الإيمان والكفر في الكتاب والسنة

الإيمان والكفر في الكتاب والسنة0%

الإيمان والكفر في الكتاب والسنة مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 207

الإيمان والكفر في الكتاب والسنة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف: الصفحات: 207
المشاهدات: 22565
تحميل: 8308

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 207 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 22565 / تحميل: 8308
الحجم الحجم الحجم
الإيمان والكفر في الكتاب والسنة

الإيمان والكفر في الكتاب والسنة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

خلفه" فقلت له: يابن رسول الله متى يخرج قائمكم؟ قال:(١) .

٨ ـ روى الصدوق في إكمال الدين: عن النزال بن سبرة قال: خطبنا على ابن أبي طالبعليه‌السلام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "سلونى أيّها الناس قبل أن تفقدوني" ثلاثاً، فقام إليه صعصعة بن صوحان فقال: يا أمير الموَمنين متى يخرج الدجال؟ فقال له عليعليه‌السلام : "أُقعد فقد سمع الله كلامك على يدي من يصلّـي المسيح عيسى ابن مريم خلفه".

فقال النزال بن سبرة لصعصعة: ما عني أمير الموَمنين بهذا القول؟ فقال صعصعة: يابن سبرة إنّ الذي يصلّـي خلفه عيسى ابن مريم هو الثاني عشر من العترة، التاسع من ولد الحسين بن علي وهو الشمس الطالعة من مغربها(٢)

٩ ـ روى الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة: عن عامر بن واثلة عن أمير الموَمنينعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : "عشر قبل الساعة لابد منها: السفياني والدجال ونزول عيسىعليه‌السلام "(٣) .

١٠ ـ كتاب المحتضر للحسن بن سليمان نقلاً عن كتاب المعراج للشيخ الصالح أبي محمد الحسن بإسناده عن الصدوق(٤) عن ابن إدريس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : "إنّه لما عرج بي ربي جلّ جلاله أتاني النداء: يا محمّد: آخر رجل منهم يصلّـي خلفه عيسى ابن مريم..." (٥) .

____________

(١) إكمـال الديـن: ١|٣٣٠ ـ ٣٣١، الحديـث: ١٦ ط قم. وبحـار الاَنـوار: ٥٢|١٩١ ـ ١٩٢، الحديث٢٤.

(٢) إكمال الدين: ٢|٥٢٥ ـ ٥٢٧، الحديث١. وعن بحار الاَنوار: ٥٢|١٩٢ ـ ١٩٤، الحديث ٢٦.

(٣) الغيبة للشيخ الطوسي: ٢٨٢، ط ١٣٢٤ حجرية، بحار الاَنوار: ٥٢|٢٠٩، الحديث٤٨.

(٤) إكمال الدين: ١|٢٥٠ ـ ٢٥١ الحديث١.

(٥) بحار الاَنوار: ٥٢|٢٧٧، الحديث١٧٢.

١٦١

هذا ما سمح به الوقت في الاِجابة عن سوَال الاَخ الفلسطينى وأرجو من الله سبحانه، أن يُذلّ العتاة المستكبرين، والطغاة الظالمين، ويُطهّر بلادَ المسلمين من لوث الصهاينة الغاصبين ويردَّ القدس إلى أحضان الموَمنين، ويمكّن إخواننا الفلسطينين المشرَّدين، من الرجوع إلى أوطانهم سالمين. إنّه بذلك قدير.

وبالاِجابة جدير.

جعفر السبحاني

قم ـ ساحة الشهداء

موَسسة الاِمام الصادقعليه‌السلام

٤ جمادى الاَولى من عام ١٤٠٩ هـ.ق

١٦٢

المناهج التفسيرية

المقدمة:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي نزّل الكتاب تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمةً للعالمين.

والصلاة والسلام على من نزل الكتاب على قلبه ليكون من المنذرين، وعلى العترة الطاهرة أعدال الكتاب وقرنائه.

أمّا بعد؛ فهذه رسالة موجزة تتكفّل ببيان المناهج التفسيرية صحيحها وسقيمها، وتبين الفرق بين المنهج التفسيري والاهتمام التفسيري فأُصول المنهج لا تتعدى عن أصلين:

١ ـ التفسير بالعقل وله صور.

٢ ـ التفسير بالنقل وله صور.

أمّا الاَوّل فصوره عبارة عن:

أ ـ التفسير بالعقل الصريح.

ب ـ التفسير في ضوء المدارس الكلامية.

ج ـ التفسير حسب تأويلات الباطنية.

د ـ التفسير حسب تأويلات الصوفية.

هـ ـ التفسير حسب الاَُصول العلمية الحديثة.

١٦٣

أمّا الثاني فصوره عبارة عن:

أ ـ تفسير القرآن بالقران.

ب ـ التفسير البياني للقران.

ج ـ تفسير القرآن باللغة والقواعد العربية.

د ـ تفسير القرآن بالمأثور عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاَئمّةعليهم‌السلام .

فهذه الصور التسع من فروع المنهجين الاَصليين، وفي ثنايا البحث نشير إلى ما لا غنى للباحث المفسر عنه، وأرجو منه سبحانه أن تكون الرسالة بايجازها نافعة لقارئها الكريم باذن منه.

