بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٦

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة0%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 601

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف:

الصفحات: 601
المشاهدات: 116222
تحميل: 5065


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 601 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 116222 / تحميل: 5065
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء 6

مؤلف:
العربية

فقال عليه السلام : هذه ممّا في بيتك ١ .

هذا و قال ابن أبي الحديد : ذمّ عليه السلام أهل البصرة فقال « عائلهم مجفو و غنيهم مدعو و العائل : الفقير » ، و هذا كقول الشاعر :

فإن تملق فأنت لنا عدو

فان تثر فأنت لنا صديق ٢

قلت : كلامه خبط ، فان قوله عليه السلام الجملة صفة « قوم » ، فهو ذمّ لذلك الرجل الذي دعا عثمان ، لأن طعامه لم يكن اللّه ، كما أن الشعر في مقام آخر غير ذمّ أحد ، فإنّه في مقام بيان أنّ الفقير مبغض إلى النّاس طبعا ، حتى أنّه لو كان صديقا يكون عندهم كالعدو و الغني بالعكس ، حتى أنّه لو كان عدوا كان عندهم كالصديق هذا ، و في ( العيون لابن قتيبة ) ، قال عدي بن حاتم لابن له حدث : قم بالباب فامنع من لا تعرف و أذن لمن تعرف فقال : لا و اللّه لا يكون أوّل شي‏ء وليته من أمر الدنيا منع قوم من الطعام ٣ .

« فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم » من قضمت الدابة شعيرها بالكسر « فما اشتبه عليك علمه » هل هو حلال أو حرام « فالفظه » من لفظ الشي‏ء من فمه ،

أي : رماه منه ، و ما رماه لفاظه .

و في ( المروج ) : كان لأنوشروان مائدة من الذهب عظيمة عليها أنواع من الجواهر مكتوب عليها من جوانبها « ليهنه طعامه من أكله من حلّه ، و عاد على ذوي الحاجة من فضله ، ما أكلته ، و أنت تشتهيه ، فقد أكلته ، و ما أكلته ، و أنت لا تشهيه ، فقد أكلك » ٤ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه الكليني في الكافي ٦ : ٢٧٦ ح ٤ ، و البرقي في المحاسن : ٤١٥ ح ١٦٩ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٠٦ .

( ٣ ) عيون ابن قتيبة ١ : ٣٣٥ .

( ٤ ) مروج الذهب ١ : ٢٩٤ .

٤٦١

« و ما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه » لعدم وجود تبعة فيه . في الخبر ولّى عليه السلام رجلا من ثقيف و قال له : إذا صلّيت الظهر فعد إليّ ، فعدت إليه فلم أجد عنده حاجبا ، فوجدته جالسا و عنده قدح و كوز ماء ، فدعا بوعاء مشدود مختوم فقلت في نفسي : لقد آمنني حتى أخرج إلي جوهرا ، فكسر الختم و حلّه فإذا فيه سويق ، فأخرج منه فصبّه في القدح و صبّ عليه ماء فشرب و سقاني ،

فلم أصبر أن قلت : أتصنع هذا في العراق و طعامه كما ترى في كثرته ؟ فقال :

أما و اللّه ما أختم عليه بخلا به ، و لكني أبتاع قدر ما يكفيني فأخاف أن ينقص ،

فيوضع فيه من غيره ، و أنا أكره أن يدخل بطني إلاّ طيّبا ، و إيّاك و تناول ما لا تعلم حلّه » ١ .

و في الخبر : ما من عبد إلاّ و به ملك يلوي عنقه وقت حدثه حتى ينظر إليه ثم يقول له الملك : يا ابن آدم هذا رزقك فانظر من أين أخذته و إلى ما صار ،

فينبغي عند ذلك أن يقول : اللّهمّ ارزقني الحلال و جنّبني الحرام ٢ .

« ألا و إنّ لكلّ مأموم إماما يقتدي به و يستضي‏ء بنور علمه » في ( الإرشاد ) :

خرج عليه السلام ذات ليلة من المسجد و كانت ليلة قمراء فأمّ الجبانة ، فلحقه جماعة يقفون أثره ، فوقف ثم قال : من أنتم ؟ قالوا : نحن شيعتك ، فتفرّس في وجوههم ثم قال : ما لي لا أرى عليكم سيماء الشيعة قالوا : و ما سيماء الشيعة ؟ قال :

صفر الوجوه من السهر ، عمش العيون من البكاء ، حدب الظهور من القيام ،

خمص البطون من الصيام ، ذبل الشفاه من الدعاء ، عليهم غبرة الخاشعين ٣ .

و في الخبر قال أبو الصباح الكناني للصادق عليه السلام : يكون بيننا و بين

ــــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه أحمد في الورع و أبو حاتم السجستاني في المعمرين و أبو نعيم في حلية الأولياء ، عنهم ذيل احقاق الحقّ ٨ : ٢٧٨ و ٢٧٩ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) الإرشاد : ١٢٧ .

( ٣ ) المصدر نفسه .

٤٦٢

الرجل الكلام فيقول : جعفري خبيث فقال عليه السلام : يعيركم النّاس بي ما أقلّ و اللّه من يتّبع جعفرا منكم إنّما أصحابي من اشتدّ ورعه ، و عمل لخالقه ، و رجا ثوابه .

و قال الكاظم عليه السلام : كثيرا ما كنت أسمع أبي يقول : ليس من شيعتنا من لا يتحدّث المخدرات بورعه في خدورهن ، و ليس من أوليائنا من هو في قرية عشرة آلاف رجل فيهم خلق للّه أورع منه ١ .

