العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام16%

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام مؤلف:
الناشر: انتشارات مهديّة
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 230

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 230 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 105610 / تحميل: 6122
الحجم الحجم الحجم
العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

مؤلف:
الناشر: انتشارات مهديّة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

قادة المسلمين وخلفائهم، وكان من بين ما امتحن به:

١ ـ خيانة القائد العام:

وكان من أقسى ما ابتلي به الإمام في تلك المرحلة الحسّاسة خيانة ابن عمّه عبيد الله بن العبّاس القائد العام لقوّاته المسلّحة، فقد أرشاه معاوية بما يقارب المليون درهم، فولّى الخائن الجبان منهزماً تحت جنح الليل البهيم يصحب معه العار والخزي، فالتحق بمعسكر معاوية، ولما علم الجيش بذلك اضطرب اضطراباً هائلاً، وماج في الفتنة والشقاء، ودبّت روح الخيانة في جميع قطعات الجيش كما خان جماعة من ذوي الرتب العليا في الجيش فالتحقوا بمعسكر معاوية بعد أن أرشاهم بأمواله.

ان خيانة عبيد الله من أقسى الضربات التي حلّت بجيش الإمام، فقد فتحت أبواب الخيانة على مصراعيها لذوي الضمائر القلقة لبيع ضمائرهم على معاوية، كما أدّت إلى انهيار معنويات جيش الإمام، وفي نفس الوقت كانت من أقسى الصدمات التي واجهها الإمام في تلك الفترة العصيبة فقد ألقت له الأضواء على نفوس أغلب قادة جيشه، وانّهم مجموعة من الخونة الذين لا يملكون أي رصيد ديني أو وطني.

٢ ـ محاولات لاغتيال الإمام:

ولم تقتصر محنة الإمام وبلواه من جيشه إلى هذا الحدّ، وانّما امتدّت إلى ما هو أعظم من ذلك فقد قام عملاء الامويين وبهائم الخوراج بعدة عمليات لاغتيال الإمام، وقد فشلت جميعها وهي:

١٠١

أ ـ رمي الإمام بسهم وهو في أثناء الصلاة، ولم يؤثّر فيه شيئاً.

ب ـ طعنه بخنجر في أثناء الصلاة.

ج ـ طعنه في فخذه.

وضاقت الدنيا على ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وطافت به المحن والأزمات وأيقن أنّه لا محالة امّا أن يُغتال، ويضاع دمه هدراً أو يلقى عليه القبض ويبعث أسيراً إلى معاوية، وأجال النظر في هذه الأمور فأفزعته إلى حدّ بعيد.

٣ ـ الحكم عليه بالكفر:

وتمادى الخونة والعملاء في جيش الإمام في الجريمة والشرّ، فقد قابلوا الإمام بكلمات كانت أشدّ عليه من ضرب السيوف وطعن الرماح، فقد أقبل عليه الجرّاح بن سنان يشتدّ كأنّه الكلب وهو رافع عقيرته قائلاً:

« لقد أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل ».

ولم ينبر أحد من جيش الإمام إلى معاقبة هذا الأثيم، لقد انحرف هؤلاء الخونة عن الحق، ومالوا عن الطريق القويم، فقد حكموا على ابن بنت نبيّهم وابن وصيّه بالكفر والمروق من الدين، فأي ضلال مثل هذا الضلال؟.

٤ ـ نهب أمتعة الإمام:

وعمد أُولئك الأجلاف إلى نهب أمتعة الإمام فنزعوا منه بساطاً كان جالساً عليه، وسلبوا منه رداءه، ولم تكن هناك أيّة حماية للإمام من جيشه، فقد جرت هذه العملية بمرأى ومسمع منهم.

١٠٢

هذه بعض الأحداث المروعة التي عاناها الإمامعليه‌السلام في المدائن وهي تلزمه بالصلح والتخلّي عن ذلك المجتمع المصاب بأخلاقه وعقيدته.

ضرورة الصلح:

أمّا صلح الإمام الحسنعليه‌السلام مع معاوية فقد كان ضرورياً حسب الأعراف السياسية، كما كان واجباً شرعياً مسؤول عن تنفيذه أمام الله والأمة، فانه لو فتح باب الحرب بجيشه المنهزم نفسياً لتغلب عليه معاوية بأول حملة، ولما أمكنه أن يحقق أي نصر، وفي تلك الحالة لا يخلو أمره من إحدى حالتين: إمّا القتل أو الأسر، فان قتل فلا تستفيد منه القضية الإسلامية لأن معاوية بما يملك من دبلوماسية مبطّنة بالخداع والمكر والنفاق، سوف يلقي التبعة على الإمام في قتله، ويبرّئ نفسه من أيّة مسؤولية، وأما إذا لم يقتل الامام، وحمل إلى معاوية أسيراً، فانه من دون شكّ سوف يعفو عنه، وبذلك يسجّل له يداً بيضاء على الأسرة النبوية، ويمحو عنه وعن أسرته وصمة الطليق التي وصمهم بها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وعلى أيّ حال فان الإمام الحسنعليه‌السلام قد اضطّر إلى الصلح وأُرغم عليه، ولم تكن هناك أيّة مندوحة للعدول عنه، وقد جرى الصلح حسب شروط ذكرناها بالتفصيل مع تحليلها في كتابنا ( حياة الإمام الحسنعليه‌السلام ) وممّا لا شكّ فيه حسب المقاييس العلمية والسياسية ان الإمام أبا محمد قد انتصر في هذا الصلح، فقد أبرز حقيقة معاوية الجاهلية، وقد ظهرت خفايا نفسه، وما يكّنه من حقد وعداء للإسلام وللمسلمين، فانه حينما استتبّ له الأمر عمد بشكل سافر إلى محاربة الإسلام والانتقام من أعلامه أمثال الصحابي العظيم حجر بن عدي، وأخلد بجرائمه للمسلمين المصاعب

١٠٣

والكوارث، وألقاهم في شرّ عظيم، وسوف نتحدّث عن ذلك في البحوث الآتية.

وبعدما انتهى الإمام أبو محمد من الصلح غادر الكوفة التي غدرت به وبأبيه لتستقبل جور معاوية وظلمه، وكان معه أهل بيته واخوته، ومن بينهم أخوه وعضده أبو الفضل العبّاس، وأخذوا يجدون السير لا يلوون على شيء حتى انتهوا إلى يثرب، وقد استقبلتهم بحفاوة بالغة البقيّة الباقية من الصحابة وأبنائهم، واستقرّ الإمام في يثرب، وقد التف حوله الفقهاء والعلماء فأخذ يغذّيهم بعلومه ومعارفه، ويغدق على البؤساء والمحرومين من فيض جوده وكرمه، وقد استعادت يثرب بوجوده ما فقدته من القيادة الروحية للمسلمين حينما غادرها وصيّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام .

وعلى أيّ حال فقد شاهد أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ما جرى على أخيه الزكيّ أبي محمدعليه‌السلام من المحن الشاقة والعسيرة، ورأى غدر أهل الكوفة، وخيانتهم له، ونكثهم لبيعتهم له، وقد عرفته هذه الأوضاع السياسية والاجتماعيه حقيقة المجتمع، وان الغالبية الساحقة منه ينسابون وراء مصالحهم وليس للقيم الدينية أي أثر في نفوسهم، وبهذا نطوي الحديث عن بعض الأحدث المروعة التي شاهدها أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام .

* * *

١٠٤

كابوس رهيب

١٠٥

١٠٦

وتسلّم معاوية قيادة الدولة الإسلامية بعد صلحه مع الإمام الحسنعليه‌السلام ، وقد تحقّقت آماله الشريرة في القضاء على الدولة العلوية التي هي دولة المحرومين والمضطهدين، والتي كانت امتداداً ذاتياً لحكومة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وتجسيداً حيّاً لأهدافه ومتطلّباته الرامية لرفع مستوى الإنسان وتطوير حياته، وقد انهارت هذه القيم حينما سقطت الدولة الإسلامية صريعة بيده، فقد تبدّلت المبادئ والقيم والأخلاق التي ينشدها الإسلام إلى عكسها، وخرج العالم الإسلامي من عالم الدعة والرخاء والاستقرار إلى كابوس مرعب تحفّه المحن والكوارث، وتخيّم عليه العبودية والذل.

