العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام16%

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام مؤلف:
الناشر: انتشارات مهديّة
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 230

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 230 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 105670 / تحميل: 6123
الحجم الحجم الحجم
العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

مؤلف:
الناشر: انتشارات مهديّة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

« بلى نصلّي بصلاتك ».

وائتمّ الجيش بريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد الفراغ من الصلاة انصرفوا إلى اخبيتهم، ولما حضر وقت صلاة العصر جاء الحرّ مع قومه فاقتدوا بالامام في الصلاة وبعد الانتهاء منها خطب الإمام الحسينعليه‌السلام خطاباً رائعاً، فقد قال بعد حمد الله والثناء عليه:

«أيّها الناس: إنّكم إن تتّقوا الله، وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، فان أنتم كرهتمونا، وجهلتم حقّنا، وكان رأيكم الآن على غير ما أتتني به كتبكم انصرفت عنكم ».

لقد دعاهم إلى تقوى الله، ومعرفة أهل الحقّ، ودعاة العدل فان في ذلك رضاً لله ونجاة لأنفسهم، كما دعاهم إلى مناصرة أهل البيتعليهم‌السلام روّاد الشرف والفضيلة، ودعاة العدل الاجتماعي في الإسلام، وهم أولى وأحقّ بولاية أمور المسلمين من بني أميّة الذين حكموا فيهم بغير ما أنزل الله، وإذا لم يستجيبوا لذلك، وتبدّلت نيّاتهم فانّه ينصرف عنهم إلى المكان الذي جاء منه.

وانبرى إليه الحرّ، وكان لا يعلم بشأن الكتب التي بعثتها جماهير أهل الكوفة إلى الإمام فقال له:

« ما هذه الكتب التي تذكرها؟ ».

فأمر الإمام عقبة بن سمعان بإحضارها فأخرج خرجين مملوئين صحفاً فنشرها بين يدي الحرّ، فبهر منها، وجعل يتأمّل فيها، وقال للإمام:

« لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك ».

١٦١

ورام الإمام أن ينصرف إلى المكان الذي جاء منه فمنعه الحرّ، وقال له:

« أن لا أفارقك إذا لقيتك حتى أقدمك الكوفة على ابن زياد ».

ولذعت الامام هذه الكلمات القاسية، فثار في وجه الحرّ، وصاح به « الموت أدنى إليك من ذلك ».

وأمر الإمام أصحابه بالركوب فلمّا استووا على رواحلهم أمرهم بالتوجه إلى يثرب فحال الحرّ بينهم وبين ذلك، فصاح به الحسين:

« ثكلتك أمّك ما تريد منّا؟ ».

واطرق الحرّ برأسه إلى الأرض، وتأمّل، ثم رفع رأسه إلى الامام وقال له بأدب:

« ولكن والله ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل إلاّ بأحسن ما يقدر عليه ».

وسكن غضب الامام، وأعاد عليه القول:

« ما تريد منّا ..؟ ».

« أريد أن أنطلق بك إلى ابن زياد ».

« والله لا أتبعك ».

« إذن والله لا أدعك ».

وكاد الوضع أن ينفجر باندلاع الحرب إلاّ أن الحر ثاب إلى رشده، فقال للإمام:

« إنّي لم أُؤمر بقتالك، وانّما أُمرت أن لا افارقك حتى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة، ولا يردّك إلى المدينة حتى أكتب إلى ابن زياد، فلعلّ الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بأمرك ».

١٦٢

واتفقا على هذا الأمر فتياسر الإمام عن طريق العذيب والقادسية، وأخذت قافلة الإمام تطوي البيداء، وكان الحرّ مع جيشه يتابع الامام عن كثب ويراقبه كأشدّ ما تكون المراقبة.

خطاب الإمام:

وانتهى موكب الإمام إلى ( البيضة ) فألقى الإمام خطاباً رائعاً على الحرّ وأصحابه أعلن فيه عن دوافع ثورته ودعاهم إلى مناصرته، وكان من بنود هذا الخطاب هذه الفقرات:

« أيّها الناس: إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله » ..

« إلاّ أن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ ممن غيّر، وقد أتتني كتبكم، وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم انّكم لا تسلموني، ولا تخذلوني، فان أقمتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، وأنا الحسين بن علي، وابن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، ولكن فيَّ أسوة، وإن لم تفعلوا، ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي، فلعمري ما هي لكم بنكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي، وابن عمّي مسلم فالمغرور من اغترّ بكم، فحظّكم أخطأتم، ونصيبكم ضيّعتم، ومن نكث فانّما ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم ».

وأعلن أبو الأحرار في هذا الخطاب الرائع دوافع ثورته المقدّسة على

١٦٣

حكومة يزيد، وانّها لم تكن من أجل المطامع والأغراض الشخصية الخاصة، وانّما كانت استجابة للواجب الديني الذي لا يقرّ بأيّ حال من الأحوال حكومة السلطان الجائر الذي يستحلّ حرمات الله، وينكث عهده، ويخالف سنّة رسوله، وإن من لم يندفع إلى ساحات الجهاد لمناهضته فانّه يكون شريكاً له في ظلمه وجوره، كما ندّدعليه‌السلام بالأمويين وقد نعتهم بأنّهم قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، واستأثروا بالفيء، وعطّلوا حدود الله، والإمامعليه‌السلام أحقّ وأولى من غيره بتغيير الأوضاع الراهنة وإعادة الحياة الإسلامية المشرقة إلى مجراها الطبيعي بين المسلمين، وأعرب لهم أنّه إذا تقلّد شؤون الحكم فسيجعل نفسه مع أنفسهم، وأهله مع أهليهم من دون أن يكون له أي امتياز عليهم، وقد وضع الإمام بهذا الخطاب النقاط على الحروف، وفتح لهم منافذ النور لو كانوا يبصرون، ولما أنهى الإمام خطابه قام إليه الحرّ فقال له:

« أنّي أذكرك الله في نفسك، فانّي أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ ».

وردّ عليه أبو الشهداء قائلاً:

« أبالموت تخوّفني، وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني، وما أدري ما أقول لك، ولكنّي أقول: كما قال أخو الأوس لابن عمّه، وهو يريد نصرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أين تذهب، فانّك مقتول، فقال له:

سأمضي وما بالموت عار على الفتى

إذا ما نوى خيراً وجاهد مسلماً

ووآس الرجال الصالحين بنفسه

وخالف مثبوراً وفارق مجرما

فان عشت لم أندم وان متّ لم أُلم

كفى بك ذلاً أن تعيش وترغما

١٦٤

ولما سمع الحرّ ذلك تنحّى عنه، وعرف أنّه مصمّم على الموت والتضحية لإنقاذ المسلمين من ويلات الأمويين وجورهم:

رسالة ابن مرجانة إلى الحرّ:

وتابعت قافلة الإمام سيرها في البيداء، وهي تارة تتيامن، وأخرى تتياسر وجنود الحرّ يذودون الركب عن البادية، ويدفعونه تجاه الكوفة، والركب يمتنع عليهم، وبينما هم كذلك، وإذا براكب يجدّ في سيره، فلبثوا هنيئة ينتظرونه فإذا به رسول من ابن زياد إلى الحرّ، فسلّم الخبيث على الحرّ، ولم يسلّم على ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وناول الحرّ رسالة من ابن مرجانة جاء فيها:

« أمّا بعد: فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي، ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلاّ بالعراء في غير حصن، ولا على غير ماء، وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري والسلام ».

وأعرض ابن مرجانة عما عهد به إلى الحر من إلقاء القبض على الإمام، وإرساله مخفوراً إلى الكوفة، ومن المحتمل أنّه خاف من تطوّر الأحداث، وانقلاب الأوضاع إليه ان وصل الإمام إلى الكوفة، فرأى التحجير في الصحراء بعيداً عن المدن أولى بالوصول إلى أهدافه.

