الإيمان والكفر في الكتاب والسنة

الإيمان والكفر في الكتاب والسنة0%

الإيمان والكفر في الكتاب والسنة مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 207

الإيمان والكفر في الكتاب والسنة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف: الصفحات: 207
المشاهدات: 22555
تحميل: 8308

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 207 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 22555 / تحميل: 8308
الحجم الحجم الحجم
الإيمان والكفر في الكتاب والسنة

الإيمان والكفر في الكتاب والسنة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وأمّا الصنف الثاني فنأتي ببعض نصوصه: ٨ ـ ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله : "بُنى الاِسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله ، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم شهر رمضان"(١) ٩ ـ ما تضافر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من شهد أن لا إله إلاّ الله ، واستقبل قبلتنا وصلّى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم، له ما للمسلم وعليه ما على المسلم(٢) . ١٠ ـ روى أنس بن مالك عن رسول الله قال: "أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله ، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، وصلّوا صلاتنا، حرمت علينا دماوَهم وأموالهم إلاّ بحقّها"(٣) وهذه النصوص ـ وما أكثرها وقد اقتصرنا بالقليـل ـ تُصرّح بأنّ ما تحقن به الدماء وتصان به الاَعراض ويدخل به الاِنسان في عداد المسلمين ويستظلُّ بخيمة الاِسلام، هو الاعتقاد بتوحيده سبحانه ورسالة الرسول وهذا ما نعبر عنه ببساطة العقيدة وسهولة التكاليف الاِسلامية. إذا عرفت هذين الصنفين من الروايات فاعلم أنّ الجميع يهدف إلى أمر واحد وهو أنّ الدخول في الاِسلام والتظلّل تحت مظلّته ليس بأمر عسير بل سهل جداً، وليس في الاِسلام ما هو معقّد في المعارف، ولا معسور في الاَحكام، وشتان بين بساطة العقيدة فيه، والتعقيد الموجود في المسيحية من القول بالتثليث وفي الوقت نفسه من الاعتقاد بكونه سبحانه إلهاً واحداً.

____________

(١) البخاري: الصحيح: ١|١٦، كتاب الاِيمان، باب أداء الخمس.

(٢) ابن الاَثير: جامع الاَُصول: ١|١٥٨ ـ ١٥٩.

(٣) ابن الاَثير: جامع الاَُصول: ١|١٥٨ ـ ١٥٩.

٤١

وأمّا الاختلاف بين الصنفين فيمكن رفع ذلك بوجهين: الاَوّل: انّ موقف الصنف الاَوّل غير موقف الصنف الثاني، فالاَوّل بصدد بيانه ما تصان به الدماء وتحل به الذبائح، وتجوز المناكحة فيكفي في ذلك الاعتراف بالشهادتين المعربتين عن التصديق بهما قلبا. وأمّا الثاني فهو بصدد بيان ما ينجي الاِنسان من عذاب الآخرة وهو رهن العمل بالاَحكام وقد ذكرنا نماذج منه، لتكون إشارة إلى غيرها. الثاني: انّ ما جاء به النبي ينقسم إلى ضروري يعلم من غير نظر واستدلال ويعرفه كل من ورد حظيرته كوجوب الصلاة والزكاة وصوم رمضان، وإلى غير ضروري يقف به من عمّر في الاِسلام وعاش بين المسلمين وتخالط مع العلماء والوعاظ، أو نظر في الكتاب والسنّة، فإنّ إنكار القسم الاَوّل إنكار لنفس الرسالة، بحيث لا يمكن الجمع ـ في نظر العرف ـ بين الشهادة على الرسالة وإنكار وجوب الصلاة والزكاة، ولاَجل ذلك لا يعذر فيه ادّعاء الجهل عند الاِنكار إلاّ إذا دلّت القرائن على جهل المنكر بأنّه ضروريّ كما إذا كان جديد العهد بالاِسلام، وسيوافيك حكم منكر الضروريّ في الفصل القادم.وعلى هذا لا منافاة بين الصنفين فلعلّ عدم ذكرها في الصنف الاَوّل للاستغناء عنه بالاعتراف بالرسالة غير المنفكة عن الاعتراف بها. وبذلك يظهر: أنّ المسائل الفرعية والاَُصولية الكلامية وإن كانت من صميم الاِسلام لكن لا يجب الاِذعان القلبي بها تفصيلاً، بل يكفي الاِيمان بها إجمالاً حسب ما جاء به النبي فيكفى في الاِيمان، الاِذعان بإن القرآن نزل من الله ، من دون لزوم عقد القلب بقدمه أو حدوثه، وأنّ الله عالم وقادر من دون لزوم تبيين موقع الصفات وأنّها عين الذات أو زائدة عليها، وقس على ذلك جميع المسائل الكلامية والفقهية إلاّ ما خرج.

٤٢

الجهة الخامسة: في حد الكفر وأسبابه وأقسامه

إذا تبيّن مفهوم الاِيمان وحدّه فيعلم منه مفهوم الكفر وحدّه بالضرورة، سواء قلنا إنّ بينهما تقابل التضاد أو تقابل العدم والملكة، وإليك توضيح ذلك:

١ ـ حد الكفر :

الكفر: لغة هو الستر والتغطية، و سمّي الزارع كافراً لاَنّه يستر الحبة بالتراب، قال سبحانه:( كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعجَبَ الكفّار نَباتُهُ ) (الحديد ـ ٢٠) .

