العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام0%

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام مؤلف:
الناشر: انتشارات مهديّة
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 230

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: باقر شريف القرشي
الناشر: انتشارات مهديّة
تصنيف: الصفحات: 230
المشاهدات: 96070
تحميل: 5490

توضيحات:

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 230 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 96070 / تحميل: 5490
الحجم الحجم الحجم
العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

مؤلف:
الناشر: انتشارات مهديّة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عمومتنا خير الأعمام، ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن برمح، ولم نضرب بسيف ولا ندري ما صنعوا، لا والله لا نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا واموالنا وأهلينا نقاتل معك، حتى نرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك »(١) .

لقد صمّموا على حماية الإمام العظيم، والدفاع عن أهدافه ومبادئه، واختاروا الموت تحت ظلال الأسنّة على الحياة التي لا هدف فيها.

جواب أصحابه:

أمّا أصحاب الإمامعليه‌السلام فهم أحرار هذه الدنيا، وقد اندفعوا يعلنون للإمامعليه‌السلام الفداء والتضحية دفعاً عن المبادئ المقدّسة التي ناضل من أجلها الإمام، وقد انبرى مسلم بن عوسجة فخاطب الإمام قائلاً:

« أنحن نخلّي عنك، وبماذا نعتذر إلى الله في اداء حقّك، أما والله لا أفارقك حتى أطعن في صدورهم برمحي، وأضرب بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم لقذفتهم بالحجارة حتى أموت معك ».

لقد عبّرت هذه الكلمات عن عميق إيمانه بريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وانّه سيذبّ عنه حتى النفس الأخير من حياته.

وانبرى بطل آخر من أصحاب الإمام وهو سعيد بن عبد الله الحنفي فخاطب الإمام قائلاً:

« والله لا نخلّيك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيك، أما والله لو علمت أنّي أقتل، ثم أحيا، ثم أحرق، ثم أذرى يفعل بي ذلك

__________________

(١) تأريخ الطبري ٦: ٢٣٨.

١٨١

سبعين مرّة لما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك، وانّما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا ».

وليس في قاموس الوفاء أصدق، ولا أنبل من هذا الوفاء، فهو يتمنّى من صميم قلبه أن تجري عليه عملية القتل سبعين مرّة ليفدي الإمامعليه‌السلام ، ليحفظ بذلك غيبة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكيف لا يستطيب الموت في سبيله وانّما هو مرّة واحدة، ثم هي الكرامة الاَبدية التي لا انقضاء لها.

وانبرى زهير بن القين فأعلن نفس الاتجاه الذي أعلنه المجاهدون من إخوانه قائلاً:

« والله لوددت أنّي قُتلت، ثم نشرت، ثم قتلت حتى أقتل ألف مرّة، وان الله عزّ وجلّ يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك »(١) .

أرأيتم وفاء هؤلاء الأبطال، فهل تجدون لهم مثيلاً في تأريخ هذه الدنيا، لقد ارتفعوا إلى مستوى من النبل والشهامة لم يبلغه أي إنسان وقد أعطوا بذلك الدروس المشرقة في الدفاع عن الحق.

وأعلن بقيّة أصحاب الإمامعليه‌السلام الترحيب بالشهادة في سبيل إمامهم، فجزاهم خيراً، وأكّد لهم جميعاً أنّهم سينعمون في الفردوس الأعلى، ويحشرون مع النبيين والصدّيقين، وهتفوا جميعاً:

« الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك، وشرّفنا بالقتل معك، أو لا ترضى أن نكون معك في درجتك يا بن رسول الله »(٢) .

لقد أُترعت نفوس هؤلاء الأبطال بالإيمان العميق، فتحرّروا من

__________________

(١ و ٢) حياة الإمام الحسين ٣: ١٦٨ ـ ١٦٩.

١٨٢

جميع ملاذ الحياة ولهوها، واتجهوا صوب الله، فرفعوا راية الإسلام عالية خفّاقة في رحاب هذا الكون.

إحياء الليل بالعبادة:

وأقبل الإمامعليه‌السلام مع الصفوة الطيبة المؤمنة من أهل بيته وأصحابه نحو الله يناجونه بقلوبهم وعواطفهم، وهم يسألونه العفو والغفران ولم يذق أحد منهم طعم الرقاد، فقد كانوا ما بين راكع وساجد وقارىء للقرآن، وكان لهم دويّ كدويّ النحل.

