في ظل أصول الإسلام

في ظل أصول الإسلام11%

في ظل أصول الإسلام مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 359

  • البداية
  • السابق
  • 359 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 21654 / تحميل: 5884
الحجم الحجم الحجم
في ظل أصول الإسلام

في ظل أصول الإسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

أم هل يمكن أن يقول بأنّه لم يكن لاِرادة يُوسف في عودة البصر لاَبيه أيّ تأثير؟

كل هذه الحقائق والوقائع تبيّ-ن لنا منزلة الاَنبياء والاَولياء عند اللّه تبارك وتعالى، وبذلك نقف على قيمة ما كتبه الشيخ المودودي، حيث يقول: «صفوة القول أنّ التصوّر الذي لاَجله يدعو الاِنسان الاِله ويستغيثه ويتضرّع إليه، هو لا جرم تصوّر كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة وللقوى الخارجة عن دائرة نفوذ قوانين الطبيعة».

فإنّه يلاحظ عليه: أنّ الاعتقاد بالسلطة الغيبيّة الخارجة عن إطار السنن الطبيعية لا يُوجب الاعتقاد بالاُلوهيّة حتماً.

بل إنَّ السلطة حتّى على الكون بأجمعه - فضلاً عن بعضه - إذا كانت بإخطار اللّه تعالى وبإذن منه - لا تلازم الاُلوهيّة.

فكما أنّ اللّه أعطى لآحاد الاِنسان قدرةً محدودةً في أُمورهم العاديّة وفضّلَ بعضهم على بعض في تلك القدرة، فكذلك لا مانع من أن يعطي لفرد أو أفراد من خيار عباده، قدرةً تامةً نافذةً على جميع جوانب الكون عادية أو غير عادية، وذلك بنفسه لا يستلزم الاُلوهيّة.

نعم إنّ الذي ينبغي أن يدور حوله البحث هو وجود تلك القدرة، وأنّه سبحانه هل أعطاها لاَحد أو لا؟

وقد صرّح القرآن بذلك في عدّة موارد منها على ما عرفت في حقّ بعض الاَنبياء والصالحين.

١٨١

فالحقّ أنّ السلطة الغيبيّة التي أعطاها اللّه سبحانه لخيار عباده ليتصرّفوا بها في الكون بإذنه ومشيئته ويخرقوا بها قوانين الطبيعة في مجالات خاصّة لا تستلزم الاعتقاد بوجودها في أحد، الاعتقاد بأُلوهيته، ولا يكون صاحب مثل هذه السلطة ندّاً وشريكاً للّه سبحانه ولا يلزم منه مساواته باللّه سبحانه.

نعم، الاعتقاد بالسلطة الغيبيّة «المفوَّضة» والتي يتصرّف بها صاحبها في الطبيعة من دون حاجة إلى إذن اللّه سبحانه هو الموجب للاعتقاد بالاُلوهية، وقد قال سبحانه:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) (١)

كما وأنّ الذكر الحكيم يثبت للملائكة قدرةً خارقةً من قبض الاَرواح، وإهلاك الاُمم، ويثبت للنبيّ الاَعظم -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - كون صلاته موجبة لسكون الاَرواح والقلوب، يقول سبحانه:( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (٢) .

ما يترتّب على هذا الاَصل:

ويترتّب على الاَصل:

١- إنّ الاعتقاد بأنّ اللّه سبحانه يدفع عن الاِنسان الضرّ أو يجلب إليه النفع في ظلّ دعاء النبيّ، في الدنيا والآخرة، ليس شركاً لاَنّه لو كان -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم -

____________________

(١)الرعد: ٣٨.

(٢)التوبة: ١٠٣.

١٨٢

مستجاب الدعوة، يكون الداعي إيّاه الطالب منه محقّاً في طلبه، ولو لم يكن كذلك يكون الطلب لغواً لا شركاً.

وعلى كلا التقديرين فإنّ الداعي أو الطالب يرى أنّ الاَمر بيد اللّه سبحانه، وأنّ دعاء النبيّ سببٌ من الاَسباب، فكما أنّ الاِنسان يلتجىء في الاَمور الدنيوية والاَُخروية إلى أسباب نجاحه، ولا يعدّ ذلك شركاً وخروجاً عن جادة التوحيد، فهكذا إذا لجأ إلى دعاء النبيّ معتقداً بأنّه سبب من أسباب نجاح مطلبه وحاجته.

٢- إنّ طلب برء المريض من الاَنبياء وردّ الضالة وقضاء الحاجة لا يكون شركاً، سواء كان في حال حياة النبيّ أو في حال مماته لاَنّه لا يزيد ذلك على طلب برء المريض من المسيح أو طلب إحياء الموتى منه، وهو حسب نفس الاَمر لا يخلو من حالتين، بين قادر وعاجز.

فعلى الاَوّل يحظى الطلب بالتنجيز والتحقّق إذا توفّرت الشرائط.

وعلى الثاني يكون لغواً.