لقد تنكّر معاوية لجميع القيم والأعراف، وساس المسلمين سياسة لم يألفوها من قبل، ويرى المراقبون لسياسته ان انتصاره انّما هو انتصاراً للوثنية بجميع مساوئها يقول السيّد مير علي الهندي:

« ومع ارتقاء معاوية الخلافة في الشام عاد حكم الثوليغارشية الوثنية السابقة، فاحتلّ موقع ديمقراطية الإسلام، وانتعشت الوثنية بكل ما يرافقها من خلاعات، وكأنّها بعثت من جديد، كما وجدت الرذيلة والتبذل الخلقي لنفسها متّسعاً في كل مكان ارتادته رايات حكّام الأمويين من قادة جند

١٠٧

الشام »(١) .

لقد تعرّض المسلمون في ذلك العهد الأسود إلى أزمات شاقة وعسيرة وامتحنوا كأشدّ ما يكون الامتحان، ونعرض ـ بإيجاز ـ إلى بعض ما عانوه من الكوارث.

إبادة القوى الواعية:

وعمد ابن هند إلى إبادة القوى الواعية في الإسلام، وتصفيتها جسدياً فقد ساق كوكبة منهم إلى ساحات الاعدام، وفيما يلي بعضهم:

١ ـ حجر بن عديّ:

حجر بن عدي الكندي علم من أعلام الإسلام، وبطل من أبطال الجهاد ومن أبرز طلائع المجد والفخر للأمّة العربية والإسلامية، ومن النماذج المشرقة الذين تخرّجوا من مدرسة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ووعوا قيمه وأهدافه، وقد وهب هذا العملاق العظيم حياته لله فثار في وجه الإرهابي المجرم زياد بن أبيه حينما أعلن رسمياً سبّ الإمام أمير المؤمنين مفجّر الفكر والنور في دنيا الإسلام، والمؤسس الثاني في بناء العقيدة الإسلامية بعد ابن عمّه وسيّده الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

لقد استحلّ الطاغية المجرم زياد دم المجاهد الكبير حجر بن عديّ حينما جابهه بالانكار على سبّه للإمام، فألقى عليه القبض، وبعثه مخفوراً مع كوكبة من أعلام المجاهدين في الإسلام إلى أخيه في الجريمة معاوية بن

__________________

(١) روح الاسلام: ٢٩٦.

١٠٨

هند، فصدرت الأوامر منه بإعدامهم في ( مرج عذراء ) ونفّذ الجلاّدون فيهم حكم الإعدام فخرّت جثثهم الزواكي على الأرض وهي معطّرة بدم الشهادة والكرامة، تضيء للناس معالم الطريق نحو حياة حرّة كريمة لا سيادة فيها للظالمين والمستبدّين.

٢ ـ عمرو بن الحمق:

ومن شهداء الإسلام الخالدين عمرو بن الحمق الخزاعي الصحابي الجليل، كان أثيراً عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد دعا له بأن يمتّعه الله بشبابه، فاستجاب الله دعاءه فقد أخذ عمرو بعنق الثمانين عاماً ولم ترَ في كريمته شعرة بيضاء(١) .

وقد وعى عمرو القيم الإسلامية وآمن بها إيماناً عميقاً، وجاهد في سبيلها كأعظم ما يكون الجهاد، ولما ولي الجلاّد زياد بن أبيه على الكوفة من قبل أخيه اللاشرعي معاوية أوعز إلى مباحثه وجلاوزته بملاحقة عمرو ومطاردته لأنّه من أعلام شيعة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وفرّ عمرو مع زميله رفاعة بن شداد إلى الموصل، وقبل أن ينتهيا إليها كمنا في جبل ليستجمّا فيه، فشعرت بهما الشرطة المقيمة هناك، فارتابت منهما، فألقت القبض على عمرو، وفرّ صاحبه، وجاءت الشرطة بعمرو مخفوراً إلى عبد الرحمن الثقفي حاكم الموصل، فرفع أمره إلى معاوية، فأمر بطعنه تسع طعنات بمشاقص(٢) فبادرت الجلاوزة إلى طعنه، فمات في الطعنة الاُولى، واحتزّوا رأسه فأمر أن يطاف به في دمشق وهو أول رأس طيف به في

__________________

(١) الاصابة ٢: ٥٢٦.

(٢) المشاقص: جمع مفرده مشقص، النصل العريفي أو سهم فيه نصل عريض.

١٠٩

الإسلام، ثم أمر به ابن هند أن يحمل إلى زوجته السيّدة آمنة بنت شريد، وكانت في سجنه، فلم تشعر إلاّ ورأس زوجها في حجرها فذعرت، وكادت أن تموت، ثم حملت إلى معاوية، وجرت بينها وبينه محاورة شديدة دلّت على مسخ معاوية وتجرّده من جميع القيم الإنسانية، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في كتابنا ( حياة الإمام الحسنعليه‌السلام ).

٣ ـ رشيد الهجري:

رشيد الهجري علم من أعلام الإسلام، وقطب من أقطاب الإيمان وقد أخلص كأشدّ ما يكون الإخلاص إلى وصيّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وقد اعتقلته جلاوزة ابن زياد، وجاءت به مخفوراً إليه، فلما مثل عنده صاح به الباغي الأثيم:

« ما قال لك خليلك ـ يعني الامام عليّاً ـ إنّا فاعلون بك؟.. »

فأجابه بصدق وإيمان غير حافل به:

« تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني ».

فأراد الخبيث الدنس أن يكذّب الإمام فقال:

« أمّا والله لأكذبنّ حديثه خلّوا سبيله ».

فخلّت الجلاوزة سبيله لكنّه لم يلبث إلاّ قليلاً حتى ندم على ذلك فأمر بإحضاره فلمّا مثل عنده صاح به:

لا نجد شيئاً أصلح مما قال صاحبك: « إنّك لا تزال تبغي لنا سوءاً إن بقيت، اقطعوا يديه ورجليه ».

وبادرت الجلاوزة فقطعت يديه ورجليه، ولم يحفل هذا العملاق العظيم بما كان يعانيه من الآلام، وراح يذكر مساوئ بني أميّة وجورهم

١١٠

ويحفز الجماهير على الثورة عليهم، وأسرعت الجلاوزة إلى زياد فأخبروه بالأمر فأمرهم بقطع لسانه، فقطع وتوفي في الحال هذا المجاهد العظيم(١) الذي نافح عن عقيدته وولائه لأهل البيت حتى النفس الأخير من حياته.

هؤلاء بعض أعلام الإسلام الذين صفّاهم ابن هند جسدياً لأنّهم كانوا ينشرون القيم الإسلامية، ويذيعون بين الناس فضائل أهل البيت: الذين هم مصدر الوعي والفكر في الإسلام.

مناهضة أهل البيت:

ولمّا استتبّ الأمر إلى معاوية سخر جميع أجهزة دولته ووسائل إعلامه لمناهضة أهل البيت الذين هم وديعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في أمّته، والعصب الحسّاس في هذه الأمّة، وقد استخدم هذا الذئب الجاهلي أخطر الوسائل في مناهضتهم، ومن بين ما قام به:

١ ـ افتعال الأخبار ضدّهم:

وأقام معاوية شبكة من عملائه لوضع الأخبار وافتعالها على لسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله للحطّ من شأن أهل بيته، والتقليل من أهمّيتهم، وقد عمد الوضّاعون لافتعال الأخبار تارة في فضل الصحابة، لجعلهم قبال العترة الطاهرة، وقد عدّ الامام الأعظم محمد الباقرعليه‌السلام أكثر من مائة حديث افتعلت لهذا الغرض كما افتعلوا طائفة من الأخبار في ذمّ أهل البيتعليهم‌السلام ، كما وضعوا أحاديث أخرى في مدح الأمويين، وخلق الفضائل لهم، وهم

__________________

(١) سفينة البحار ١: ٥٢٢.

١١١

الذين ناجزوا الإسلام في جميع مراحل تأريخهم، ولم تقتصر الشبكة التخريبية على ذلك، وانّما عمدت لافتعال الأخبار فيما يتعلّق بأحكام الشريعة الإسلامية، ومن المؤسف جدّاً انّها دوّنت في الصحاح والسنن، وجعلت جزءاً من الشريعة الإسلامية، ولم يلتفت المؤلّفون إلى وضعها، وقد تصدّى بعض المحقّقين إلى تأليف بعض الكتب، ذكروا فيها بعض الأخبار الموضوعة، فقد ألّف المحقّق السيوطي كتابه الشهير ( اللئالي المصنوعة في الأخبار الموضوعة ) ذكر فيه طائفة كبيرة من تلك الموضوعات، وقد سجّل المحقق الأميني في ( الغدير ) أرقاماً لبعض الأخبار الموضوعة بلغت زهاء نصف مليون حديث، وعلى أي حال فان من أعظم ما مُني به الإسلام من الكوارث هي الأخبار الموضوعة التي شوّهت الواقع المشرق للإسلام، وألقت المسلمين في شرّ عظيم، فقد حجبتهم عن أئمّة أهل البيت: وما أثر عنهم من الأخبار الصحيحة التي هي من ذخائر الإسلام.