وكانوا ينتظرون انبثاق نور الصبح بفارغ الصبر لينالوا الشهادة بين يديّ ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وأما معسكر ابن زياد فقد باتوا وهم في شوق لطلوع الصبح ليريقوا دماء أهل البيتعليهم‌السلام ليقترّبوا بها إلى سيّدهم ابن مرجانة.

* * *

١٨٣

يوم عاشوراء

وليس مثل يوم العاشر من المحرّم في مآسيه وكآبته وكوارثه، فلم تبق محنة من محن الدنيا، ولا فاجعة من فواجع الدهر إلاّ جرت على ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فلا يوم مثل ذلك اليوم الخالد في دنيا الأحزان.

دعاء الامام:

وخرج أبو الأحرار من خبائه فرأى البيداء قد ملئت خيلاً ورجالاً وقد شهر أولئك البغاة اللئام سيوفهم لإراقة دمه، ودماء الصفوة البررة من أهل بيته وأصحابه لينالوا الأجر الزهيد من الإرهابي المجرم ابن مرجانة، ودعا الإمام بمصحف فنشره على رأسه، ورفع يديه بالدعاء إلى الله قائلاً:

«اللهمّ أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدوّ أنزلته بك، وشكوته إليك رغبة منّي إليك عمّن سواك، ففرّجته وكشفته، وكفيته،

١٨٤

فأنت وليّ كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل رغبة »(١) .

لقد أناب الإمام إلى الله، وأخلص له، فهو وليّه، والملجأ الذي يلجأ إليه في كل نائبة نزلت به.

خطبة الإمام:

ورأى الإمامعليه‌السلام أن يقيم الحجّة البالغة على أُولئك الوحوش قبل أن يقدموا على اقتراف الجريمة، فدعا براحلته فركبها، واتجه نحوهم، فخطب فيهم خطابه التأريخي الحافل بالمواعظ والحجج، فقد نادى بصوت عال يسمعه جلّهم:

«أيّها الناس اسمعوا قولي، ولا تعجلوا حتى أعظكم بما هو حقّ لكم عليّ، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فان قبلتم عذري، وصدقتم قولي وأعطيتموني النصف، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليَّ سبيل، وان لم تقبلوا منّي العذر، ولم تعطوا النصف من أنفسكم، فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمّة، ثم امضوا إليَّ ولا تُنظرون، إن ولّيي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين ».

وحمل الأثير هذه الكلمات إلى السيدات من عقائل النبوة، ومخدرات الرسالة فتصارخن بالبكاء، فبعث إليهنّ أخاه العباس، وابنه عليّاً، وقال لهما:

سكّتاهنّ، فلعمري ليكثر بكاؤهنّ، ولما سكتن استرسل في خطابه

__________________

(١) تأريخ ابن عساكر ١٣: ١٤.

١٨٥

فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على جدّه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى الملائكة والأنبياء، وقال في ذلك: ما لا يحصى ذكره، ولم يسمع لا قبله، ولا بعده أبلغ منه في منطقه(١) .

وكان مما قاله:

«أيّها الناس ان الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته، والشقيّ من فتنته، فلا تغرنّكم هذه الدنيا، فانها تقطع رجاء من ركن إليها، وتخيب طمع من طمع فيها، وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته، فنعم الرب ربّنا، وبئس العبيد أنتم، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم أنكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبّاً لكم ولما تريدون، إنّا لله وإنّا إليه راجعون هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبُعداً للقوم الظالمين ».

لقد وعظ الإمامعليه‌السلام أعداءه بهذه الكلمات التي تمثّل هدي الأنبياء ومحنتهم في أممهم، لقد حذّرهم من فتنة الدنيا وغرورها، وأهاب بهم من التورّط في قتل عترة نبيّهم وذريّته، وانّهم بذلك يستوجبون العذاب الأليم، والسخط الدائم، ثم استرسل الإمام الممتحن في خطابه فقال:

«أيّها الناس: انسبوني من أنا، ثم ارجعوا إلى أنفسكم، وعاتبوها، وانظروا هل يحلّ لكم قتلي، وانتهاك حرمتي، ألست ابن بنت نبيّكم، وابن وصيّه، وابن عمّه، وأول المؤمنين بالله، والمصدق

__________________

(١) تأريخ الطبري ٦: ٢٤٢.