وإلى ذلك يشير السيّد الاَمين في قصيدة له حيث يقول:

إن كان ليس بقادرٍ في زعمِكُمْ

فيكون مثلَ سوَال مشي المقعَدِ

أو كانَ يقدرُ وهو أصوبُ لم يكنْ

شِركاً وليس مريدُه بمفنَّدِ(١)

إنّ عدّ طلب الاَمور الخارقة للعادة، من الشرك في العبادة، مبنيٌ على

____________________

(١)العقود الدرّية: ٢٠٣.

١٨٣

عدم وضع حدّ منطقي يُميَّز به فعل اللّه سبحانه عن فعل عباده.

فربّما يُتخيَّل أنّ الميزان هو كون الفعل الخارق للعادة، فعلهُ سبحانه، والموافق للعادة هو فعل عباده، مع أنّ هذا التعريف غير صحيح أبداً لما عرفت من أنَّ مَن طلب حاجة من حىٍّ وإن كان جارياً على وفق العادة، وتصوّر أنّه يقوم به مستقلاّ ً وبحول وقوّة ذاتيتين، فقد زعم أنّه إله ويكون طلبه عبادة له، وإنّما الميزان كونُ الفاعل إنّما يفعل ما يفعل بحول وقوّة نابعة من نفسه أو بحولٍ مُكتسب وقوّةٍ مأذونة، فيكون في الاَوّل ملازماً لاُلوهيته وفي الثانية غير ملازم لربوبيته.

وخلاصة القول:

أنّ الميزان الصحيح في تمييز فعل اللّه عن فعل غير اللّه هو الاستقلالية والاَصالة في القيام بالفعل، لا الخارقية للعادة وغير الخارقية للعادة.

فإنّ فعل اللّه هو ما يكون مستنداً إلى استقلال في التأثير، وأصالة في القدرة، أي أنّ اللّه يأتي به من دون أن يعتمد على أحد أو يستأذن أحداً فوقه.

بينما فعل غير اللّه هو ما يكون صادراً عن قدرة مكتسبة، وواقعة بإذن واجازة من اللّه سبحانه، سواء كان هذا الفعل خارقاً للعادة أو غير خارق للعادة.

فمن اعتقد بصدور فعل (عادي أو غير عادي) من أحد على الطراز الاَوّل فقد اعتقد بأُلوهيته لاَنّه أضفى على فعله طابع الفعل الاُلوهي وصبغهُ بصبغة الاُلوهية، فكان مشركاً.

١٨٤

وأمّا لو اعتقد بصدور فعل (عادي أو غير عادي) من أحد على الطراز الثاني لم يعتقد بأُلوهيته قط لاَنّه لم يُضف على فعله طابع الفعل الاُلوهي، ولم يصبغه بصبغة الاُلوهية، لم يكن مشركاً.

١٨٥

١٨٦

٨- التبرّك بآثار الرسول -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم -

العلل الطبيعية والخارقة للعادة.

التبرّك بالنبيّ في حياته وبآثاره بعد مماته.

التبرّك بتحنيك الاَطفال.

التبرّك بالمسح والمسّ.

التبرّك بفضل وضوئه.

التبرّك بسوَر شرابه وطعامه.

ما يترتّب على هذا الاَصل.

إنّ التوحيد في «الخالقية» يقضي بأنّه لا موَثّر في الوجود إلاّ اللّه سبحانه، وأنّه هو الحيّ القيُّوم، وأنّ غيره قائم به، ولكن انحصار الخالقية في اللّه سبحانه لا يعني أنّ الواجب جلّ اسمه هو السبب المباشر لكلّ شيء، كما أنّ التوحيد في «الربوبيّة» لا يعني أنّه المدبّر للعالم بنفسه بلا تسبيب من الاَسباب وبلا تنسيق من العلل التي توَثّر بعضها في بعضٍ، ويتأثّر بعضها من الآخر، لبطلان ذلك عقلاً وكتاباً:

١٨٧

أمّا عقلاً، فقد شهدت البراهين العقليّة على أنّ الوجود متّحدٌ حقيقةً، مختلف مرتبةً، فإذا كان كذلك فلا معنى أن يكون الوجود موَثّراً في مرتبة«الواجب» تعالى غير موَثّر في مرتبة «الممكن» ما دام الوجود كما قلنامتّحدٌ حقيقةً، وإنّما هو مختلفٌ في الرتبة. ولهذا فإنّ من يدّعيتأثيراللّهمن دون تسبّب من الاَسباب يقول ذلك بلسانه وقلبه موَمن بخلافه.

وأمّا كتاباً، فإنّ الذكر الحكيم مليءٌ بالآيات الصريحة بتأثير العلل والعوامل الطبيعية في آثارها، وقد أوردنا بعض هذه الآيات في ذيل مبحث الشرك في العبادة.