٢ ـ سبّ الإمام أمير المؤمنين:

وأعلن معاوية رسمياً سبّ الإمام أمير المؤمنين، وأوعز إلى ولاته وعمّاله أن يذيعوا ذلك بين المسلمين، واعتبره عنصراً أساسياً في بناء دولته، وإقامة حكومته، وأخذ الأذناب والعملاء ووعاظ السلاطين يصعّدون سبّ الإمام وينتقصونه لا في نواديهم الخاصة والعامة فحسب، وانّما في خطب صلاة الجمعة، وسائر المناسبات الدينية، معتقدين أن ذلك مما يوجب القضاء على شخصية الإمام، واندثار ذكره، وقد خابت ظنونهم، وتبت أيديهم، فقد عادت اللعنات عليهم وعلى من ولاهم ومكنهم من

١١٢

رقاب المسلمين، فقد برز الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام على مسرح التأريخ البشري كألمع قائد إنساني أسّس معالم العدالة الاجتماعية، وأقام أركان الحقّ في الأرض.

لقد عاد الإمام في جميع الأعراف الدولية والسياسية أعظم حاكم ظهر في الشرق، وأول حاكم قد تبنّى حقوق المظلومين والمضطهدين، وأعلن حقوق الانسان، وأما خصومه الحقراء فهم أقزام البشرية، وأشرار خلق الله، فقد جنوا على الإنسانية جناية لا تعدلها أية جناية، فقد حجبوا هذا العملاق العظيم أن يقوم بدوره في بناء الحضارة الإنسانية، وتطوير الحياة العامة في جميع مجالاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

٣ ـ استخدام معاهد التعليم:

واستخدم معاوية معاهد التعليم، وأجهزة الكتاتيب لتغذية النشء ببغض أهل البيتعليهم‌السلام الذين هم المركز الحسّاس في الإسلام، وغذّت هذه الأجهزة الناشئة المسلمة ببغض عترة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وذريته، ولم يكن ذلك إلاّ إجراءاً مؤقّتاً، فقد عكس الله إرادته، وخيّب آماله، فها هو الإمام أمير المؤمنين ملء فم الدنيا، قد استوعب ذكره المعطر جميع لغات الأرض، وهو أنشودة الأحرار في كل زمان ومكان والكوكب اللامع في سماء الشرق يهتدي بضوئه المصلحون، ويسير على منهجه المتّقون، وها هو معاوية وبنو أميّة قد صاروا جرثومة الفساد في الأرض، ولا يذكرون إلاّ مع الخسران وسوء المصير.

لقد هزم معاوية في الميدان السياسي والاجتماعي، وأبرزت مخططاته السياسية المناهضة لأهل البيتعليهم‌السلام واقعه النفسي الملّوث بالجرائم والآثام

١١٣

واستبان للجميع أنّه أحطّ حاكم ظهر في الشرق العربي والإسلامي.

إشاعة الظلم:

وأشاع معاوية الظلم والجور في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فقد سلّط على المسلمين ولاة إرهابيين، قد نزعت الرحمة من قلوبهم فأسرفوا باقتراف الجرائم والإساءة إلى الناس، وكان من أشدّهم قسوة، وأكثرهم جرماً الإرهابي زياد بن أبيه فقد صبّ على العراق وابلاً من العذاب الأليم، فكان يسوق المتّهمين إلى ساحات الموت والإعدام من دون اجراء أي تحقيق معهم، فقد كان يحكم بالظنّة والتهمة، ـ كما أعلن ذلك في بعض خطبه ـ ولم يتحرّج من سفك الدماء بغير حقّ، ولم يتأثّم في نشر الرعب والخوف بين الناس، فكان كأخيه اللاشرعي معاوية قد انتهك جميع حرمات الله.

لقد عجّت البلاد الإسلامية من الظلم والجور، حتى قال القائل: ان نجا سعد فقد هلك سعيد، وكان من أشدّ الناس بلاءً وأعظمهم محنة شيعة أهل البيتعليهم‌السلام فقد أمعنت السلطة في ظلمهم، والاعتداء عليهم فزجّت الكثير منهم في ظلمات السجون وزنزانات التعذيب، وسلمت منهم الأعين، وأذاقتهم جميع صنوف التعذيب، لا لذنب اقترفوه وانّما لولائهم لأهل البيتعليهم‌السلام .

وقد شاهد أبو الفضلعليه‌السلام الصور المفجعة من الاضطهاد والتنكيل التي حلّت بشيعة أهل البيت، مما زاده ذلك إيماناً بضرورة الجهاد، والقيام بثورة ضدّ السلطة الأموية، لإنقاذ الأمة من محنتها، وإعادة الحياة الإسلامية بين المسلمين.

١١٤

منح الخلافة ليزيد:

واقترف معاوية أخطر جريمة في الإسلام فقد منح الخلافة الإسلامية إلى ولده يزيد الذي كان ـ فيما أجمع عليه المؤرّخون ـ مجرداً من جميع القيم الإنسانية، وغارقاً في الآثام والجرائم وكان جاهلياً بما تحمل هذه الكلمة من معنى، فلم يؤمن بالله ولا باليوم الآخر كما أعلن ذلك فيما أثر عنه من شعر، فقد قال حينما أشرفت سبايا آل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على دمشق:

نعب الغراب فقلت صح أولا تصح

فلقد قضيت من النبي ديوني

نعم لقد استوفى ديون الأمويين من ابن فاتح مكّة فقد قتل أبناءه وسبى ذراريه، وقال مرّة اُخرى:

لست من خندف إذ لم انتقم من

بني أحمد ما كان فعل

هذا هو يزيد في الحاده ومروقه من الدين وقد سلّطه معاوية على رقاب المسلمين، فأمعن في إعادة الحياة الجاهلية، وإزالة الإسلام فكراً وعقيدة من الصعيد الاجتماعي، كما أخلد للمسلمين المحن والكوارث، وذلك بإبادته لعترة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسبيه لذراريه.

إغتيال الشخصيات الإسلامية:

وأقدم معاوية على اغتيال الشخصيات الإسلامية التي لها مكانة مرموقة في العالم الإسلامي، والتي تحظى باحترام بالغ في نفوس المسلمين، حتّى لا يزاحم أحد منهم ولده يزيد، ولا تتجه إليهم الأنظار،

١١٥

وفعلاً قام باغتيال هؤلاء وهم:

١ ـ سعد بن أبي وقاص:

أما سعد بن أبي وقاص فهو فاتح العراق، وأحد أعضاء الشورى الذين رشحهم عمر إلى الخلافة الإسلامية، وقد ثقل وجوده على معاوية فدسّ إليه سمّاً فقتله(١) .

٢ ـ عبد الرحمن بن خالد:

أمّا عبد الرحمن بن خالد فكان له رصيد شعبي في أوساط أهل الشام وقد استشارهم معاوية فيمن يعقد له البيعة بعد وفاته فأشاروا عليه بعبد الرحمن، فأسرّها معاوية في نفسه، وأضمر له السوء، ومرض عبد الرحمن فأوعز معاوية إلى طبيب يهودي أن يعالجه ويسقيه سمّاً فسقاه السمّ فمات على أثر ذلك(٢) .

٣ ـ عبد الرحمن بن أبي بكر:

كان عبد الرحمن بن أبي بكر من أبرز العناصر المعارضة لمعاوية في أخذه البيعة ليزيد، وقد أعلن معارضته له، وأشيع ذلك في يثرب ودمشق، وقدم له معاوية رشوة لينال رضاه، وكانت مائة ألف درهم فأبى أن يقبلها، وقال: لا أبيع ديني بدنياي، وتعزو بعض المصادر أن معاوية دسّ له سمّاً

__________________

(١) مقاتل الطالبيين: ٢٩.

(٢) حياة الإمام الحسين ٢: ٢١٦.

١١٦

فقتله(١) .