في ( تذكرة سبط ابن الجوزي ) عن كتاب ابن الغطريف بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال : نظر النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى علي عليه السلام فقال : هذا و شيعته هم الفائزون يوم القيامة ٢ .

« ألا و إن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه » بالكسر ، الثوب الخلق .

قال الباقر عليه السلام : كان علي عليه السلام يأكل أكل العبد و يجلس جلسة العبد ، و إنّه كان ليشتري القميصين السنبلانيين ، فيخيّر غلامه خيرهما ثم يلبس الآخر ،

فإذا جاز أصابعه قطعه ، و إذا جاز كعبيه حذفه ، و لقد ولّي خمس سنين ما وضع آجرة على آجرة ، و لا لبنة على لبنة ، و لا أقطع قطيعا و لا أورث بيضاء و لا حمراء ، و ان كان ليطعم النّاس خبز البر و اللحم و ينصرف إلى منزله و يأكل خبز الشعير و الزيت و الخل ٣ .

و في ( ذيل الطبري ) : كان عطاء سلمان خمسة آلاف ، و كان على ثلاثين ألفا من النّاس يخطب في عباءة يفترش نصفها و يلبس نصفها ، و كان إذا خرج

ــــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجهما الكليني في الكافي ٢ : ٧٧ و ٧٩ ح ٦ و ١٥ .

( ٢ ) تذكرة الخواص : ٥٣ .

( ٣ ) أخرجه الصدوق في أماليه : ٢٣٢ ح ١٤ ، المجلس ٤٧ ، و أبو جعفر الطوسي في أماليه ٢ : ٣٠٣ ، المجلس ٢١ ، و النقل بتصرف يسير .

٤٦٣

عطاؤه أمضاه و يأكل من سفيف يده ١ .

« و من طعمه بقرصيه » و أدامه الملح أو اللبن الحامض ، فعن سويد بن غفلة : دخلت على علي عليه السلام فوجدت بين يديه إناء فيه لبن أجد ريح حموضته ،

و في يده رغيف أرى قشير الشعر في وجهه ، و هو يكسره بيده و يطرحه فيه ،

فقال : أدن فأصب من طعامنا ، فقلت : إنّي صائم . فقلت لفضة و هي بقرب منه قائمة ويحك ألا تتقين اللّه في هذا الشيخ بنخل هذا الطعام ؟ قالت : تقدم إلينا ألا ننخل له طعاما . قال : ما قلت لها ؟ فأخبرته فقال : بأبي و امّي من لم ينخل له طعام ، و لم يشبع من خبز البر ثلاثة أيّام حتى قبضه اللّه ٢ و كان عليه السلام يجعل جريش الشعير في وعاء و يختم عليه ، فقيل له في ذلك فقال : أخاف هذين الولدين أن يجعلا فيه شيئا من زيت أو سمن ٣ .

في ( رجال الكشي ) : قال أبوذر : من جزى اللّه عنه الدنيا خيرا ، فجزاه اللّه عني مذمة ، بعد رغيفي شعير أتغذّى بأحدهما و أتعشّى بالآخر ، و بعد شملتي صوف اتّزر بإحداهما و أرتدي الاخرى ٤ .

« ألا و إنّكم لا تقدرون على ذلك » إنّما كان يقتدى به في الملبس و المطعم سلمان ، و أبوذر كما مرّ .

و في ( جمل المفيد ) عن الواقدي أنّه عليه السلام في حرب البصرة دعا بدرعه البتراء و لم يلبسها بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلاّ يومئذ فكان بين كتفيه منها متوهيا ،

و جاء و في يده شسع نعل ، فقال له ابن عباس : ما تريد بهذا الشسع ؟ قال : أربط بها ما قد توهّى من هذا الدرع من خلفي . فقال له : أفي مثل هذا اليوم تلبس مثل

ــــــــــــــــــ

( ١ ) منتخب ذيل المذيل : ٥٠ .

( ٢ ) رواه الخوارزمي في مناقبه : ٦٧ . و السروي في مناقبه ٢ : ٩٨ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٣ ) روى هذا ابن أبي الحديد في شرحه ١ : ٢٦ .

( ٤ ) اختيار معرفة الرجال : ٢٨ ح ٥٤ .

٤٦٤

هذا ؟ فقال عليه السلام : لا تخف أن أوتي من ورائي ، و اللّه يا ابن عباس ما ولّيت في زحف قط ١ .

و في النهج قال ابن عباس : دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار ( عند خروجه إلى الجمل ) و هو يخصف نعله ، فقال لي : ما قيمة هذا النعل ؟ فقلت : لا قيمة لها . فقال عليه السلام : و اللّه لهي أحب إليّ من أمرتكم الخ ٢ .

و في ( تذكرة سبط ابن الجوزي ) عن الأحنف بن قيس قال : دخلت على معاوية فقدّم إلي من الحلو و الحامض ما كثر تعجّبي منه ، ثم قال : قدّموا ذلك اللون فقدّموا لونا ما أدري ما هو ، فقال : مصارين البط محشوة بالمخ و دهن الفستق قد ذر عليه السكر . قال : فبكيت فقال :

ما يبكيك ؟ فقلت : للّه درّ ابن أبي طالب ، لقد جاء من نفسه بما لم تسمح به أنت و لا غيرك . فقال : و كيف ؟ قلت : دخلت عليه ليلة عند افطاره ، فقال لي : قم فتعشّ مع الحسن و الحسين ثم قام إلى الصلاة ، فلما فرغ دعا بجراب مختوم بخاتمه فأخرج منه شعيرا مطحونا ثم ختمه ، فقلت :

لم أعهدك بخيلا يا أمير المؤمنين ، فقال : لم أختمه بخلا و لكن خفت أن يبسّه الحسن أو الحسين بسمن أو اهالة . فقلت : أحرام هو ؟ قال : لا و لكن على أئمة الحقّ أن يتأسّوا بأضعف رعيتهم حالا في الأكل و اللباس ، و لا يتميّزون عليهم بشي‏ء ، ليراهم الفقير فيرضى عن اللّه تعالى بما هو فيه ، و يراهم الغني فيزداد شكرا و تواضعا ٣ .