وقرأ الحرّ كتاب ابن مرجانة على الإمام، وكان يريد أن يستأنف سيره ليحطّ رحله صوب قرية أو ماء، فامتنع عليه الحرّ لأن نظرات الرقيب الوافد من ابن زياد كانت تتابعه، وكان يسجّل عليه كل بادرة يخالف أوامر سيّده ابن مرجانة، وأشار زهير بن القين وهو من أعلام أنصار الإمام ومن خلّص أصحابه عليه أن يبادر إلى قتال الحرّ، فامتنع عليه الإمام، وقال ما كنت أبدأهم بقتال.

١٦٥

في كربلاء

وكان ركب الإمام في كربلاء فأصرّ عليه الحرّ أن ينزل فيها، ولم يجد الإمام بُدّاً من النزول فالتفت إلى أصحابه قائلاً:

«ما اسم هذا المكان ؟ ».

«كربلاء ».

وفاضت عيناه بالدموع، وراح يقول:

«اللهمّ إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء ».

وأيقن الإمام بنزول الرزء القاصم، فالتفت إلى أصحابه ينعي إليهم نفسه ونفوسهم قائلاً:

«هذا موضع كرب وبلاء، ها هنا مناخ ركابنا، ومحطّ رحالنا، وسفك دمائنا ».

وسارع أبو الفضل العباس مع الفتية من أهل البيتعليهم‌السلام ، وسائر الأصحاب الممجدين إلى نصب الخيام لعقائل الوحي، ومخدرات النبوة، وقد خيّم عليهنّ الرعب، وأيقن بمواجهة الأحداث الرهيبة على صعيد هذه الأرض.

ورفع الإمام الممتحن يديه بالدعاء إلى الله شاكياً إليه ما ألمّ به من عظيم المحن والخطوب قائلاً:

«اللهمّ انّا عترة نبيّك محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أخرجنا، وطردنا، وأزعجنا عن حرم جدّنا وتعدّت بنو أميّة علينا، اللهمّ فخذ لنا بحقّنا، وانصرنا على القوم الظالمين ».

١٦٦

وأقبل الإمام على أهل بيته وأصحابه، فقال لهم:

«الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم فإذا مُحصوا بالبلاء قلَّ الديّانون ».

يا لها من كلمات ذهبية حكت واقع الناس واتجاهاتهم في جميع مراحل التأريخ فهم عبيد الدنيا، وعبيد السلطة، وأما الدين والمثل العليا فلا ظلّ لها في أعماق نفوسهم، فإذا دهمتهم عاصفة أو بلاء هربوا من الدين، ولم يثبت عليه إلاّ من امتحن الله قلبه للإيمان أمثال الصفوة العظيمة من أهل بيت الحسين وأصحابه.

ثم حمد الامامعليه‌السلام الله وأثنى عليه، والتفت إلى أصحابه قائلاً:

«أمّا بعد: فقد نزل بنا ما قد ترون. وان الدنيا قد تغيّرت، وتنكّرت، وأدبر معروفها ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل (١) ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله، فاني لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برما »(٢) .

لقد أعلن أبو الأحرار بهذا الخطاب عمّا حلّ به من المحن والبلوى، وأعلم أهل بيته وأصحابه عن عزمه الجبّار وأرادته الصلبة في مقارعة الباطل، واقامة الحق الذي آمن به في جميع أدوار حياته وقد وجه إليهم هذا الخطاب ليكونوا على بيّنة من أمرهم، ويشاركوه في تحمّل المسؤولية، وقد هبّوا جميعاً وهم يسجّلون في تأريخ البشرية أروع الأمثلة للتضحية والفداء من أجل إقامة دولة الإسلام، وكان أول من تكلّم منهم زهير بن

__________________

(١) المرعى الوبيل: هو الطعام الوخيم الذي يخاف وباله وسوء عاقبته.

(٢) حياة الإمام الحسين ٣: ٩٨.

١٦٧

القين وهو من أفذاذ الأحرار فقال له:

« سمعنا يا بن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مقالتك، ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنّا فيها مخلّدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها ».

ومثلت هذه الكلمات شرف الإنسان الذي لا يضاهيه شرف، وقد حكى ما في نفوس أصحابه الأحرار من الولاء لريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والتفاني في سبيله، وانبرى بطل آخر من أصحاب الإمام وهو برير الذي وهب حياته لله، فقال له:

يا بن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لقد منّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك، وتقطع فيك أعضاؤنا، ثم يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة ».

ولا يوجد في البشرية مثل هذا الإيمان الخالص، لقد أيقن أن نصرته لابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فضل ومنّة من الله عليه ليفوز بشفاعة جدّه الأعظم يوم يلقى الله.

وانبرى بطل آخر من أصحاب الإمام، وهو نافع فأعلن نفس المصير الذي اختاره الأبطال من أصحابه، فقال:

« أنت تعلم أن جدّك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقدر أن يشرب الناس محبّته، ولا أن يرجعوا إلى أمره ما أحبّ، وقد كان منهم منافقون يعدونه بالنصر، ويضمرون له الغدر، يلقونه بأحلى من العسل، ويخلفونه بأمرّ من الحنظل، حتى قبضه الله إليه، وان أباك عليّاً كان في مثل ذلك، فقوم قد أجمعوا على نصره، وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين، حتى أتاه أجله فمضى إلى رحمة الله ورضوانه وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة، فمن نكث عهده، وخلع بيعته فلن يضرّ إلاّ نفسه، فسر بنا راشداً معافى، مشرقاً، ان شئت أو مغرباً، فوالله ما اشفقنا من قدر الله، ولا كرهنا لقاء ربّنا،

١٦٨

وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا، نوالي من والاك ونعادي من عاداك »(١) .

دلّ هذا الخطاب الرائع على وعي نافع، وإدراكه العميق للأحداث ودراسته لأبعادها فقد أعرب أن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بما يملك من طاقات روحية لم يستطع أن يجمع الناس على محبّته، ويخضعهم إلى الإيمان برسالته، فقد كان هناك طائفة من المنافقين انتشروا في صفوف المسلمين، وهم يضمرون الكفر في دخائل نفوسهم ويظهرون الإسلام على ألسنتهم، وكانوا يبغون للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الغوائل ويكيدون له في غلس الليل وفي وضح النهار، وكذلك حال وصيّه وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين من بعده فقد ابتلي بمثل ما ابتلي به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد آمن به قوم وحاربه قوم آخرون، وحال الإمام الحسينعليه‌السلام كحال جدّه وأبيه، فقد آمنت به قلّة مؤمنة من أصحابه، وزحفت لحربه الجموع الهائلة من الذين نزع الله الإيمان من قلوبهم.

وعلى أيّ حال فقد تكلّم أكثر أصحاب الإمام بمثل كلام نافع وهم يعلنون له الإخلاص والتفاني، وقد شكرهم الامام، وأثنى عليهم، ودعا لهم بالمغفرة والرضوان.

خروج الجيوش لحرب الإمام الحسين:

وتمّت أحلام ابن مرجانة، وتحققت آماله حينما استولت طليعة جيوشه على ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخذ يطيل النظر فيمن ينتدبه لحربه، ويرشّحه لقيادة قوّاته المسلّحة، وتصفح الأرجاس من أذنابه

__________________

(١) مقتل المقرم: ٢٣١.

١٦٩

وعملائه، فلم ير رجساً مثل عمر بن سعد يقدم على اقتراف هذه الجريمة فقد درس نفسيته، ووقف على ميوله واتجاهاته التي منها الخنوع والمروق من الدين، وعدم المبالاة بارتكاب الآثام والجرائم، والتهالك على المادة وغير ذلك من نزعاته الشريرة.