والحاصل أنّ هناك فرقاً واضحاً بين القول بأنّ اللّه هو الموَثّر المباشر في كل شيء، والقول بأنّه هو الموَثّر الاَصيل عن طريق جعل الاَسباب، فمثلاًهو سبحانه المخرج للثمرات من الاَشجار لكن بسبب الماء(١) فاللّهسبحانه هو الموَثّر التامّ والقيُّوم المطلق، الذي يقوم به كُلّ شيء، ويوَثّربه كلُّ شيء، وأمّا غيره فإنّ وجوده وتأثيره وأثره بإرادته وإذنه سبحانه،وهذا هو حقيقة التوحيد والخالقية، وقد أوضحنا مراتب التوحيد في محلّه(٢)

____________________

(١)إشارة إلى قوله سبحانه:( وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ )

(٢)لاحظ مفاهيم القرآن الجزء الاَول، وهي من تأليف الاُستاذ العلاّمة السبحاني بقلم الكاتب.

١٨٨

العلل الطبيعية والعلل الخارقة للعادة:

وكما جرت سنّةُ اللّه الحكيمة على إجراء الفيض وإيصاله إلى الناس عن طريق العلل الطبيعية غالباً، فإنّها جرت في بعض الموارد على إجرائه إلى الناس عبر علل غير مألوفه، أو خارقةٍ للعادة، كما نرى ذلك في المعاجز والكرامات.

وبما أنّ القسم الاَوّل (أي اجراء اللّه لفيضه عن طريق العلل الطبيعية) واضحٌ نعطفُ عنان البحث إلى الثاني (أي اجراء الفيض عبر سبل خارقة للعادة والمألوف) فنقول:

قال سبحانه:( وَإِذْ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ ) (١) فقد أجرى سبحانه فيضه الحيويّ عن طريق غير عاديّ.

ومثله قوله سبحانه:( كُلّما دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَريّا المِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ) (٢) .

وقوله سبحانه:( وَهُزّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنيّاً ) (٣)

____________________

(١)البقرة: ٦٠.

(٢)آل عمران: ٣٧.

(٣)مريم: ٢٥.

١٨٩

إنّ ما ورد في هذه الآيات من ظهور فيضه سبحانه على خاصّة أوليائه، إنّما هو من باب الكرامة، لا الاِعجاز فالكليم لم يكن عندما طلبوا منه الماء ولبّى طلبهم بتلك الصورة الخارقة في مقام التحدّي.

كما لم تكن مريم في ذلك المقام وإنّما هو فضل ربّنا وكرامته ولطفه الخاص الذي يقع في بعض الاَزمان عندما تقتضي المصلحة ذلك.

وعلى ذلك فليس من البعيد أن تكون هناكَ عللٌ وأسبابٌ موَثّرةٌ لم نكن نعتادها قد أثّرت في أُمور بإذن اللّه سبحانه.

فهذا هو يوسف قد أرسل قميصه إلى أبيه وأمر أخوته بأن يُلقوه على وجه أبيه ليرتد بصيراً، قال سبحانه حاكياً عن لسان يوسف:( اذْهبُواْ بقَميصِى هَذا فَأَلْقوهُ عَلَى وَجهِ أَبي يَأْتِ بَصيراً فَلَمّا أَن جَاءَ البَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَ بَصِيراً... ) (١)

ومن المعلوم أنّ قميص يوسف ذاك لم يكن مصنوعاً إلاّ من القطن أو ما شابهه، ولكنّ اللّه سبحانه جعل فيه أثراً غير عادي بحيث لما أُلقي على وجه يعقوب الذي أبيضّت عيناه من الحزن عاد بصيراً.

فليس لنا أن نقول: إنَّ القميص من القطن وأيّ رابطة علمية بين القطن وعودة البصر إلى عيّني يعقوب؟

نعم ليست هناك رابطة علميّة تكشف عنها الاَجهزة المادية

____________________

(١)يوسف: ٩٣ - ٩٦.

١٩٠

المستخدمة والمعتمدة في الاَوساط العلمية.

إنّ هذه العلاقة غير العادية تظهر عند وضع القميص على عيني يعقوب واللّه سبحانه واقف على العلل الموَثّرة في هذه الحوادث.

وعلى ذلك الاَساس جرى الاِلهيون عند التبرّك بآثار أوليائهم، لاَنّهم يجدون فيها شفاء عليلهم، ورواءِ غليلهم بإذن اللّه سبحانه.

ولكنّهم ربّما يتبرّكون بالآثار من دون أن يتوقّعوا منها نتائج كتلك التي ذكرت، وإنَّما ينطلقون في ذلك من مبدأين:

الاَوّل: مبدأ الحبّ والود، والتعزير والتكريم فمن عشق شيئاً عشق لوازمه وآثاره. فحبّ الآباء والاَُمّهات يجرّنا إلى حبّ من بقي منهم وما بقي من آثارهم، وكذلك حبّ الاَنبياء والصلحاء يجرّ كل موَمن إلى حبّ كلّ ما تركوه من آثار حتّى أبنيتهم وألبستهم وأولادهم.

الثاني: ما وصل إلينا عن طريق الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنّهم كانوا يتبرّكون بكل ما يمتّ إلى النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - بصلة في المجالات المختلفة.