« و لكن أعينوني بورع » عن المحارم قال تعالى : إنّما يتقبّل اللّه

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الجمل : ١٨٩ .

( ٢ ) نهج البلاغة ١ : ٨٠ ، الخطبة ٣٣ .

( ٣ ) تذكرة الخواص : ١١٠ ، و النقل بتصرف يسير .

٤٦٥

من المتّقين ١ و قال نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : أفضل الأعمال الورع عن محارمه ٢ .

« و اجتهاد » في الطاعات و العبادات . قال الصادق : كان علي عليه السلام ليعمل عمل رجل كان وجهه بين الجنّة و النّار ، يرجو ثواب هذه و يخاف عقاب هذه ٣ .

و كان عليه السلام لا تفوته عبادة حتّى إعانة المرأة و الكسب و غرس الأشجار .

قال الباقر عليه السلام : كان علي عليه السلام ما ورد عليه أمران كلاهما رضا للّه إلاّ أخذ بأشدّهما على بدنه ٤ ، و لقد اعتق ألف مملوك من كدّ يده ، تربت فيه يداه ، و عرق فيه وجهه و ما أطاق عمله أحد من النّاس ، و إنّه كان يصلّي في اليوم و الليلة ألف ركعة ، و كان أقرب النّاس شبها به حفيده علي بن الحسين عليه السلام و ما أطاق عمله أحد من النّاس بعده .

و قال الحسن عليه السلام صبيحة وفاته كما في ( مقاتل أبي الفرج ) لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل ، و لا يدركه الآخرون بعمل ، و لقد كان يجاهد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيقيه بنفسه ، و لقد كان يوجّهه برايته ،

فيكتنفه جبرئيل عن يمينه و ميكائيل عن يساره ، فلا يرجع حتى يفتح اللّه عليه الخبر ٥ .

و روي عنه عليه السلام أنّه قال : ما تركت صوم شعبان بعد ما سمعت منادي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : إنّ شعبان شهري ، فأعينوني على صيامه ٦ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) المائدة : ٢٧ .

( ٢ ) روى هذا المعنى بألفاظ مختلفة المجلسي في البحار ٧٠ : ٢٩٦ ، باب ٥٧ ، و المتقي الهندي في منتخب كنز العمال ١ : ٢٥٤ و ٢٥٥ .

( ٣ ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه ٤ : ١١٠ ، و النقل بالمعنى .

( ٤ ) رواه السروي في مناقبه ٢ : ١٠٣ . عن الباقر عليه السلام و ابن أبي الحديد في شرحه ٤ : ١١٠ عن الصادق عليه السلام .

( ٥ ) مقاتل الطالبيين : ٣٢ .

( ٦ ) رواه الطوسي في المصباح : ٧٥٧ ، و ابن طاووس في الاقبال ، عنه البحار ٩٧ : ٧٩ ح ٤٤ ، و النقل بالمعنى .

٤٦٦
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد السادس الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

و كان عليه السلام يرد بيته بعد الظهر ، فإن كان طعام أتى عليه السلام به و إلاّ كان ينوي الصيام .

و ورد في إنفاقه عليه السلام آيات الذين ينفقون أموالهم بالليل و النّهار سرّا و علانية فلهم أجرهم عند ربهم و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون ١ و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة ٢ و يطعمون الطّعام على حبّه مسكيناً و يتيماً و أسيراً . إنّما نطعمكم لوجه اللّه لا نريد منكم جزاءً و لا شُكوراً . إنّا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً . فوقاهم اللّه شرّ ذلك اليوم و لقّاهم نظرة و سروراً . و جزاهم بما صبروا جنّة و حريراً إلى قوله تعالى : إن هذا كان لكم جزاءً و كان سعيكم مشكوراً ٣ .

و في الخبر : كان علي عليه السلام يمشي في الأسواق وحده و هو وال يرشد الضّالّ و يعين الضعيف ، و يمرّ بالبقال و البيّاع فيفتح عليه ، و يتلو : تلك الدار الآخرة نجعلها للّذين لا يريدون علوّاً في الأرض و لا فساداً و العاقبة للمتّقين ٤ و يقول نزلت هذه الآية في أهل العدل و التواضع من الولاة و أهل القدرة ٥ .

و جاء في الأثر : كان علي عليه السلام يحتطب ، و يستسقي ، و يكنس ، و كانت فاطمة عليها السلام تطحن و تعجن و تخبز ٦ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) البقرة : ٢٧٤ .

( ٢ ) الحشر : ٩ .

( ٣ ) الانسان : ٨ : ٢٢ .

( ٤ ) القصص : ٨٣ .

( ٥ ) رواه الطبرسي في مجمع البيان ٧ : ٢٦٩ ، و السروي في مناقبه ٢ : ١٠٤ .

( ٦ ) رواه السروي في مناقبه ٢ : ١٠٤ .

٤٦٧

و في الخبر أنّه عليه السلام غرس مائة ألف نخلة ١ .

« و عفّة » قال رجل للباقر عليه السلام : إنّي ضعيف العمل قليل الصيام ، و لكنّي أرجو ألاّ آكل إلاّ حلالا ، فقال عليه السلام له : أيّ الاجتهاد أفضل من عفّة بطن و فرج ٢ .