وأمّا اصطلاحاً، فهو عدم الاِيمان بما من شأنه الاِيمان به، فيدخل ما من شأنه الاِيمان به تفصيلاً كتوحيده سبحانه ورسالة نبيه ويوم قيامته أو من شأنه الاِيمان به إجمالاً، كالاِيمان بالضروريات أي ما لا يجتمع الاِنكار بها مع التسليم للرسالة، ويعد الفصل بينهما أمراً محالاً في مقام التصديق، فلو كفر بوجوب الصلاة والزكاة فقد كفر بما من شأنّه الاِيمان به، فالاِيمان بالرسالة إيمان بهما ويعدّ إنكارهما أنكاراً لها، بل الاِيمان بكل ما جاء به ضروريّاً كان أو غير ضروريّ. لكن على وجه الاِجمال لاَنّه لازم الاِيمان برسالته.

قال الاِيجي: الكفر وهو خلاف الاِيمان فهو عندنا عدم تصديق الرسول في بعض ما علم مجيئه به ضرورة(١)

____________

(١) الاِيجي، المواقف: ٣٨٨ .

٤٣

وقال ابن ميثم البحرانى: "الكفر هو إنكار صدق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنكار شىءٍ ممّا علم مجيئه به بالضرورة(١) ".

وقال الفاضل المقداد: "الكفر اصطلاحاً هو إنكار ما علم ضرورة مجيىَ الرسول به"(٢) .

والميزان عند هؤلاء الاَقطاب الثلاثة هو إنكار ما علم مجيىَ الرسول به من دون أن يشيروا إلى ما هو المعلوم مجيئه به، ولكن السيد الطباطبائي اليزدي أشار إلى روَوس ما جاء به وقال: "الكافر من كان منكراً للاِلوهية أو التوحيد أو الرسالة أو ضرورياً من ضروريات الدين مع الالتفات إلى كونه ضرورياً بحيث يرجع إنكاره إلى إنكار الرسالة"(٣) والاَولى بل المتعين ذكر المعاد كما مرَّ.

٢ ـ أسباب الكفر:

قد تعرّفت على مفهوم الكفر وحدّه، فيقع الكلام في أسبابه، أعني: موجبات الكفر، ابتداءً أو بقاءً (تقابل الارتداد) فنقول: إنّ أسبابه ثلاثة:

الاَوّل: إنكار ما وجب الاِيمان به تفصيلاً، على ما مر في الفصل، كإنكار الصانع، أو توحيده ذاتاً وفعلاً وعبادة. وإنكار رسالة النبي الاَكرم بالمباشرة، أو يوم المعاد والجزاء وقد علمت أنّ الاِيمان بها، على وجه التفصيل قد أخذ موضوعاً للحكم بالاِسلام فلو أنكرها أو جهلها يكون محكوماً بالكفر وربّما يكون معذوراً في بعض الصور كما إذا كان جاهلاً قاصراً أو إنساناً مستضعفاً.

الثاني: جهد ما علم الجاهد أنّه من الاِسلام، سواء كان ضرورياً أم غير ضروري سواء كان أصلاً عقيدياً أو حكماً شرعياً، لاَنّ مرجعه إلى إنكار رسالته في بعض النواحي.

____________

(١) ابن ميثم البحراني: قواعد المرام: ١٧١ .

(٢) الفاضل المقداد: إرشاد الطالبين: ٤٤٣ .

(٣) السيد الطباطبائي اليزدي: العروة الوثقى، كتاب الطهارة، مبحث النجاسات.

٤٤

وربما يستغرب الاِنسان من الجمع بين العلم بكونه ممّا جاء به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومع ذلك يجحد به ولكنّه سرعان ما يزول تعجبه إذا تلى قوله سبحانه:( وَجَحَدُوا بِها واستَيْقَنَتها أَنفُسُهُمْ ) (النمل ـ ١٤) .

وقوله سبحانه:( الَّذِينَ آتَيناهُمُ الكِتابَ يَعرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبناءَهُم ) (البقرة ـ ١٤٦) فنرى أنّهم أنكـروا ما أيقنوه، ونفوا ما عرفوه. هذا إذا لم يتجاوز الجحد حد اللسان، وإمّا إذا سرى إلى الباطن فمرجع الجحد عندئذ مع العلم بأنّه ممّا جاء به النبي إلى نسبة الخطأ والاشتباه إلى صاحب الرسالة وتصوير علمه قاصراً في مجال المجحود.

وقد كان رجال من المنتمين إلى الاِسلام، يخطّئون التشريع الاِسلامي، بتحريمه الفائز، والربا في القرض الرائج في الاَنظمة الاقتصادية الغربية، قائلين، بأنّه مدار الاقتصاد النامي وأُسُّه، و مرجع ذلك ـ مع تضافر الآيات والروايات على تحريمه ـ إلى نسبة الجهل والقصور لصاحب الشريعة وما فوقه.

وحصيلة الكلام أنّ جحد ما علم الجاحد أنّه من الاِسلام، يورث الكفر سواء كان المجحود ضرورياً من ضروريات الاِسلام، أو كان حكماً شرعياً غير ضروري. ولكن كان ثابتاً عند الجاحد، وسواء كان الجحد باللسان غير سائر إلى مراكز الفكر والاِدراك أو سارياً إليه.

وهذا القسم من الجحد، لا صلة له بما هو المعنون في كلامهم من أنّ إنكار ما علم أنّه من الاِسلام بالضرورة موجب للكفر، فإنّ الموضوع هناك، خصوص ما علم أنّه ضروري وسيوافيك البحث فيه في السبب الثالث.