١٨٦

لرسوله، بما جاء من عند ربّه، أو ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي، أو ليس جعفر الطيّار عمّي، أو لم يبلغكم قول رسول الله ٩ لي ولأخي « هذان سيّدا شباب أهل الجنّة » فان صدّقتموني بما أقول: وهو الحقّ، والله ما تعمّدت الكذب منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله، ويضرّ به من اختلقه، وإن كذّبتموني فان فيكم من إذا سألتموه أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وابا سعيد الخدري، وسهل ابن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك يخبروكم انّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله ٩ لي ولأخي أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي ، ».

وكان خليقاً بهذا الخطاب المشرق أن يرجع لهم حوازب عقولهم، ويردّهم عن طغيانهم، فقد وضع الإمام النقاط على الحروف، ودعاهم إلى التأمل ولو قليلاً ليمعنوا في شأنه أليس هو حفيد نبيّهم وابن وصيه، وهو سيّد شباب أهل الجنة كما أعلن ذلك جدّه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وفي ذلك حصانة له من سفك دمه وانتهاك حرمته، ولكن الجيش الأموي لم يع هذا المنطق، فقد خلد إلى الجريمة، واسودّت ضمائرهم، وحيل بينهم وبين ذكر الله.

وتصدّى لجواب الإمام شمر بن ذي الجوشن وهو من الممسوخين فقال له:

« هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول ».

وحقاً انه لم يع ما يقول الإمام فقد ران على قلبه الباطل، وغرق في الاثم وقد أجابه حبيب بن مظاهر وهو من أعلام الهدى والصلاح فقال له:

« والله انّي لأراك تعبد الله على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول، قد طبع الله على قلبك ».

١٨٧

والتفت الإمام إلى قطعات الجيش فخاطبهم:

«فإن كنتم في شكّ من هذا القول، أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيكم فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم، ولا في غيركم، ويحكم أتطلبونني بقتيل منكم قتلته، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص جراحة ».

وغدوا حيارى لا يملكون جواباً لردّه، ثم التفت الإمام إلى قادة الجيش الذين دعوه بالقدوم إلى مصرهم فقال لهم:

«يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا زيد بن الحرث، ألم تكتبوا إليَّ ان قد أينعت الثمار، وأخضر الجناب، وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة ».

وأنكر أُولئك الخونة كتبهم، وما عاهدوا عليه الله من نصرهم للإمام، فقالوا له « لم نفعل ذلك ».

وبهر الإمام من ذلك وراح يقول:

«سبحان الله!! بلى والله لقد فعلتم ».

وأعرض الإمام عنهم، ووجّه خطابه إلى جميع قطعات الجيش قائلاً:

«أيّها الناس: إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض ».

وتصدّى لجوابه قيس بن الأشعث وهو من رؤوس المنافقين، وقد خلع كل شرف وحياء فقال له:

« أو لا تنزل على حكم بني عمّك، فانّهم لن يروك إلاّ ما تحبّ، ولن يصل إليك منهم مكروه ».

فردّ عليه الإمام قائلاً:

١٨٨

«أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل، لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد، عباد الله إنّي عذت بربي وربّكم أن ترجمون، أعوذ بربّي وربّكم من كل متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب (١) ».

ومثلت هذه الكلمات عزّة الأحرار وشرف الأباة، ولم تنفذ إلى قلوب أُولئك الجفاة الذين غرقوا في الجهل والآثام.