جعفر السبحاني

١٦٤

المناهج التفسيرية

التفسير إمّا مأخوذ من "فسَّر" يفسِّر تفسيراً بمعنى أبان، يبين، إبانة. تقول فسّرت الشيء إذا بيّنتَه، يقول الطريحى: "التفسير: هو كشف معنى اللفظ وإظهاره" ويوَيّده قوله سبحانه:( وَلاَ يَأتُونَكَ بِمَثَلٍ إلاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرا ) (١) (أي أحسن تبييناً) .

أو مأخوذ من فسّر، المشتق بالاشتقاق الكبير من السفر، وهو الكشف والظهور يقال: أسفر الصبح إذا ظهر، وأسفرت المرأة عن وجهها: إذا كشفت.

وفي الاصطلاح هو العلم الباحث عن القرآن الكريم من حيث تبيين دلالته على مراده سبحانه، وقد عرّف أيضاً بتعاريف أُخرى لاحاجة لذكرها.

حاجة القرآن إلى التفسير:

وعلى كل تقدير: الرأي السائد بين المسلمين هو أنّ القرآن المجيد غير غنىّ عن التفسير والتبيين، إمّا تبيينه من جانب نفسه كاستظهار معنى آية باية أُخرى، أو تبيينه بكلام من نزل على قلبه يقول سبحانه:( وَأَنزَلْنَا إِلَيكَ الذِّكرَ لِتُبَيّنَ

____________

(١) الفرقان: ٣٣.

١٦٥

لِلنّاسِ ما نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُون ) (١) ولم يقل"لتقرأ" بل قال:(لتُبيّن)إشارة إلى أنّ القرآن يحتاج وراء قراءة النبي، إلى تبيينه فلو لم نقل أنّ جميع الآيات بحاجة إليه فلا أقل أنّ هناك قسماً منها يحتاج إليه بأحد الطريقين: تفسير الآية بالآية، أو تفسيرها بكلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

والذي يكشف عن حاجة القرآن إلى التبيين أُمور نذكر منها ما يلي:

١ ـ إنّ أسباب النزول، للآيات القرانية، كقرائن حالية اعتمد المتكلم عليها في إلقاء كلامه بحيث لو قطع النظر عنها، وقُصّـر إلى نفس الآية، لصارت الآية مجملة غير مفهومة، ولو ضمّت إليها تكون واضحة شأن كل قرينة منفصلة عن الكلام، وإن شئت لاحظ قوله سبحانه:( وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلِّفُوا حَتّى إذا ضاقَتْ عَلَيهِمُ الاَرْضُ بِما رَحُبَتْ وضاقَتْ عَلَيهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أنْ لا مَلجَأَ مِنَ اللهِ إلاّ إليهِ ثُمَّ تابَ عَلَيهِم لَيَتُوبوا إنّ اللهَ هُوَ التَّوابُ الرَّحيم ) (٢)

ترى أنّ الآية تحكي عن أشخاص ثلاثة تخلّفوا عن الجهاد حتى ضاقت عليهم الاَرض بما رحبت، فعند ذلك يسأل الاِنسان نفسه، من هؤلاء الثلاثة؟ ولماذا تخلّفوا؟ ولاَىّ سبب ضاقت الاَرض والاَنفس عليهم ؟.

وما المراد من هذا الضيق؟ ثم ما ذا حدث حتى انقلبوا وظنوا أنّه لا ملجأ من الله إلاّ إليه؟ إلى غير ذلك من الاَسئلة المتراكمة حول الآية، لكن بالرجوع إلى أساب النزول تتخذ الآية لنفسها معنى واضحاً لا إبهام فيه.

وهذا هو دور أسباب النزول في جميع الآيات، فإنّه يُلقى ضوءاً على الآية ويوضح إبهامها، فلا غناء للمفسّر من الرجوع إلى أسباب النزول قبل تفسير الآية.

____________

(١) النحل: ٤٤.

(٢) التوبة: ١١٨.

١٦٦

٢ ـ إنّ القرآن مشتمل على مجملات كالصلاة والصوم والحجّ لايفهم منها إلاّ معاني مجملة، غير أنّ السنّة كافلة لشرحها فلاغناء للمفسر عن الرجوع إليها في تفسير المجملات.

٣ ـ إنّ القرآن يشتمل على آيات متشابهة غير واضحة المراد في بدء النظر وربما يكون المتبادر منها في بادئه، غير ما أراد الله سبحانه وإنّما يعلم المراد بإرجاعها إلى المحكمات حتى تفسر بها غير أنّ الذين في قلوبهم زيغ يتبعون الظهور البدائي للآية لاِيجاد الفتنة وتشويش الاَذهان، وأمّا الراسخون في العلم فيتبعون مراده سبحانه بعدما يظهر من سائر الآيات التي هي أُم الكتاب.

قال سبحانه:( مِنهُ آياتٌ مُحكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فأمّا الّذِينَ في قُلوبِهِمْ زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابتِغاءَ الفِتنَةِ وابتغاءَ تأويلِه ) (١)

وعلى هذا لا غناء من تفسير المتشابهات بفضل المحكمات، وهذا يرجع إلى تفسير القرآن نفسه بنفسه، والآية بأُختها.