وعرض ابن مرجانة سليل الأدعياء على ابن سعد القيام بحرب سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فامتنع عن إجابته فهدده بعزله عن ولاية الريّ فلم يطق صبراً عنها، فقد سال لها لعابه فأجابه إلى ذلك، وزحف إلى كربلاء، ومعه أربعة آلاف فارس، وهو يعلم أنّه خرج لقتال ذريّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين هم خيرة من في الأرض، وانتهى الجيش إلى كربلاء فانظم إلى الجيش الرابض هناك بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي.

خطبة ابن زياد:

وأمر الطاغية بجمع الناس في رحاب المسجد الأعظم فهرعوا كالأغنام خوفاً من ابن مرجانة، وقد امتلأ الجامع منهم فقام خطيباً فقال:

« أيّها الناس: إنّكم قد بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبّون، وهذا أمير المؤمنين يزيد، قد عرفتموه حسن السيرة، محمود الطريقة، محسناً إلى الرعية، يعطي العطاء في حقّه، وقد أمنت السبل على عهده، وكذلك كان أبوه معاوية في عصره، وهذا ابنه يزيد يكرم العباد، ويغنيهم بالأموال، وقد زادكم في أرزاقكم مائة مائة، وأمرني أن أقّرؤها عليكم، واخرجكم إلى حرب عدوّه الحسين فاسمعوا له وأطيعوا »(١) .

لقد خاطبهم باللغة التي يفهمونها، ويتهالكون عليها، ويقدمون

__________________

(١) الطبري ٦: ٢٣٠.

١٧٠

أرواحهم بسخاء في سبيلها، وهي المادة التي هاموا بحبها، وقد أجابوه إلى ما أراد فزجّهم لاقتراف أفظع جريمة في تأريخ البشرية.

واسند القيادة في بعض قطعات جيشه إلى كل من الحصين بن نمير، وحجار بن أبجر، وشمر بن ذي الجوشن، وشبث بن ربعي، وغيرهم، وقد زحفوا بمن معهم إلى كربلاء لمساعدة ابن سعد.

احتلال الفرات:

وقامت العصابة المجرمة التي تحمل شرور أهل الأرض وخبثهم باحتلال الفرات، ولم تبق شريعة أو منفذ إلاّ وقد وضع عليها الحرس، وقد صدرت إليهم الأوامر المشدّدة من قبل القيادة العامة بالحذر واليقظة كي لا تصل قطرة من الماء إلى عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين هم من خيرة ما خلق الله.

ويقول المؤرّخون: حيل بين الحسين والماء قبل قتله بثلاثة أيّام(١) وكان ذلك من أعظم ما عاناه الإمام من المحن والخطوب، فكان يسمع صراخ أطفاله، وهم ينادون: العطش، العطش، وذاب قلب الإمام حناناً ورحمة لذلك المشهد الرهيب، فقد ذبلت شفاه أطفاله، وذوي عودهم، وجفّ لبن المراضع، وصوّر أنور الجندي هذا المنظر المفجع بقوله:

وذئاب الشرور تنعم بالماء

وأهـل النبيّ من غير ماء

يالظلم الأقدار يظمأ قلب الليث

والليث موثق الأعضاء

وصغار الحسين يبكون في الصحراء

يا ربّ أين غوث القضاء

_________________

(١) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان: ٨٩.

١٧١

لقد نزع الله الرحمة من قلوبهم، فتنكّروا لإنسانيتهم، وتنكّروا لجميع القيم والأعراف، فان جميع الشرائع والمذاهب لا تبيح منع الماء عن النساء والأطفال فالناس فيه جميعاً شركاء، وقد أكّدت ذلك الشريعة الإسلامية، واعتبرته حقاً طبيعياً لكل إنسان، ولكن الجيش الأموي لم يحفل بذلك، فحرم الماء على آل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان بعض الممسوخين يتباهى ويفخر لحرمانهم الحسين من الماء، فقد انبرى الوغد اللئيم المهاجر بن أوس صوب الامام رافعاً صوته قائلاً:

« يا حسين ألا ترى الماء يلوح كأنّه بطون الحيات، والله لا تذوقه أو تموت دونه »(١) .

واشتدّ عمرو بن الحجاج نحو الحسين، وهو فرح كأنّما ظفر بمكسب أو مغنم قائلاً:

« يا حسين هذا الفرات تلغ فيه الكلاب، وتشرب فيه الحمير والخنازير، والله لا تذوق منه جرعة حتى تذوق الحميم في نار جهنّم »(٢) .

وكان هذا الوغد الأثيم ممن كاتب الإمام الحسينعليه‌السلام بالقدوم إلى الكوفة.

وانبرى جلف آخر من أوغاد أهل الكوفة وهو عبد الله بن الحصين الأزدي فنادى بأعلى صوته لتسمعه مخابرات ابن مرجانة فينال منه جوائزه وهباته، قائلاً:

« يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنّه كبد السماء، والله لا تذوق منه قطرة

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ١٨١.

(٢) أنساب الأشراف ٣: ١٨٢، تأريخ ابن الأثير ٤: ٢٣٦.

١٧٢

حتى تموت عطشاً ».

فرفع الإمام يديه بالدعاء عليه قائلاً:

«اللهمّ اقتله عطشاً، ولا تغفر له أبداً »(١) .

لقد تمادى هؤلاء الممسوخون بالشرّ، وسقطوا في هوّة سحيقة من الجرائم والآثام ما لها من قرار.

سقاية العباس لأهل البيت:

والتاع أبو الفضل العبّاس كأشدّ ما تكون اللوعة ألماً ومحنة حينما رأى أطفال أخيه وأهل بيته وهم يستغيثون من الظمأ القاتل، فانبرى الشهم النبيل لتحصيل الماء، وأخذه بالقوة، وقد صحب معه ثلاثين فارساً، وعشرين راجلاً، وحملوا معهم عشرين قربة، وهجموا بأجمعهم على نهر الفرات وقد تقدّمهم نافع بن هلال المرادي وهو من أفذاذ أصحاب الامام الحسين فاستقبله عمرو بن الحجاج الزبيدي وهو من مجرمي حرب كربلاء وقد اعهد إليه حراسة الفرات فقال لنافع:

« ما جاء بك؟ ».

« جئنا لنشرب الماء الذي حلأتمونا عنه ».

« اشرب هنيئاً ».

« أفأشرب والحسين عطشان، ومن ترى من أصحابه؟. ».

« لا سبيل إلى سقي هؤلاء، انّما وضعنا بهذا المكان لمنعهم عن الماء ».

__________________

(١) الصراط السوي في مناقب آل النبي: ٨٦.

١٧٣

ولم يعن به الأبطال من أصحاب الإمام، وسخروا من كلامه، فاقتحموا الفرات ليملأوا قربهم منه، فثار في وجوههم عمرو بن الحجاج ومعه مفرزة من جنوده، والتحم معهم بطل كربلاء أبو الفضل، ونافع بن هلال، ودارت بينهم معركة إلاّ انّه لم يقتل فيها أحد من الجانبين، وعاد أصحاب الامام بقيادة أبي الفضل، وقد ملأوا قربهم من الماء.

لقد أروى أبو الفضل عطاشى أهل البيت، وانقذهم من الظمأ، وقد منح منذ ذلك اليوم لقب ( السقاء ) وهو من أشهر ألقابه، وأكثرها ذيوعاً بين الناس كما أنّه من أحبّ الألقاب وأعزّها عنده(١) .

أمان الشمر للعباس وأخوته:

وبادر الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن إلى سيّده ابن مرجانة فأخذ منه أماناً لأبي الفضل وأخوته الممجّدين، وقد ظنّ أنّه سيخدعهم، ويفردهم عن أخيهم أبي الأحرار، وبذلك يضعف جيش الإمام، لأنّه يخسر هؤلاء الأبطال الذين هم من أشجع فرسان العرب، وجاء الخبيث يشتدّ كالكلب، وقد وقف أمام جيش الحسين، وهتف منادياً:

« أين بنو أختنا العباس واخوته؟ ».