٤ ـ الإمام الحسن:

وأقض الإمام الحسنعليه‌السلام مضجع ابن هند، وراح يطيل التفكير للتخلّص منه، لأنّه قد شرط عليه في بنود الصلح أن ترجع إليه الخلافة بعد هلاكه واستعرض معاوية حاشية الامام وخاصته ليشتري ضمائرهم بأمواله لاغتيال الإمام، فلم يقع نظره على أحد سوى الخائنة جعدة بنت الأشعث زوجة الإمام، فهي من أسرة لم تنجب شريفاً قطّ، ولم يؤمن أي فرد منها بالقيم الإنسانية، وأوعز معاوية إلى مروان بن الحكم عامله على يثرب فاتّصل بها، وقدم لها الأموال، ومنّاها بزواج يزيد، فاستجابت نفسها الخبيثة لاقتراف الجريمة، فناولها سمّاً فاتكاً، فأخذته، ودسّته للإمام، وكان صائماً، ولما وصل إلى جوفه تقطّعت أمعاؤه، فالتفت إلى الخبيثة، فقال لها:

« قتلتيني، قتلك الله، والله لا تصيبنّ منّي خلفاً، لقد غرّك ـ يعني معاوية ـ وسخر منك، يخزيك الله ويخزيه ».

وأخذ سبط النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانته يعاني آلاماً قاسية من شدّة السم فقد تفاعل مع أجزاء بدنه، وقد ذبلت نضارته، واصفّر لونه، وكان يلهج بذكر الله وتلاوة كتابه حتى ارتفعت روحه العظيمة إلى بارئها تحفّها ملائكة الرحمن وأرواح الأنبياء.

لقد وافاه الأجل المحتوم، ونفسه العظيمة مترعة بالمصائب من ابن

__________________

(١) حياة الإمام الحسين ٢: ٢١٦.

١١٧

هند الذي جهد في ظلمه، وصبّ عليه ألواناً قاسية من المحن والكوارث فسلب منه الخلافة، وتتبع شيعة أبيه قتلاً وسجناً، واسمعه سبّه، وسبّ أبيه وأخيراً سقاه السمّ فقطع أحشاءه.

تجهيزه:

وقام سيّد الشهداءصلى‌الله‌عليه‌وآله بتجهيز جثمان أخيه فغسّل جسده الطاهر، وحمله المشيّعون، وفي طليعتهم العلويون، وهم يذرفون أحرّ الدموع على فقيدهم العظيم، وجاءوا به إلى المرقد النبوي ليواروه بجواره.

فتنة الاُمويين:

ولما جيء بالجثمان المقدّس إلى قبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ليوارى إلى جنبه ثار الأمويون وعلى رأسهم الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم، فرفعوا أصواتهم أمام المشيّعين « أيدفن الحسن بجوار جدّه، ويدفن عثمان بأقصى المدينة لا كان ذلك أبداً ». واشتدّوا كالكلاب نحو السيّدة عائشة، وقد عرفوا انحرافها عن أهل البيت فأثاروا حفيظتها قائلين:

« لئن دفن الحسن بجوار جدّه ليذهبنّ فخر أبيك، وصاحبه ».

فوثبت وهي مغيظة محنقة تشقّ الجماهير، وقد رفعت عقيرتها قائلة:

« لئن دفن الحسن بجوار جدّه ـ لتجز هذه ـ وأومأت إلى ناصيتها ».

والتفتت إلى المشيّعين قائلة:

« لا تدخلوا بيتي من لا أحبّ ».

وقد أعربت بذلك عن كوامن حقدها على آل البيتعليهم‌السلام ، ويتساءل

١١٨

السائلون من أين جاء لها البيت، ألم يروِ ابوها عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال:

« نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضّة » فبيت النبيّ ـ حسب هذه الرواية ـ كبيت من بيوت الله لا يملكه أحد، وانّما هو لجميع المسلمين، وعلى هذا فكيف سمحت لأبيها وصاحبه أن يدفنا فيه، وإذا لم تعمل عائشة بهذه الرواية وان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كبقيّة الأنبياء يرثه ذرّيته، فالامام الحسنعليه‌السلام هو الذي يرثه لأنّه سبطه، أما أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فلا يرثن من البيت، وانّما يرثن من البناء حسبما ذكر الفقهاء.

وعلى أيّ حال فقد تمادى الأمويون بالشر، وظهرت خفايا نفوسهم المنطوية على الحقد والعداء لآل البيت فقد أوعزوا إلى عملائهم برمي جنازة الإمام، فرموها بقسيّهم وسهامهم، وكادت الحرب أن تقع بين الهاشميين والأمويين، فقد أسرع أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام إلى مناجزة الأمويين، وتمزيقهم، فمنعه أخوه الامام الحسينعليه‌السلام من القيام بأي عمل امتثالاً لوصيّة أخيه، فقد أوصاه بأن لا يهراق في امره ملء محجمة من دم وجيء بالجثمان الطاهر إلى بقيع الغرقد، فواروه فيه، وقد واروا معه الحلم والشرف والفضيلة، وقد انطوت بذلك أروع صفحة مشرقة من صفحات النبوة والإمامة.

لقد شاهد أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام الأحداث المروعة التي حلّت بأخيه الامام أبي محمدعليه‌السلام فزهدته في الحياة، وكرهت له العيش، وحببت له الثورة والجهاد في سبيل الله.

معارضة الامام الحسين لمعاوية:

ولمّا تمادى معاوية في سياسته الملتوية المناهضة لمصالح المسلمين

١١٩

والمعادية لأهدافهم، قام أبو الأحرار الإمام الحسينعليه‌السلام بالإنكار على معاوية، وأخذ يعمل بشكل مكثف إلى فضح معاوية، ويدعو المسلمين إلى الانتفاضة والثورة على حكومته، ونقلت اجهزة الأمن والمباحث في يثرب إلى معاوية هذه النشاطات السياسية المناهضة لحكومته ففزع من ذلك أشدّ الفزع، ورفع إليه مذكّرة شديدة اللهجة يطلب فيها الكفّ عن معارضته، وهدّده باتخاذ الاجراءات القاسية ضدّه ان لم يستجب له، فأجابه أبو الأحرار بجواب شديد اللهجة وضعه فيه على طاولة التشريح، ونعى عليه سياسته الظالمة التي تفجّرت بكل ما خالف كتاب الله وسنّة نبيّه، وندّد بما اقترفه من ظلم تجاه الأحرار والمصلحين أمثال حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي، ورشيد الهجري، وغيرهم من أعلام الفكر في الوطن الإسلامي.

انّ جواب الإمام أبي الشهداء من ألمع الوثائق السياسية، فقد وضع الإمام فيها النقاط على الحروف، وعرض بصورة مفصّلة الأحداث الرهيبة التي جرت أيام حكومة معاوية، كما حدّد فيها موقفه المتّسم بالثورة على حكومة معاوية(١) .

مؤتمر الامام الحسين في مكّة:

وعقد الإمام أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام مؤتمراً سياسياً في مكّة المكرّمة حضره جمهور غفير من المهاجرين والأنصار والتابعين ممن شهدوا موسم الحج، فقام فيهم خطيباً، وتحدّث ببليغ بيانه عمّا ألمّ بهم وبشيعتهم من ضروب المحن والبلاء في عهد الطاغية معاوية، وقد روى سليم بن قيس

__________________

(١) نصّ الرسالة ذكرها ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ١ / ١٨٩ والكشي في رجاله.

١٢٠

قطعة من خطابه جاء فيه بعد حمد الله والثناء عليه:

« أمّا بعد! فان هذا الطاغية ـ يعني معاوية ـ قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتهم، وشهدتم، وانّي أريد أن أسألكم عن شيء، فان صدقت فصدقوني وان كذبت فكذّبوني، اسمعوا مقالتي، واكتبوا قولي، ثم ارجعوا إلى أمصاركم، وقبائلكم، فمن أمنتم من الناس، ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقنا، فانّي أتخوّف أن يدرس هذا الأمر، ويغلب، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون ».

ويقول سُليم بن قيس: وما ترك الحسين شيئاً مما أنزله الله فيهم من القرآن إلاّ تلاه وفسّره، ولا شيئاً مما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في أبيه وأخيه، وفي نفسه وأهل بتيه إلاّ رواه، وفي كل ذلك يقول أصحابه: اللهم نعم قد سمعنا وشهدنا، ويقول التابعي: اللهمّ قد حدّثني به من أصدقه، وأئتمنه من الصحابة، فقالعليه‌السلام : أنشدكم الله إلاّ حدّثتم به من تثقون به وبدينه »(١) .