٤ ـ إنّ القرآن المجيد نزل نجوماً لغاية تثبيت قلب النبي طيلة عهد الرسالة.

قال سبحانه:( وقالَ الّذِينَ كَفَرُوا لَولا نُزّلَ عَلَيْهِ القُرانُ جُملَةً واحدِةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُوَادَكَ وَرَتَّلناهُ تَرتيلا ) (٢) فمقتضى النزول التدريجي تفرق الآيات الباحثة عن موضوع واحد في سور مختلفة، ومن المعلوم أنّ القضاء في موضوع واحد يتوقف على جمع الآيات المربوطة به في مكان واحد حتى يستنطق بعضها ببعض، ويستوضح بعضها ببعض آخر، وهذا ما يشير إليه الحديث النبوي

____________

(١) آل عمران: ٧.

(٢) الفرقان: ٣٢.

١٦٧

المعروف: "القرآن يفسر بعضه بعضاً(١) ".

وقال الاِمام عليعليه‌السلام : "كتاب الله تبصرون به، وتنطقون وتسمعون به، وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، ولايختلف في الله ولايخالف بصاحبه عن الله(٢) .

وفي كلامهعليه‌السلام ما يعرب عن كون الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المفسر الاَوّل للقرآن الكريم يقول: "خلّف فيكم" (أي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) كتابَ رَبّكم، مبيّناً حلالَه وحرامَه، وفرائضَه، وفضائلَه وناسخَه ومنسوخَه، ورُخَصَه وَعَزَائمَه، وخاصَّه وعامَّه، وعِبَره وأمثالَه، ومُرسَلَه وَمَحْدوده، ومُحْكَمه ومتشابهه، مفسّـراً مجمله، ومبّينا غوامضه(٣) .

وهذه الوجوه ونظائرها تثبت أنّ القرآن لايستغني عن التفسير.

سوَال وإجابة :

أمّا السوَال: فربما يتصور أنّ حاجة القرآن إلى التفسير ينافي قوله سبحانه:( وَلَقَد يَسَّرنا القرانَ لِلذِّكرِ فَهَل مِنْ مُدَّكِر ) (٤) ونظيره قوله سبحانه في موارد مختلفة:( بِلسانٍ عَربيٍّ مبين ) (٥) فإنَّ تَوصيف القرآن باليسر وَكَونِه بِلسانٍ عَرَبي مُبين يهدفان إلى غناه عن أيّ إيضاح وتبيين.

____________

(١) حديث معروف مذكور في التفاسير ولم نقف على سنده.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة رقم ١٣٣.

(٣) نهج البلاغة: الخطبة رقم١، والظاهر أنّ قوله مبيّناً، بيان لوصف النبي ٩والضمائر ترجع إلى القرآن الكريم لا إلى الله سبحانه.

(٤) القمر: ١٧.

(٥) الشعراء: ١٩٥. وفي النحل: ١٠٣( وهذا لسان عربىّ مبين ) .

١٦٨

وأمّا الاِجابة: فإنّ توصيفه باليسر، أو بأنّه نزل بلغة عربية واضحة يهدفان إلى أمر آخر، وهو أنّ القرآن ليس ككلمات الكهنة المركّبة من الاسجاع والكلمات الغريبة، ولامن قبيل الاَحاجي والاَلغاز وإنّما هو كتاب سهل واضح، من أراد فهمه، فالطريق مفتوح أمامه وهذا نظير ما إذا أراد رجل وصف كتاب أُلّف في علم الرياضيات، أو في الفيزياء أو الكيمياء يقول: أُلّف الكتاب بلغة واضحة، وتعابير سهلة، فلا يهدف قوله هذا إلى استغناء الطالب عن المعلّم ليوضح له المطالب ويفسّر له القواعد.

ولاَجل ذلك قام المسلمون بعد عهد الرسالة بتدوين ما أثر عن النبي أو الصحابة والتابعين أو أئمة أهل البيتعليهم‌السلام في مجال كشف المراد وتبيين الآيات ولم تكن الآيات المتقدمة رادعة لهم عن القيام بهذا الجهد الكبير.

نعم إنّ المفسرين في الاَجيال المتلاحقة ارتووا من ذلك المنهل العذب (القرآن) ولكلّ طائفة منهم شرعة ومنهاج في الاستفادة من القرآن والاستضاءة بأنواره، فالمنهل واحد والمنهاج مختلف:( لِكُلّ جَعَلنا مِنُكم شِرعةً وَمِنهاجاً ) .(١)

القرآن وافاقه اللامتناهية :

يتميّز القرآن الكريم عن غيره من الكتب السماوية بآفاقه اللامتناهية كما عبر عن ذلك خاتم الاَنبياءصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال:

"ظاهره أنيق، وباطنه عميق، له تخوم، وعلى تخومه تخوم، لاتحصى عجائبه، ولاتبلى غرائبه"(٢)

____________

(١) المائدة: ٤٨.

(٢) الكافي: ٢|٢٣٨.

