في ظل أصول الإسلام

في ظل أصول الإسلام0%

في ظل أصول الإسلام مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 359

  • البداية
  • السابق
  • 359 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19980 / تحميل: 3863
الحجم الحجم الحجم
في ظل أصول الإسلام

في ظل أصول الإسلام

مؤلف:
العربية

الآيات الناسبة للظواهر الكونية إلى اللّه وإلى غيره:

١- يقول سبحانه:( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين ) (١) بينما يقول سبحانه فيه (أي في العسل):( شِفاءٌ لِلنَّاسِ ) (٢)

٢- يقول سبحانه :( إنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزّاقُ ) (٣) بينما يقول:( وَارْزُقُوهُمْ فِيها ) (٤)

٣- يقول سبحانه:( أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارعُونَ ) (٥) بينما يقول سبحانه:( يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ ) (٦)

٤- يقول تعالى:( وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ ) (٧) بينما يقول سبحانه:( بَلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) (٨)

٥- يقول تعالى:( ثُمَ اسْتَوى عَلَ-ى العَرْشِ يُدَبّر الاَمْرَ ) (٩) بينما يقول سبحانه:( فَالمدَبِّراتِ أمْراً ) (١٠)

____________________

(١)الشعراء: ٨٠.

(٢)النحل: ٦٩.

(٣)الذاريات: ٥٨.

(٤)النساء: ٥.

(٥)الواقعة: ٦٤.

(٦)الفتح: ٢٩.

(٧)النساء: ٨١.

(٨)الزخرف: ٨٠.

(٩) يونس: ٣.

(١٠) النازعات: ٥.

١٤١

٦- يقول سبحانه:( اللّهُ يَتَوفّى الاَنْفُسُ حينَ مَوْتها ) (١) بينما يقول:( الِّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الملائِكَةُ طَيِّبينَ ) (٢) . إلى غير ذلك من الآيات التي تنسبُ الظواهر الكونية تارةً إلى اللّه، وتارةً إلى غيره تعالى. والحلّ هو: أن يُقال أنّ المحصور على اللّه تعالى هو انتساب هذه الاَمور على نحو الاستقلال، وأمّا المنسوب إلى غيره فهو على نحو التبعية، وبإذنه تعالى، ولا تعارض بين الانتسابين، ولا بين الاعتقاد بكليهما. فمن اعتقد بأنّ هذه الظواهر الكونية مُستندة إلى غير اللّه على وجه التبعية لا الاستقلال لم يكن مُخطئاً ولا مشركاً وكذا من استعان بالنبيّ أو الاِمام، على هذا الوجه. هذا مضافاً إلى أنّه تعالى الذي يعلمنا أن نستعين به فنقول:( إيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) يحثنا في آية أُخرى على الاستعانة بالصبر والصلاة فيقول:( واستعينوا بالصبر والصلاة ) (٣)

٧- الحلف بكتاب اللّه وسنَّة نبيه، ونبيه وأوليائه، هو الآخر ليس عبادة ولا شركاً، إذ لو كان الحلف بغير اللّه شركاً ولو صغيراً لاستلزم نسبة ارتكاب الشرك إلى اللّه حيث قد حلف بغير ذاته من الموجودات المادية العظيمة(٤) .

____________________

(١)الزمر: ٤٢.

(٢)النحل: ٣٢.

(٣)البقرة: ٤٥.

(٤)مثل الحلف بالشمس والقمر والتين والزيتون والبلد الاَمين والضحى والليل وما شابه ذلك (ممّا في الجزء الثلاثين من القرآن الكريم).