وقبل أن نذكر نماذج من هذا القبيل نذكر ما كتبه المحقّق العلاّمة محمّد طاهر بن عبد القادر في كتابه «تبرّك الصحابة» وهو من علماء مكّة المكرّمة حيث قال: أجمعت صحابة النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - على التبرّك بآثار رسول اللّه والاهتمام في جمعها وهم الهداة المهديّون، والقدوة الصالحون، فتبرّكوا بشعره، وبفضل وضوئه، وبفرقه، وثيابه، وآنيته، وبمسّ جسده الشريف، وبغير

١٩١

ذلك ممّا عُرف من آثاره الشريفة التي صحّت به الاَخبار عن الاَخيار.

فصار التبرّك بها سنَّة الصحابة (رض) واقتدى آثارهم من نهج نهجهم من التابعين والصالحين.

وقد وقع التبرّك ببعض آثاره في عهده وأقرَّهُ ولم ينكر عليه، فدلّ ذلك دلالةً قاطعةً على مشروعيته ولو لم يكن مشروعاً لنهى عنه وحذّر منه.

وكما تدلّ الاَخبار الصحيحة وإجماع الصحابة على مشروعيته، تدل على قوّة إيمان الصحابة وشدة محبّتهم وموالاتهم ومتابعتهم للرسول الاَعظم -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - على حدّ قول الشاعر:

أمرّ على الديار ديار ليلى

أُقَبّلُ ذا الجدارِ وذا الجدارا

وما حبّ الديار شغفنَ قلبي

ولكنْ حبّ من سكن الديارا(١)

بل إنّ المسلمين لشدة علاقتهم بنبيّهم سجّلوا كثيراً من خصوصيات أخلاق النبيّ والاَشياء التي تمتّ إليه بصلة، فذكروا صفة قراءته في صلاته، وحسن صوته، ووصفه في إيراد الخطب، وحسن خلقه وعشرته، وكيفيّة مشيه، ومأكله، وما كان يعجبه من الطعام، وما كان يعاف من الطعام والشراب، حتّى ذكروا شعره وشيبه وخضابه وما أطلى به من النورة، وحجامته، وما أخذ من شاربه، ولون لباسه، وأصنافه، وطولَه وعرضَه وقناعَته في الثوب، وما كان يقولُه إذا لَبِسَه، حتّى ذكروا الخُمرة التي يُصلّي

____________________

(١)تبرّك الصحابة: ٥.

١٩٢

عليها، وخاتَمه من الفضة، ونقشَ خاتمه، ونعلَه، وخُفّه، وسِواكه، ومُشطه، ومُكحلته، ومِرآته، وقَدحه، وسيوفه، ودرعه، وترسّموا رماحَه، وخيله، ودوابّه، وإبله، ولِقاحه، وخَدمه ومواليه وبيوتَه، وحُجَرَ أزواجه، وصَدقاته، والبآر التي شرب منها(١) . قال ابن هشام في الفصل الذي عقده لصلح الحديبية : إنّ قريش بعثت عُروة بن مسعود الثقفي إلى رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فجلس بين يديه وبعدما وقف على نيّة الرسول من خروجه إلى مكّة رجع إلى قومه وأخبرهم بما دار بينهم وبين الرسول -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - ثمّ قال: إنّ محمّداً لا يتوضّأ إلاّ وابتدر أصحابُه بماءِ وضوئه، ولا يسقط من شعره شيء إلاّ وأخذوه، ثمّ قال: يا معشر قريش لقد رأيتُ كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإنّي واللّه ما رأيت ملكاً في قومه قطّ مثل محمّد في أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يُسلمونَه بشيءٍ أبداً فَرَوا رأيَكم التبرّك بآثار النبيّ في حياته وبعد مماته: وها هنا نذكر نماذج من تبرّك الصحابة والتابعين بآثار الرسول في حياته وبعد مماته، ولكن لانستقصي فإنّه يدفعنا إلى تأليف كتاب في ذلك المجال(٢)

____________________

(١)لاحظ الطبقات الكبرى لابن سعد ١: ٣٧٥-٥٣٠.

(٢)وكفانا في ذلك ما كتبه الشيخ طاهر المكي، وما دبجته يراعة الاُستاذ الشيخ علي الاَحمدي حيث قام بتتبع واسع في ذلك المجال وأفرد الموضوع بالتأليف فأسماه (التبرّك) وقد طبع في بيروت وطهران.

١٩٣

١- التبرّك بتحنيك الاَطفال: كانت الصحابة تتبرّك بالنبيّ في تحنيك أطفالهم. قال ابن حجر: كل مولود وُلِدَ في حياته، رآه وذلك لتوفّر إحضار الاَنصار أولادهم إلى النبيّ للتحنيك والتبرّك، ونقل ذلك جمٌّ غفير من أعلام السنّة والحديث والتاريخ، بل إنّه لما أُفتتحت مكّة، جَعَلَ أهلُ مكّة يأتون إليه بصبيانهم يمسحُ على روَوسهم ويدعو لهم بالبركة. عن عائشة: إنّ النبيّ كان يوَتى بالصبيان فيبرّك عليهم. وعن عبد الرحمان بن عوف: ما كان يُولَد لاَحدٍ مولودٌ إلاّ أُتي به النبيّ فدعا له(١) . وقد جاء العلاّمة الاَحمدي بأسماء ٢٤ شخصاً تبرّكوا بتحنيك النبيّ منهم: إبراهيم بن أبي موسى الاَشعري لمّا أتى به أبوه إلى رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فسمّاه «إبراهيم» وحنّكه بتمرة وكان أكبرِ ولده(٢) ومنهم عبد اللّه بن عبّاس بن عبد المطلب ولد والنبيُّ وأهل بيته بالشعب من مكّة فأتي به إلى النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فحنّكه بريقه وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين(٣) .