وقد وردت روايات عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام تركز على جحد ما علم أنّه من الدين، من غير تخصيص المجحود بما علم أنّه من الاِسلام بالضرورة. ونأتى ببعض أثر من أئمة أهل البيت حتى تُدعَم بالنص:

روى عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الرجل يرتكب الكبيرة من الكبائر، فيموت هل يخرجه ذلك من الاِسلام، وإن عذب، كان عذابه كعذاب المشركين، أم له مدة انقطاع؟

٤٥

فقالعليه‌السلام : "من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنّها حلال، أخرجه ذلك من الاِسلام، وعذّب أشدّ العذاب، وإن كان معترفاً أنّه أذنب، ومات عليه أخرجه من الاِيمان ولم يخرجه من الاِسلام، وكان عذابه أهون من عذاب الاَوّل(١)

وحاصله أنّ ارتكاب الكبيرة مع الاعتقاد بأنّها حلال يوجب الكفر، وأمّا ارتكابها مع الاعتراف بكونها ذنباً فيخرج عن الاِيمان دون الاِسلام.

٢ـ قال الصادقعليه‌السلام : "الكفر في كتاب الله عز وجل على خمسة أوجه ـ إلى أن قال:ـ فأمّا كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية والجحود على معرفته، وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حق قد استقر عنده وقال الله تعالى:( وَجَحَدُوا بِها واستَيْقَنَتها أنفسهم ) "(٢)

٣ ـ وقال الاِمام الباقرعليه‌السلام : "قيل لاَمير الموَمنينعليه‌السلام من شهد أنْ لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله كان موَمناً. (قال أمير الموَمنين ردّاً له) : فأين فرائض الله ، وما بال من جحد الفرائض كان كافراً"(٣)

وليس المقصود، خصوص الصلوات، بل مطلق ما أوجبه سبحانه على الناس وحاصل الرواية لو كانت الشهادتان سبباً تاماً للاِيمان يلزم أمران:

١ ـ أن لا يكون لفرائض الله مكان في الاِيمان.

٢ ـ أن لا يحكم بكفر من أنكرها وجحدها.

والموضوع في الروايتين وغيرهما للحكم بالكفر، وهو جحد ما علِم من غير اختصاص بالضروريات و في هذا، لا يفرق بين جديد العهد بالاِسلام وقديمه. بل الميزان، هو جحد ما علمه أنّه من الاِسلام بأحد الوجهين على ما عرفت.

____________

(١) الكليني: الكافي: ٢ | ٢٨٥ ح ٢٣ .

(٢) الوسائل: ١ ، الباب ٢ من أبواب مقدمات العبادات، الحديث ٩ و ١٣ .

(٣) الوسائل: ١ ، الباب ٢ من أبواب مقدمات العبادات، الحديث ٩ و ١٣ .

٤٦

الثالث: إنكار ما علم أنّه من ضروريات الاِسلام.

هذا هو السبب الثالث للحكم بالكفر والارتداد عن الاِسلام وبيانه:

قد تعرّفت فيما سبق على ما يجب الاِيمان به تفصيلاً، وما يجب الاِيمان به إجمالاً، وأنّ ما سوى الاَُصول الثلاثة (التوحيد بأصنافه، ورسالة النبي الاَكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويوم الجزاء) لايجب الاِيمان به تفصيلاً، بل يكفي الاِيمان به إجمالاً وهو يعم الضروري وغيره وعلى ذلك، فلم يوَخذ الاِيمان بوجوب الصلاة والصوم تفصيلاً في موضوع تحقّق الاِسلام، بخلاف الاَُصول الثلاثة المتقدمة.

ومع ذلك لو التفت إلى حكم الضروريّ التفاتاً تفصيلياً وأنكر كونه ممّا جاء به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبما أنّه يلازم إنكار الرسالة في نظر المخاطبين المسلمين، بحيث لا يمكن الجمع بين الاِيمان برسالة الرسول، وإنكار ما علم بالبداهة أنّه ممّا جاء به النبي وقع الكلام في كونه موجباً للارتداد، مطلقاً سواء كانت هناك ملازمة عند المنكر أو لا. أو فيه تفصيل وهو الحق ويعلم من الكلام التالي:

إنّ هناك فرقاً واضحاً بين إنكار الرسالة بالمباشرة وإنكار ما يلازم إنكارها فلو وقعت الرسالة بشخصها في مجال الاِنكار، فالمنكر يكون محكوماً بالكفر، قاصراً كان أو مقصراً، معذوراً كان أو غير معذور للنصوص المركّزة على كون الاِيمان برسالة الرسول من أُصول الاِسلام ومقوّماته.

وأمّا إنكار الضروري فبما أنّه ليس الاِيمان به تفصيلاً أصلاً من الاَُصول، لا يكون إنكاره عند الالتفات سبباً مستقلاً، بل سببيته لاَجل كونه سبباً لاِنكار الاَصل، وعند ذلك لا يكون الاِنكاران متماثلين في الحكم في جميع الجهات، بل يقتصر في الثاني على حد خاص وهو تحقّق الملازمة عند المنكر. غاية الاَمر يكون إنكار الضروري طريقاً إلى إنكار الرسالة، ما لم يُعلم عدم الملازمة عند المنكر فيحكم بكفر المنكر إلاّ إذا ثبت بالقرائن أنّه لم يكن بصدد إنكار الرسالة، وإنّما أنكرها لجهله وضعفه الفكري، كما إذا كان جديد العهد بالاِسلام وأنكر حرمة الفائز مثلاً فيقبل منه ولا يقبل ممّا نشأ بين المسلمين منذ نعومة أظفاره إلى أن شبَّ وشاب.