١٤٢

وإذا كانت ماهية الحلف بغير اللّه ماهية شركية لا يفرق بينه وبين عباده: قال سبحانه:( قُلْ إنّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) (١) إنّ الحلف بتلك الاَمور العظيمة يتضمّن أمرين: الاَوّل: الدعوة إلى الدقة والتدبّر فيها، وفي صنعها. الثاني: الاشارة إلى قداسة المقسَم به وكرامته، كما حلف اللّه سبحانه بحياة النبي إذ قال:( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (٢) نعم ثمت روايات نهت عن الحلف بغير اللّه ولقد استدل بها هذا الفريق، ولكن يجب النظر في الاَحاديث الناهية عن الحلف بغير اللّه والتحقيق في مفاداتها وملابساتها، والاجتهاد في فهمها ودراستها. فما جاء في بعض الروايات من أنَّ رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - سمع عمر يقول: وأبي. فقال: «إنّ اللّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ومن كان حالفاً فليحلف باللّه أو يسكت»(٣) . فإنّ وجه نهي النبيّ عن الحلف بالآباء هو أنّ آباءهم في الغالب كانوا مشركين وعَبَدَةَ الاَصنام فلم تكن لهم حُرْمة ولا كرامة حتّى يَحلِفَ أحدٌ بهم،

____________________

(١)الاَعراف: ٢٨.

(٢)الحجر: ٧٢.

(٣)سنن ابن ماجة ١: ٢٧٧.

١٤٣

ولهذا نهى رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - عن الحلف بهم. ويوَيد هذا مجيء ذكر الآباء إلى جانب الطواغيت في قوله: «وَلاَ تَحْلِفُوا بِاَبَائِكُمْ وَلاَ بالاُمَّهاتِ وَلا بالاَنْدادِ»(١) وقوله: «لاَ تَحْلِفوا بِآبائِكُمْ وَلاَ بِالطَّواغِيتِ»(٢)

٨- إحلاف اللّه سبحانه بحقّهم، وقد زعم ابن تيمية حُرمة هذا العمل، ورآه من تبعه شركاً. وقد استدل أحد كُتّابهم على أنّه شرك يقول: إنّ الاِقسام على اللّه بمخلوقاته أمرٌ خطيرٌ قريب إلى الشرك إن لم يكن هو ذاته، فالاِقسام على اللّه بمحمّد (وهو مخلوقٌ بل وأشرفُ المخلوقين) لايجوز، لاَنّ الحلف بمخلوقٍ حرام، وإنّه شرك لاَنّه حلِفٌ بغير اللّه، فالحلف على اللّه بمخلوقاته من باب أولى، أي جَعَلنا المخلوق بمرتبة الخالق والخالق بمرتبة المخلوق، لاَنّ المحلوف به أعظم من المحلوف عليه، ولذلك كان الحلف بالشيء دليلاً على عظمته، وأنّه أعظم شيء عنده من المحلوف عليه(٣) إنّ كلام هذا الكاتب يشتمل على أمرين:

١- إنَّ الحلف بغير اللّه شرك.

____________________

(١)سنن النسائي ٧: ٩.

(٢) المصدر نفسه ٧: ٧.

(٣)التوصّل إلى حقيقة التوسّل: ٢١٧ - ٢١٨.

١٤٤

٢- إنَّ المحلوف به يجب أن يكون أعظم من المحلُوف عليه فلازم الحلف بالمخلوق على اللّه كونه أعظم من اللّه. وقد تبيّ-ن فيما مضى بطلان الاَوّل(١) وأمّا الثاني فإنّ لازم الحلف بشيء على اللّه هو أن يكون المحلوف به مُحترماً عند اللّه ومقبول الشفاعة والدعاء عنده لا كونَه أعظم من المحلوف عليه(٢) والكاتب المذكور لم يفرّق بين كونه أكرم عند اللّه وبين كونه أعظم من اللّه. ثمّ انّه كيف يقول: إنّ الحلف على اللّه بمخلوقه شرك وقد ورد في الصحاح والمسانيد النصّ على جوازه، وإليك طائفة من الروايات في هذا المجال: أ - ما رواه أبو سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - : «من خَرَج رجلٌ من بيته إلى الصلاة، فقال: اللهم إنّي أسألك بحقّ السائلين عليك وحقّ ممشاي ...»(٣) ب - ما رواه البيهقي عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - : «لمّا اقترف آدم الخطيئة قال: يا ربّ أسألك بحقّ محمّد إلاّ ما غفرت لي...»(٤) .

____________________

(١)راجع المقطع السابق (أي المرقم برقم ٧) ص١٤٠.

(٢)نعم فيما إذا حلف المنكر باللّه في فصل الخصومات يكون المحلوف به (اللّه) أعظم من المحلوف عليه أي المدعى لكنّه من خصوصيات المورد وليس قاعدة كليّة.