وهبّت الفتية كالأسود، فقالوا له:

« ما تريد يابن ذي الجوشن؟ ».

فانبرى مستبشراً يبدي لهم الحنان المزيّف قائلاً:

« لكم الأمان ».

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ١٨١.

١٧٤

وصاحوا به، وهم يتميّزون من الغيظ، فقد لذعهم قوله:

« لعنك الله، ولعن أمانك، أتؤمننا، وابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا أمان له »(١) .

وولّى الخبيث خائباً فقد ظنّ أن السادة الأماجد اخوة الإمام من طراز أصحابه الممسوخين الذين باعوا ضمائرهم على ابن مرجانة ووهبوا حياتهم للشيطان، ولم يعلم أن أخوة الحسينعليه‌السلام من أفذاذ الدنيا، الذين صاغوا الكرامة الإنسانية، وصنعوا الفخر والمجد للإنسان.

زحف الجيوش لحرب الحسين:

وزحفت طلائع الشرك والكفر لحرب ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في عصر الخميس لتسع خلون من شهر محرم، بعد أن صدرت إليهم الأوامر المشدّدة من ابن مرجانة بتعجيل القتال وحسم الموقف خوفاً من تبلور رأي الجيش وحدوث انقسام في صفوفه، وكان الإمام محتبياً بسيفه أمام بيته اذ خفق برأسه، فسمعت شقيقته عقيلة بني هاشم السيدة زينب أصوات الرجال، وتدافعهم نحو أخيها، فانبرت إليه فزعة مرعوبه، فايقظته، فرفع الإمام رأسه فرأى أخته مذهولة، فقال لها بعزم وثبات:

«إنّي رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام، فقال: إنك تروح إلينا ».

وذابت نفس العقيلة أسى وحسرات، وانهارت قواها، ولم تملك نفسها أن لطمت وجهها، وراحت تقول:

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ١٨٤.

١٧٥

« يا ويلتاه »(١) .

والتفت أبو الفضل إلى أخيه فقال له:

« أتاك القوم ».

وطلب الإمام منه أن يتعرّف على خبرهم قائلاً:

«اركب بنفسي أنت يا أخي، حتى تلقاهم، فتقول لهم: ما بدا لكم، وما تريدون؟ ».

لقد فدى الإمامعليه‌السلام اخاه بنفسه، وهو مما يدلّ على سموّ مكانته، وعظيم منزلته، وانه قد بلغ قمّة الإيمان، وأعلى مراتب المتقين وأسرع أبو الفضل نحو الجيش، ومعه عشرون فارساً من أصحابه، ومن بينهم زهير بن القين، وحبيب بن مظاهر، وسألهم أبو الفضل عن سبب زحفهم، فقالوا له:

« جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم النزول على حكمه، أو نناجزكم »(٢) .

وقفل العباس إلى أخيه، فأخبره بمقالتهم، وراح حبيب بن مظاهر يعظهم ويحذّرهم من عقاب الله قائلاً:

« أما والله بئس القوم يقدمون غداً على الله عزّ وجلّ، وعلى رسوله محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد قتلوا ذريته، وأهل بيته، المتهجّدين بالاَسحار، الذاكرين الله كثيراً بالليل والنهار، وشيعته الأتقياء الأبرار »(٣) .

وردّ عليه بوقاحة عزرة بن قيس فقال له:

__________________

(١) ابن الأثير ٣: ٢٨٤.

(٢) البداية والنهاية ٨: ١٧٧.

(٣) حياة الإمام الحسين ٣: ١٧٢.

١٧٦

« يا بن مظاهر إنّك لتزكّي نفسك ».

وانبرى إليه البطل الفذّ زهير بن القين فقال له: « أتق الله يا بن قيس، ولا تكن من الذين يعينون على الضلال ويقتلون النفس الزكية الطاهرة، عترة خيرة الأنبياء ».

فأجابه عزرة:

« كنت عندنا عثمانياً فما بالك، ».

فردّ عليه زهير بمنطق الشرف والإيمان:

« والله ما كتبت إلى الحسين، ولا أرسلت إليه رسولاً، ولكن الطريق جمعني وإياه، فلما رأيته ذكرت به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعرفت ما تقدمون من غدركم، ونكثكم، وسبيلكم إلى الدنيا، فرأيت أن أنصره، وأكون في حزبه حفظاً لما ضيّعتم من حقّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله »(١) .

لقد كان كلام زهير حافلاً بالصدق بجميع رحابه، فقد بيّن أنّه لم يكتب إلى الإمام بالقدوم إلى الكوفة لأنّه كان عثماني الهوى، ولكنه حينما التقى بالإمام في الطريق ووقف على واقع الحال من غدر أهل الكوفة به، ونكثهم لبيعته انقلب رأساً على عقب، وصار من أنصار الإمام، ومن أكثرهم مودّة وحباً له، لأن الإمام من ألصق الناس برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وعلى أيّ حال فقد عرض أبو الفضل مقالة القوم على أخيه، فقال له:

«ارجع إليهم فان استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة لعلّنا نصلّي لربّنا هذه الليلة، وندعوه، ونستغفره فهو يعلم أنّي أحبّ الصلاة،

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ١٨٤.

١٧٧

وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار ... ».

لقد أراد ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يودّع الحياة الدّنيا بأثمن ما فيها وهي الصلاة والدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن الكريم، وان يواجه الله تعالى وقد تزوّد منها.

ورجع أبو الفضلعليه‌السلام إلى معسكر ابن مرجانة فأخبرهم بمقالةِ أخيه فعرض ابن سعد ذلك على الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن خوفاً من وشايته إذا استجاب لطلب الإمام، فقد كان شمر المنافس الوحيد لابن سعد على إمارة الجيش كما كان عيناً عليه، كما أراد أن يكون شريكاً له في المسؤولية فيما إذا عاتبه ابن زياد على تأخير الحرب.

ولم يبد الشمر أي رأي له في الموضوع، وانما أحاله لابن سعد ليكون هو المسؤول عنه، وانبرى عمرو بن الحجاج الزبيدي فأنكر عليهم هذا التردد والإحجام عن إجابة الإمام قائلاً:

« سبحان الله!! والله لو كان من الديلم ثم سألكم هذه المسألة لكان ينبغي أن تجيبوه »(١) .

ولم يزد ابن الحجّاج على ذلك، فلم يقل لهم: انّه ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وانّهم هم الذين غرّوه وكاتبوه بالقدوم إلى مصرهم، لم يقل ذلك خوفاً من أن تنقل الاستخبارات العسكرية إلى ابن زياد ذلك فينال العقاب والحرمان، وأيّد ابن الأشعث مقالته، فاستجاب ابن سعد إلى تأجيل الحرب، وأوعز إلى رجل من أصحابه أن يعلن ذلك، فدنا من معسكر الإمام ورفع صوته قائلاً:

__________________

(١) تأريخ ابن الأثير ٣: ٢٨٥.

١٧٨

« يا أصحاب الحسين بن علي قد أجّلناكم يومكم هذا إلى غد فان استسلمتم ونزلتم على حكم الأمير وجهنا بكم إليه وان أبيتم ناجزناكم »(١) .

وأُرجئ القتال إلى صبيحة اليوم العاشر من المحرّم، وظلّ جيش ابن سعد ينتظرون الغد هل يجيبهم الإمام أو يرفض ما دعوه إليه.

الإمام يأذن لأصحابه بمفارقته:

وجمع ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أهل بيته وأصحابه في ليلة العاشر من المحرم، وعرض عليهم ما يلاقيه من الشهادة، وطلب منهم أن ينطلقوا في رحاب الأرض ويتركوه وحده ليقلى مصيره المحتوم، وقد أراد بذلك أن يكونوا على بيّنة من أمرهم فقال لهم:

« أثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السرّاء والضرّاء اللهمّ إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلّمتنا القرآن، وفهّمتنا في الدين وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، ولم تجعلنا من المشركين.