____________________

(١)الاِصابة ١: ٥، والاستيعاب على هامش الاِصابة ٣: ٦٣١.

(٢)صحيح البخاري ٨: ٥٤، وصحيح مسلم ٣: ١٦٩٠، والاِصابة ١: ٩٦.

(٣)أُسد الغابة ٣: ١٩٣، وذخائر العقبى : ٢٢٧.

١٩٤

٢- التبرّك بالمسح والمسّ: نجد في حياة الصحابة لفيفاً منهم مَسَحَ رسول اللّه روَوسهم، وقد نقلوه في حياتهم على سبيل المباهاة والافتخار والاعتزاز. منهم:زياد بن عبد اللّه: وَفَدَ على النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فَدَخَلَ على ميمونة زوج النبيّ، فَدَخَلَ رسول اللّه فقالت: يا رسول اللّه هذا ابن أُختي ثمّ خرج حتّى أتى المسجد وبعده زياد فصلّى الظهر، ثمّ أدنى زياداً فدعا له، ووضع يده على رأسه، ثمّ حدّرها على طرف أنفه، فكانت بنو هلال تقول ما زلنا نتعرّف البركة في وجه زياد ، وقال الشاعر لعلي بن زياد:

يا ابنَ الذي مَسَحَ النبيُّ برأسِهِ

ودعا له بالخير عندَ المسْجِدِ(١)

ومنهم: خزيمة بن سواد فقد مسح رسول اللّه وجه خزيمة بن سواد فضاءت غرة بيضاء(٢) . ومنهم: السائب بن يزيد: ذهبت خالتهُ إلى النبيُّ، فقالت: يا رسول اللّه، إنّ ابن أُختي وجع، فَمَسَحَ رأسَه ودعا له بالبركة، وتوضّأ فشرب من وضوئهِ(٣) فأيّ تبرّك أوضح من ذلك وأيّ توسّل واستشفاء أجلى منه، وقد جاء العلاّمة الاَحمدي بأسماء من تبرّكوا بمسح النبيّ ومسّه أو استشفوا به.

____________________

(١)الطبقات ١: ٥١، والاِصابة ١: ٥٥٨.

(٢)الطبقات ١:٤٣.

(٣)أُسد الغابة ٢: ٢٥٦.

١٩٥

٣- التبرّك بفضل وضوئه وغسله: كان الصحابة يتبرّكون بفضل ماء وضوئه وكانوا يمسحون به، بل كادوا يقتتلون عليه ويتنافسون فيه، وقد عرفت أنّ عروة بن مسعود الثقفيّ قال لقريش بعدما رجع من عسكر رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - : «لا يتوضّأ إلاّ ابتدروا وضوءه» (أي كادوا يقتتلون عليه). وفي فتح مكّة انتزع العبّاس دلواً من ماء زمزم فَشَرِبَ منه رسولُ اللّه وتوضّأ فابتدرَ المسلمون يصبُّون على وجوههم منه ولا تسقط قطرة إلاّ بيدِ إنسان إن قَدِرَ على ما يشرب يشربها، وإلاّ مسح بها جلده. حتّى أنّ جابر بن عبد اللّه الاَنصاريّ - بعد ما توضّأ النبيّ في طست - أخذ ماء وضوئه فصبّه في بئره(١)

٤- التبرّك بسوَر شرابه وطعامه: كان الصحابة يتبرّكون بسوَر طعامه وشرابه وربّما يقدّمون التبرّك بفضل شرابه على الصيام المستحب. عن حنش بن عقيل وكان من أصحاب النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - قال: سقاني رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - شربةَ سويقٍ شَرِبَ أوّلها وشربتُ آخرَها قال: ما برحتُ أجدُ شَبَعها إذا جُعتُ، ورَيَّها إذا عَطشتُ(٢)

____________________

(١)كنز العمال ١٦: ٢٤٩.

(٢)سيرة دحلان ٢: ٢٤٦.