٤٧

وحاصل الكلام: أنّ إنكار الضروري طريق عقلائي وكاشف عن إنكار الرسالة ورفض الشريعة في مورد الاِنكار فيحكم بالكفر والارتداد، إلاّ إذا ثبت عذره وجهله.

والفرق بين إنكار الاَصل، وإنكار ما يلازم إنكاره، هو أنّ الاَوّل أصل برأسه وأُخذ في موضوع الاِسلام ودلّت الروايات على كونه جزء منه بخلاف التالى فإنّ سببّيته عقلية، وطريقيّته عقلائية فيوَخذ بالطريق إلاّ إذا ثبت تخلّفه.

ثم الفرق بين السبب الثاني (جحد ما علم أنّه من الدين) وهذا السبب واضح، فإنّ الملاك في السبب المتقدم هو كون جحد الجاحد عن علم بأنّه من الدين بأحد النوعين، من غير فرق بين الاَُصول والفروع، وبين الضروري وعدمه، وأنّما نعلم فقط أنّ جحده عن علم. وهذا بخلاف الملاك في السبب الثالث فمتعلّق الاِنكار، هو ما علم أنّه من الدين بالضرورة من دون أن نعلم أنّه أنكر عن علم أو لا. ولاَجل ذاك الفرق حكم بالارتداد في السبب الثاني بلا استثناء لعدم قابليته له، بخلاف الاَخيرة فحكم بكفر المنكر مطلقاً سواء علم حاله ـ وأنّه أنكره عن علم بأنّه من الدين ـ أو جهل حاله، إلاّ إذا علم أنّه أنكر لا عن علم، فلاحظ.

أقسام الكفر :

إنّ للكفر أقساماً ذكرها المتكلّمون وأصحاب المعاجم نشير إليها:

١ ـ كفر إنكار: وهو أن يكفر بقلبه ولسانه، فلا يعرف الله ولا رسوله، أو لا يعرف الرسول فقط.

٢ ـ كفر جحود: وهو أن يذعن بقلبه ولا يقر بلسانه بل يجحده، كما في قوله سبحانه:( وَجَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتها أَنفُسُهُم ) (النمل ـ ١٤) .

٤٨

٣ ـ كفر عناد: وهو أن يعرف بقلبه ويقر بلسانه ولا يدين به، عناداً وحسداً. ويمثل له ببعض كفار قريش كالوليد بن المغيرة، حيث عرف بقلبه واعترف بلسانه بأعجاز القرآن لكنه لم يَدُنْ به ونسبه إلى السحر(١)

٤ ـ كفر نفاق: وهو أن يقر بلسانه ولا يعتقد بقلبه كالمنافق(٢)

وقسمه الاِيجي بصورة أُخرى وقال: الاِنسان إمّا معترف بنبوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو لا، والثاني إمّا معترف بالنبوة في الجملة وهم اليهود والنصارى وغيرهم، وإمّا غير معترف بها، وهو إمّا معترف بالقادر المختار وهم البراهمة، أو لا، وهم الدهرية. ثم إنكارهم لنبوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إمّا عن عناد وإمّا عن اجتهاد(٣)

وللتفتازاني تقسيم آخر للكفر حيث قال: الكافر إن أظهر الاِيمان خص باسم المنافق، وإن كفر بعد الاِسلام فبالمرتد. وإن قال بتعدد الآلهة فبالمشرك، وإن تدّين ببعض الاَديان فبالكتابى، وإن أسند الحوادث إلى الزمان واعتقد قدمه فبالدهرى، وإن نفى الصانع فبالمعطّل، وإن كان مع اعترافه بنبوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

____________

(١) اقرأ كلماته في كتب التفاسير في تفسير قوله سبحانه:( ذرنى ومن خلقت وحيداً ) (المدثر: ١١ ـ ٢٥) .

(٢) الزبيدي: تاج العروس: ٣ | ٢٥٤ ، وابن منظور: لسان العرب: ٥ | ١٤٤ .

(٣) القاضي: المواقف: ٣٨٩.

٤٩

وإظهاره شعائر الاِسلام يبطن عقائد هي كفر بالاتفاق، فبالزنديق(١)

وتقسّمُ الاباضية الكفرَ إلى كفر الملة وكفر النعمة، وبالثانى يفسّرون قوله سبحانه:( وللهِ على الناسِ حِجُّ البيتِ مَنِ استَطاعَ إليهِ سَبيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإنّ اللهَ غنِىّ عنِ العالَمِين ) (آل عمران ـ ٩٧).

هذه التقسيمات للكفر والكافر ربما تزيد بصيرة في المقام. هذا وفي بعض الروايات المنقولة عن أمير الموَمنين تقسيم الكفر المذكور في كتاب الله على الوجه التالى وهو في الحقيقة تبيين لموارد استعماله في القرآن وإليك خلاصته:

١ ـ كفر الجحود: وله وجهان :

ألف ـ جحود الوحدانية: وهو قول من يقول "لاربّ ولا جنة ولا نارَ ولا بعثَ ولا نشورَ" وهؤلاء صنف من الزنادقة وصنف من الدهرية الذين يقولون: (ما يهلكنا إلاّ الدهر )وذلك رأي وضعوه لاَنفسهم استحسنوه بغير حجة فقال الله تعالى:( إن هُمْ إلاّ يَظُنّون ) (البقرة ـ ٧٨).