(٣) سنن ابن ماجة ١: ٢٥٦، الحديث : ٧٧٨.

(٤) مستدرك الصحيحين ٢: ٦١٥ ، والدر المنثور ١:٥٩.

١٤٥

ج - روى الطبراني بسنده عن أنس بن مالك (رض) أنّه لما ماتت فاطمةُ بنت أسدٍ أُمّ عليّ (رض) دَخَل عليها رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - ، فجلس عند رأسها فقال: «رَحمَكِ اللّهُ يا أُمّي، كنتِ أُمّي بعد أُمّي، تجوعين وتُشبعينَني، وتَعرين وتُكسِينَني، وتَمنعين نفساً طيباً وتُطعِمينَني، تريدينَ بذلك وجهَ اللّهُ والدارَ الآخرةِ» ثمّ أمرَ أن تُغسَّلَ ثلاثاً، فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - بيده ثمّ خلع رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - قميصه فألبسها إيّاه وكفَّنها ببرد فوقها، ثمّ دعا رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - أُسامةَ بن زيد وأبا أيّوب الاَنصاري وعمر بن الخطاب، وغلاماً أسوداً يحفُرون، فحفَروا قبرها فلما بلغوا اللحد، حفرهُ رسولُ اللّه بيده، وأخرج ترابه بيده، فلمّ-ا فرغ دخلَ رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فاضطجعَ فيه وقال -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - : «اللّه الذي يُحيي ويُميتُ وهُوَ حيٌّ لا يَموتُ. إغْفرِ لاَُمّي فاطمة بنت أسد ولقّنها حُجَّتَها، ووسّع عليها مدْخلها بحقّ نبيّك والاَنبياء الذين من قبلي فإنّك أرحمُ الراحمين» وكبّرَ عليها أربعاً وأدخلها اللحد هو والعباس وأبو بكر(١) . إلى غير ذلك من الاَحاديث الصحيحة التي تتكفّل جواز إحلافه سبحانه بحقّ أنبيائه صريحاً أو تضمّناً، وسيجيىَ عند البحث عن التعلّق بالاَسباب والوسائل، الذي هو أحد الاُصول، بعضُ الروايات فلاحظ حديث ابن حنيف هناك. وبما أنّ الموضوعين: إحلافه سبحانه بحقّ أنبيائه والتوسل بهم

____________________

(١)معجم الطبراني الاَوسط ٣٥٦، حلية الاَولياء ٣: ١٢١ والمستدرك ٣: ١٠٨.

١٤٦

متقاربان، قسّمنا ما يدل عليهما من الاَحاديث على البابين. ٩- النذر للصالحين: والمقصود نذر الذبيحة للّه، وإهداء ثوابه للصالح من النبي وغيره، فقول القائل نذرت للنبي معناه: نذرتُ للّه أن أذبحَ شاةً، وأتصدّق بها، وأُهدي ثوابه للنبيّ. فهناك «لامان»: «لامٌ» يراد منها الغاية، يقول سبحانه حاكياً عن امرأة عمران:( رَبّ إِنّ-ي نَذَرْتُ لَكَ ما في بَطْني مُحرّراً ) (١) و «لام» يُراد منها بيان وجه المصرف كما في قوله سبحانه:( إِنَّما الصَّدَقاتُ لِلفُقَراءِ والمساكِين ) (٢) والذي يصف هذه الاَعمال بالشرك لم يفرّق بين اللامين، وإنّما نظر إلى صورة القضية دون واقعها، وسنوضّح حال هذه الفعال في أصلٍ آخر وهو «لزوم النظر إلى النيّات والضمائر، لا الصور والظواهر» فلو أراد الناذرُ من قوله: «نذرت للنبيّ» التقرّبَ منه، يكون فعله شركاً. وأمّا إذا أراد كونه محلاً لاِهداء ثوابه فهو نفس التوحيد، وهذا مثل قول الوالد، لعقيقة ولده: هذا لولدي. فإذا اتّضح كلّ هذا ، هل يجوز تكفير المسلمين الموحّدين المعتقدين

____________________

(١)آل عمران: ٣٥.