وتكلّم أصحاب الإمام مع معسكر ابن زياد، وأقاموا عليهم الحجّة، وذكّروهم بجور الامويين، وما أنزلوه بهم من الجور والاستبداد، ولم تُجدِ معهم النصائح شيئاً، وراحوا يفخرون بنصرتهم لابن مرجانة، وقتالهم لريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

خطاب آخر للامام الحسين:

وانبرى سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مرّة أخرى إلى إسداء النصحية إلى الجيش الأموي مخافة أن يدّعي أحد منهم أنّه غير عارف بالأمر، فانطلقعليه‌السلام نحوهم، وقد نشر كتاب الله العظيم على رأسه، واعتمّ بعمامة جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتقلّد لامة حربه، وكان على هيبة تحكي هيبة الأنبياء والأوصياء فقد علت أسارير النور على وجهه الكريم فقال:

«تَبّاً لَكُمُ أَيَّتُهَا الْجَماعَةُ وَتَرْحاً حينَ إِسْتَصْرَخْتُمُونا والِهينَ فَأَصْرَخْناكُمْ مُوجِفينَ (٢) ، سَلَلْتُمْ عَلَيْنا سَيْفاً لَنا في ايمانِكُمْ، وَحَشَشْتُم (٣)

__________________

(١) تأريخ الطبري ٦: ٤٣.

(٢) موجفين: أي مسرعين إليكم.

(٣) حششتم: أي أوقدتم النار.

١٨٩

عَلَيْنا ناراً إِقْتَدَحْناها عَلى عَدُوِّنا وَعَدُوِّكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ أُلَبّاً(١) لاََِعْدائِكُمْ عَلى أَوْلِيائِكُمْ بِغَيْرِ عَدْلٍ أَفْشَوْهُ فيكُمُ وَلا أَمَلٍ أَصْبَحَ لَكُمْ فيهِمْ.

مَهْلاً ـ لكُمُ الْوَيْلاتُ ـ تَرَكْتُمُونا وَالسَّيْفُ مِشيَمٌ(٢) وَالْجَأْشُ طامِنُ وَالرَّأْي لَمّا يَسْتَحْصِفُ، وَلكِنْ أَسْرَعْتُم إِلَيْها كَطَيْرَةِ الدَبا(٣) ، وَتَداعَيْتُمْ إِلَيْها كَتَهافَتِ الْفَراشِ(٤) .

فَسُحْقاً لَكُمْ يا عَبيدَ الأمّة، وَشِذاذَ الاََْحْزابِ، وَنَبَذَةَ الْكِتابِ، ومُحَرِّفي الْكَلِمَ، وَعَصَبَةَ الاَْثامِ، وَنَفَثَةَ الشَّيْطانِ، وَمُطْفِىََ السُّنَنِ.

أَهوَُلاءِ تَعْضُدُونَ، وَعَنّا تَتَخاذَلُونَ؟!

أَجَلْ وَاللهِ غَدْرٌ فيكُمُ قَديمٌ وَشَجَتْ إِلَيْهِ أُصُولُكُمْ (٥) وَتَأَزَّرَتْ عَلَيْهِ فُرُوعُكُمْ (٦) ،فَكُنْتُمْ أَخْبَثَ شَجَرٍ شَجاً لِلنّاظِرِ وَأُكْلَةٌ لِلْغاصِبِ.

أَلا وَإِنَّ الدَّعِيَّ ابْنَ الَّدعِي قَدْ رَكَزَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ: بَيْنَ السِّلَّةِ (٧) وَالذِّلَةِ، وَهَيْهاتَ مِنَّا الذِّلَّةُ، يَأْبَى اللهُ لَنا ذلِكَ وَرَسُولُهُ وَالْمُوَْمِنُونَ وَحُجُورٌ طابَتْ وَطَهُرَتْ وَأُنُوفٌ حِمِيَّةٌ وَنُفُوسٌ أَبِيَّةٌ: مِنْ أَنْ تُوَْثِرَ طاعَةَ اللِّئامِ عَلى مَصارِعِ الْكِرامِ.

__________________

(١) إلبا: أي قوة لأعدائكم، وذلك باجتماعهم.

(٢) مشيم: أي السيف في غمده لا يسل.

(٣) الدبا: بفتح الدال، وتخفيف الباء الجراد قبل أن يطير.

(٤) الفراش: جمع فراشة وهي صغار البق تتهافت في النار لضعف بصرها.

(٥) وشجت: أي التفت عليه أصولكم.

(٦) تأزرت: أي نبتت عليه فروعكم.

(٧) السلة: بكسر السين استلال السيوف.