١٩٦

وقال أبو موسى: كنت عند النبيّ وهو نازلٌ بالجعرانة - بين مكّة والمدينة - ومعه بلال، فأتى النبيّ أعرابيٌّ، فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟ فقال له: أبشِر فقال: قد أكثرت عليّ من أبشر. فأقبل -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان فقال: إنّ هذا قد ردّ البشرى، فأقبلا أنتما قالا: قَبِلنا، ثمّ دعا بِقَدَحٍ فيه ماءٌ فَغَسَلَ يديه ووجهه ومجَّ فيه، ثمّ قال: «إشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحورِكما وأبشرا». فأخذا القدحَ فَفَعلا، فنادت أُم سلمة أن أفضِلا لاَُمّكما، فأفضَ-لا لها منه طائفة(١) ثمّ إنّ تبرّك الصحابة لم يقتصر على ذلك، بل كانوا يتبرّكون بماءٍ أدخل فيه يده المباركة، وبماءٍ من الآبار التي شرب منها، وبشعره، وعرقه، وظفره،والقدح الذي شرب منه، وموضع فمه، ومنبره، والدنانير التي أعطاها، وقبره، وجرت عادتهم على الاستشفاء به، ووضع الخدّ عليه والبكاء عنده. بل كان الصحابة والتابعون يتبرّكون بعصاه وملابسه وخاتمه ولباسه، والاَماكن التي صلّ-ى بها، أو مشى عليها، وآثار مشي أقدامه إلى غير ذلك ممّا هو مبثوث في ثنايا كتب السيرة والتاريخ، وقد جمع نصوصها ومصادرهاالعلاّمة الاَحمدي في كتاب «التبرّك» فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إليه.

____________________

(١)صحيح مسلم ج٤، باب فضائل أبي موسى: ١٩٤٣، وفتح الباري ١: ٢٥٦.

١٩٧

ما يترتّب على هذا الاَصل: إنّ ما يترتّب على ذلك الاَصل ليس أمراً معيناً بل إنّ كلّ ما صدق عليه عنوان التبرّك بآثار الرسول والصالحين من أولياء اللّه يكون أمراً جائزاً، ولا يمكن لاَحد المنع منه بحجّة أنّه شركٌ أو أنّه أمر محرّم، وإلاّ يجب إنكار مئات الاَحاديث والروايات التي وردت حول التبرّك ولكنّنا نركّز على أمرين:

١- بناء المساجد عند القبور أو عليها. ٢- الصلاة في المشاهد المشرّفة. إنّ هذين الاَمرين ممّا شاع وذاع بين المسلمين بعد رحلة رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - إلى يومنا هذا، ولم يخطر ببالِ أحدٍ أنّه حرام أو أنّه شركٌ. ولما ظهر ابن تيميّة أفتى بحرمة الاَمرين، وقال: «ولا يشرع اتّخاذها - أيّ القبور - مساجد» وقال أيضاً: «ولا يجوز بناء المسجد على القبور». ونحن نعرض كلتا المسألتين على الكتاب أوّلاً، وسيرة المسلمين ثانياً، ثمّ نأتي بما استدلّ به الوهابيون على التحريم. عرض المسألتين على الكتاب: إنّ الكتاب أوثقُ مصدر بين المسلمين في استنباط الاَحكام الشرعية فلا يعادله شيء ولو جاء حديث يخالف النصّ الموجود في القرآن فيوَوّل وإلاّ فيطرح.

١٩٨

والكتاب الحكيم يشرح لنا كيفية عُثور الناس على قبور أصحاب الكهف، وأنّهم اختلفوا في تكريمهم وإحياء ذكراهم، أو التبرّك بهم على قولين. يقول سبحانه:( وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ اللّهِ حقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أمْرَهُمْ فَقالُواْ ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيانَاًرَبُّهُمْأَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَ-ى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ) (١)

والمفسّرون ذهبوا إلى أنّ القول الاَوّل كان لغير المسلمين، ويوَيده قولهم في حقّهم: (ربُّهم أَعْلَمُ بِهِمْ) وهو ينمّ عن عدم اهتمامٍ بالغٍ بحالهم ومكانتهم فحوّل أمرهم إلى اللّه سبحانه. وأمّا القول الثاني فنفس المضمون يحكي عن أنّه كان قول الموَمنين، حيث اقترحوا أن يتّخذوا على أصحاب الكهف مسجداً، ليتبرّكوا بالصلاة فيه. فنفس الاقتراح يحكي عن أنّ المقترحين كانوا على علاقةٍ بالمسجدِ والصلاة فيه، وإلاّ لاقترحوا بأن يتّخذوه منتزهاً أو غير ذلك. وقد قلنا عند البحث عن البناء على القبور أنّ القرآن أُسوة وقدوة، فإذا نقل شيئاً عن قوم ولم يعقّب عليه بنقد أو ردّ، ولم يكن مخالفاً للاُصول المسلّمة

____________________

(١)الكهف: ٢١.

١٩٩

يكون ذلك آية على كونه مقبولاً عند منزل الوحي. هذا ما ذكرناه سابقاً، والآن نحتج بالآية بوجه آخر وهو «حجّية شرع من قبلنا». فقد احتجّ بها الفقهاء في كثير من الاَحكام إلاّ إذا ثبتَ نسخه، ويوَيّدذلك أنّ الرسول الاَكرم -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - جاء مصدّقاً للتوراة والاِنجيل، قال تعالى:( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقّ مُصدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنَاً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ ) (١) والمراد من الكتاب هو الاَعم من التوراة والاِنجيل وصريح الآية حجّية ما في التوراة والاِنجيل من الاَحكام، إلاّ ما دلّ الدليل على نسخه، وإليه يشير بقوله:( وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) وعلى هذا، فقد روى المفسّ-رون أنّ القول بالبناء على أصحاب الكهف كان قول المشركين، والقول باتّخاذ المسجد كان قول المسلمين، قال سبحانه:( وَقَالَ الذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ) . وهذا هو الظاهر ممّا رواه ابن جرير الطبريّ، فإنّ أصحاب الكهف إنّمابُعثوا بعد سحقِ الوثنية، واستعادة الموَمنين المسيحيّين سلطتهم وكيانهم.