(٢)التوبة : ٦٠.

١٤٧

بعبودية النبيّ والاَئمّة والصالحين وأنّهم لا يملكون شيئاً من شوَون تدبير الاِنسان في حياته ومصيره، وأنّهم لا يستقلّون بشيء، بأنّهم مشركون، يعبدون غير اللّه في توسّلاتهم ونذورهم، وحلفهم، وتقبيلهم لاَضرحة الاَنبياء والاَئمّة ...و ...و... لمجرّد مشابهة أعمالهم لاَعمال المشركين، مع اختلاف جوهر عَمَل المشركين عن جوهر عمل المسلمين، ومع عدم توفّر مقوّم العبادة في عمل المسلمين؟!! وهل ترى يصح أن يجري العلماء وراء عقيدة موروثة من ابن تيميّة وتلميذ منهجه محمّد بن عبد الوهاب وهما لا يعدوان عن كونهما بشرين يخطئان ويصيبان كسائر البشر؟! أفلا يقتضي هذا أن يُعيد العلماء النظر في ما قالاه وتركاه من أفكار، ممّا خرقا به إجماع الاُمّة وسيرة السلف ونهج العقلاء، بل وخالفا فيه الكتاب والسنّة؟! هذا مع أنّ الذكر الحكيم قد وضع ميزاناً واضحاً لتمييز الشرك عن غير الشرك، والمشرك عن غير المشرك، فقال تعالى:( إِنَّهُمْ كَانُوا إِذا قيلَ لَهُمْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّهُ يَسْتَكْبِرُونَ x وَيَقُولُونَ أَئِنّا لَتاركُوا ءَالِهَتِنَا لِشاعِرٍ مَجنُونٍ ) (١) وقال:( وَإِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُوَمِنُونَ بالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) (٢) وقال:( ذَلِكُمْ بأَنَّهُ إِذا دُعِ-يَ اللّهُ وَحْدهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُوَمِنُوا

____________________

(١)الصافات ٣٥- ٣٦.

(٢)الزمر: ٤٥.

١٤٨

فَالْحُكْمُ للّهِ الْعَلي الكبير ) (١) فهل باللّه يستكبر المتوسّلون بالنبيّ والاَئمّة -عليهم‌السلام - إذا قيل لهم: «لا إله إلاّ اللّه»، ويقولون: «إنّا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون» ؟! وهل إذا ذُكِرَ اللّه اشمأزت قلوبهم وإذا ذكر الذين من دونه يستبشرون؟! وهل إذا دُعي اللّه وحده كفروا وإن يُشرك به يوَمنون؟! قليلاً من الورع والاِنصاف أيّها الاِخوة.

____________________

(١)غافر: ١٢.

١٤٩

١٥٠

٦- الاعتبار بالنيّات والضمائر لا بالصور والظواهر

دور القصد في تقبّل العمل.

ما يترتب على هذا الاَصل.

دور القصد في تقبّل العمل:

يتميّز الاِسلام عن سائر المناهج البشرية بأنّه يُثيب على العمل النابع من النيّة الخالصة والقصد الطاهر، ولا يكتفي بحسن العمل نفسه، بل يحكم بوجوب كون العمل صادراً عن قلبٍ سليمٍ وقصدٍ طاهر ونيّةٍ خالصةٍ، وهذا بخلاف سائر المناهج البشرية، فهي تكتفي بحُسن العمل نفسه، وإن صَدَر عن نيّة مشوبة بشيء كالرياء والسمعة.

١- إنّ تعمير المسجد الحرام عملٌ حَسَن في حدّ نفسه سواء قام به المشرك أو الموَمن، ولكنّ اللّه سبحانه أسقطه عن الاعتبار، ولم يجعل له قيمة

١٥١

إذا صدر عن الكافر، بخلاف ما إذا قام به الموَمن المخلص، قال سبحانه:( مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللّهِ شاهِدينَ عَلَى أَنْفُسِهمْ بِالكُفر أُولئِكَ حَبِطَتْ أعْمالُهُمْ وفي النّار هُمْ خالِدُون * إِنَّما يَعْمُرُ مَساجدَ اللّه مَنْ ءَامَنَ بِاللّهِ واليَومِ الآخِر وَأَقامَ الصّلاةِ وءَاتى الزّكاةَ ولم يَخشَ إلاّ اللّهَ فَعَسى أُولئكَ أنْ يَكُونُوا مِنَ المُهتَدِين ) (١)