وكان هذا أوّل مؤتمر سياسي عرفه المسلمون في ذلك الوقت، فقد شجب فيه الامام سياسة معاوية الهادفة إلى حجب المسلمين عن أهل البيتعليهم‌السلام وستر فضائلهم، وقد دعا الإمام حضّار ذلك المؤتمر إلى إشاعة مآثرهم، وإذاعة مناقبهم، وما ورد في حقّهم من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ليعرف المسلمون النوايا الشريرة التي يبّيتها معاوية ضدّ أهل البيت الذين هم العصب في جسم الأمة الإسلامية.

هلاك معاوية:

واستقبل معاوية الموت، ونفسه قلقة ومضطربة مما اقترفه من

__________________

(١) حياة الإمام الحسين ٢: ٢٢٨ ـ ٢٢٩.

١٢١

الأحداث الجسام التي باعدت بينه وبين الله، فكان يقول متبرّماً: ويلي من ابن الأدبر ـ يعني حجر بن عدي ـ ان يومي منه لطويل، نعم ان يومه لطويل وان حسابه لعسير أمام الله لا في حجر فقط، وانّما لدماء المسلمين التي سفكها بغير حقّ، فقد قتل عشرات الآلاف من المسلمين، وأشاع في بيوتهم الثّكل والحزن والحداد، وهو الذي حارب دولة الإسلام، وأقام الدولة الأموية التي اتخذت مال الله دولاً، وعباد الله خولاً، وهو الذي سلّط على المسلمين عصابة من أشرار خلق الله أمثال زياد بن أبيه الذي أمعن في إذلال المسلمين، وظلمهم بغير حقّ، وهو الذي استخلف من بعده ولده يزيد صاحب الأحداث والموبقات في الإسلام، وشبيه جدّه أبي سفيان في اتجاهاته وميوله المعادية لله ولرسوله، وهو الذي دسّ السمّ إلى ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسبطه الإمام الزكي أبي محمدعليه‌السلام ، وهو الذي أعلن سبّ أهل البيت: على المنابر، وجعل ذلك جزءاً من حياة المسلمين العقائدية إلى غير ذلك من الموبقات التي اقترفها والتي تجعل حسابه شاقاً وعسيراً أمام الله.

وعلى أيّ حال فقد هلك معاوية فأهون به هالكاً ومفقوداً فقد انكسر باب الجور، وتضعضعت أركان الظلم، كما أبّنه بذلك الزعيم العراقي الكبير يزيد بن مسعود النهشلي، أما خليفته وولي عهده يزيد فلم يكن حاضراً عند وفاته، وإنما كان مشغولاً برحلات الصيد وعربدات السكر ونغمة العيدان.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن حكومة معاوية التي هي أثقل كابوس مرّ على العالم الإسلامي في ذلك العصر، وقد شاهد سيّدنا أبو الفضل العباسعليه‌السلام المآسي الرهيبة التي دهمت المسلمين في ظلال هذا الحكم.

١٢٢

مَعَ الثورة الحُسيْنيّة

١٢٣

١٢٤

ورافق أبو الفضل العباسعليه‌السلام الثورة الإسلامية الكبرى التي فجّرها أخوه أبو الأحرار وسيّد الشهداء الإمام الحسينعليه‌السلام ، تلك الثورة العملاقة التي كانت من أهمّ الثورات العالمية، ومن أكثرها عطاءً لشعوب الأرض، فقد غيّرت مجرى التاريخ وهزّت العالم بأسره، وحرّرت الانسان المسلم، ودفعت القطعات الشعبية من المسلمين إلى التمرّد على الظلم، ومناهضة الجور والطغيان.

وقد ساهم قمر بني هاشم وفخر عدنان في هذه الثورة المباركة مساهمة إيجابية وفعّالة، وشارك أخاه الحسين في جميع فصولها، وقد وعى جميع أهدافها وما تنشده من خير ورحمة للشعوب المحرومة والمضطهدة، فآمن بها إيماناً مطلقاً.

لقد كان العبّاس أهمّ عضو بارز في هذه الثورة المشرقة، وقد لازم أخاه ممتثلاً لأمره، منفّذاً لرغباته، شادّاً لعضده، مؤمناً بقوله، مصدقاً لمبادئه، لم يفارقه في مسيرته الخالدة من يثرب إلى مكّة، ثم إلى أرض الكرامة والشهادة، ففي كل موقف من ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام ، كان العبّاس معه، وشريكاً له، ونتحدّث ـ عن بعض الفصول التأريخية لهذه الثورة العظمى التي كان العباس العلم البارز فيها.

 

١٢٥

رفض الامام الحسين لبيعة يزيد:

وأعلن الإمام الحسينعليه‌السلام رسمياً رفضه الكامل لبيعة يزيد، وذلك حينما استدعاه حاكم المدينة الوليد بن عقبة في غلس الليل، وقد فهم الإمام ما أراد منه، فاستدعى عضده وأخاه أبا الفضل العبّاس وسائر الفتية من أهل بيته ليقوموا بحمايته، وأمرهم بالجلوس في خارج الدار فاذا سمعوا صوته قد علا فعليهم أن يقتحموا الدار لانقاذه، ودخل الامام على الوليد فاستقبله بحفاوة وتكريم، ثم نعى إليه هلاك معاوية، وما أمره به يزيد من أخذ البيعة من أهل المدينة عامة ومن الحسين خاصة، فاستمهله الإمام حتى الصبح، ليجتمع الناس، وقد أراد أن يعلن أمامهم رفضه الكامل لبيعة يزيد، ويدعوهم إلى التمرّد على حكومته، وكان مروان بن الحكم الذي هو من رؤوس المنافقين، ومن أعمدة الباطل حاضراً، فاندفع لاشعال نار الفتنة، فصاح بالوليد:

« لئن فارقك الساعة، ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، أحبسه فان بايع، وإلاّ ضربت عنقه ».

ووثب أبي الضيم في وجه مروان، فقال محتقراً له:

« يا بن الزرقاء أأنت تقتلني أم هو؟، كذبت والله ولؤمت ».

ثم التفت أبو الأحرار إلى الوليد فأخبره عن عزمه، وتصميمه في رفضه لبيعة يزيد قائلاً:

«أيّها الأمير، إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحلّ الرحمة، بنا فتح الله، وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع

١٢٦

مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون، أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة »(١) .

لقد أعلن الإمام رفضه لبيعة يزيد في بيت الامارة ورواق السلطة، وهو غير حافل بالحكم القائم، فقد وطّن نفسه على التضحية والفداء لينقذ المسلمين من حكم إرهابي عنيف يستهدف إذلالهم، وإرغامهم على ما يكرهون.

لقد كان أبو الأحرار عالماً بفسق يزيد وفجوره ومروقه من الدين، ولو أقرّ لحكومته لساق المسلمين إلى الذلّ والعبودية، وعصف بالعقيدة الإسلامية في متاهات سحيقة من مجاهل هذه الحياة، ولكنّه سلام الله عليه صمد في وجه الاعاصير هازئاً من الحياة، ساخراً من الموت، فبنى للمسلمين عزّاً شامخاً، ومجداً رفعياً، ورفع كلمة الإسلام عالية في الأرض.

إلى مكّة المكرّمة:

وصمّم أبو الأحرار على مغادرة يثرب، والتوجه إلى مكّة المكرّمة ليتّخذ منها مقرّاً لبثّ دعوته، ونشر أهداف ثورته، ويدعو المسلمين إلى الانتفاضة على الحكم الأموي الذي يمثّل الجاهلية بجميع أبعادها الشريرة، وقبل أن يتوجّه إلى مكّة خفّ إلى قبر جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو حزين قد أحاطت به الأزمات فشكى إليه ما ألمّ به من المحن والبلوى، ثم توجّه إلى قبر سيّدة النساء أمّه الزكيّة فألقى عليها نظرات الوداع الأخير، وزار بعد ذلك قبر أخيه الزكيّ أبي محمدعليه‌السلام ثم توجّه مع جميع أفراد عائلته إلى مكّة التي هي

__________________

(١) حياة الإمام الحسين ٢: ٢٥٥.