« و سداد » بالفتح إنّ الّذين قالوا ربّنا اللّه ثمّ استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة ألاّ تخافوا و لا تحزنوا و أبشروا بالجنّة التي كنتم توعدون . نحن أوليائكم في الحياة الدّنيا و في الآخرة ، و لكم فيها ما تشتهي أنفسكم و لكم فيها ما تدّعون ٣ .

« فو اللّه ما كنزت من دنياكم تبرا » التبر : الذهب غير المضروب ، فإذا ضرب فهو عين .

في ( الكافي ) : قال عبد الأعلى مولى آل سام لأبي عبد اللّه عليه السلام : إنّ النّاس يرون أنّ لك مالا كثيرا ، فقال : ما يسوؤني ذلك إنّ أمير المؤمنين عليه السلام مرّ ذات يوم على ناس شتى من قريش و عليه قميص مخرّق ، فقالوا : أصبح علي لا مال له ، فسمعها عليه السلام فأمر الذي يلي صدقته أن يجمع تمره و لا يبعث إلى انسان شيئا و أن يوفّره ، ثم قال له بع الأوّل فالأوّل و اجعلها دراهم ثمّ اجعلها حيث يجعل التّمر ، فاكبسه معه حيث لا يرى ، و قال للذي يقوم عليه إذا دعوت بالتّمر فاصعد و انظر المال فاضربه برجلك كأنّك لا تعمد الدراهم حتى تنثرها ، ثم بعث إلى رجل منهم يدعوهم ، ثم دعا بالتمر ، فلما صعد ينزل بالتمر ضرب برجله فانتشرت الدراهم فقالوا : ما هذا يا أبا الحسن ؟ قال : هذا مال من لا مال له ثمّ أمر بذلك المال فقال : انظروا كلّ أهل بيت ابعث إليهم ،

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه الكليني في الكافي ٥ : ٧٤ ح ٦ .

( ٢ ) رواه الكليني في الكافي ٢ : ٧٩ ح ٤ .

( ٣ ) فصلت : ٣٠ ٣١ .

٤٦٨

فانظروا ماله ، و ابعثوا له ١ .

« و لا ادّخرت من غنائمها وفرا » أي : مالا كثيرا كالنّاس .

في ( المروج ) : بنى عثمان داره في المدينة و شيّدها بالحجر و الكلس ،

و جعل أبوابها من الساج و العرعر ، و اقتنى اموالا و جنانا و عيونا بالمدينة ،

و كان عند خازنه يوم قتل من المال خمسون و مائة ألف دينار و ألف ألف درهم ، و قيمة ضياعه بوادي القرى و حنين و غيرهما مائة ألف دينار ، و خلّف خيلا كثيرا و إبلا و بلغ مال الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار ، و خلّف ألف فرس و ألف عبد و ألف أمة و خططا في البصرة و الكوفة و مصر و الاسكندرية و داره بالبصرة المعروفة به في هذا الوقت سنة ( ٣٣٢ ) تنزلها التّجار ، و أرباب الأموال ، و أصحاب الجهات من البحرين و غيرهم .

و كذلك طلحة داره بالكوفة المشهورة به في هذا الوقت المعروفة بالكناس بدار الطلحيين ، و كانت غلته من العراق كلّ يوم ألف دينار و قيل أكثر ،

و بناحيته سراة أكثر ، و شيّد داره بالمدينة و بناها بالآجر و الجصّ و الساج .

و كذلك عبد الرحمن بن عوف ابتنى داره و وسّعها و كان على مربطه مائة فرس و له ألف بعير و عشرة آلاف من الغنم ، و بلغ ربع ثمن ماله أربعة و ثمانين ألفا .

و ذكر سعيد بن المسيّب ، أن زيد بن ثابت خلّف من الذهب و الفضة ما كان يكسر بالفؤوس ، غير ما خلف من الأموال و الضياع بقيمة مائة ألف دينار .

و مات يعلى بن اميّة و خلف خمسمائة ألف دينار ، و ديونا على النّاس

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي ٦ : ٤٣٩ ح ٨ ، و النقل بتصرف يسير .

٤٦٩

و عقارات و غيرها ما قيمته مائة ألف دينار ١ .

في ( جمل المفيد ) : روى الثوري عن داود بن أبي هند عن أبي حريز الأسود قال : لما قدم طلحة و الزبير البصرة أرسلا إلى أناس من أهل البصرة أنا فيهم ، فدخلنا بيت المال معهما ، فلما رأيا ما فيه من الأموال قالا : هذا ما وعدنا اللّه و رسوله وعدكم اللّه مغانم كثيرة تأخذونها فعجّل لكم هذه و قالا : نحن أحقّ بهذا المال من كلّ أحد إلى أن قال بعد ظفره عليه السلام دعانا علي عليه السلام فدخلنا معه بيت المال ، فلما رأى ما فيه ضرب إحدى يديه على الاخرى و قال : غري غيري و قسّمه بين أصحابه خمسمائة خمسمائة بالسوية حتى لم يبق إلاّ خمسمائة درهم و عزلها لنفسه ، جاءه رجل و قال : إنّ اسمي سقط من كتابك ، فقال عليه السلام : ردّوها عليه . ثم قال : الحمد للّه الذي لم يصل إليّ من هذا المال شيئا و وفّره على المسلمين .

و فيه روى أبو مخنف عن رجاله قال : لمّا أراد علي عليه السلام التوجّه إلى الكوفة قام في أهل البصرة ، فقال : ما تنقمون علي يا أهل البصرة و اللّه إنّهما و أشار إلى قميصه و ردائه لمن غزل أهلي ، و ما تنقمون مني يا أهل البصرة و اللّه ما هي و أشار إلى صرّة في يده فيها نفقته إلاّ من غلّتي بالمدينة ، فإن أنا خرجت من عندكم بأكثر ممّا ترون فأنا عند اللّه من الخائنين ٢ .