والاِمعان في الآية يكشف لنا أنّ الملاك في القضاء والحكم هو باطن العمل لا ظاهره، وإلاّ فالعمل الذي يقوم به المشرك هو نفس العمل الذي يقوم به المسلم، ولكن الذكر الحكيم سلب عن عمل المشرك حقّ التعمير، وأوكله إلى المسلم ولم يعتبر الاَوّل وإنّما اعتبر الثاني وأقرّه واحترمه، وهذا يشير إلى الاَصل الذي ذكرناه في عنوان البحث بأنّ الاعتبار إنّما هو بالنيّات والضمائر لا بالصور والظواهر.

٢- إنّ السجود من أعلى درجات الخضوع لدى عامّة الشعوب والاُمم فلو سجد إنسان عند باب الملك أو في حضرته عُدّ عمله عبادة وعُدّ من المشركين، ولكن الملائكة سَجَدوا لآدم ولم يُحسبوا من المشركين ولم يكن آدم قبلة(٢) بل كان مسجوداً له، ومع ذلك عدَّت الملائكة لاَجل سجدتهم تلك عَبَدَة للّه، وحُسِب إبليس العاصي من المذنبين، مع أنّ السجودين في كلا الموردين مُتّحدان صورةً وظاهراً، وشكلاً وقالباً.

____________________

(١)التوبة: ١٧- ١٨.

(٢)وذلك أنّه لو كان آدم قبلة لما اعترض الشيطان على السجود له إذ لا يُشترط أن تكون القبلة أفضل من الساجد إنّما يُشترط كون المسجود له أفضل من الساجد في حين أنّ آدم لم يكن أفضل بنظر الشيطان.

١٥٢

٣- إنَّ القرآن يصرح بأنّ أبوي يوسف وإخوته سجدوا له حيث قال سبحانه:( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَ-ى العَرْشِ وَخَرّوا لَهُ سُجَّداً وقَالَ يا أَبَتِ هَذا تَأويلُ رُوَيايَ مِنْ قَبْلُ قَد جَعَلَهَا رَبّي حَقّاً ) (١) ولو كان مجرّد المشابهة كافياً في الحكم يلزم - معاذ اللّه - أن يكون سجودهم عبادة للبشر.

٤- إنّ اللّه سبحانه أمر بالخضوع أمام الوالدين وخفض الجناح لهما قال سبحانه:( وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ مِنَ الرَّحمَةِ ) (٢) ولو خفّض الاِنسان جناح الذلّ لوالديه وقبّل أيديهما وأرجلهما لِما أنعمه والداهُ عليه كان مُثاباً.

ولكن لو قام بنفس العمل أمام الاَصنام والاَوثان عُدّ مُشركاً، مع أنّ صورة العملين واحدة ولو كان الملاك هو الظواهر لَحُكِمَ على العامِلَين بالكفر والشرك ولكن القرآن يعدّ فاعل الاَوّل موَمناً مُطيعاً والثاني عدوّاً للّه ومشركاً به أعاذنا اللّه من الشرك.

٥- إنّ جميع المسلمين يطوفون في مناسك الحجّ بالبيت الذي ليس هو إلاّ حجراً وطيناً ويسعون بين الصفا والمروة وهما ليسا سوى جبلين قال سبحانه:( وَلْيَطَّوفُوا بِالبَيتِ العَتِيقِ ) (٣) وقال سبحانه:( إِنَّ الصَّفا والمرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجّ البَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جناحَ عَلَيْهِ أنْ يَطَّوفَ بِهِمَا ) (٤)

____________________

(١)يوسف: ١٠٠.

(٢)الاِسراء: ٢٤.

(٣)الحجّ: ٢٥.

(٤)البقرة: ١٥٨.