أمّا بعد: فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت خيراً من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً عنّي خيراً، ألا وانّي لاَظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، واني قد أذنت لكم جميعاً فانطلقوا في حلّ ليس عليكم منّي ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً، ثم تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله، فان

__________________

(١) حياة الإمام الحسين ٣: ١٦٥.

١٧٩

القوم انّما يطلبونني ولو أصابوني لُهوا عن طلب غيري »(١) .

وتمثّلت روعة الإيمان، وسرّ الإمامة بهذا الخطاب العظيم الذي كشف جانباً كبيراً عن نفسية أبي الأحرار، فقد تجنّب في هذا الموقف الدقيق الحاسم جميع ألوان المنعطفات، ووضع أصحابه وأهل بيته أمام الأمر الواقع فقد حدد لهم النتيجة التي لا مفرّ منها وهي القتل والتضحية، وليس هناك أي شيء آخر من متع الدنيا، وقد طلب منهم أن يخلوا عنه وينصرفوا تحت جنح الظلام، فيتخذونه ستراً دون كل عين، فلعلّهم يخجلون أن يبتعدوا عنه في وضع النهار، فقد جعلهم في حلّ من التزاماتهم تجاهه، وقد عرّفهم أنّه بالذات هو الهدف لتلك الوحوش الكاسرة المتعطشة إلى سفك دمه، فإذا ظفروا به فلا إرب لهم في طلب غيره.

جواب أهل البيت:

ولم يكد يفرغ الإمام من خطابه حتى هبّت الصفوة من أهل البيتعليهم‌السلام ، وعيونهم تفيض دموعاً، وهم يعلنون ولاءهم له، وتضحيتهم في سبيله، وقد مثلهم أبو الفضل العباسعليه‌السلام فخاطب الإمام قائلاً:

« لم نفعل ذلك؟!! لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك أبداً ».

والتفت الإمام إلى السادة من ابناء عمّه من بني عقيل، فقال لهم:

« حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا فقد اذنت لكم ».

وهبّت فيتة آل عقيل كالأسود تتعالى أصواتهم، قائلين:

« إذن ما يقول الناس:، وما نقول:، إنا تركنا شيخنا وسيّدنا، وبني

__________________

(١) ابن الأثير ٣: ٢٨٥.

١٨٠

عمومتنا خير الأعمام، ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن برمح، ولم نضرب بسيف ولا ندري ما صنعوا، لا والله لا نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا واموالنا وأهلينا نقاتل معك، حتى نرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك »(١) .

لقد صمّموا على حماية الإمام العظيم، والدفاع عن أهدافه ومبادئه، واختاروا الموت تحت ظلال الأسنّة على الحياة التي لا هدف فيها.

جواب أصحابه:

أمّا أصحاب الإمامعليه‌السلام فهم أحرار هذه الدنيا، وقد اندفعوا يعلنون للإمامعليه‌السلام الفداء والتضحية دفعاً عن المبادئ المقدّسة التي ناضل من أجلها الإمام، وقد انبرى مسلم بن عوسجة فخاطب الإمام قائلاً:

« أنحن نخلّي عنك، وبماذا نعتذر إلى الله في اداء حقّك، أما والله لا أفارقك حتى أطعن في صدورهم برمحي، وأضرب بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم لقذفتهم بالحجارة حتى أموت معك ».

لقد عبّرت هذه الكلمات عن عميق إيمانه بريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وانّه سيذبّ عنه حتى النفس الأخير من حياته.

وانبرى بطل آخر من أصحاب الإمام وهو سعيد بن عبد الله الحنفي فخاطب الإمام قائلاً:

« والله لا نخلّيك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيك، أما والله لو علمت أنّي أقتل، ثم أحيا، ثم أحرق، ثم أذرى يفعل بي ذلك

__________________

(١) تأريخ الطبري ٦: ٢٣٨.

١٨١

سبعين مرّة لما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك، وانّما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا ».

وليس في قاموس الوفاء أصدق، ولا أنبل من هذا الوفاء، فهو يتمنّى من صميم قلبه أن تجري عليه عملية القتل سبعين مرّة ليفدي الإمامعليه‌السلام ، ليحفظ بذلك غيبة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكيف لا يستطيب الموت في سبيله وانّما هو مرّة واحدة، ثم هي الكرامة الاَبدية التي لا انقضاء لها.

وانبرى زهير بن القين فأعلن نفس الاتجاه الذي أعلنه المجاهدون من إخوانه قائلاً:

« والله لوددت أنّي قُتلت، ثم نشرت، ثم قتلت حتى أقتل ألف مرّة، وان الله عزّ وجلّ يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك »(١) .

أرأيتم وفاء هؤلاء الأبطال، فهل تجدون لهم مثيلاً في تأريخ هذه الدنيا، لقد ارتفعوا إلى مستوى من النبل والشهامة لم يبلغه أي إنسان وقد أعطوا بذلك الدروس المشرقة في الدفاع عن الحق.

وأعلن بقيّة أصحاب الإمامعليه‌السلام الترحيب بالشهادة في سبيل إمامهم، فجزاهم خيراً، وأكّد لهم جميعاً أنّهم سينعمون في الفردوس الأعلى، ويحشرون مع النبيين والصدّيقين، وهتفوا جميعاً:

« الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك، وشرّفنا بالقتل معك، أو لا ترضى أن نكون معك في درجتك يا بن رسول الله »(٢) .

لقد أُترعت نفوس هؤلاء الأبطال بالإيمان العميق، فتحرّروا من

__________________

(١ و ٢) حياة الإمام الحسين ٣: ١٦٨ ـ ١٦٩.

١٨٢

جميع ملاذ الحياة ولهوها، واتجهوا صوب الله، فرفعوا راية الإسلام عالية خفّاقة في رحاب هذا الكون.

إحياء الليل بالعبادة:

وأقبل الإمامعليه‌السلام مع الصفوة الطيبة المؤمنة من أهل بيته وأصحابه نحو الله يناجونه بقلوبهم وعواطفهم، وهم يسألونه العفو والغفران ولم يذق أحد منهم طعم الرقاد، فقد كانوا ما بين راكع وساجد وقارىء للقرآن، وكان لهم دويّ كدويّ النحل.

وكانوا ينتظرون انبثاق نور الصبح بفارغ الصبر لينالوا الشهادة بين يديّ ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وأما معسكر ابن زياد فقد باتوا وهم في شوق لطلوع الصبح ليريقوا دماء أهل البيتعليهم‌السلام ليقترّبوا بها إلى سيّدهم ابن مرجانة.

* * *

١٨٣

يوم عاشوراء

وليس مثل يوم العاشر من المحرّم في مآسيه وكآبته وكوارثه، فلم تبق محنة من محن الدنيا، ولا فاجعة من فواجع الدهر إلاّ جرت على ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فلا يوم مثل ذلك اليوم الخالد في دنيا الأحزان.

دعاء الامام:

وخرج أبو الأحرار من خبائه فرأى البيداء قد ملئت خيلاً ورجالاً وقد شهر أولئك البغاة اللئام سيوفهم لإراقة دمه، ودماء الصفوة البررة من أهل بيته وأصحابه لينالوا الأجر الزهيد من الإرهابي المجرم ابن مرجانة، ودعا الإمام بمصحف فنشره على رأسه، ورفع يديه بالدعاء إلى الله قائلاً:

«اللهمّ أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدوّ أنزلته بك، وشكوته إليك رغبة منّي إليك عمّن سواك، ففرّجته وكشفته، وكفيته،

١٨٤

فأنت وليّ كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل رغبة »(١) .