١٦٩

وقد عبّـر عنه سيد الاَُوصياء، قال:

"وسراجاً لا يخبو توقّده، وبحراً لايدرك قعره ـ إلى أن قال: ـ وبحر لاينزفه المستنزِفون وعيون لاينضبها الماتحون، ومناهل لايغيضها الواردون(١) ".

ولاَجل ذلك صار القرآن الكريم، النسخة الثانية لعالم الطبيعة الذي لايزيد البحث فيه والكشف عن حقائقه إلاّ معرفة أنّ الاِنسان لايزال في الخطوات الاَُولى من التوصل إلى مكامنه الخفية وأغواره البعيدة.

والمترقَّب من الكتاب العزيز النازل من عند الله الجليل، هو ذاك وهو كلام من لاتتصور لوجوده وصفاته نهاية فيناسب أن يكون فعله مشابهاً لوصفه، ووصفه حاكياً عن ذاته وبالتالي يكون القرآن مرجع الاَجيال وملجأ البشرية في جميع العصور.

ولما ارتحل النبي الاَكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتحق بالرفيق الاَعلى، وقف المسلمون على أنّ فهم القرآن وإفهامه يتوقف على تدوين علوم تسهل التعرّف على القرآن الكريم ولاَجل ذلك قاموا بعملين ضخمين في مجال القرآن:

الاَوّل: تأسيس علوم الصرف والنحو واللغة والاشتقاق وما شابهها لتسهيل التعرف على مفاهيم ومعاني القرآن الكريم أوّلاً، والسنّة النبوية ثانياً، وإن كانت تقع في طريق أهداف أُخرى أيضاً لكن الغاية القصوى من القيام بتأسيسها وتدوينها، هو فهم القرآن وإفهامه.

الثاني: وضع تفاسير في مختلف الاَجيال حسب الاَذواق المختلفة لاستجلاء مداليله ومن هنا لانجد في التاريخ مثيلاً للقران الكريم من حيث شدّة اهتمام أتباعه به وحرصهم على ضبطه، وقراءته، وتجويده، وتفسيره، وتبيينه.

____________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٩٨.

١٧٠

وقد ضبط تاريخ التفسير أسماء ماينوف على ألفين ومائتي تفسير وعند المقايسة يختص ربع هذا العدد بالشيعة الاِمامية(١)

هذا ماتوصّل إلى إحصائه المحقّقون من طريق الفهارس ومراجعة المكتبات عدا ما فاتهم ذكره مما ضاع في الحوادث الموَسفة كالحرق والغرق والغارة.

وعلى ضوء هذا يصعب جداً الاِحاطة بعدد التفاسير وأسمائها وخصوصياتها طيلة أربعة عشر قرناً حسب اختلاف بيئاتهم وقابلياتهم وأذواقهم.

والجدير بالبحث هو تبيين المناهج المتّبعة في التفاسير المتداولة ونخوض فيه، بعد تقديم مقدمة، توضح مفهوم "المنهج" وتميزه عن مفهوم "الاتجاه" و "الاهتمام".

المنهج التفسيري غير الاهتمام التفسيري :

هاهنا نكتة قيمة ربّما غفل عنها بعض من اهتم بتبيين المناهج التفسيرية

____________

(١) لاحظ معجم المفسرين لـ "عادل نويهص" وطبقات المفسرين لـ "الحافظ شمس الدين الداودي" المتوفي عام ٩٤٥هـ وما ذكرنا من الاِحصاء مأخوذاً من معجم المفسرين كما أنّ ما ذكرنا من أنّ ربع هذا العدد يختص بالشيعة مأخوذ من ملاحظة ما جاء في كتاب "الذريعة إلى تصانيف الشيعة" من ذكر ٤٥٠ تفسيراً للشيعة.

ولكن الحقيقة فوق ذلك، فإنّ ما قام به علماء الشيعة في مجال التفسير باللغات المختلفة في العصر الحاضر لم يذكر في الذريعة، ولاَجل ذلك يصح أن يقال: إنّ ثلث هذا العدد يختص بالشيعة كما أنّه فات صاحب "معجم المفسرين" عدّة من كتب التفسير للشيعة الاِمامية وإن كان تتبعه جديراً للتقدير. ولقد أتينا ـ بذكر أُمّة كبيرة من المفسرين الشيعة من عصر الصحابة والتابعين إلى يومنا هذا، من الذين قاموا بتفسير القرآن بألوان مختلفة، في تقديمنا لكتاب التبيان لشيخ الطائفة الطوسيقدس‌سره وقد طبع مع الجزء الاَوّل.

١٧١

وهي أنّ هاهنا بحثين:

الاَوّل: البحث عن المنهج التفسيري لكل مفسر، وهو تبيين طريقة كل مفسر في تفسير القرآن الكريم، والاَداة والوسيلة التي يعتمد عليها لكشف الستر عن وجه الآية أو الآيات؟ فهل يأخذ العقلَ أداةً للتفسير أو النقل؟ وعلى الثاني فهل يعتمد في تفسير القرآن على نفس القرآن أو على السنة أو على كليهما أو غيرهما.

وبالجملة ما يتخذه مفتاحاً لحل عقد الآيات وغَلقها، وهذا هو ما نسمّيه المنهج في تفسير القرآن في مقالنا هذا.