وقال:( إنّ الّذينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِم أأَنذَرْتَهُمْ أمْ لَـمْ تُنذِرْهُمْ لا يُوَْمِنُون ) (البقرة ـ ٦) أي لا يوَمنون بتوحيد الله .

ب ـ الجحود مع المعرفة بحقيقته: قـال تعالى:( وَجَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أنفُسُهُمْ ظُلماً وعُلُواً ) (النمل ـ ١٤) وقال سبحانه: ( وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ على الّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّـا جَاءَهُم ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعنَةُ اللهِ على الكافِرِين ) (البقرة ـ ٨٩) أي جحدوه بعد أن عرفوه.

٢ ـ كفر الترك لما أمر الله به :

____________

(١) التفتازاني: شرح المقاصد: ٥ | ٢٢٧ .

٥٠

كفر الترك لما أمر الله به من المعاصي كما قال الله تعالى:( وَإذْ أَخَذْنَا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دماءَكُمْ ولا تُـخْرِجُونَ أنفُسَكُم مِنْ دِيارِكُم ثُمَّ أقْرَرْتُمْ وأنتُمْ تَشْهَدُون ـ إلى أن قال ـأَفَتُوَْمِنُونَ بِبَعضِ الكِتابِ وَتَكْفُروُنَ بِبَعض ) (البقرة: ٨٤ ـ ٨٥) فكانوا كفّاراً لتركهم ما أمر الله تعالى به.

٣ ـ كفر البراءة :

والمقصود منه هو ما حكاه تعالى عن قول إبراهيم:( كَفَرنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ والبَغْضَاءُ أبداً حتّى تُوَمِنُوا بِاللهِ وَحْدَه ) (الممتحنة ـ ٤) فقوله: (كَفَرنا بِكُمْ )أي تبرّأنا منكم. وقال سبحانه في قصة إبليس وتبرّيه من أوليائه من الاِنس إلى يوم القيامة:( إنّى كَفَرتُ بما أشْرَكْتُمُون مِنْ قَبْل ) (إبراهيم ـ ٢٢) أي تبرّأت منكم.

وقوله تعالى:( إنّما اتّـخَذْتُم من دُونِ اللهِ أوْثاناً مَودّةَ بَيْنِكُمْ في الحياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ القِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعضاً ) (العنكبوت ـ ٢٥) .

٤ ـ كفر النعم :

وهو ما حكاه سبحانه عن قول سليمان:( هذا مِن فَضْلِ رَبّي لِيَبْلُوَي أأشكُرُ أَمْ أكْفُر ) (النمل ـ ٤٠) .

وقال تعالى:( لَئِن شَكَرْتُمْ لاََزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إنّ عَذَابِى لَشَدِيد ) (إبراهيم ـ ٧) وقال تعالى: ( فاذكرونى أذكركم واشكرو لى ولا تكفرون ) (البقرة ـ ١٥٢) .

٥ ـ مطلق الكفر :

وهو ما جاءت فيه كلمة الكفر من غير تقييد بشيء من القيود المتقدّمة(١)

____________

(١) المجلسي: نقلاً عن تفسير النعمانى: البحار: ٧٢|١٠٠، وقد جاء في كلام الاِمام. مطلق الكفر، بلا شرح والعبارة الواردة بعد العنوان منّا.

٥١

الجهة السادسة: في تكفير أهل القبلة

إذا تعرفت على ما يخرج الاِنسان من الاِيمان ويدخله في الكفر يعلم أنّه لا يصح تكفير فرقة من الفرق الاِسلامية ما دامت تعترف بالشهادتين ولا تنكر ما يعد من ضروريات الدين التي يعرفها كل من له أدنى إلمام بالشريعة وإن لم تكن له مخالطة كثيرة مع المسلمين. وعلى ذلك فالبلاء الذي حاق بالمسلمين في القرون الماضية وامتد إلى عصرنا الحاضر بلاء مبدّد لشمل المسلمين أوّلاً، ومحرّم في نفس الكتاب والسنّة وإجماع المسلمين ثانياً، ومن الاَسف أنّ التعصّبات المذهبيّة الكلامية صارت أساساً لتكفير المعتزلة أصحاب الحديث والاَشاعرة وبالعكس، وربما عمّ البلاء شيعة أئمة أهل البيت فترى أنّ بعض المتعصبين أخذوا يكفّرون الشيعة بأُمور لو ثبتت لا تكون سبباً للتكفير، فضلاً عن كون أكثرها تهماً باطلة كالقول بتحريف القرآن ونظيره وأنّ الثابت منها، مدعم بالكتاب والسنّة كما سيوافيك في آخر هذا الفصل، ولاَجل أن يقف القارىَ على مدى البلاء في العصور السابقة نذكر كلمة الاِيجي، قال:

قال جمهور المتكلّمين والفقهاء على أنّه لا يكفر أحد من أهل القبلة، والمعتزلة الذين قبل أبي الحسين، تحامقوا فكفّروا الاَصحاب ـ يريد الاَشاعرة ـ فعارضه بعضنا بالمثل، وقال الاَُستاذ وكل مخالف يكفّرنا فنحن نكفّره وإلاّ فلا(١) .

____________

(١) الاِيجي: المواقف: ٣٩٢ .

