (3) .

4 - عن الإمام الصادق (عليه السلام): (لا إيمان لمن لا حياء له) (4) .

5 - قال أبو محمد العسكري (عليه السلام): (من لم يتق وجوه الناس لم يتق الله) (5) .

6 - عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (من كساه الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه) (6) .

____________________

(1) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2|86.

(2) نهج البلاغة، شرح الفيض الأصفهاني ص 1239.

(3) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 51.

(4) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2|106.

(5) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج17|318.

(6) وسائل الشيعة للحر العاملي ح3|221.

٢٤٠