١٢٧

حرم الله ليعوذ ببيتها الحرام الذي فرض الله فيه الأمن لجميع عباده، وكان أخوه أبو الفضل إلى جانبه قد نشر رايته ترفرف على رأسه، وقد تولّى جميع شؤونه وشؤون عائلته، وقام خير قيام بما يحتاجون إليه.

وسلك أبو الأحرار في مسيره الطريق العام فأشار عليه بعض من كان معه بأن يحيد عنه ـ كما فعل ابن الزبير ـ مخافة أن يدركه الطلب من السلطة فأجابه بكل شجاعة وثقة في النفس:

« لا والله ما فارقت هذا الطريق، أو أنظر إلى أبيات مكة حتى يقضي الله في ذلك ما يحبّ ويرضى ».

وانتهى ركب الإمام إلى مكّة ليلة الجمعة لثلاث ليال مضين من شعبان وحطّ رحله في دار العبّاس بن عبد المطلب، وقد احتفى به المكّيون خير احتفاء، وجعلوا يختلفون إليه بكرة وعشية، وهم يسألونه عن أحكام دينهم، وأحاديث نبيّهم، كما توافد لزيارته القادمون إلى بيت الله الحرام من الحجّاج والمعتمرين من سائر الآفاق، ولم يترك الإمامعليه‌السلام لحظة تمرّ من دون أن يبثّ الوعي الديني والسياسي في نفوس زائريه من المكيّين وغيرهم، ويدعوهم إلى التمرّد على الحكم الأموي الذي عمد على إذلالهم وعبوديتهم.

فزع السلطة بمكّة:

وفزعت السلطة المحلّية بمكة من قدوم الإمام إليها، واتخاذها مقراً لدعوته، ومركزاً لإعلان ثورته، وكان حاكم مكّة الطاغية عمرو بن سعيد الأشدق، فقد رأى بنفسه تزاحم المسلمين على الإمام، وسمع ما يقولونه ان الإمام أولى بالخلافة الإسلامية وأحقّ بها من آل أبي سفيان الذين لا

١٢٨

يرجون لله وقاراً، فخف مسرعاً نحو الإمام فقال له بغيظ:

« ما أقدمك إلى البيت الحرام؟.. ».

وكأن بيت الله العظيم ملك لبني أميّة، وليس هو لجميع المسلمين، فأجابه الإمام بثقة وهدوء:

« أنا عائذ بالله، وبهذا البيت ».

ورفع الطاغية بالوقت رسالة إلى سيّده يزيد بن معاوية أحاطه بها علماً بمجيء الامام إلى مكّة، واختلاف الناس إليه، والتفافهم حوله، وان ذلك يشكّل خطراً على حكومته، ففزع يزيد كأشدّ ما يكون الفزع حينما قرأ رسالة الأشدق فرفع في الوقت مذكّرة إلى ابن عباس يتهدّد فيها الحسين على تحرّكه، ويطلب منه التدخّل فوراً لإصلاح الأمر وحجب الحسين عن مناهضته، فأجابه ابن عبّاس برسالة، نصحه فيها بعدم التعرّض للحسين، وانه انّما هاجر إلى مكّة فراراً من السلطة المحلّية في يثرب التي لم ترع مكانته، ومقامه.

ومكث الإمامعليه‌السلام في مكّة، والناس تختلف إليه، وتدعوه إلى إعلان الثورة على الأمويين، وكانت مباحث الأمن تراقبه أشدّ ما تكون المراقبة، وتسجّل جميع تحرّكاته ونشاطاته السياسية، وما يدور بينه وبين الوافدين عليه، وتبعث بجميع ذلك إلى دمشق لاطلاع يزيد عليه.

تحرّك الشيعة في الكوفة:

وحينما أشيع هلاك معاوية في الكوفة أعلنت الشيعة أفراحها بموته وعقدوا مؤتمراً شعبياً في بيت أكبر زعمائهم، وهو سليمان بن صرد الخزاعي، واندفعوا إلى إعلان الخطب الحماسية فيها وقد عرضوا بصورة

١٢٩

شاملة إلى ما عانوه من الاضطهاد والتنكيل، في أيّام معاوية، وأجمعوا على بيعة الإمام الحسين، ورفض بيعة يزيد، وأرسلوا في نفس الوقت وفداً منهم ليحثّ الإمام على القدوم إلى مصرهم لتشكيل حكومته ليعيد لهم الحياة الكريمة التي فقدوها في ظلال الحكم الأموي ويبسط في بلادهم الأمن والرخاء، وترجع بلدهم عاصمة للدولة الإسلامية كما كانت أيّام أبيه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وكان من بين ذلك الوفد عبد الله البجلي، وأخذ الوفد يسرع في سيره حتّى انتهى إلى مكّة، فعرض على الامام مطاليب أهل الكوفة، وألحّوا عليه بالاسراع إلى القدوم إليهم.

رسائل الكوفة:

ولم يكتف الكوفيون بالوفد الذي بعثوه إلى الإمام، وانّما عمدوا إلى إرسال آلاف الرسائل إليه أعربوا فيها عن عزمهم الجادّ على نصرته، والوقوف إلى جانبه، وانّهم يفدونه بأرواحهم وأموالهم، ويطلبون منه الإسراع إلى مصرهم ليشكّل فيه دولة القرآن والإسلام التي هي غاية آمالهم وحملوا الإمام المسؤولية أمام الله والتأريخ إن لم يستجب لدعوتهم.

ورأى الإمامعليه‌السلام أنّه قد قامت عليه الحجّة الشرعية، وان الواجب يحتّم عليه إجابتهم.

إيفاد مسلم إلى الكوفة:

ولمّا تتابعت الوفود والرسائل من أهل الكوفة على الإمام، وهي تحثّه على القدوم إليهم، لم يجد بُدّاً من إجابتهم، فأوفد إليهم ثقته وكبير أهل بيته، والمبرز من بينهم بالفضيلة وتقوى الله ابن عمّه مسلم بن عقيل،

١٣٠

وكانت مهمّته خاصة ومحدودة، وهي الوقوف على واقع الكوفيين، ومعرفة أمرهم، فان صدقوا فيما قالوا توجّه الإمام إليهم وأقام في مصرهم دولة القرآن.

ومضى مسلم يجد في السير لا يلوي على شيء حتى انتهى إلى الكوفة فنزل في بيت زعيم من زعماء الشيعة، وسيف من سيوفهم، وهو المختار بن أبي عبيدة الثقفي، الذي كان يتمتّع بخبرة سياسية واسعة، وشجاعة فائقة، ودراية تامة بالشؤون النفسية والاجتماعية، وقد فتح المختار أبواب داره إلى مسلم، وصار بيته مركزاً للسفارة الحسينيّة. ولما علمت الشيعه بقدوم مسلم سارعوا إليه مرحّبين به، ومقدمين له جميع ألوان الحفاوة والدعم، والتفوا حوله، طالبين منه أن يأخذ منهم البيعة للإمام الحسينعليه‌السلام ، واستجاب لهم مسلم ففتح سجلاً للمبايعين وقد أحصي عددهم في الأيام القليلة بما يزيد على ثمانية عشر ألفاً، وفي كل يوم يزداد عدد المبايعين منهم، وألحّوا عليه أن يراسل الإمام بالإسراع إلى القدوم إليهم ليتولّى قيادة الأمة، ومن الجدير بالذكر أن السلطة المحليّة في الكوفة كانت على علم بمجريات الثورة، وقد وقفت منها موقف الصمت، فلم تتخذ أي اجراءات ضدّها، ويعود السبب في ذلك إلى ان حاكم الكوفة النعمان بن بشير الأنصاري كان من المنحرفين عن يزيد بسبب مواقفه المعادية للأنصار، ومضافاً إلى ذلك فان ابنته كانت زوجة المختار الذي استضاف مسلماً ووقف إلى جانبه.

ومن الطبيعي أنّه لم يرق لعملاء الأمويين وأذنابهم موقف النعمان المتّسم بالليونة وعدم المبالاة بالثورة، فبادروا إلى الاتصال بدمشق، وعرّفوا يزيد بموقف النعمان، وطلبوا المبادرة بإقصائه، وتعيين حاكماً حازماً

١٣١

يستطيع القضاء على الثورة، وإخضاع الجماهير إلى حكمه، وفزع يزيد من الأمر، فأرسل إلى مستشاره الخاص سرجون، وكان دبلوماسياً محنّكاً، فعرض عليه ما ألمّ به وطلب منه أن يرشده إلى حاكم يتمكّن من السيطرة على الأوضاع المتفجّرة في الكوفة، فأشار عليه بتولّيه الإرهابي عبيدالله بن زياد فانّه شبيه بأبيه في التجرّد من كلّ نزعة إنسانية، وعدم المبالاة في اقتراف أبشع الجرائم، فاستجاب يزيد لرأيه، وكتب لابن زياد مرسوماً بولايته على الكوفة بعد أن كان والياً على البصرة فقط، وبذلك فقد أصبح العراق كلّه خاضعاً لسيطرته، وأصدر إليه الأوامر المشدّدة بالإسراع إلى الكوفة لاستئصال الثورة، والقضاء على مسلم.