« و لا أعددت لبالي » أي : اندراس « ثوبي طمرا » . و في الخبر أنّه عليه السلام كان يغسل ثوبه و يلبسه و يجفّه على بدنه لعدم وجود عوض له « و لا حزت من أرضها شبرا و لا أخذت منه إلاّ كقوت اتان » انثى الحمار « دبره » من « دبر البعير و أدبره القتب » .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) مروج الذهب ٢ : ٣٣٢ و ٣٣٣ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) الجمل : ٢١٤ و ٢٢٤ ، و النقل بتصرف يسير .

٤٧٠

« و لهي في عيني أوهى و أهون من عفصة » من « طعام عفص » فيه تقبض « مقره » من « مقر الشي‏ء » صار مرّا ، و ليس في ( ابن ميثم ) قوله « و لا حزت » إلى هنا و انما هو في ابن أبي الحديد أخذته ( المصرية ) عنه ، لكن ، ليس فيه « أوهى و أهون » معا ، و الظاهر أنّها رأتهما بالنسخة البدليّة فجمعت بينهما ١ .

قوله عليه السلام « و إنّما هي نفسي اروضها » من رضت المهر أروضه رياضا و رياضة ، أو من روّضته للمبالغة « بالتقوى » . في الخبر : بعث النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سريّة ، فلمّا رجعوا قال : مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر ، و بقي عليهم الجهاد الأكبر . قيل له : و ما الجهاد الأكبر ؟ قال : جهاد النفس ، أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه ٢ .

و في ( الحلية ) ، في سفيان بن عيينة : عن عاصم بن كليب عن أبيه أنّ عليّا عليه السلام قسّم ما في بيت المال على سبعة أسباع ، ثم وجد رغيفا فكسره سبع كسر ، ثمّ دعا أمراء الأجناد فأقرع بينهم و عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه قال : رأيت الغنم تبعر في بيت مال علي عليه السلام فيقسّمه .

و عن الأعمش عن رجل : إنّ عليّا عليه السلام كان إذا قسّم ما في بيت المال نضحه ثمّ صلّى فيه ركعتين ٣ .

« لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر و تثبت على جوانب المزلق » مزلق الأقدام يوم لا ينفع مال و لا بنون إلاّ من أتى اللّه بقلب سليم ٤ ، الذين آمنوا

ــــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٠٧ ، و شرح ابن ميثم ٥ : ٩٩ .

( ٢ ) هذا تلفيق حديثين أخرجهما الصدوق في أماليه : ٣٧٧ ح ٨ ، المجلس ٧١ ، و في معاني الأخبار : ١٦٠ ح ١ ، و ابن الأشعث في الاشعثيات : ٧٨ ، و أخرج الأوّل الكليني في الكافي ٥ : ١٢ ح ٣ .

( ٣ ) حلية الأولياء ٧ : ٣٠٠ .

( ٤ ) الشعراء : ٨٨ ٨٩ .

٤٧١

و لم يلبسوا إيمانهم بظلم اولئك لهم الأمن و هم مهتدون ١ و إن منكم إلاّ واردها كان على ربّك حتما مقضيّاً . ثمّ ننجي الذين اتّقوا و نذر الظّالمين فيها جثيّاً ٢ تلك الجنّة التي نورث من عبادنا من كان تقيّا ٣ .

و في الخبر : على الصراط قنطرة ، لا يجوزها من كان في رقبته مظلمة ٤ .

ورد في تفسير قوله تعالى : إنّ ربّك لبالمرصاد ٥ لا تدع النفس و هواها ، فإن هواها في رداها ، و كفّ النفس عمّا يهوى دواها .

هذا ، و نظر رجل إلى روح بن حاتم واقفا في الشمس ، فقيل له في ذلك ،

فقال : ليطول وقوفي في الظل .

أهين لهم نفسي لأكرمها بهم

و من يكرم النّفس التي لا تهينها

« و لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل » . في ( المروج ) :

استسقى عليه السلام يوم الجمل فأتي بعسل و ماء ، فحسا منه حسوة و قال :

هذا الطائفي ، و هو غريب بهذا البلد ، فقال له عبد اللّه بن جعفر : أما شغلك ما نحن فيه عن علم هذا ؟ قال : انّه و اللّه يا بنيّ ما ملأ صدر عمّك شي‏ء قط من أمر الدّنيا ٦ .

« و لباب » بالضم اللب ضدّ القشر ، قال :

أ ليس بذي المكارم في قريش

إذا عدّت ، و ذي الحسب اللباب ٧

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الانعام : ٨٢ .

( ٢ ) مريم : ٧١ .

( ٣ ) مريم : ٦٣ .

( ٤ ) أخرجه الكليني في الكافي ٢ : ٣٣١ ح ٢ ، و غيره و النقل بتصرف يسير .

( ٥ ) الفجر : ١٤ .

( ٦ ) مروج الذهب ٢ : ٣٦٨ .

( ٧ ) أورده أساس البلاغة : ٤٠٢ ، مادة ( لب ) .

٤٧٢

« هذا القمح » أي : البّرّ ، و في حديث الحسن البصري « لباب البرّ بلعاب النحل » ١ .

هذا ، و في ( النفحة ) : أرسل سنّيّ إلى شيعيّ شيئا من الحنطة و كانت عتيقة فردّها عليه ، ثم أرسل إليه عوضها جديدة لكن فيها تراب ، فكتب إليه بعد قبولها :

بعثت لنا بدال البرّ برّا

رجاء للجزيل من الثواب

رفضناه عتيقا و ارتضينا

به إذ جاء و هو أبو تراب

و لا يخفى ما فيه من النكات اللطيفة ، جمعه بين الرفض دلالة على تشيعه ، و تركه العتيق و هو لقب أبي بكر ، و المرتضى لقب أمير المؤمنين ،

و أبي تراب كنيته عليه السلام .