١٩٠

أَلا وَإِنّى زاحِفٌ بِهذِهِ الأسرة مَعَ قِلَّةِ الْعَدَدِ وَخَذْلَةِ النّاصِرِ ».

ثُمَّ أَوْصَلَ كَلامَهُ عليه‌السلام بِأَبْياتِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكِ الْمُرادي:

« فَـإِنْ نَهْـزِمْ فَهَزّامُونَ قِدْماً

وَإِنْ نُغْلَبْ فَغَيْرُ مُغَلِّبينا

وَما إِنْ طِبُّنا جُبْنٌ وَلكِنْ

مَنايانـا وَدَوْلَة آخَرينا

إِذا مَا الْمَوْتُ رَفَّعَ عَنْ أُناسٍ

كَلاكِلَـهُ أَنـاخَ بِآخِرينا

فَأَفْنى ذلِكُمْ سَرَواتِ قَوْمي

كَما أَفْنـى الْقُـرُون الأوّلينا

فَلَوْ خِلْدَ الْمُلُوكُ إِذاً خُلِدْنا

وَلَوْ بَقِـيَ الْكِـرامُ إِذاً بَقينا

فَقُلْ لِلشّامِتينَ بِنا: أَفيقُوا

سَيَلْقىَ الشّامِتُونَ كَما لَقينا »

ثُمَّ قالَ: « أَيْمُ وَاللهِ لا تَلْبَثُونَ بَعْدَها إِلاّ كَرَيْثِ ما يُرْكَبُ الْفَرَسُ حَتّى يَدُورَ بِكُمْ دَوْرَ الرَّحى وَتَقْلَقَ بِكُمْ قَلَقَ الْمِحْوَرِ، عَهْدٌ عَهْدَهُ إِلَيَّ أَبي عَنْ جَدّي، فَأَجْمَعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةٌ، ثُمَّ اقُضوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونَ.

إِنّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبّي وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتها، إِنَّ رَبّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ.

أَللّهُمَّ احْبِسْ عَنْهُمْ قَطَرَ السَّماءِ، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنينَ كَسِنَيْ يُوسُفَ، وَسَلِّطْ عَلَيْهِمْ غُلامَ ثَقيفٍ يَسُومُهُمْ كَأْساً مُصْبَرَةً، فَإِنَّهُمْ كَذَّبُونا وَخَذَلُونا، وَأَنْتَ رَبُّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ ».

ومثلّ هذا الخطاب الثوري صلابة الإمام، وقوّة عزيمته، وشدّة بأسه، فقد استهان بأولئك الأقزام الذين هبّوا إليه يستنجدون به، ويستغيثون لينقذهم من جور الامويين وظلمهم، فلما أقبل إليهم انقلبوا عليه رأساً على

١٩١

عقب، فسلّوا عليه سيوفهم وشهروا عليه رماحهم تقرّباً للطغاة والظالمين لهم، والمستبدّين بشؤونهم في حين أنّه لم يبدو من أولئك الحكام أية بارقة من العدل فيهم، كما أعلن الإمام عن رفضه الكامل لدعوة ابن مرجانة من الاستسلام له، فقد أراد له الذلّ والهوان، وهيهات أن يرضخ لذلك وهو سبط الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والممثّل الأعلى للكرامة الإنسانية، فقد صمّم على الحرب بأسرته التي مثّلت البطولات ليحفظ بذلك كرامته، وكرامة الأمة.

وقد أخبرهم الإمام عن مصيرهم بعد قتلهم له أنّهم لا ينعمون بالحياة، وان الله يسلّط عليهم من يسقيهم كأساً مصبرة، ويجرعهم الغصص وينزل بهم العذاب الأليم، وقد تحقّق ذلك فلم يمض قليل من الوقت بعد اقترافهم لقتل الإمام حتى ثار عليهم البطل العظيم، والثائر المجاهد، ناصر الإسلام الزعيم الكبير المختار بن يوسف الثقفي فقد ملأ قلوبهم رعباً وفزعاً، ونكّل بهم تنكيلاً فظيعاً، وأخذت شرطته تلاحقهم في كل مكان فمن ظفرت به قتلته أشرّ قتلة، ولم يفلت منهم إلاّ القليل.

وقد وجم جيش ابن سعد بعد هذا الخطاب التأريخي الخالد، وودّ الكثيرون منهم أن تسيخ بهم الأرض.