سفر ابن زياد إلى الكوفة:

وحينما تسلّم ابن زياد المرسوم في ولايته على الكوفة توجّه إليها فوراً، وأخذ يجد في السير لا يلوي على شيء مخافة أن يسبقه إليها الإمام الحسينعليه‌السلام ، وحينما أشرف على الكوفة غيّر ملابسه، ولبس ثياباً يمانية وعمامة سوداء ليوهم على الكوفيين أنّه الامام الحسين، وقد اعتقدوا بذلك فأحاطوا به مرحّبين بقدومه، وهاتفين بحياته، فاستاء ابن زياد من ذلك كأشدّ ما يكون الاستياء، وأسرع في سيره مخافة أن ينكشف أمره، فيقتل، ولما انتهى إلى قصر الامارة، وجد الباب مغلقاً فطرقه فأشرف عليه النعمان، وقد توهّم أنه الامام الحسينعليه‌السلام فانبرى يخاطبه بلطف قائلاً:

« ما أنا بمؤدّ إليك أمانتي يا بن رسول الله، وما لي في قتالك من ارب » ..

فصاح به ابن مرجانة:

« افتح لا فتحت فقد طال ليلك ».

١٣٢

وعرفه بعض من كان خلفه فصاح بالجماهير:

« انّه ابن مرجانة، وربّ الكعبة ».

وكان ذلك الصاعقة على رؤوسهم فولّوا منهزمين إلى دورهم، وقد ملئت قلوبهم خوفاً ورعباً، وبادر الطاغية نحو القصر فاستولى على المال والسلاح، وأحاط به عملاء الأمويين أمثال عمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن، ومحمد بن الأشعث وغيرهم من وجوه الكوفة فجعلوا يحدثونه عن الثورة، ويعرفونه بأعضائها البارزين، ويضعون معه المخططات الرهيبة للقضاء عليها.

ولمّا أصبح الصبح جمع ابن مرجانة الناس في المسجد الأعظم، فأعلمهم بولايته على مصرهم، ومنّى أهل الطاعة بالصلة، وأهل المعصيّة بالعقاب الصارم ثم عمد إلى نشر الخوف والإرهاب بين الناس، وقد أمسك جماعة لم يجر معهم أي تحقيق فأمر بإعدامهم، وملأ السجون بالمعتقلين، واتخذ من ذلك وسيلة للسيطرة على البلاد.

ولمّا علم مسلم بقدوم ابن مرجانة، وما قام به من الأعمال الإرهابية تحوّل من دار المختار إلى دار الزعيم الكبير هانئ بن عروة، وهو سيّد الكوفة، وزعيمها المطاع، وقد عرف بالولاء والمودّة لأهل البيتعليهم‌السلام ، وقد استقبله هانئ بحفاوة وتكريم، ورحّب به كأعظم ما يكون الترحيب وفتح داره على مصراعيها لشيعة مسلم، واتخاذ القرارات لدعم الثورة، ومناهضة خصومها.

المخطّطات الرهيبة:

واتّخذ ابن مرجانة سلسلة من المخططات أدّت إلى نجاحه في الميادين السياسية، والتغلّب على الأحداث، فبعد أن كانت الكوفة تحت

١٣٣

قبضة مسلم انقلبت رأساً على عقب، وصارت مع ابن زياد، ومن بين تلك المخططات التي تمّ تنفيذها ما يلي:

التجسّس على مسلم:

وأول بادرة سلكها ابن مرجانة هي التجسس على مسلم، ومعرفة نشاطاته السياسية، والاحاطة بنقاط الضعف والقوة عنده والوقوف على جميع ما يجري عنده من الأحداث، وقد اختار للقيام بهذه المهمة مولاه معقلاً، وكان فطناً ذكياً ذا معرفة بالسياسة الماكرة، وأعطاه ثلاثة آلاف درهم، وأمره بالاتصال بأعضاء الثورة، وإعلامهم بأنه من الموالي الذين عرف أكثرهم بالولاء لأهل البيتعليهم‌السلام ، وانه قد جاء إلى مصرهم حينما بلغه أن داعية الإمام الحسينعليه‌السلام قدم إليهم ليأخذ البيعة منهم له، وان عنده مالاً ليوصله له ليستعين به على حرب عدوّه.

ومضى معقل في مهمته، وجعل يفتّش عمن له معرفة بسفير الحسين فأرشد إلى مسلم بن عوسجة وهو من أعلام الشيعة، وأحد القادة الطليعيين في الثورة، فاتصل به، وأظهر له الولاء المزيّف لأهل البيت، والتعطّش الكاذب لرؤية سفيرهم مسلم، فانخدع ابن عوسجة بكلامه، وغرّه تلهّفه المصطنع لرؤية داعية الحسين، فأدخله على مسلم فبايعه، وأخذ المال منه، وجعل يتردّد عليه في كل يوم فكان ـ فيما يقول المؤرّخون أوّل داخل عليه، وآخر خارج عنه، وقد وقف على جميع شؤون الثورة، وعرف أعضاءها، والمتحمّسين لها وما يستجدّ فيها من شؤون، وكان ينقل ذلك حرفياً إلى سيّده ابن مرجانة وبذلك فقد أحاط بجميع مجريات الأحداث، ولم يخف عليه أي شيء منها.

١٣٤

اعتقال هانئ:

وقدم ابن زياد على أخطر عملية كُتب له فيها النجاح لتنفيذ مخططاته، فقد قام باعتقال هانئ بن عروة سيد الكوفة، والزعيم الأوحد لقبائل مذحج التي كانت تشكّل الأكثرية الساحقة من سكّان الكوفة، وقد أشاع بذلك موجة من الخوف والإرهاب عند جميع الكوفيين، كما وجّه ضربة قاسية ومدمّرة للثورة فقد استولى الرعب والفزع على انصار مسلم، ومنوا بهزيمة نفسية ساحقة وعلى أي حال فان هانئ حينما مثل أمام الطاغية استقبله بشراسة وعنف وطلب منه بالفور تسليم ضيفه الكبير مسلم، فأنكر هانئ أن يكون عنده لأنّه أحاط أمره بكثير من السرية والكتمان، فأمر ابن زياد بإحضار الجاسوس معقل، فلما حضر سقط ما في يد هانئ وأطرق برأسه إلى الأرض. ولكن سرعان ما سيطرت شجاعته على الموقف، فانتفض كالأسد ساخراً من ابن زياد ومتمرداً على سلطته، فامتنع كأشدّ ما يكون الامتناع من تسليم ضيفه إليه لأنّه بذلك يسجّل عاراً وخزياً عليه، فثار الطاغية في وجهه، وثم أمر غلامه مهران أن يدنيه منه، فأدناه، فاستعرض وجهه المكرم بالقضيب، وضربه ضرباً عنيفاً حتى كسر أنفه، ونثر لحم خدّيه وجنبيه على لحيته حتى تحطّم القضيب، وسالت الدماء على ثيابه، ثم أمر باعتقاله في أحد بيوت القصر.

انتفاضة مذحج:

ولمّا شاع اعتقال هانئ اندفعت قبائل مذحج نحو قصر الامارة، وقد قاد جموعها الانتهازي القذر عمرو بن الحجاج، وهو من أذناب السلطة

١٣٥

ومن أحقر عملائها، وقد رفع عقيرته ليسمعه ابن زياد قائلاً:

« أنا عمرو بن الحجاج، وهذه فرسان مذحج، ووجوهها لم نخلع طاعة، ولم نفارق جماعة ».

وحفل كلامه بالخنوع والمسالمة للسلطة، وليس فيه أي اندفاع لإنقاذ هانئ، وانّما فيه التأييد والدعم لابن زياد، ولذا لم يكترث به، وأوعز إلى شريح القاضي، وهو من وعاظ السلاطين، ومن دعائم الحكم الأموي فأمره أن يدخل على هانئ، ويخرج لهم، ويخبرهم بأنّه حيّ سالم وانّه يأمرهم بالانصراف إلى منازلهم، ودخل على هانئ فلما بصر به صاح مستجيراً:

« يا للمسلمين أهلكت عشيرتي!! أين أهل الدين، أين أهل المصر، أيخلوني وعدوهم ».