____________________

(١)المائدة: ٤٨.

٢٠٠

وعلى ذلك فيكونُ المرادُ من قوله:( وَقالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ ) هم الموَمنون بالمسيح الذين غَلَبوا على الوثنية، فكانت الغلبة دينية معنوية لا غلبة الكلمة والنفوذ. قال الطبري في تفسير قوله تعالى:( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرَقِكُمْ هِذهِ إلى المدينةِ ) إنّ المبعوث دخل المدينة فجعل يمشي بين ظهري سوقها فيسمع أُناساً كثيرين يحلفون باسم عيسى بن مريم فزاد فرقاً ورأى أنّه حيران، فقام مسنداً ظهره إلى جدار من جُدُر المدينة ويقول في نفسه: أمّا عشية أمس فليس على الاَرض إنسانٌ يذكر عيسى بن مريم إلاّ قُتِل، أمّا الغداة فأسمعهم وكلُّ إنسان يذكر أمرَ عيسى لا يخاف، ثمّ قال في نفسه: لعلّ هذه ليست بالمدينة التي أعرف(١) وبذلك تقف على قيمة ما ذكره محمّد ناصر الدين الاَلباني حيث ردّ دلالة الآية على جواز اتّخاذ القبور مسجداً بقوله: والظاهر أنّ الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ ولكن هل هم محمودون أم لا ، ففيه نظر(٢) فإنّ كلام الطبري هذا يفيد أنّ أتباع الدين المسيحي هم الذين غلبوا، بعد أن كانوا مغلوبين.

____________________

(١)تفسير الطبري ١٥: ٢١٩، طبعة مصطفى الحلبي - مصر.

(٢)تحذير الساجد من اتّخاذ القبور مساجد: ٧٢.

٢٠١

سيرة المسلمين في بناء المساجد على القبور:

إنّ الرسول الاَكرم -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - دُفن في بيته، إمّا لاَجل الرواية التي نُسبت إلى أبي بكر عن النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - «لم يُقْب-رَ نَبيٌّ إلاّ حيث يموت»(١) .

وإمّا لاَجل تصويب من أهل بيته ووصيّه عليّ وابنته فاطمة، وموافقة بل اقتراح من جانبهم.

وكان بيت النبيّ الذي دفن فيه بجوار المسجد النبوي، بحيث كان النبيّ يدخلُ المسجد من باب ذلك البيت، وكان المسجد واقعاً في الجانب الغربيّ من القبر، ولمّا كثر المسلمون وازداد عددهم، وضاق المسجدُ بهم أدخلوا الجانب الشرقي الذي كان فيه بيوت أزواج النبيّ، والبيت الذي دفن فيه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - بحيث وقعت البيوت في أواسط المسجد النبوي، بحيث يقف المصلّون أطراف القبر من الجوانب الاَربعة ويحيطون به.

يقول الطبري في حوادث سنة ٨٨ أنّه في شهر ربيع الاَوّل من هذه السنة قَدِمَ كتابُ الوليد على عمر بن عبد العزيز يأمره بهدم المسجد النبوي

____________________

(١)في النفس من صحّة هذا الحديث شيء لاَنّه لو كان دفن النبيّ حيث يموت حكماً إلهيّاً لوجب على النبيّ الاَكرم -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - إعلام وصيه وأهل بيته بذلك قبل أن يُعلم الآخرين به، وكيف يمكن أن يكتم النبي هذا الاَمر عن أهل بيته ولهذا لا تسكن النفس إلى هذا الخبر.وهذا يشبه ما نَسَب إليه بعض الصحابة من أنّه قال رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - : «نحن معاشر الاَنبياء لا نورّث» إذ لو كان هذا حكماً إلهياً لوجب على النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - إعلام ورثته به ، فكيف يمكن أن يموت النبيّ وابنته إلى جنبه ولا ينبس لها بهذا الحديث ببنت شفة، ثم يترك أهل بيته في حيرة وضلال حيث لم يعلمهم بواجبهم !!