الثاني: البحث عن الاتجاهات والاهتمامات التفسيرية، والمراد منها المباحث التي يهتم بها المفسر في تفسيره مهما كان منهجه وطريقته في تفسير الآيات، مثلاً تارة يتجه إلى إيضاح المادة القرآنية من حيث اللغة، وأُخرى إلى صورتها العارضة عليها من حيث الاِعراب والبناء، وثالثة يتجه إلى الجانب البلاغي، ورابعة يعتني بايات الاَحكام، وخامسة يصب اهتمامه على الجانب التاريخي والقصصي، وسادسة يهتم بالاَبحاث الاَخلاقية، وسابعة يهتم بالاَبحاث الاجتماعية، وثامنة يهتم بالآيات الباحثة عن الكون وعالم الطبيعة، وتاسعة يهتم بمعارف القرآن واياته الاعتقادية الباقية عن المبدأ والمعاد وغيرهما، وعاشرة بالجميع حسبما أُوتي من المقدرة.

ولا شك أنّ التفاسير مختلفة من حيث الاتجاه والاهتمام، إمّا لاختلاف أذواق المفسرين وكفاءاتهم وموَهلاتهم، أو لاختلاف بيئاتهم وظروفهم، أو غير ذلك من العوامل التي تسوق المفسر إلى صبّ اهتمامه بجانب من الجوانب المذكورة أو غيرها، ولكن البحث عن هذا لايمتّ بالبحث عن المنهج التفسيري للمفسر بصلة فمن تصور أنّ البحث عن اختلاف الاهتمامات والاتجاهات راجع إلى البحث عن المنهج التفسيري فقد أخطأ.

وإن شئت أن تفرق بين البحثين فنأتي بكلمة موجزة وهي أنّ البحث في المناهج بحث عن الطريق والاَُسلوب، والبحث في الاهتمامات بحث عن الاَغراض والاَهداف التي يتوخّاها المفسر، وتكون علة غائية لقيامه بالتأليف في مجال القرآن.

١٧٢

أنواع المناهج التفسيرية:

إذا تبين الفرق بين البحثين فنقول: إنّ التقسيم الدارج في تبيين المناهج هو أنّ المفسر إمّا يعتمد في رفع الستر عن وجه الآية على الدليل العقلى أو على الدليل النقلي، ونحن أيضاً نقتفي في هذا البحث أثر هذا التقسيم لكن بتبسيط في الكلام:

المنهج الاَوّل: التفسير بالعقل

وصوره:

١ـ التفسير بالعقل الصريح الفطري.

٢ـ التفسير في ضوء المدارس الكلامية.

٣ـ التفسير حسب تأويلات الباطنية.

٤ـ التفسير حسب تأويلات الصوفية.

٥ـ التفسير حسب الاَُصول العلمية الحديثة.

وإليك بيان هذه الصور :

١ـ التفسير بالعقل الصريح الفطري:

المقصود تحليل الآيات الواردة في المعارف على ضوء الاَحكام العقلية القطعية الثابتة لدى "العدلية" كالتحسين والتقبيح العقليين، والثمرات المترتبة عليهما من لزوم بعث الاَنبياء وحسن التكليف، وقبح العقاب بلا بيان، ولزوم إعداد المقدمات لاِيصال الاِنسان إلى الغاية التي خلق لها، وحسن العدل، وقبح الظلم إلى غير ذلك من الاَحكام العقلية الثابتة لدى عقلاء العالم والكل يستمدّ من الاَصل المعيّن أعني أصل التحسين والتقبيح العقليين .(١)

____________

(١) هذا ما يسميه بعضهم بالعقل الصريح .

١٧٣

هذا ما يرجع إلى العقل العملي أي الاَحكام الصادرة منه في مجال العمل، وهناك إدراكات أُخرى يرجع إلى العقل النظري أي الاَحكام الصادرة منه في مجال التفكر والنظر وبه يفسّر كلَّ ما ورد في القرآن من الآيات الراجعة إلى الصانع، وتوحيده وسائر صفاته وغير ذلك من الاَُمور التي تبيينها على عاتق العقل النظري.

وبالجملة، الاَحكام العقلية في مجالى النظر والعمل أداة يفسَّـر بها ما ورد من الآيات حول ذاته وصفاته (مورد العقل النظري) وأفعاله (مورد العقل العملي) .

نعم من اتخذ العقل أداة وحيدة للتفسير يصعب عليه تحليل الآيات الراجعة إلى الاَحكام والقصص والمغازي. وينطبع تفسيره بالطابع العقلي البحت.

وتظهر أهميته في الآيات الواردة حول المعارف خصوصاً الآيات المتضمنة للحوار والمناظرة بين الاَنبياء وخصومهم.

ومن ألطف ما رأينا من التفاسير في هذا المنهج هو تفسير "القرآن والعقل" تأليف السيد الجليل نور الدين الحسيني العراقي (م ١٣٤١هـ) .

وفي هذا القسم من التفسير لايهتم المفسر في إخضاع الآيات لمنهج عقلي كلامي خاص وإنّما هو من قبيل الاستضاءة بهذه الاَُصول الثابتة عند العقل في تحليل الآيات.