« و نسائج » جمع نسيج ، أي : منسوجات « هذا القز » أي : الإبريسم .

و كان يقال لعمرو بن عامر من ملوك اليمن « مزيقياء » ، لأنّه كان يلبس كلّ يوم حلّتين ، فيمزّقهما بالعشي ، و يكره أن يعود فيهما ، و يأنف أن يلبسهما غيره .

قال ابن أبي الحديد : روى بدل قوله عليه السلام « و لو شئت إلى هذا القز » « و لو شئت لاهتديت إلى هذا العسل المصفّى و لباب هذا البرّ المنقّى ، فضربت هذا بذاك حتّى ينضح وقودا و يستحكم معقودا » ٢ .

قلت : و روى ابن بابويه في ( أماليه ) : « و لو شئت لتسربلت بالعبقريّ المنقوش من ديباجكم ، و لأكلت لباب هذا البرّ بصدور دجاجكم ، و لشربت الماء الزلال برقيق زجاجكم ، و لكنّي أصدّق اللّه جلّت عظمته حيث يقول : من

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه عنه أساس البلاغة : ٤٠٢ ، مادة ( لب ) .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٨٧ .

٤٧٣

كان يريد الحياة الدنيا و زينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها و هم فيها لا يبخسون . أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلاّ النّار ١ ، فكيف أستطيع الصبر على نار لو قذفت بشرره إلى الأرض لأحرقت نبتها ، و لو اعتصمت نفس بقلّة لأنضجها وهج النّار في قلّتها » ٢ .

« و لكن هيهات » أي : بعد « أن يغلبني هواي » و أمّا من خاف مقام ربّه و نهى النّفس عن الهوى . فإنّ الجنّة هي المأوى ٣ .

« و يقودني جشعي » الجشع : شدّة الحرص على الطعام ، قال :

و إن مدّت الأيدي إلى الزاد لم أكن

بأعجلهم إذا عجل القوم أجشع

« إلى تخيّر الأطعمة » قالوا : من كان همّه ما يدخل في بطنه ، كانت قيمته ما يخرج من بطنه .

« و لعلّ بالحجاز » في ( المعجم ) عن الأصمعي : الحجاز : من تخوم صنعاء من العبلاء و تبالة إلى تخوم الشام ، و انما سمّي حجازا لأنه حجز بين تهامة و نجد ، فمكّة تهاميّة ، و المدينة حجازية ، و الطائف حجازيّة ، و عن هشام الحجاز ما بين جبلي طي إلى طريق العراق لمن يريد مكّة ٤ .

و في ( الصحاح ) : سمّيت بذلك لأنّها حجزت بين نجد و الغور ، و قال الأصمعي لأنّها احتجزت بالحرار الخمس منها حرّة بني سليم و حرّة واقم ،

يقال : احتجز بأزار ، أي : شدّه على وسطه ٥ .

« أو اليمامة » في ( المعجم ) : في السير اليمامة كانت منازل طسم و جديس

ــــــــــــــــــ

( ١ ) هود : ١٥ و ١٦ .

( ٢ ) أمالي الصدوق : ٤٩٦ ، المجلس ٩٠ .

( ٣ ) النازعات : ٤٠ و ٤١ .

( ٤ ) معجم البلدان ٢ : ٢١٩ .

( ٥ ) صحاح اللغة ٢ : ٨٦٩ ، مادة ( حجز ) .

٤٧٤

و كانت تدعى جوا ١ .

و في ( الصحاح ) : اليمامة : اسم جارية زرقاء كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام ، يقال أبصر من زرقاء اليمامة ،

سمّيت البلاد باسم هذه الجارية ٢ .

« من لا طمع له في القرص و لا عهد له بالشبع » في ( عيون القتيبي ) : قيل ليوسف عليه السلام مالك تجوع و أنت على خزائن الأرض ؟ قال : أخاف أن أشبع فأنسى الجائع ٣ .

« أو أبيت مبطانا » ممتلأ البطن « و حولي بطون غرثى » أي : جائعة . قال بعضهم :

يملّى‏ء بطنه و الجار جائع

و يحفظ ماله و العرض ضائع

« و أكباد حرّى » أي : عطشى . كتب المأمون إلى الرستمي و قد تظلّم منه غريم ليس من المروة أن تكون أوانيك من الذهب و الفضة ، و جارك طاو و غريمك عاو .

و لدعبل :

و ضيف عمرو و عمرو يسهران معا

عمرو لبطنته و الضيف للجوع

و للصابي :

و شبع الفتى لؤم

إذا جاع صاحبه

و في ( عقاب الأعمال ) عن السجاد عليه السلام : من بات شبعان و بحضرته مؤمن جائع طاو ، قال اللّه عزّ و جلّ : ملائكتي أشهدكم على هذا العبد إنّني أمرته

ــــــــــــــــــ

( ١ ) معجم البلدان ٥ : ٤٤٢ .

( ٢ ) صحاح اللغة ٥ : ٢٠٦٥ ، مادة ( يم ) .

( ٣ ) عيون ابن قتيبة ٢ : ٣٧٤ .

٤٧٥

فعصاني ، و أطاع غيري ، وكلته إلى عمله ، و عزّتي و جلالي لا غفرت له أبدا ١ .