٥٢

وكأنَّ الاَُستاذ أبا إسحاق الاسفرائيني صوّر الموقف موقف حرب فعمل بقوله سبحانه:( فَا عْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (البقرة ـ ١٩٤) مع أنّ الموقف موقف حزم واحتياط، فلو كفّرت إحدى الطائفتين الطائفة الاَُخرى عن حمق وجهالة، فيجب علينا إرشاد المكفّرين وهدايتهم وإقامة الدلائل على إيمانهم لاتكفيرهم عملاً بالاعتداء بالمثل.

والعجب أنّ أكثر المسائل التي ربما بها تكفر طائفةٌ، طائفةً أُخرى، مسائل كلامية لم يكن بها عهد في عصر النبي الاَكرم، ولم يكن النبي يستفسر عن عقيدة المعترِف بالشهادتين، فيها نظير:

١ ـ كون صفاته عين ذاته أو زائدة عليها.

٢ ـ كون القرآن محدثاً أو قديماً.

٣ ـ أفعال العباد هل هي مخلوقة لله تعالى أم لا ؟

٤ ـ هل الصفات الخبرية في القرآن كاليد والوجه تحمل على المعنى اللغوي أو توَوّل؟

٥ ـ روَية الله سبحانه في الآخرة هل هي ممكنة أم ممتنعة؟

٦ ـ عصمة الاَنبياء قبل البعثة وبعدها.

إلى غير ذلك من عشرات المسائل الكلامية التي يستدلّ فيها كل من الطائفتين بلفيف من الآيات والاَحاديث، فكلّ يرى نفسه متمسكاً بالمصدرين الرئيسيّين وفي الوقت نفسه معترفاً بتوحيده ورسالة نبيه.

فعلى ذلك يجب علينا الاَخذ بالضابطة، فما دام الخلاف ليس في صلب التوحيد وما جاء به الرسول بالضرورة على نحو تعد المفارقة عنه، مفارقة عن الاعتراف بالرسالة لا يكون الاختلاف موجباً للكفر، وخروجاً عن الاِسلام وارتداداً عن الدين، ويعد خلافاً مذهبياً، وكون شيء ضرورياً في مذهب الاَشاعرة ليس دليلاً على كونه كذلك بين عامة المسلمين وبالعكس فيما يقوله المعتزلة وحتى مايقوله الشيعة في ضروريات مذهبهم.

٥٣

ولاَجل أن يقف القارىَ على أنّ جمهور العلماء لا يجوز تكفير أهل القبلة نورد كلمات للعلماء في ذلك ثم نذكر مصادر آرائهم في الروايات:

١ ـ قال ابن حزم عندما تكلم فيمن يُكفّر ولا يكفّر: وذهبت طائفة إلى أنّه لا يُكفّر ولايُفسَّق مسلم بقول قاله في اعتقاد، أو فتيا، وإنّ كلّ من اجتهد في شىء من ذلك فدان بما رأى أنّه الحق فإنّه مأجور على كل حال إن أصاب فأجران، وإن أخطأ فأجر واحد.

قال وهذا قول ابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري وداود بن علي وهو قول كل من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة (رضى الله عنهم) لا نعلم منهم خلافاً في ذلك أصلاً(١)

٢ ـ وقال شيخ الاِسلام تقي الدين السبكي: إنّ الاِقدام على تكفير الموَمنين عسر جداً، وكل من كان في قلبه إيمان يستعظم القول بتكفير أهل الاَهواء والبدع مع قولهم لا إله إلاّ الله ، محمد رسول الله ، فإنّ التكفير أمر هائل عظيم الخطر (إلى آخر كلامه وقد أطال في تعظيم التكفير وتعظيم خطره)(٢)

٣ ـ وكان أحمد بن زاهر السرخسي الاَشعري يقول: لمّا حضرت الشيخ أبا الحسن الاَشعرىّ الوفاة بدارى في بغداد أمرنى بجمع أصحابه فجمعتهم له، فقال: اشهدوا على أنّنى لا أُكفّر أحداً من أهل القبلة بذنب، لاَنّى رأيتهم كلّهم يشيرون إلى معبود واحد والاِسلام يشملهم ويعمّهم(٣)

____________

(١) ابن حزم: الفصل: ٣ | ٢٤٧ .

(٢) الشعراني: اليواقيت والجواهر: ٥٨ .

(٣) الشعراني: اليواقيت والجواهر: ٥٨.

٥٤

٤ ـ وقال القاضي الاِيجي: جمهور المتكلّمين والفقهاء على أنّه لا يكفّر أحد من أهل القبلة واستدل على مختاره بقوله: إنّ المسائل التي اختلف فيها أهل القبلة من كون الله تعالى عالماً بعلم أو موجداً لفعل العبد، أو غير متحيز ولا في جهة ونحوها لم يبحث النبي عن اعتقاد من حكم بإسلامه فيها ولا الصحابة ولا التابعون، فعلم أنّ الخطأ فيها ليس قادحاً في حقيقة الاِسلام.

ثم قال: فإن قيل لعلّهعليه‌السلام عرف منهم ذلك فلم يبحث عنها كما لم يبحث عن علمهم بعلمه وقدرته مع وجوب اعتقادهما.

ثم أجاب بقوله: قلنا: مكابرة والعلم والقدرة ممّا يتوقف عليه ثبوت نبوته فكان الاعتراف بها دليلاً للعلم بهما.

ثم إنّ الاِيجي ذكر الاَسباب الستة التي بها كفّرت الاَشاعرةُ المعتزلةَ، ثم ناقش في جميع تلك الاَسباب وأنّها لا تكون دليلا للكفر.