نعم لو وقف المفسر على آيات يتبادر من ظهورها الابتدائي الجبر فإنّه يحاول أن يتفحص في القرآن ليجد ما يفسر هذه الآية على وجه يكون موافقاً للاَصل المسلّم عند العقل (الاختيار) لكن تكون هذه الاَُصول هي المحركة للمفسر إلى الفحص البالغ في متون الآيات والقرائن المنفصلة عنها حتى يتبين الحقّ وهذا بخلاف القسم الآخر الذي سيوافيك فإنّه أشبه بالتفسير بالرأي.

ومن حاول أن يسمّى هذا النوع من التفسير، تفسيراً بالرأي فقد أخطأ خطأ

كبيراً لاَنّ المفسر إنّما يقوم بتفسير كلام الله بعد الاعتقاد بوجود الصانع وصفاته وأفعاله وأنبيائه ورسله وكتبه وزبره. وهذه المعارف تعرف بالعقل الذي يستقل بالاَحكام الماضية ولافرق عند العقل بين الاستدلال على وجود الصانع عن طريق النظام السائد على العالم، والحكم بحسن العدل، وقبح الظلم، ولزوم الوفاء بالعهد، وقبح مقابلة الاِحسان بالظلم، إلى غير ذلك من الاَحكام العقلية المستقلة العالية التي يعترف بها جميع عقلاء العالم إلاّ قسم من الاَشاعرة الذين ينكرونها في اللسان ويوَمنون بها في القلب.

١٧٤

٢ـ التفسير في ضوء المدارس الكلامية:

المراد من هذا القسم هو إخضاع الآيات للعقائد التي اعتنقها المفسر في مدرسته الكلامية ونجد هذا اللون من التفسير بالعقل غالباً في تفاسير أصحاب المقالات: المعتزلة والاَشاعرة والخوارج خصوصاً الباطنية فإنّ لهوَلاء عقائد خاصة في مجالات مختلفة، زعموها حقائق راهنة على ضوء الاستدلال، وفي مجال التفسير حملوا الآيات على معتقدهم، وإن كان ظاهر الآية يأباه ولايتحمله غير أنّ هذا النمط من التفسير بالرأي والعقل، يختلف حسب بعد المعتقَد عن مدلول الآية فربما يكون التأويل بعيداً عن الآية، ولكن تتحملها الآية بتصرف يسير، وربما يكون الاَصل الكلامي بعيداً عن الآية غاية البعد بحيث لاتتحمله الآية حتى بالتصرف الكثير فضلاً عن اليسير .

تأويلات المعتزلة والاَشاعرة :

القسم الاَوّل عبارة عن التأويلات الموجودة في تفسير الكشاف لعلاّمة المعتزلة والتأويلات التي ارتكبها الرازي علاّمة الاَشاعرة في مجال العقائد وإليك البيان:

أ ـ الشفاعة حط الذنوب أو رفع الدرجة :

إنّ الشفاعة لم تكن فكرة جديدة ابتكرها الاِسلام وانفرد بها بل كانت فكرة رائجة بين جميع أُمم العالم من قبل وخاصةً بين الوثنيين واليهود. نعم إنّ الاِسلام قد طرحها مهذَّبة من الخرافات، ومما نسج حولها من الاَوهام، ومن وقف على آراء اليهود والوثنيين في أمر الشفاعة يقف على أنّ الشفاعة الدارجة بينهم كانت مبنية على رجائهم لشفاعة أنبيائهم في حط الذنوب وغفران آثامهم، ولاَجل هذا الاعتقاد كانوا يقترفون المعاصي ويرتكبون الذنوب، تعويلاً على ذلك الرجاء، فالآيات النافية للشفاعة والمثبتة لها تحت شرائط خاصة كلها راجعة إلى الشفاعة بهذا المعنى فلو نُفِيَت فالمنفي هو هذا المعنى، ولو قُبِلت والمقبول هو هذا المعنى، وقد أوضحنا في محله(١) أنّ الآيات الواردة في مجال الشفاعة على سبعة أنواع لايصح تفسيرها إلاّ بتفسير بعضها ببعض، وتمييز القسم المردود منها عن المقبول.

____________

(١) مفاهيم القرآن: ٤ | ١٧٧ ـ ١٩٩ .

١٧٥

ومع ذلك نرى أنّ المعتزلة يخصُّون آيات الشفاعة بأهل الطاعة دون العصاة ويرتكبون التأويل في موردها، وما هذا إلاّ للموقف الذي اتخذوه في حقّ العصاة ومقترفي الذنوب، في أبحاثهم الكلامية، فقالوا بخلود أهل العصيان في النار إذا ماتوا بلا توبة.

قال القاضي عبد الجبار: إنّ شفاعة الفسّاق الذين ماتوا على الفسوق ولم يتوبوا، يتنزل منزلة الشفاعة لِمن قتلَ ولدَ الغير، وترصّد للآخر حتى يقتله فكما أنّ ذلك يقبح، فكذلك هاهنا(١)

والذي دفع القاضي إلى تصوير الشفاعة في حقّ المذنب بما جاء في المثال، هو اعتقاده الراسخ بالاَصل الكلامي الذي يعد أصلاً من أُصول منهج الاعتزال وفي الوقت نفسه يعرب عن غفلته عن شروط الشفاعة فإنّ بعض الذنوب الكبيرة تقطع العلائق الاِيمانية بالله سبحانه كما تقطع الاَواصر الروحية بالنبي الاَكرم فأمثال هؤلاء ـ العصاة ـ محرومون من الشفاعة وقد وردت في الروايات الاِسلامية شروط الشفاعة وحرمان طوائف منها.