١٥٣

فإذا طاف المسلم حول هذا الحجر وهذا الطين كان عمله عملاً توحيديّاً، ولكن لو طافَ الكافرُ حول صنمِهِ المصنوعِ من الحجرِ والفلز عُدّ مُشركاً، ومثله السعيُ فلو سعى المسلمُ بين الجبلين لكان عمله تجسيداً للعبادةِ والتوحيدِ، ومظهراً لعمل امرأةٍ موحّدة ساعيةٍ بينَهما لِطلب الماء(١) ولكن لو سعى المشرك بين صَنَمين أو جبلين إذا وضَعَ صَنَمَهما على الجبلين عُدّ مشركاً.

٦- المسلمون كلُّهم يستلمون الحجرَ الاَسودَ في الحجّ، واستلامه منالمستحبّات الاَكيدة، وهذا العملُ من حيث الصورة لا يختلف عنعملِالمشركين تجاه أصنامهم في حين أنّ هذا العملَ يُعدّ فيصورةٍ شركاً، وفي أُخرى عَمَلاً مُستحبّاً قام به سيّد الموحّدين والموَمنين.

٧- إنّ تقديم الهدي وذبحَه في منى يُشبه من حيثُ الشكل عملَ المشركين حيث كانوا يذبحون القرابين في منى أمام أصنامهم وأوثانهم.

هذه الاَمور تحتّم علينا انتزاع قاعدةٍ أُصوليةٍ وهي أنَّ الملاك والاعتبار إنّما هو بالنياتِ والضمائر لا القُشور والظواهر، وإلاّ لما تجد فرقاً بين عَمَل المشرك والموحّد في هذه الصور وغيرها مما لم نذكره.

فالذي يكون حاجزاً بين العملين ومميّزاً لعَمَل المشرك عن عمل الموحّد هو نيّته وقصده وضميره، وحيث إنّ النيّات والمقاصد مُختلفة يكون العمل تابعاً لها.

____________________

(١)ونعني بها هاجر أُم إسماعيل.

١٥٤

ولهذا كان سجود الملائكة عملاً صحيحاً جائزاً لاَنّها سجدت لآدم بما أنّه عبد من عباد اللّه ولكن المشرك حيث إنّه يسجد للاَصنام بما أنّها آلهة صغيرة فُوِّض إليها مصير الاِنسان أو تدبير الكون كلّه أو بعضه، يكون عمله شركاً ومحرّماً.

ومثله سجود يعقوب لولدِه.

وكذا خفض الولد الحنون جناحيه لوالديه فإنّ الولد حيث يقوم بهذا اتجاه والديه بما أنّهما بشران تحمّلا التعب الكثير لاَجل تربيته في حين لم يكونا يملكان شيئاً من أسباب الحياة كما لا يعتقد الوالد بمثل هذا في حقّهما، كان عمله جائزاً مشروعاً، وهذا بخلاف المشرك فإنّه حيث يخفض جناحه للاَصنام باعتقاد أنّها آلهة ذات قدرة ومشيئة مستقلّتين، وتعمل ما تشاء وتفعل ما تريد.

وبذلك نعرف البون الشاسع بين عمل الموحّد والمشرك.

كما أنّ هذا يدفعنا إلى استيعاب الاَصل الاَصيل وهو أنّ الملاك للقضاء على عمل، والمقياس للحكم بكونه توحيدياً أو لا، إنّما هو نيّة العامل وقصدُه وباعثه وحافزه.

فإذا كانت النيّة شركية كان العمل شركياً، وإذا لم تكن كذلك لم يكن العمل شركياً.

وإليك فيما يأتي ما يترتب على هذا الاَصل من النتائج.

١٥٥

ما يترتّب على هذا الاَصل:

إنّ الذي يترتّب على هذا الاَصل هو أنّه ليس لنا أن نحتج بالآيات التي نزلت في حقّ المشركين، على حرمة التوسّل بالاَنبياء ودعائهم والاستشفاع بهم بحجّة أنّ عمل المشرك والموحّد واحد شكلاً لما عرفت من بطلان ملاك الشكل بل الملاك في القضاء بأنّ هذا العمل توحيديٌ أو شركيٌّ هو النيّات والضمائر التي ينبع منها العمل، وعلى هذا يسقط الاستدلال بالآيات التالية على حرمة التوسّل والاستغاثة. يقول سبحانه:

١-( وَأَنَّ المَساجدَ للّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللّهِ أحَداً ) (١)

٢-( لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجيبُونَ لَهُمْ بشَيْءٍ ) (٢)

٣-( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ ) (٣)

٤-( والَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمير ) (٤)

٥-( قُل ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضّرِ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْويلاً ) (٥) .