استجابة الحرّ:

واستيقظ ضمير الحرّ، وثابت نفسه إلى الحقّ بعدما سمع خطاب الإمام، وجعل يتأمّل، ويفكّر في تلك اللحظات الحاسمة من حياته فهل يلتحق بالحسين، ويحفظ بذلك آخرته، وينقذ نفسه من عذاب الله وسخطه، أو أنّه يبقى على منصبه كقائد فرقة في الجيش الأموي، وينعم بصلات ابن مرجانة، واختار الحرّ نداء ضميره الحيّ، وتغلّب على هواه،

١٩٢

فصمم على الالتحاق بالإمام الحسينعليه‌السلام وقبل أن يتوجّه إليه أسرع نحو ابن سعد القائد العام للقوات المسلّحة فقال له:

« أمقاتل هذا الرجل، ».

ولم يلتفت ابن سعد إلى انقلاب الحرّ فقد أسرع قائلاً بلا تردّد:

« أي والله قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي ».

لقد أعلن ذلك أمام قادة الفرق ليظهر إخلاصه لابن مرجانة، فقال له الحرّ:

« أفمالكم في واحدة من الخصال التي عرضها عليكم رضا ».

واندفع ابن سعد قائلاً:

« لو كان الأمر لي لفعلت، ولكن أميرك أبى ذلك ».

ولما أيقن الحرّ أن القوم مصمّمون على حرب الإمام عزم على الالتحاق بمعسكر الإمام، وقد سرت الرعدة بأوصاله، فأنكر عليه ذلك زميله المهاجر ابن أوس فقال له:

« والله إن أمرك لمريب، والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل ما أراه الآن، ولو قيل لي: من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك، ».

وأعرب له الحرّ عمّا صمّم عليه قائلاً:

« إنّي والله أخيّر نفسي بين الجنّة والنار، ولا اختار على الجنّة شيئاً ولو قطعت وأحرقت ».

وألوى بعنان فرسه نحو الإمام(١) وكان مطرقاً برأسه إلى الأرض حياءً وندماً على ما صدر منه تجاه الإمام، ولما دنا منه رفع صوته ودموعه تتبلور

__________________

(١) تأريخ الطبري ٦: ٢٤٤.

١٩٣

على خدّيه قائلاً:

« اللهمّ إليك أُنيب، فقد أرعبت قلوب أوليائك، وأولاد نبيّك، يا أبا عبد الله إنّي تائب فهل لي من توبة ».

ونزل عن فرسه، وأقبل يتضرّع ويتوسّل إلى الإمام ليمنحه التوبة قائلاً:

« جعلني الله فداك يا بن رسول الله، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وجعجعت بك في هذا المكان، ووالله الذي لا آله إلاّ هو، ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبداً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة أبداً، فقلت في نفسي: لا أُبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم، ولا يرون أني خرجت من طاعتهم، وأما هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه، ووالله لو ظننت أنّهم لا يقبلون منك ما ركبتها منك، وانّي قد جئتك تائباً مما كان منّي إلى ربّي، مواسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك أفترى لي توبة، ».

واستبشر به الإمام، ومنحه الرضا والعفو، وقال له:

« نعم يتوب الله عليك ويغفر »(١) .

وملأ الفرح قلب الحرّ حينما فاز برضاء ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله واستأذنه أن ينصح أهل الكوفة لعلّ بعضهم أن يرجع إلى الحقّ، ويتوب إلى الرشاد، فأذن له الإمام في ذلك، فانبرى الحرّ إليهم رافعاً صوته:

« يا أهل الكوفة لأمكم الهبل(٢) والعبر(٣) أدعوتموه حتى إذا أتاكم

__________________

(١) الكامل ٢: ٢٨٨.

(٢) الهبل: الثكل.

(٣) العبر: البكاء وجريان الدمع.