ولو افترضنا صحة ما ذكره من التمثيل فحكمه بحرمان العصاة من الشفاعة اجتهاد في مقابل نصوص الآيات وإخضاع لها لمدرسته الفكرية.

يقول الزمخشري في تفسير قوله سبحانه:( أنفِقُوا مِمّا رَزَقنَاكُمْ مِن قَبْلِ أنْ يَأتِيَ يَومٌ لا بَيعٌ فِيه ولا خُلَّة ولا شفاعة ) . قال: (ولا خُلَّة )حتى يسامحكم أخلاوَكم به، وإن أردتم أن يحط عنكم ما في ذمتكم من الواجب لم تجدوا شفيعاً يشفع لكم في حط الواجبات لاَنّ الشفاعة ثمة في زيادة الفضل لا غير"(٢)

ويلاحظ عليه: أنّ الآية بصدد نفي الشفاعة بالمعنى الدارج بين اليهود والوثنيين لاَجل أنّهم كفار، وانقطاع صلتهم عن الله سبحانه، وبالتالي إثباتها في حقّ غيرهم بإذنه سبحانه ويقول في الآية التالية:( مَن ذا الّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إلاّ بإذنِه ) وأمّا أنّ حقيقة الشفاعة زيادة الفضل لا حطّ الذنوب فهو تحميل للعقيدة على الآية فلو استدل القائل بها على نفي الشفاعة بتاتاً لكان أولى من استدلاله على نفي الشفاعة عن الكفار، وذلك لاَنّ المفروض أنّ الشفاعة بمعنى زيادة الفضل لا حطُّ الذنوب، وهو لايتصور في حقّ الكفار لاَنّهم لايستحقون الثواب فضلاً عن زيادته.

____________

(١) شرح الاَصول الخمسة: ٦٨٨ .

(٢) الكشاف: ١ | ٢٩١ في تفسير الآية رقم ٢٥٤ من سورة البقرة.

١٧٦

ب: هل مرتكب الكبيرة يستحق المغفرة أو لا ؟

اتفقت المعتزلة على أنّ مرتكب الكبيرة مخلد في النار إذا مات بلا توبة(١) وفي ضوء ذلك التجأوا إلى تأويل كثير من الآيات الظاهرة في خلافه نذكر منها آيتين:

الاَُولى: يقول سبحانه( وإنّ ربّكَ لَذُو مَغفِرةٍ لِلنّاسِ عَلى ظُلمِهِمْ وإنَّ ربّكَ لَشديدُ العِقاب ) (٢)

فالآية ظاهرة في أنّ مغفرة الربّ تشمل الناس في حال كونهم ظالمين، ومن المعلوم أنّ الآية راجعة إلى غير صورة التوبة وإلاّ لايصح توصيفهم بكونهم ظالمين، فلو أخذنا بظاهر الآية فهو يدلّ على عدم جواز الحكم القطعي بخلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات بلا توبة لرجاء شمول مغفرة الربّ له ولما كان ظاهر الآية مخالفاً للاَصل الكلامي عند صاحب الكشاف، حاول تأويل الآية بقوله: "وفيه أوجه:

١ ـ أن يريد ـ قوله(على ظلمهم) السيئات المكفَّرة، لمجتنب الكبائر.

٢ ـ أو الكبائر بشرط التوبة.

٣ ـ أو يريد بالمغفرة الستر والاِمهال"(٣)

وأنت خبير بأنّ كل واحد من الاحتمالات مخالف لظاهر الآية أو صريحها.

____________

(١) لاحظ أوائل المقالات: ١٤ وشرح الاَُصول الخمسة: ٦٥٩ .

(٢) الرعد: ٦ .

(٣) الكشاف: ٢ | ١٥٩ .

١٧٧

الثانية:( إنّ الله لايغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) .(١) والآية واردة في حقّ غير التائب، لاَنّ الشرك مغفور بالتوبة أيضاً فيعود معنى الآية أنّ الله سبحانه يغفر ما دون الشرك لمن يشاء وإن مات بلا توبة فتكون نتيجة ذلك عدم جواز الحكم القطعي بخلود مرتكب الكبائر في النار، ولما كان مفاد الآية مخالفاً لما هو المحرّر في المدرسة الكلامية للمعتزلة حاول صاحب الكشاف تأويل الآية فقال:

الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعاً موجهين بقوله تعالى: (لمن يشاء) كأنّه قيل: "إنّ الله لا يغفر لمن يشاء الشرك ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك" على أنّ المراد بالاَوّل من لم يتب وبالثاني من تاب، نظير قولك: إنّ الاَمير لايبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء، تريد لايبذل الدينار لمن لايستأهله ويبذل القنطار لمن يستأهله"(٢)

يلاحظ عليه: أنّ ماذكره خلاف ظاهر الآية وقد ساقته إليه مدرسته الكلامية فنزّل الاَوّل مورد عدم التوبة، والثاني موردها، حتى تتفق الآية ومعتقده. كما أنّه لا دلالة في الآية على تقييد الثاني بالتوبة، لاَنّه تفكيك بين الجملتين بلا دليل بل هما ناظرتان إلى صورة واحدة وهي صورة عدم اقترانهما بالتوبة فلا يغفر الشرك لعظم الذنب ويغفر ما دونه.