٦-( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهمُ الوَسيلَةَ ) (٦)

____________________

(١)الجن: ١٨.

(٢)الرعد: ١٤.

(٣)الاَعراف: ١٩٤.

(٤) فاطر: ١٣.

(٥)الاِسراء: ٥٦.

(٦)الاِسراء: ٥٧.

١٥٦

٧-( وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ ما لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرّكَ ) (١)

٨-( وَمَن أَضَلُّ مِمّنْ يَدْعُوا مِن دُونِ اللّهِ مَن لاَ يَسْتَجيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ القِيامةِ ) (٢)

إذ من المعلوم أنَّ إسراء الحكم في هذه الآيات الناظرة إلى أعمال المشركين تجاه أصنامهم وتعديتها إلى المسلمين تتوقف على وحدة الموضوع، واتّحاد الملاك ففي هذه الصورة تنطبق تلك الآيات على المسلمين أيضاً.

وأمّا إذا كان الموضوع مُختلفاً، وكانت عقيدة المسلمين في حقّ الاَنبياء والاَولياء، لا تُشبِه عقيدة المشركين أبداً كان الاستدلال بهذه الآيات، أشبه بإسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر لا يجمعهما جامع قريب ولا بعيد إلاّ مجرّد المشابهة في لفظ الدعاء، والدعوة والنداء.

ولو أنّنا استعرضنا عقيدة المشركين في حقّ أوثانهم التي كانوا يتوسّلون بها، في ضوء القرآن الكريم لعرفنا أنّهم كانوا يعتقدون بربوبية تلك الاَوثان، وأنّها تملك تدبير حياة البشر، أو تملك شأناً من الشوَون المرتبطة بمصير الاِنسان في الحياة الاُخروية كالمغفرة والشفاعة وكانوا يدعون تلك الاَوثان منطلقين من هذا الاعتقاد والتصوّر.

ولهذا اتّسمت دعوتهم بصبغة العبادة لاَنّ من دعى كائناً، أو خضع له خضوعاً لسانياً أو جارحياً باعتقاد أنّه يدبّر حياته أو يملك شأناً من شوَون مصيره كلاً أو بعضاً، كان دعاوَه وخضوعه هذا متّصفاً بالعبادة وإن كان خضوعاً ضعيفاً وبسيطاً.

____________________

(١)يونس: ١٠٦.

(٢)الاَحقاف: ٥.

١٥٧

وأمّا من دعى إنساناً باعتقاد أنّه عبد صالح من عباد اللّه، أكرمه اللّه سبحانه بالرسالة والنبوّة، أو بشيء من المقامات المعنوية من دون أن يعتقد بأنّه يملك المدعو شيئاً من تدبير حياة الاِنسان، أو شيئاً من مصيره في الدنيا والآخرة، بل له مقامٌ رفيعٌ عند اللّه بحيث لو دعاه لاَجابه، أو استشفع به شفّعه، لا يكون دعاوَه واستشفاعه عبادة لعدم وجود العنصر المقوّم للعبادة في هذا الدعاء والاستشفاع، بل يكون الدعاء مُردّداً بين أمرين: إمّا أن يُستجاب، أو لا يُستجاب، فأين هذا من عقيدة المشركين وتصوّرهم في حقّ معبوداتهم من الاَوثان والاَنجم أو من تمثّلها هذه الاَوثان والاَنجم.