« أو أكون كما قال القائل :

و حسبك داء أن تبيت ببطنة

و حولك أكباد تحنّ إلى القد »

القدّ بالكسر : سير يقد من جلد غير مدبوغ ، و فلان ما يعرف القد من القد ،

أي : مسك السخلة من السير ، و في الجمهرة قدّ الشي‏ء قدّا إذا قطعه قطعا مستطيلا ، و به سمّي القد الذي يقد من الأديم الفطير ، و القدّ ( بفتح القاف ) خلاف القط ، لأن القد طولا و القط عرضا ، و في الحديث « إنّ عليّا عليه السلام كان إذا اعتلى قدّ و إذا اعترض قط » ، و القد ( بكسر القاف ) سيور تقد من جلد فطير يشد بها الأقتاب و المحامل و غيرها ٢ .

قال ابن أبي الحديد : هذا البيت منسوب إلى حاتم الطائي ، و أوّل أبياته :

أيا ابنة عبد اللّه و ابنة مالك

و يا ابنة ذي الجدّين و الفرس الورد

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له

أكيلا فإنّي لست آكله وحدي

قصيّا بعيدا أو قريبا فإنّني

أخاف مذمّات الأحاديث من بعدي

كفى بك عارا أن تبيت ببطنة

و حولك أكباد تحنّ إلى القدّ

و إنّي لعبد الضيف ما دام نازلا

و ما من خلالي غيرها شيمة العبد ٣

قلت : لم يذكر مستنده في كون الأبيات لحاتم ، و قد نسب المبرد في ( كامله ) الأبيات الثلاثة الاولى و الأخير إلى قيس بن عاصم المنقري ، و لم ينقل فيها الرابع شعر كلامه عليه السلام . و نقل ابن قتيبة في ( عيونه ) أيضا الأبيات الثلاثة الاولى و ذكر بدل الأخيرين :

ــــــــــــــــــ

( ١ ) عقاب الأعمال : ٢٩٨ ح ١ .

( ٢ ) جمهرة اللغة ١ : ٨٥ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٨٨ .

٤٧٦

و كيف يسيغ المرء زادا و جاره

خفيف المعى بادي الخصاصة و الجهد

و للموت خير من زيارة باخل

يلاحظ أطراف الأكيل على عمد

و لم يذكر قائلها ١ ، فلعلّ ابن أبي الحديد قال منسوب إلى حاتم حدسا لشهرته في الجود و الإيثار ، فكان يتجوّع و يشبع جاره ففي ( شعراء ابن قتيبة ) : قالت نوّار امرأة حاتم : أصابتنا سنة أقشعرّت لها الأرض و اغبرّت الآفاق ، فضنّت المراضع عن أولادها فما تبض بطرة و راحت الإبل حدبا حدابيس ، و حلقت ألسنة المال و أيقنا انّه الهلاك من الجوع ،

فقام حاتم إلى الصبيّين و قمت إلى الصبيّة ، فو اللّه ما سكتوا إلاّ بعد هدأة من الليل ، و أقبل يعلّلني بالحديث فعلمت الذي يريد فتناومت ، فلما تجوّرت النجوم إذا شي‏ء قد رفع كسر البيت ، فقال : من هذا ؟ فذهب ثم عاد فقال : من هذا ؟ فذهب ثم عاد في آخر الليل ، فقال : من هذا ؟ فقال : جارتك فلانة أتتك من عند أصبية يتعاوون عواء الذئاب من الجوع فما أجد معولا إلاّ عليك أبا عدي . فقال :

أعجيلهم قد أشبعك اللّه و إيّاهم . فأقبلت المرأة تحمل اثنين و تمشي جنباتها أربعة كأنها نعامة حولها رئالها ، فقام إلى فرسه ، فوجا لبته بمدية ثم كشطه و دفع المدية إلى المرأة فقال : شأنك الآن فاجتمعوا على اللحم ، فقال : سوأة أتأكلون دون الصريم ، ثم أقبل يأتيهم بيتا بيتا ، و يقول : هبّوا أيها القوم عليكم بالنّار ، فاجتمعوا فالتفع ناحية بثوبه ينظر إلينا ، و لا و اللّه ما ذاق منه مضغة و انّه لأحوج إليه منّا فأصبحنا و ما على الأرض إلاّ عظم و حافر ، فعذلته على ذلك فقال :

ــــــــــــــــــ

( ١ ) كامل المبرد ٥ : ١٤٤ ، و عيون ابن قتيبة ٣ : ٢٦٣ .

٤٧٧

مهلا نوّار أقلّي اللوم و العذلا

و لا تقولي لشي‏ء فات ما فعلا

و فيه أيضا : أتى حاتم ماوية بنت عفرز يخطبها ، فوجد عندها النابغة الذبياني و رجلا من نبيت يخطبانها ، فقالت : انقبلوا إلى رحالكم ، و ليقل كلّ واحد منكم شعرا يذكر فيه فعاله و منصبه ، فإنّي متزوّجة أكرمكم و أشعركم ،

فانطلقوا و نحر كلّ واحد منهم جزورا و لبست ماوية ثياب امة لها و اتبعتهم ،

فأتت النبيتي فاستطعمته فأطعمها ذنب جزوره فأخذته ، و أتت النابغة فأطعمها مثل ذلك ، و أتت حاتما فأطعمها عظما من العجز و قطعة من السنام و قطعة من الحارك أي الكاهل فانصرفت ، و أهدى كلّ منهم باقي جزوره و أهدى لها حاتم مثل ما أهدى إلى واحدة من جاراته ، و صبّحها القوم فأنشدها النابغة :

هلاّ سألت هداك اللّه ما حسبي

إذا الدّخان تغشى الأشمط البرما

إنّي أتمم أيساري و أمنحهم

مثنى الأيادي و أكسوا الجفنة الأدما

و أنشدها النبيتي :