ثم ذكر الاَسباب الاَربعة التي بها كفّرت الاَشاعرةُ المعتزلةَ وناقش فيها وأنّها لا تكون سبباً للتكفير.

ثم ذكر الاَسباب الثلاثة التي بها تكفّر الروافض وناقش فيها وأنّها لاتكون سبباً للكفر(١) .

والحقّ أنّ القاضي قد نظر إلى المسألة بعين التحقيق وأصاب الحقّ إلاّ في بعض المسائل. فقد ناقش في أسباب تكفير المجسمة وهو في غير محلّه والتفصيل لايناسب المقام.

٥ ـ وقال التفتازاني: إنّ مخالف الحق من أهل القبلة ليس بكافر مالم يخالف ما هو من ضروريات الدين كحدوث العالم وحشر الاَجساد، واستدلّ بقوله: إنّ النبي ومن بعده لم يكونوا يفتشون عن العقائد وينبّهون على ما هو الحق.

____________

(١) الاِيجي: المواقف: ٣٩٢ ـ ٣٩٤ .

٥٥

فإن قيل: فكذا في الاَُصول المتفق عليها.

قلنا: لاشتهارها وظهور أدلّتها على ما يليق بأصحاب الجمل.

ثم أجاب بجواب آخر وقال:

قد يقال ترك البيان إنّما كان اكتفاءً بالتصديق الاِجمالي إذ التفصيل إنّما يجب عند ملاحظة التفاصيل، وإلاّ فكم موَمن لا يعرف معنى القديم والحادث.

فقد ذهب الشيخ الاَشعري إلى أنّ المخالف في غير ما ثبت كونه من ضروريات الدين ليس بكافر، وبه يشعر ما قاله الشافعي ـ رحمه الله ـ: لا أرد شهادة أهل الاَهواء إلاّ الخطّابية لاستحلالهم الكذب.

وفي المنتقى عن أبي حنيفة أنّه لم يكفّر واحداً من أهل القبلة وعليه أكثر الفقهاء، ثم ذكر بعض الاَقوال من الاَشاعرة والمعتزلة الذين كانوا يكفّرون مخالفيهم في المسألة(١)

قال ابن عابدين: نعم يقع في كلام أهل المذهب تكفير كثير، لكن ليس من كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون، بل من غيرهم ولا عبرة بغير الفقهاء، والمنقول عن المجتهدين ما ذكرنا(٢)

ولعل بعض البسطاء يتصوّر أنّ العاطفة والمرونة الخارجة عن إطار الاِسلام صارت مصدراً لهذه الفتيا، ولكنّه سرعان ما يرجع عن قضائه إذا وقف على الاَحاديث المتوفرة الواردة في المقام الناهية عن تكفير أهل القبلة، وإليك سردها:

____________

(١) التفتازاني ، شرح المقاصد: ٥ | ٢٢٧ ـ ٢٢٨ .

(٢) ابن عابدين: رد المختار: ٤ | ٢٣٧ .

٥٦

السنّة النبوية وتكفير المسلم :

قد وردت أحاديث كثيرة تنهي عن تكفير المسلم الذي أقرّ بالشهادتين فضلاً عمّن يمارس الفرائض الدينية وإليك طائفة من هذه الاَحاديث:

١ـ "بُني الاِسلام على خصال: شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمداً رسول الله ، والاِقرار بما جاء من عند الله ، والجهاد ماض منذ بعث رسله إلى آخر عصابة تكون من المسلمين فلا تكفّروهم بذنب ولاتشهدوا عليهم بشرك".

٢ـ "لاتكفّروا أهل ملّتكم وإن عملوا الكبائر"(١)

٣ـ "لاتكفّروا أحداً من أهل القبلة بذنب وإن عملوا الكبائر".

٤ـ "بُني الاِسلام على ثلاث: أهل لا إله إلاّ الله لا تكفّروهم بذنب ولا تشهدوا لهم بشرك".

٥ ـ عن أبي ذر: أنّه سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: "لا يرمى رجل رجلاً بالفسق أو بالكفر إلاّ ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك".

٦ـ عن ابن عمر: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: "من قال لاَخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما".

٧ـ "من قذف موَمناً بكفر فهو كقاتله، ومن قتل نفسه بشيء عذّبه الله بما قتل".

٨ـ "من كفّر أخاه فقد باء بها أحدهما".

٩ـ "إذا قال الرجل لاَخيه يا كافر فهو كقتله، ولعن الموَمن كقتله".

١٠ـ "أيّما رجـل مسلم كفّـر رجلاً مسلمـاً فـإنْ كان كافراً وإلاّ كان هو الكافر".

____________

(١) نعم الكبائر توجب العقاب لا الكفر .

٥٧

١١ـ "كفّوا عن أهل لا إله إلاّ الله لا تكفّروهم بذنب، فمن أكفر أهل لا إله إلاّ الله فهو إلى الكفر أقرب".

١٢ـ "أيّما امرىَ قال لاَخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلاّ رجعت عليه".

١٣ـ "ما أكفر رجل رجلاً قط إلاّ باء بها أحدهما".

١٤ـ "إذا قال الرجل لاَخيه يا كافر فقد باء به أحدهما إن كان الذي قيل له كافراً فهو كافر، وإلاّ رجع إلى من قال".

١٥ـ "ما شهد رجل على رجل بكفر إلاّ باء بها أحدهما، إن كان كافراً فهو كما قال، وإن لم يكن كافراً فقد كفر بتكفيره إيّاه".