ج: امتناع روَية الله أو إمكانها :

ذهبت الاَشاعرة إلى جواز روَيته سبحانه يوم القيامة وهذا هو الاَصل البارز في مدرستهم الكلامية، ثم إنّ هناك آيات تدلّ بصراحتها على امتناع روَيته سبحانه فحاولوا إخضاع الآيات لنظريتهم وإليك نموذجاً واحداً، يقول سبحانه:

____________

(١) النساء: ٤٨ .

(٢) الكشاف: ١ | ٢٠١ في تفسير الآية المذكورة .

١٧٨

( ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إلاّ هُوَ خالِقُ كُلّ شَيءٍ فَا عبدُوه وَهوَ عَلى كُلّ شَيءٍ وَكيلٌ x لا تُدرِكُهُ الاَبصارُ وَهُو يُدرِكُ الاَبصارَ وَهوَ اللَّطيفُ الخَبير ) (١)

ومن المعلوم أنّ الاِدراك مفهوم عام لايتعين في البصري أو السمعي أو العقلي إلاّ بالاِضافة إلى الحاسة التي يراد الاِدراك بها، فالاِدراك بالبصر يراد منه الروَية بالعين، والاِدراك بالسمع يراد منه السماع، هذا هو ظاهر الآية، وهي تنفى إمكان الاِدراك بالبصر على الاِطلاق.

ولما وقف الرازي على أنّ ظاهر الآية أو صريحها لا يوافق أصله الكلامي فقال: "إنّ أصحابنا (الاَشاعرة) احتجوا بهذه الآية على أنّه يجوز روَيته والموَمنون يرونه في الآخرة وذلك بوجوه:

١ ـ أنّ الآية في مقام المدح فلو لم يكن جائز الروَية لما حصل التمدح بقوله:( لاتدركه الاَبصار ) ألا ترى أنّ المعدوم لا تصح روَيته، والعلوم والقدرة والاِرادة والروائح والطعوم لاتصح روَية شيء منها ولا يمدح شيء منها في كونها "لاتدركه الاَبصار" فثبت أنّ قوله:( لاتدركه الاَبصار ) يفيد المدح، إلاّ إذا صحت الروَية. والعجب غفلة الرازي عن أنّ المدح ليس بالجزء الاَوّل فقط وهو لا تدركه الاَبصار بل بمجموع الجزأين المذكورين في الآية كأنّه سبحانه يقول: والله جلّت عظمته يدرك أبصاركم، ولكن لا تدركه أبصاركم، فالمدح بمجموع القضيتين لا بالقضية الاَُولى. ٢ ـ أنّ لفظ "الاَبصار" صيغة جمـع دخل عليها الاَلـف واللام فهي تفيد الاستغراق بمعنى أنّه لايدركه جميع الاَبصار وهذا لا ينافي أن يدركه بعض الاَبصار.

____________

(١) الاَنعام: ١٠٢ ـ ١٠٣ .

١٧٩

يلاحظ عليه: أنّ الآية تفيد عموم السلب لاسلب العموم بقرينة كونه في مقام مدح نفسه.كأنّه سبحانه يقول: "لا يدركه أحد من جميع ذوي الاَبصار من مخلوقاته ولكنّه تعالى يدركهم وهذا نظير قوله سبحانه:( كَذلِكَ يَطبَعُ اللهُ عَلى كُلّ قَلبِ مُتَكبّرٍ جَبّار ) (١) وقوله:( إنَّ اللهَ لا يُحبُّ كُلَّ مُختالٍ فَخور ) (٢) إلى غير ذلك من الوجوه الواهية التي ما ساقه إلى ذكره إلاّ ليُخضِعَ الآيةَ، معتقده. إلى هنا تم الكلام في القسم الاَوّل، وإليك الكلام في القسم الثاني الذي يكون التفسير فيه بعيداً عن ظاهر الآية غاية البعد. ٣ـ التفسير حسب تأويلات الباطنية: إنّ الباطنية وضعوا لتفسير المفاهيم الاِسلامية ضابطة ما دلّ عليها من الشرع شيء وهو أنّ للقرآن ظاهراً وباطناً والمراد منه باطنه دون ظاهره المعلوم من اللغة، ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة اللب إلى القشر، وإنّ باطنه يوَدّي إلى ترك العمل بظاهره واستدلّوا على ذلك بقوله سبحانه:( فَضُربَ بَينَهُم بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيه الرَّحمَةُ وَظاهِرُهُ مِن قِبَلِه العَذاب ) (٣) .

____________

(١) غافر: ٣٥

(٢) لقمان: ١٨

(٣) الفرق بين الفرق: ١٨ | والآية ١٣ من سورة الحديد .

١٨٠