لقد أناب الإمام إلى الله، وأخلص له، فهو وليّه، والملجأ الذي يلجأ إليه في كل نائبة نزلت به.

خطبة الإمام:

ورأى الإمامعليه‌السلام أن يقيم الحجّة البالغة على أُولئك الوحوش قبل أن يقدموا على اقتراف الجريمة، فدعا براحلته فركبها، واتجه نحوهم، فخطب فيهم خطابه التأريخي الحافل بالمواعظ والحجج، فقد نادى بصوت عال يسمعه جلّهم:

«أيّها الناس اسمعوا قولي، ولا تعجلوا حتى أعظكم بما هو حقّ لكم عليّ، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فان قبلتم عذري، وصدقتم قولي وأعطيتموني النصف، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليَّ سبيل، وان لم تقبلوا منّي العذر، ولم تعطوا النصف من أنفسكم، فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمّة، ثم امضوا إليَّ ولا تُنظرون، إن ولّيي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين ».

وحمل الأثير هذه الكلمات إلى السيدات من عقائل النبوة، ومخدرات الرسالة فتصارخن بالبكاء، فبعث إليهنّ أخاه العباس، وابنه عليّاً، وقال لهما:

سكّتاهنّ، فلعمري ليكثر بكاؤهنّ، ولما سكتن استرسل في خطابه

__________________

(١) تأريخ ابن عساكر ١٣: ١٤.

١٨٥

فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على جدّه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى الملائكة والأنبياء، وقال في ذلك: ما لا يحصى ذكره، ولم يسمع لا قبله، ولا بعده أبلغ منه في منطقه(١) .

وكان مما قاله:

«أيّها الناس ان الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته، والشقيّ من فتنته، فلا تغرنّكم هذه الدنيا، فانها تقطع رجاء من ركن إليها، وتخيب طمع من طمع فيها، وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته، فنعم الرب ربّنا، وبئس العبيد أنتم، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم أنكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبّاً لكم ولما تريدون، إنّا لله وإنّا إليه راجعون هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبُعداً للقوم الظالمين ».

لقد وعظ الإمامعليه‌السلام أعداءه بهذه الكلمات التي تمثّل هدي الأنبياء ومحنتهم في أممهم، لقد حذّرهم من فتنة الدنيا وغرورها، وأهاب بهم من التورّط في قتل عترة نبيّهم وذريّته، وانّهم بذلك يستوجبون العذاب الأليم، والسخط الدائم، ثم استرسل الإمام الممتحن في خطابه فقال:

«أيّها الناس: انسبوني من أنا، ثم ارجعوا إلى أنفسكم، وعاتبوها، وانظروا هل يحلّ لكم قتلي، وانتهاك حرمتي، ألست ابن بنت نبيّكم، وابن وصيّه، وابن عمّه، وأول المؤمنين بالله، والمصدق

__________________

(١) تأريخ الطبري ٦: ٢٤٢.

١٨٦

لرسوله، بما جاء من عند ربّه، أو ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي، أو ليس جعفر الطيّار عمّي، أو لم يبلغكم قول رسول الله ٩ لي ولأخي « هذان سيّدا شباب أهل الجنّة » فان صدّقتموني بما أقول: وهو الحقّ، والله ما تعمّدت الكذب منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله، ويضرّ به من اختلقه، وإن كذّبتموني فان فيكم من إذا سألتموه أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وابا سعيد الخدري، وسهل ابن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك يخبروكم انّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله ٩ لي ولأخي أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي ، ».

وكان خليقاً بهذا الخطاب المشرق أن يرجع لهم حوازب عقولهم، ويردّهم عن طغيانهم، فقد وضع الإمام النقاط على الحروف، ودعاهم إلى التأمل ولو قليلاً ليمعنوا في شأنه أليس هو حفيد نبيّهم وابن وصيه، وهو سيّد شباب أهل الجنة كما أعلن ذلك جدّه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وفي ذلك حصانة له من سفك دمه وانتهاك حرمته، ولكن الجيش الأموي لم يع هذا المنطق، فقد خلد إلى الجريمة، واسودّت ضمائرهم، وحيل بينهم وبين ذكر الله.

وتصدّى لجواب الإمام شمر بن ذي الجوشن وهو من الممسوخين فقال له:

« هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول ».

وحقاً انه لم يع ما يقول الإمام فقد ران على قلبه الباطل، وغرق في الاثم وقد أجابه حبيب بن مظاهر وهو من أعلام الهدى والصلاح فقال له:

« والله انّي لأراك تعبد الله على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول، قد طبع الله على قلبك ».

١٨٧

والتفت الإمام إلى قطعات الجيش فخاطبهم:

«فإن كنتم في شكّ من هذا القول، أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيكم فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم، ولا في غيركم، ويحكم أتطلبونني بقتيل منكم قتلته، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص جراحة ».

وغدوا حيارى لا يملكون جواباً لردّه، ثم التفت الإمام إلى قادة الجيش الذين دعوه بالقدوم إلى مصرهم فقال لهم:

«يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا زيد بن الحرث، ألم تكتبوا إليَّ ان قد أينعت الثمار، وأخضر الجناب، وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة ».

وأنكر أُولئك الخونة كتبهم، وما عاهدوا عليه الله من نصرهم للإمام، فقالوا له « لم نفعل ذلك ».

وبهر الإمام من ذلك وراح يقول:

«سبحان الله!! بلى والله لقد فعلتم ».

وأعرض الإمام عنهم، ووجّه خطابه إلى جميع قطعات الجيش قائلاً:

«أيّها الناس: إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض ».

وتصدّى لجوابه قيس بن الأشعث وهو من رؤوس المنافقين، وقد خلع كل شرف وحياء فقال له:

« أو لا تنزل على حكم بني عمّك، فانّهم لن يروك إلاّ ما تحبّ، ولن يصل إليك منهم مكروه ».

فردّ عليه الإمام قائلاً:

١٨٨

«أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل، لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد، عباد الله إنّي عذت بربي وربّكم أن ترجمون، أعوذ بربّي وربّكم من كل متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب (١) ».

ومثلت هذه الكلمات عزّة الأحرار وشرف الأباة، ولم تنفذ إلى قلوب أُولئك الجفاة الذين غرقوا في الجهل والآثام.

وتكلّم أصحاب الإمام مع معسكر ابن زياد، وأقاموا عليهم الحجّة، وذكّروهم بجور الامويين، وما أنزلوه بهم من الجور والاستبداد، ولم تُجدِ معهم النصائح شيئاً، وراحوا يفخرون بنصرتهم لابن مرجانة، وقتالهم لريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

خطاب آخر للامام الحسين:

وانبرى سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مرّة أخرى إلى إسداء النصحية إلى الجيش الأموي مخافة أن يدّعي أحد منهم أنّه غير عارف بالأمر، فانطلقعليه‌السلام نحوهم، وقد نشر كتاب الله العظيم على رأسه، واعتمّ بعمامة جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتقلّد لامة حربه، وكان على هيبة تحكي هيبة الأنبياء والأوصياء فقد علت أسارير النور على وجهه الكريم فقال:

«تَبّاً لَكُمُ أَيَّتُهَا الْجَماعَةُ وَتَرْحاً حينَ إِسْتَصْرَخْتُمُونا والِهينَ فَأَصْرَخْناكُمْ مُوجِفينَ (٢) ، سَلَلْتُمْ عَلَيْنا سَيْفاً لَنا في ايمانِكُمْ، وَحَشَشْتُم (٣)

__________________

(١) تأريخ الطبري ٦: ٤٣.

(٢) موجفين: أي مسرعين إليكم.

(٣) حششتم: أي أوقدتم النار.