هلاّ سألت هداك اللّه ما حسبي

عند الشتاء إذا ما هبت الريح

إذا اللقاح غدت ملقى اصرتها

و لا كريم من الولدان مصبوح

و أنشدها حاتم :

أ ماوي ، إنّ المال غاد و رائح

و يبقى من المال الأحاديث و الذكر

أ ماوي ، إنّي لا أقول لسائل

إذا جاء يوما حل في مالنا نزر

أ ماوي إمّا مانع فمبين

و إمّا عطاء لا ينهنهه الزجر

أ ماوي ، أن يصبح صداي بقفرة

من الأرض لا ماء لدي و لا خمر

ترى ان ما انفقت لم يك ضرّني

و إنّ يدي ممّا بخلت به صفر

و قد علم الأقوام لو أنّ حاتما

أراد ثراء المال كان له وفر

فلمّا فرغوا من إنشادهم ، دعت بالمائدة و قدّمت إلى كلّ واحد

٤٧٨

منهم ما كان أطعمها ، فنكس النبيتي و النابغة رؤوسهما ، فلما رأى حاتم ذلك رمى بالذي قدّم إليه إليهما و أطعمهما ، فتسلّلا لو اذا ، فتزوّجت حاتم و كانت من بنات ملوك اليمن ١ .

و في ( المروج ) : قال عبد الملك لبنيه : أحسابكم أحسابكم صونوها ببذل أموالكم ، فما يبالي رجل منكم ما قيل فيه من الهجو بعد قول الأعشى :

تبيتون في المشتى ملآ بطونكم

و جاراتكم غرثى يبتن خمائصا ٢

و في ( كنايات الثعالبي ) : كان أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إذا قعدوا عنده كأنّ على رؤوسهم الطير ، فانبرى يوما حسّان فأنشده قول الأعشى :

كلا أبويكم كان فرعي دعامة

و لكنّهم زادوا او أصبحت ناقصا

تبيتون في المشتى ملا بطونكم

و جاراتكم غرثى يبتن خمائصا

فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : لا تنشد هجاء علقمة ، فإن أبا سفيان شغب منّي عند هرقل فعزب عليه علقمة ، فقال حسّان : يا رسول اللّه ، من نالتك يده وجب علينا شكره . فما سمع في الكناية عن الوقيعة بأحسن من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم « شغب مني » و لا في الكناية عن الإنكار و الاحتجاج كقوله « فعزب عليه » و لا في الاعتذار كقول حسان « من نالتك يده » الخ ٣ .

هذا ، و في ( الأغاني ) : قال متمم بن نويرة لعمر لمّا سأله عن أخيه مالك : إنّه أسرني حيّ من العرب ، فشدّوني وثاقا بالقد و ألقوني بفنائهم ،

فبلغه خبري فأقبل على راحلته حتى انتهى إلى القوم و هم جلوس في ناديهم ،

فلما نظر إليّ أعرض عنّي ، و نظر القوم إليه فعدل إليهم و عرفت ما أراد ، فسلّم

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الشعر و الشعراء : ٧١ ٧٤ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) مروج الذهب ٣ : ١٦٦ .

( ٣ ) منتخب النهاية في الكناية : ٢٠٩ .

٤٧٩

عليهم و حادثهم و ضاحكهم و أنشدهم ، فو اللّه ، إن زال كذلك حتى ملأهم سرورا و حضر غداءهم ، فسألوه ليتغدّى معهم فنزل و أكل ثم نظر إليّ و قال :

إنّه لقبيح بنا أن نأكل و رجل ملقى بين أيدينا لا يأكل معنا ، و أمسك يده عن الطعام ، فلما رأى ذلك القوم نهضوا ، و صبّوا الماء على قدّي حتى لان و حلّوني ،

ثم جاءوا بي فأجلسوني معهم على الغداء ، فلمّا أكلنا قال لهم : أما ترون ، تحرم هذا بنا و أكل معنا انّه لقبيح بكم أن تردوه إلى القد فخلوا سبيلي ١ .

و فيه : مرّ فضالة بن شريك بعاصم بن عمر بن الخطاب و هو منتبذ بناحية المدينة ، فنزل به ، فلم يقره شيئا و لم يبعث إليه و لا إلى أصحابه بشي‏ء .

و قد عرّفوه مكانهم ، فارتحلوا عنه و التفت فضالة إلى مولى لعاصم فقال له : قل له ، أما و اللّه لأطوقنّك طوقا لا يبلى . و قال :

ألا أيّها الباغي القرى لست واجدا

قراك إذا ما بتّ في دار عاصم

إذا جئته تبغي القرى بات نائما

بطينا و أمسى ضيفه غير نائم ٢

و روي في ( الحلية ) : أن أويس القرني كان إذا أمسى تصدّق بما في بيته من الفضل من الطعام و الثياب ، ثم يقول : اللّهمّ من مات جوعا فلا تؤاخذني به ،

و من مات عريانا فلا تؤاخذني به ٣ .

هذا ، و روي أنّ علي بن الحسين عليه السلام قال لمولاة له يوم جمعة : لا يعبر على بابي سائل إلاّ أعطيتموه ، فإن اليوم الجمعة . فقال له أبو حمزة الثمالي :

ليس كلّ من يسأل مستحقّا ، فقال عليه السلام : أخاف أن يكون بعض من يسألنا مستحقّا فلا نطعمه فينزل بنا أهل البيت ما نزل بيعقوب ، إنّ يعقوب كان يذبح

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الأغاني ١٥ : ٢١٠ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) الأغاني ١٢ : ٧٣ .

( ٣ ) حلية الأولياء ٢ : ٨٧ .

٤٨٠