ما يدلّ على عقيدة المشركين في معبوداتهم:

والذي يدل على عقيدة المشركين في حقّ معبوداتهم على النحو الذي أشرنا إليه وكيف أنّهم كانوا يُضفون عليها صفة الربوبية، أو يسندون إليها بعض شوَون الربّ هو ما يلي:

١- إبراهيم -عليه‌السلام - وقومه:

إنّ استعراض ما ورد في حقّ قوم إبراهيم في القرآن الكريم من الآيات التي أشارت إلى حوار الخليل -عليه‌السلام - مع معبوداتهم من الاَجرام السماوية، يكشف القناع عن هذه الحقيقة، فإنّ هذه الآيات تكشف عن أنّ قوم إبراهيم كانوا يعتقدون بربوبية تلكم الاَجرام، وليس الربّ إلاّ من يدبّر حياة المربوب تدبيراً خاصّاً، مثل ربّ الضيعة وربّ الاِبل وربّ العمل، وربَّ البيت.

١٥٨

يقول اللّه تعالى:( فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيلُ رَأى كَوْكَباً قَال هذا رَبّي فَلَمّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلينَ * فَلَمّا رَأى القَمَرَ بازِغاً قَالَ هذا ربّي فَلَمّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهدِني ربّي لاَكُونَنّ مِنَ القَوْمِ الضالِينَ * فَلَمّا رأى الشَّمْسَ بازِغَةً قَالَ هَذا ربّي هَذا أكْبَرُ فَلَمّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنَّي بَرىءٌ مِمّا تُشرِكُونَ * إِنّي وَجَّهْتُ وَجِهىَ للذِي فَطَرَ السَّماواتِ واَلاَرْضَ حَنيفاً وَمَا أنا مِنَ المُشْرِكينَ ) (١)

يُستفاد من هذه الآيات أنّهم كانوا يعتقدون بربوبية تلك الاَجرام ولهذا وصفها إبراهيم بالربوبية في حواره معهم من باب المجاراة مع الخصم في النقاش والاستدلال

فهم بهذا الاعتقاد كانوا يتوجَّهون بالطلب إلى تلك الاَجرام السماوية، ويخضعون لها، ولم يكن خضوعهم خضوعاً مُطلقاً. ولهذا ساغ وصف عملهم ذاك بالعبادة ثمّ الشرك.

٢- عيسى -عليه‌السلام - وقومه:

لقد اعتقد النصارى في المسيح بالاُلوهية عندما لاحظوا طريقة ولادته العجيبة الخارقة للعادة، وشاهدوا وقوع الخوارق على يديه، ولهذا عَبَدوه، كما تُعبد الآلهة، فردّهم القرآن الكريم وصرّح بأنّ عيسى عبد من عباد اللّه سبحانه يعبده ويخضع له، وكيف يكون إلهاً حينئذٍ:

( لَنْ يَسْتَنكِفَ المَسْيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً للّهِ وَلاَ المَلائِكَةُ المُقَرّبُونَ وَمَنْ

____________________

(١)الاَنعام : ٧٦- ٧٩.

١٥٩

يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِليْهِ جَميعاً ) (١)

٣- اتّخاذ الاَحبار والرهبان أرباباً:

إنّ دراسة مواقف أهل الكتاب (أي اليهود والنصارى) في ضوء الكتاب العزيز يكشف عن أنّهم غالوا في إطاعة أحبارهم ورهبانهم حيث أعطوهم حقّ التحليل والتحريم وأطاعوهم في ذلك وهو من شوَونه وأفعاله سبحانه لا غير واعتقدوا بربوبيتهم ولو في هذا القسم الخاصّ، وهو الربوبيّة في التشريع.

قال سبحانه عنهم:( اتّخذُواْ أحْبارَهُمْ وَرُهبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّه وَالمسيحَ ابْنَ مريمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ ) (٢) .

روى الثعلبيُّ وهو من كبار علماء الحديث والتفسير في القرن الخامس في تفسيره بإسناده عن عديّ بن حاتم، قال: أتيتُ رسولَ اللّه وفي عُنُقي صليب من ذهب فقال لي: يا عُديّ إطرحْ هذا الوثن من عنقك.

قال: فطرحته ثمّ انتهيت إليه وهو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية:( اتّخذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً ) حتّى فرغ منها ، فقلت له: إنّا لسنا نَعْبُدُهم.

قال: «أوَليس يُحرّمون ما أحلّ اللّه فتحرّمونه ويحلون ما حرّم اللّه

____________________

(١)النساء: ١٧٢.

(٢)التوبة: ٣١.

١٦٠