١٨٩

عَلَيْنا ناراً إِقْتَدَحْناها عَلى عَدُوِّنا وَعَدُوِّكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ أُلَبّاً(١) لاََِعْدائِكُمْ عَلى أَوْلِيائِكُمْ بِغَيْرِ عَدْلٍ أَفْشَوْهُ فيكُمُ وَلا أَمَلٍ أَصْبَحَ لَكُمْ فيهِمْ.

مَهْلاً ـ لكُمُ الْوَيْلاتُ ـ تَرَكْتُمُونا وَالسَّيْفُ مِشيَمٌ(٢) وَالْجَأْشُ طامِنُ وَالرَّأْي لَمّا يَسْتَحْصِفُ، وَلكِنْ أَسْرَعْتُم إِلَيْها كَطَيْرَةِ الدَبا(٣) ، وَتَداعَيْتُمْ إِلَيْها كَتَهافَتِ الْفَراشِ(٤) .

فَسُحْقاً لَكُمْ يا عَبيدَ الأمّة، وَشِذاذَ الاََْحْزابِ، وَنَبَذَةَ الْكِتابِ، ومُحَرِّفي الْكَلِمَ، وَعَصَبَةَ الاَْثامِ، وَنَفَثَةَ الشَّيْطانِ، وَمُطْفِىََ السُّنَنِ.

أَهوَُلاءِ تَعْضُدُونَ، وَعَنّا تَتَخاذَلُونَ؟!

أَجَلْ وَاللهِ غَدْرٌ فيكُمُ قَديمٌ وَشَجَتْ إِلَيْهِ أُصُولُكُمْ (٥) وَتَأَزَّرَتْ عَلَيْهِ فُرُوعُكُمْ (٦) ،فَكُنْتُمْ أَخْبَثَ شَجَرٍ شَجاً لِلنّاظِرِ وَأُكْلَةٌ لِلْغاصِبِ.

أَلا وَإِنَّ الدَّعِيَّ ابْنَ الَّدعِي قَدْ رَكَزَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ: بَيْنَ السِّلَّةِ (٧) وَالذِّلَةِ، وَهَيْهاتَ مِنَّا الذِّلَّةُ، يَأْبَى اللهُ لَنا ذلِكَ وَرَسُولُهُ وَالْمُوَْمِنُونَ وَحُجُورٌ طابَتْ وَطَهُرَتْ وَأُنُوفٌ حِمِيَّةٌ وَنُفُوسٌ أَبِيَّةٌ: مِنْ أَنْ تُوَْثِرَ طاعَةَ اللِّئامِ عَلى مَصارِعِ الْكِرامِ.

__________________

(١) إلبا: أي قوة لأعدائكم، وذلك باجتماعهم.

(٢) مشيم: أي السيف في غمده لا يسل.

(٣) الدبا: بفتح الدال، وتخفيف الباء الجراد قبل أن يطير.

(٤) الفراش: جمع فراشة وهي صغار البق تتهافت في النار لضعف بصرها.

(٥) وشجت: أي التفت عليه أصولكم.

(٦) تأزرت: أي نبتت عليه فروعكم.

(٧) السلة: بكسر السين استلال السيوف.

١٩٠

أَلا وَإِنّى زاحِفٌ بِهذِهِ الأسرة مَعَ قِلَّةِ الْعَدَدِ وَخَذْلَةِ النّاصِرِ ».

ثُمَّ أَوْصَلَ كَلامَهُ عليه‌السلام بِأَبْياتِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكِ الْمُرادي:

« فَـإِنْ نَهْـزِمْ فَهَزّامُونَ قِدْماً

وَإِنْ نُغْلَبْ فَغَيْرُ مُغَلِّبينا

وَما إِنْ طِبُّنا جُبْنٌ وَلكِنْ

مَنايانـا وَدَوْلَة آخَرينا

إِذا مَا الْمَوْتُ رَفَّعَ عَنْ أُناسٍ

كَلاكِلَـهُ أَنـاخَ بِآخِرينا

فَأَفْنى ذلِكُمْ سَرَواتِ قَوْمي

كَما أَفْنـى الْقُـرُون الأوّلينا

فَلَوْ خِلْدَ الْمُلُوكُ إِذاً خُلِدْنا

وَلَوْ بَقِـيَ الْكِـرامُ إِذاً بَقينا

فَقُلْ لِلشّامِتينَ بِنا: أَفيقُوا

سَيَلْقىَ الشّامِتُونَ كَما لَقينا »

ثُمَّ قالَ: « أَيْمُ وَاللهِ لا تَلْبَثُونَ بَعْدَها إِلاّ كَرَيْثِ ما يُرْكَبُ الْفَرَسُ حَتّى يَدُورَ بِكُمْ دَوْرَ الرَّحى وَتَقْلَقَ بِكُمْ قَلَقَ الْمِحْوَرِ، عَهْدٌ عَهْدَهُ إِلَيَّ أَبي عَنْ جَدّي، فَأَجْمَعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةٌ، ثُمَّ اقُضوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونَ.

إِنّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبّي وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتها، إِنَّ رَبّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ.

أَللّهُمَّ احْبِسْ عَنْهُمْ قَطَرَ السَّماءِ، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنينَ كَسِنَيْ يُوسُفَ، وَسَلِّطْ عَلَيْهِمْ غُلامَ ثَقيفٍ يَسُومُهُمْ كَأْساً مُصْبَرَةً، فَإِنَّهُمْ كَذَّبُونا وَخَذَلُونا، وَأَنْتَ رَبُّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ ».

ومثلّ هذا الخطاب الثوري صلابة الإمام، وقوّة عزيمته، وشدّة بأسه، فقد استهان بأولئك الأقزام الذين هبّوا إليه يستنجدون به، ويستغيثون لينقذهم من جور الامويين وظلمهم، فلما أقبل إليهم انقلبوا عليه رأساً على

١٩١

عقب، فسلّوا عليه سيوفهم وشهروا عليه رماحهم تقرّباً للطغاة والظالمين لهم، والمستبدّين بشؤونهم في حين أنّه لم يبدو من أولئك الحكام أية بارقة من العدل فيهم، كما أعلن الإمام عن رفضه الكامل لدعوة ابن مرجانة من الاستسلام له، فقد أراد له الذلّ والهوان، وهيهات أن يرضخ لذلك وهو سبط الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والممثّل الأعلى للكرامة الإنسانية، فقد صمّم على الحرب بأسرته التي مثّلت البطولات ليحفظ بذلك كرامته، وكرامة الأمة.

وقد أخبرهم الإمام عن مصيرهم بعد قتلهم له أنّهم لا ينعمون بالحياة، وان الله يسلّط عليهم من يسقيهم كأساً مصبرة، ويجرعهم الغصص وينزل بهم العذاب الأليم، وقد تحقّق ذلك فلم يمض قليل من الوقت بعد اقترافهم لقتل الإمام حتى ثار عليهم البطل العظيم، والثائر المجاهد، ناصر الإسلام الزعيم الكبير المختار بن يوسف الثقفي فقد ملأ قلوبهم رعباً وفزعاً، ونكّل بهم تنكيلاً فظيعاً، وأخذت شرطته تلاحقهم في كل مكان فمن ظفرت به قتلته أشرّ قتلة، ولم يفلت منهم إلاّ القليل.

وقد وجم جيش ابن سعد بعد هذا الخطاب التأريخي الخالد، وودّ الكثيرون منهم أن تسيخ بهم الأرض.

استجابة الحرّ:

واستيقظ ضمير الحرّ، وثابت نفسه إلى الحقّ بعدما سمع خطاب الإمام، وجعل يتأمّل، ويفكّر في تلك اللحظات الحاسمة من حياته فهل يلتحق بالحسين، ويحفظ بذلك آخرته، وينقذ نفسه من عذاب الله وسخطه، أو أنّه يبقى على منصبه كقائد فرقة في الجيش الأموي، وينعم بصلات ابن مرجانة، واختار الحرّ نداء ضميره الحيّ، وتغلّب على هواه،

١٩٢

فصمم على الالتحاق بالإمام الحسينعليه‌السلام وقبل أن يتوجّه إليه أسرع نحو ابن سعد القائد العام للقوات المسلّحة فقال له:

« أمقاتل هذا الرجل، ».