١٦ـ عن عليعليه‌السلام : في الرجل يقول للرجل: يا كافر ياخبيث يافاسق ياحمار؟ قال: "ليس عليه حد معلوم، يعزّر الوالي بما رأى(١) .

١٧ـ حدثنا أُسامة بن زيد قال: بعثنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سرية إلى الحرُّقات، فنذروا بنا فهربوا فأدركنا رجلاً فلما غشيناه قال: لا إله إلاّ الله ، فضربناه حتى قتلناه فعرض في نفسى من ذلك شىء فذكرته لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: "مَنْ لَكَ بِلا إله إلاّ الله يوم القيامة؟" قال: قلت: يارسول الله ، إنّما قالها مخافة السلاح والقتل، فقال: "ألا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك أم لا ؟ مَنْ لَكَ بِلا إله إلاّ الله يوم القيامة؟" قال: فما زال يقول ذلك حتى وددت أنّى لم أُسلم إلاّ يومئذ(٢) .

____________

(١) هذه الاَحاديث مبثوثة في جامع الاَُصول: ١، و ١٠، ١١ كما أنّها مجموعة بأسرها في كنز العمال للمتقى الهندى: ج١.

(٢) أخرجه أحمد في مسنده: ١٨٧ ـ ١٨٨ح٢١٨٦١، والبخاري في صحيحه: ٦٤، باب ٤٥، ح ٤٢٦٩. وكتاب الديـات: ٨٧ باب ٢، ح ٦٨٧٢. ومسلم في صحيحه: ٩٦ـ٩٧، كتاب الاِيمان، باب ٤١، ح٩٦، وأبو داود في سننه: ٤٤ـ٤٥ح ٢٦٤٣. والنسائي في السنن الكبرى: ١٧٦ـ ١٧٧، ح٨٥٩٤، كتاب السير، باب١٢. وابن ماجة في سننه: ٥|١٢٩٦، ح ٣٩٣٠، كتاب الفتن، باب ١.

٥٨

١٨ـ لما خاطب ذو الخويصرة الرسول الاَعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله اعدل، ثارت ثورة من كان في المجلس منهم خالد بن الوليد قال: يارسول الله ! ألا أضرب عنقه؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : "فلعله يكون يصلّـي" فقال: إنّه رُبَّ مصلّ يقول بلسانه ماليس في قلبه، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : "إنّي لم أُوَمر أن أنقِّب عن قلوب الناس ولا أشقَّ بطونهم(١) .

القدح في عقائد الشيعة:

إنّ الشيعة تشكّل ثلث المسلمين أو ربعهم فقد رماهم المغفّلون بتهم باطلة، فحبسوهم في قفص الاتهام. ولم يصدروا في ذلك إلاّ عن الهوى، نظير:

١ـ تأليه الشيعة لعلي وأولاده، وأنّهم يعبدونهم ويعتقدون بإلوهيتهم.

٢ـ إنكارهم ختم النبوة برحيل سيدنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّ الوحي لم يزل ينزل على على وأولاده.

٣ـ بغض أصحاب النبي وسبّهم ولعنهم وأنّهم أعداء الصحابة من أوّلهم إلى آخرهم.

٤ـ تحريف القرآن الكريم وأنّه حذف منه أكثر ممّا هو الموجود.

٥ـ نسبة الخيانة لاَمين الوحي فقد بعث إلى علىعليه‌السلام فخان فجاء إلى محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

____________

(١) أخرجه مسلم في صحيحة ٧|١٧١ ح ١٠٦٤ و أحمد في مسنده: ٤|١٠ ح ١١٠٠٨، والبخاري كتاب الزكاة: ٤٧، أبو يعلي في مسنده: ٣٩٠ ـ٣٩١ ح ١١٦٣.

٥٩

المسائل الاجتهادية :

وهناك ما نسبوه إلى الشيعة من العقائد، والنسبة صحيحة وهي بين تفسير خاطىَ واجتهاد صحيح مدعم بالدليل نظير:

١ ـ خلافة الخلفاء الاَربعة.

٢ ـ عدالة الصحابة كلّهم بلا استثناء.

٣ ـ القول بالبداء.

٤ ـ عصمة أئمة أهل البيت.

٥ ـ التقية من المسلم المخالف.

٦ ـ كون الاَئمة عالمين بالغيب.

فهذه نماذج من كلا القسمين، وهي تدور بين التهم الباطلة والمسائل الاجتهادية التي يعذر المجتهد في اجتهاده إذا أخطأ، فكيف إذا أصاب؟! فلنأخذ بدراسة القسم الاَوّل:

أمّا تأليه الشيعة لعلي وأولاده: فالشيعة براء من هذه التهمة منذ بكرة أبيهم وهم يشهدون كل يوم في صلواتهم وخطبهم بأنّه لا إله إلاّ الله وإنّ كل من سواه عبداً لله تالين قوله سبحانه:( إن كلُّ مَن في السّمَواتِ والاَرْضِ إلاّ آتى الرَّحمَنِ عَبْدا ) (مريم ـ ٩٣) وقوله سبحانه:( يا أيّها الناسُ أنتُمُ الفُقَراءُ إلى اللهِ واللهُ هُوَ الغَنِىُّ الحَمِيد ) (فاطر ـ ١٥) وأمّا التوسّل بهم فلا صلـة له بالتأليه على أنّهم يتوسّلون بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يتوسّلون بأئمتهم كما يتوسّل أهل السنّة بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٦٠