١٩٤

اسلمتموه وزعمتم أنّكم قاتلوا أنفسكم دونه، ثم عدوتم عليه لتقتلوه، أمسكتم بنفسه، وأحطتم به، ومنعتموه من التوجه إلى بلاد الله العريضة، حتى يأمن، ويأمن أهل بيته، فأصبح كالأسير، لا يملك لنفسه نفعاً، ولا يدفع عنها ضرّاً، ومنعتموه ومن معه عن ماء الفرات الجاري يشربه اليهودي والنصراني والمجوسي، ويتمرّغ فيه خنازير السواد وكلابه، وها هو وأهله قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذريّته، لا سقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا، وتفزعوا عمّا أنتم عليه »(١) .

وودّ الكثير منهم أن تسيخ بهم الأرض، فهم على يقين بضلالة حربهم إلاّ أنّهم استجابوا لرغباتهم النفسية في حبّ البقاء، وتوقح بعضهم فرموا الحرّ بالنبل وكان ذلك ما يملكونه من حجّة في الميدان.

* * *

__________________

(١) الكامل ٣: ٢٢٩.

١٩٥

١٩٦

الحرب

١٩٧

١٩٨

وارتبك ابن سعد حينما علم أن الحرّ قد التحق بمعسكر الإمام، وهو من كبار قادة الفرق في جيشه، وخاف أن يلحتق غيره بالإمام، فزحف الباغي الأثيم نحو معسكر الإمام، وأخذ سهماً كأنّه كان نابتاً في قلبه، فأطلقه صوب الإمام، وهو يصيح:

« اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل من رمى الحسين ».

واتخذ بذلك وسيلة لفتح باب الحرب، وطلب من الجيش أن يشهدوا له عند سيّده ابن مرجانة انه أول من رمى ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليكون أميره على ثقة من إخلاصه، ووفائه للأمويين، وأن ينفي عنه كل شبهة من أنّه غير جادّ في حربه للحسين.

وتتابعت السهام كأنّها المطر على أصحاب الإمام، فلم يبق أحد منهم إلاّ أصابه سهم منها، والتفت الإمام إلى أصحابه، فأذن لهم في الحرب قائلاً:

«قوموا يا كرام فهذه رسل القوم إليكم ».

وتقدّمت طلائع الشرف والمجد من اصحاب الإمام إلى ساحة الحرب لتحامي عن دين الله، وتذبّ عن ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهم على يقين لا يخامرهم أدنى شكّ أنّهم على الحق، وأن الجيش الأموي على ضلال، قد سخط الله عليه وأحلّ به نقمته.

لقد تقابل اثنان وثلاثون فارساً، وأربعون راجلاً من أصحاب الإمامعليه‌السلام مع عشرات الآلاف من الجيش الأموي، وكانت تلك القلّة المؤمنة

١٩٩

كفوءاً لتلك الكثرة التي تملك أضخم العتاد والسلاح، فقد أبدت تلك القلّة من صنوف البسالة والشجاعة ما يبهر العقول ويحير الألباب.

الحملة الاُولى:

وشنّت قوّات ابن سعد هجوماً عاماً واسع النطاق على أصحاب الإمامعليه‌السلام وخاضوا معهم معركة ضارية، وقد اشترك فيها المعسكر الأموي بكامل قطعاته، وقد انبرى إليهم أصحاب الامام بعزم وإخلاص لم يشهد له نظير في جميع الحروب التي جرت في الأرض، فقد كانوا يخترقون جيش ابن سعد بقلوب أقوى من الصخر، وقد انزلوا بهم خسائر فادحة في الأرواح والمعدّات.

وقد استشهد نصف أصحاب الإمامعليه‌السلام في هذه الحملة(١) .

المبارزة بين المعسكرين:

ولما سقطت الصفوة الطاهرة من أصحاب الإمامعليه‌السلام صرعى على أرض الشهادة والكرامة، هبّ من بقي منهم إلى المبارزة، وقد ذعر المعسكر بأسره من بطولاتهم النادرة، فكانوا يستقبلون الموت بسرور بالغ، وقد ضجّ الجيش من الخسائر الفادحة التي مُني بها، وقد بادر عمرو بن الحجاج الزبيدي وهو من الأعضاء البارزين في قيادة جيش ابن سعد فهتف في الجيش ينهاهم عن المبارزة قائلاً:

« يا حمقى أتدرون من تقاتلون، تقاتلون نقاوة فرسان أهل المصر

__________________

(١) حياة الإمام الحسين ٣: ٢٠٣.

٢٠٠