ولم يلتفت ابن سعد إلى انقلاب الحرّ فقد أسرع قائلاً بلا تردّد:

« أي والله قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي ».

لقد أعلن ذلك أمام قادة الفرق ليظهر إخلاصه لابن مرجانة، فقال له الحرّ:

« أفمالكم في واحدة من الخصال التي عرضها عليكم رضا ».

واندفع ابن سعد قائلاً:

« لو كان الأمر لي لفعلت، ولكن أميرك أبى ذلك ».

ولما أيقن الحرّ أن القوم مصمّمون على حرب الإمام عزم على الالتحاق بمعسكر الإمام، وقد سرت الرعدة بأوصاله، فأنكر عليه ذلك زميله المهاجر ابن أوس فقال له:

« والله إن أمرك لمريب، والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل ما أراه الآن، ولو قيل لي: من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك، ».

وأعرب له الحرّ عمّا صمّم عليه قائلاً:

« إنّي والله أخيّر نفسي بين الجنّة والنار، ولا اختار على الجنّة شيئاً ولو قطعت وأحرقت ».

وألوى بعنان فرسه نحو الإمام(١) وكان مطرقاً برأسه إلى الأرض حياءً وندماً على ما صدر منه تجاه الإمام، ولما دنا منه رفع صوته ودموعه تتبلور

__________________

(١) تأريخ الطبري ٦: ٢٤٤.

١٩٣

على خدّيه قائلاً:

« اللهمّ إليك أُنيب، فقد أرعبت قلوب أوليائك، وأولاد نبيّك، يا أبا عبد الله إنّي تائب فهل لي من توبة ».

ونزل عن فرسه، وأقبل يتضرّع ويتوسّل إلى الإمام ليمنحه التوبة قائلاً:

« جعلني الله فداك يا بن رسول الله، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وجعجعت بك في هذا المكان، ووالله الذي لا آله إلاّ هو، ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبداً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة أبداً، فقلت في نفسي: لا أُبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم، ولا يرون أني خرجت من طاعتهم، وأما هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه، ووالله لو ظننت أنّهم لا يقبلون منك ما ركبتها منك، وانّي قد جئتك تائباً مما كان منّي إلى ربّي، مواسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك أفترى لي توبة، ».

واستبشر به الإمام، ومنحه الرضا والعفو، وقال له:

« نعم يتوب الله عليك ويغفر »(١) .

وملأ الفرح قلب الحرّ حينما فاز برضاء ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله واستأذنه أن ينصح أهل الكوفة لعلّ بعضهم أن يرجع إلى الحقّ، ويتوب إلى الرشاد، فأذن له الإمام في ذلك، فانبرى الحرّ إليهم رافعاً صوته:

« يا أهل الكوفة لأمكم الهبل(٢) والعبر(٣) أدعوتموه حتى إذا أتاكم

__________________

(١) الكامل ٢: ٢٨٨.

(٢) الهبل: الثكل.

(٣) العبر: البكاء وجريان الدمع.

١٩٤

اسلمتموه وزعمتم أنّكم قاتلوا أنفسكم دونه، ثم عدوتم عليه لتقتلوه، أمسكتم بنفسه، وأحطتم به، ومنعتموه من التوجه إلى بلاد الله العريضة، حتى يأمن، ويأمن أهل بيته، فأصبح كالأسير، لا يملك لنفسه نفعاً، ولا يدفع عنها ضرّاً، ومنعتموه ومن معه عن ماء الفرات الجاري يشربه اليهودي والنصراني والمجوسي، ويتمرّغ فيه خنازير السواد وكلابه، وها هو وأهله قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذريّته، لا سقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا، وتفزعوا عمّا أنتم عليه »(١) .

وودّ الكثير منهم أن تسيخ بهم الأرض، فهم على يقين بضلالة حربهم إلاّ أنّهم استجابوا لرغباتهم النفسية في حبّ البقاء، وتوقح بعضهم فرموا الحرّ بالنبل وكان ذلك ما يملكونه من حجّة في الميدان.

* * *

__________________

(١) الكامل ٣: ٢٢٩.

١٩٥

١٩٦

الحرب

١٩٧

١٩٨

وارتبك ابن سعد حينما علم أن الحرّ قد التحق بمعسكر الإمام، وهو من كبار قادة الفرق في جيشه، وخاف أن يلحتق غيره بالإمام، فزحف الباغي الأثيم نحو معسكر الإمام، وأخذ سهماً كأنّه كان نابتاً في قلبه، فأطلقه صوب الإمام، وهو يصيح:

« اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل من رمى الحسين ».

واتخذ بذلك وسيلة لفتح باب الحرب، وطلب من الجيش أن يشهدوا له عند سيّده ابن مرجانة انه أول من رمى ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليكون أميره على ثقة من إخلاصه، ووفائه للأمويين، وأن ينفي عنه كل شبهة من أنّه غير جادّ في حربه للحسين.

وتتابعت السهام كأنّها المطر على أصحاب الإمام، فلم يبق أحد منهم إلاّ أصابه سهم منها، والتفت الإمام إلى أصحابه، فأذن لهم في الحرب قائلاً:

«قوموا يا كرام فهذه رسل القوم إليكم ».

وتقدّمت طلائع الشرف والمجد من اصحاب الإمام إلى ساحة الحرب لتحامي عن دين الله، وتذبّ عن ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهم على يقين لا يخامرهم أدنى شكّ أنّهم على الحق، وأن الجيش الأموي على ضلال، قد سخط الله عليه وأحلّ به نقمته.

لقد تقابل اثنان وثلاثون فارساً، وأربعون راجلاً من أصحاب الإمامعليه‌السلام مع عشرات الآلاف من الجيش الأموي، وكانت تلك القلّة المؤمنة

١٩٩

كفوءاً لتلك الكثرة التي تملك أضخم العتاد والسلاح، فقد أبدت تلك القلّة من صنوف البسالة والشجاعة ما يبهر العقول ويحير الألباب.

الحملة الاُولى:

وشنّت قوّات ابن سعد هجوماً عاماً واسع النطاق على أصحاب الإمامعليه‌السلام وخاضوا معهم معركة ضارية، وقد اشترك فيها المعسكر الأموي بكامل قطعاته، وقد انبرى إليهم أصحاب الامام بعزم وإخلاص لم يشهد له نظير في جميع الحروب التي جرت في الأرض، فقد كانوا يخترقون جيش ابن سعد بقلوب أقوى من الصخر، وقد انزلوا بهم خسائر فادحة في الأرواح والمعدّات.

وقد استشهد نصف أصحاب الإمامعليه‌السلام في هذه الحملة(١) .

المبارزة بين المعسكرين:

ولما سقطت الصفوة الطاهرة من أصحاب الإمامعليه‌السلام صرعى على أرض الشهادة والكرامة، هبّ من بقي منهم إلى المبارزة، وقد ذعر المعسكر بأسره من بطولاتهم النادرة، فكانوا يستقبلون الموت بسرور بالغ، وقد ضجّ الجيش من الخسائر الفادحة التي مُني بها، وقد بادر عمرو بن الحجاج الزبيدي وهو من الأعضاء البارزين في قيادة جيش ابن سعد فهتف في الجيش ينهاهم عن المبارزة قائلاً:

« يا حمقى أتدرون من تقاتلون، تقاتلون نقاوة فرسان أهل المصر

__________________

(١) حياة الإمام الحسين ٣: ٢٠٣.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230