والتفت إلى شريح، وقد سمع أصوات أسرته قائلاً:

« يا شريح انّي لأظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين، انّه إن دخل عليَّ عشرة نفر أنقذوني ».

وخرج شريح الذي باع آخرته وضميره على ابن مرجانة، فقال لمذحج:

« نظرت إلى صاحبكم، انّه حي لم يقتل ».

وبادر ابن الحجاج عميل الأمويين وخادمهم فرفع صوته لتسمعه مذحج قائلاً:

« إذا لم يقتل فالحمد لله ».

وولّت قبائل مذحج منهزمة كأنّما أتيح لها الخلاص من سجن، وقد صحبت معها الخيانة والخزي، ومن المؤكّد أن هزيمة مذحج بهذه السرعة كانت نتيجة اتفاق سرّي بين زعمائها وبين ابن مرجانة للقضاء على هانئ،

١٣٦

ولولا ذلك لهجمت على السجن وأخرجته.

لقد تنكّرت مذحج لزعيمها الكبير الذي كان محسناً عليها فلم تف بحقوقه، وتركته أسيراً بيد الإرهابي ابن مرجانة، وهو يمعن في إذلاله وقهره، في حين أن مذحج كانت لهم السيادة على الكوفة.

ثورة مسلم:

ولما علم مسلم ما جرى على هانئ العضو البارز في الثورة من الاعتداء والاعتقال، بادر إلى اعلان الثورة على ابن زياد، فأوعز إلى أحد قاده جيشه عبد الله بن حازم أن ينادي في أصحابه، وقد ملأ بهم الدور، فاجتمع إليه زهاء أربعة آلاف مقاتل أو أربعون ألفاً، كما في رواية أخرى، وتعالت أصواتهم بشعار المسلمين يوم بدر « يا منصور أمت ».

وقام مسلم بتنظيم جيشه فاسند القيادات العامة إلى من عرفوا بالولاء والإخلاص لأهل البيتعليهم‌السلام ، وزحف بجيشه نحو قصر الإمارة، وكان ابن زياد قد خرج إلى الجامع، وقد ألقى خطاباً على الجماهير تهدّد فيه على كل من يخلع يد الطاعة، ويناهض الدولة، وحينما أنهى خطابه سمع الضجّة وأصوات الثوّار وهتافاتهم بسقوطه فهاله ذلك، وسأل عن السبب فأخبر أن مسلم بن عقيل قد أقبل في جمهور من شيعته لحربه، ففزع الجبان، واختطف الرعب لونه، وأسرع نحو القصر يلهث كالكلب من شدّة الفزع والخوف وضاقت عليه الدنيا إذ لم تكن عنده قوة عسكرية تحميه سوى ثلاثين شرطياً وعشرين رجلاً من أشراف الكوفة الذين عرفوا بالعمالة للأمويين.

وتضاعف جيش مسلم، وقد نشروا الاعلام والسيوف، ودقّت طبول

١٣٧

الحرب، وأيقن الطاغية بالهلاك إذ لم يكن يأوي إلى ركن شديد.

حرب الأعصاب:

وأمعن الطاغية في أقرب الوسائل، وأكثرها ضماناً لإنقاذه فرأى أن لا طريق له سوى حرب الأعصاب، ونشر الدعايات الكاذبة، وكان عالماً بتأثيرها على نفوس الكوفيين، فأوعز إلى عملائه من أشراف الكوفة ووجوهها أن يندسّوا بين صفوف جيش مسلم، فيذيعون الإرهاب، وينشرون الخوف، وانطلق العملاء بين قطعات جيش مسلم، فأخذوا يبثّون الأراجيف والكذب، وتناولت دعاياتهم ما يلي:

أ ـ تهديد أصحاب مسلم بجيوش أهل الشام، وانّها سوف تنكل بهم إن بقوا مصرّين على متابعة مسلم.

ب ـ ان الحكومة سوف تقطع مرتباتهم وتحرمهم من جميع مواردهم الاقتصادية.

ج ـ إن الدولة ستزجّ بهم في مغازي أهل الشام.

د ـ إن الحكومة ستعلن فيهم الأحكام العرفية، وتسوسهم بسياسة زياد بن أبيه التي تحمل اشارات الموت والدمار.

وكانت هذه الاشاعات كالقنابل على رؤوسهم، فقد انهارت أعصابهم واضطربت قلوبهم، وجبنوا كأبشع ما يكون الجبن، وولّوا منهزمين على أعقابهم، وهم يقولون:

« ما لنا والدخول بين السلاطين ».

ولم يمض قليل من الوقت حتى فرّ معظمهم، وبقي ابن عقيل مع جماعة قليلة وقصد بهم نحو الجامع الأعظم ليؤدّي صلاة العشائين، ففرّوا

١٣٨

منهزمين في أثناء الصلاة، فقد قذف في قلوبهم الرعب، وسرت فيهم أوبئة الخوف، وما أنهى ابن عقيل صلاته حتى انهزموا جميعاً ولم يبق معه إنسان يدلّه على الطريق أو يأويه، وقد لبس الكوفيون بذلك ثياب العار والخزي، وأثبتوا أن ولاءهم لأهل البيت: كان عاطفياً، وغير مستقرّ في دخائل قلوبهم، وأعماق نفوسهم وأنّهم لا ذمّة ولا وفاء لهم.

وسار مسلم فخر بني هاشم متلدّداً في أزقّة الكوفة، وشوارعها يلتمس فيها داراً لينفق فيه بقية الليل، فلم يظفر بذلك، فقد خلت المدينة من المارة، كأنّما أعلن فيها منع التجول، فقد أغلق الكوفيون عليهم الأبواب مخافة أن تعرفهم مباحث الأمن، وعيون ابن زياد بأنّهم كانوا مع ابن عقيل فتلقي عليهم القبض، وتعرّضهم للتنكيَل وسوء العذاب.

في ضيافة طوعة:

وبقي ابن عقيل حائراً لا يدري إلى ابن مأواه وملجئه، فقد أحاطت به تيّارات من الهموم، وكاد قلبه أن ينفجر من شدّة الألم العاصف واستبان له انّه ليس في المصر رجل شريف يقوم بضيافته وحمايته، ومضى متلدّداً في أزقّة الكوفة، وانهى به السير إلى سيّدة كريمة، يقال لها طوعة هي سيّدة من في المصر بما تملكه من إنسانية وشرف ونبل، وكانت واقفة على باب دارها تنتظر قدوم ابنها، وهي فزعة عليه، من الأحداث الرهيبة التي مُني بها المصر، ولما رآها مسلم بادر نحوها فسلّم عليها، فردّتعليه‌السلام ، ووقف مسلم، فأسرعت قائلة:

« ما حاجتك؟ ».

« اسقيني ماءاً ».

١٣٩

وبادرت السيدة فجاءته بالماء فشرب منه، ثم جلس فارتابت منه فقالت له:

« ألم تشرب الماء؟.. ».

« بلى ».

« اذهب إلى أهلك ان مجلسك مجلس ريبة ».

وسكت مسلم فأعادت عليه القول، وطلبت منه الانصراف من باب دارها ومسلم ساكت، فذعرت منه، وصاحت به:

« سبحان الله!! إنّي لا أحلّ لك الجلوس على بابي ».

ولمّا حرّمت عليه الجلوس نهض، وقال لها بصوت خافت حزين النبرات:

« ليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة، فهل لك إلي أجر ومعروف أن تقومي بضيافتي في هذه الليلة، ولعلّي أكافئك بعد هذا اليوم ».

وشعرت المرأة بأن الرجل غريب، وانّه ذو شأن كبير، ومكانه عظمى، وانّه سيقوم بمكافئتها إن أسدت عليه إحساناً ومعروفاً فبادرته قائلة:

« ما ذاك يا عبد الله؟!! »

فقال لها وعيناه تفيضان دموعاً:

« أنا مسلم بن عقيل كذّبني القوم وغرّوني ».

فذهلت السيّدة، وقالت في دهشة وإكبار:

« انت مسلم بن عقيل؟. ».

« نعم ».

وسمحت السيّدة بخضوع وإكبار لضيفها الكبير بتشريف منزلها وقد

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230