٢٠٢

وإضافة حجر رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وأن يوسّعه من قبلته وسائر نواحيه، باشتراء الاَملاك المحيطة به فأخبر عمر الفقهاء العشرة وأهل المدينة بذلك، فحبّذوا بقاء تلك الحجر على حالها ليعتبر بها المسلمون، ويكون أدعى لهم إلى الزهد اقتداءً بنبيّهم فكاتب ابن عبد العزيز الوليد في ذلك فأرسل إليه يأمره بالخراب، وتنفيذ ما ذكره في كتابه الاَوّل، فضجّ بنو هاشم وتباكوا ولكنّ عمر نفّذ ما أمره به الوليد، فأدخل الحجرة النبويّة (حجرة عائشة) في المسجد فدخل القبر في المسجد وسائر حجرات أُمهات الموَمنين، وقد بُني عليه سقفٌ مرتفع كما أمر الوليد(١)

نحن لا نحتجّ بأمر «الوليد» ولا بعمل «عمر بن عبد العزيز» وإن كان القوم يحتجُّون به لاَنّه أحد العدول عندهم، بل نحتجّ بتقرير التابعين لاَصل العمل ولم ينقل عن أحد منهم الاِنكار.

نعم نُقِلَ عن سعيد بن المسيب أنّه أنكر هذا العمل ولكن نقله مرسلٌ لا مسندٌ ولم يعلم أنّ إنكاره كان لاَجل إدخال القبر ضمن المسجد، بل من المحتمل لاَجل أنّ التخريب كان بعنف، ومن دون رضا أصحاب البيوت من بني هاشم الذي ضجّوا لهذا الاَمر كما صرّح به ابن كثير. وإليك نصّ السمهوديّ: ما رأيت يوماً أكثر باكياً من ذلك اليوم، قال عطاء: فسمعت سعيد بن المسيب يقول: واللّه لوددت أنّهم تركوها على حالها(٢)

____________________

(١)راجع تاريخ الطبري ٥: ٢٢٢، والبداية والنهاية ٨: ٦٥.

(٢)السمهودي: وفاء الوفا ٢: ٥١٧ والضمير في قوله «على حالها» يرجع إلى حجرات أزواج النبيّ عامّة لا خصوص الحجرة التي دفن النبيّ فيها.

٢٠٣

ومن خالف من المسلمين إنّما خالف لاَجل أمر آخر حيث قالوا: إنّ هذه حجرٌ قصيرة السقوف وسقوفها جريدة النخل وحياطها من اللبن، وعلى أبوابها المسوح وتركها على حالها أولى لينظر الحجاج والزوار والمسافرون إلى بيوت النبيّ فينتفعون بذلك ويعتبرون به ويكون ذلك أدعى لهم إلى الزهد في الدنيا، فلا يعمّرون إلاّ بقدر الحاجة وهو ما يستر ويكنُّ ويعرفون أنّ البنيان العالي إنّما هو من أفعال الفراعنة والاَكاسرة وكلِّ طويل الاَمل راغبٍ في الدنيا، وفي الخلود فيها(١) .

فإذا كان هذا العمل بمرأى ومنظر من فقهاء المدينة العشرة، والمسلمين عامة وفي مقدم التابعين منهم الاِمام «علي بن الحسين» المعروف بالسجاد وابنه الاِمام محمّد بن علي الباقر اللذين لم يشك أحدٌ في زهدهما وعلمها وعرفانهما بالكتاب والسنّة، أفلا يكون ذلك دليلاً على جواز إقامة المسجد على القبور والصلاة فيه إلى جنبها من دون أن يخطر ببال أحد أنّ النبيّ نهى عنه، أو يخطر ببال أحد أنّ هذا من خصائص النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم -

نعم إنّ هذا دليل قاطع على جواز هذا العمل ولهذا لمّا واجه ابن تيميّة هذا الموقف الواضح من المسلمين في هذا المجال حاول إسقاطه عن الحجيّة والاعتبار بقوله: إنّ ذلك كان بعد موت عامّة الصحابة – رضي ‌الله‌ عنهم - ولم يكن بقي في المدينة منهم أحد(٢)

وكرّر هذا الكلام كلّ من جاء بعده من كتّاب الوهابية وأعادوه من غير

____________________

(١)البداية والنهاية ٨: ٦٥.

(٢)الجواب الباهر :٧١.

٢٠٤

تفكير ومنهم الشيخ محمّد ناصر الدين الاَلباني في كتابه حيث قال: إنّما أُدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك بعد موت عامّة الصحابة الذين كانوا في المدينة إلى آخره(١)

إنّ (ابن تيمية) ومن حذى حذوه حيث إنّهم قد اتّخذوا رأياً مسبقاً في الموضوع لهذا تمسّكوا لتأييد رأيهم بكل رطب ويابس، وإن كان ذلك على حساب التابعين ومنجرّاً إلى إهمالهم وإهانتهم.

فكأنَّ الصحابة قد بلغت بهم القداسة بحيث لو رأى واحدٌ منهم ذلك العمل وسكت عليه كان دليلاً على مشروعيته، ولكن التابعين وفيهم الفقهاء العشرة والاَئمّة من أهل البيت لم يكن لتقريرهم وسكوتهم أيّة قيمة، كيف وقد جاء بعدهم إمام المدينة مالك وسائر أئمّة المذاهب الاَربعة، والكلّ أقرّوه ولم يعترضوا عليه بشيء.

سيرة المسلمين في غير قبر النبيّ ، مسجداً وصلاة:

ولقد جرت سيرة المسلمين تبعاً لسنّة رسول اللّه على اقامة المسجد إلى جانب القبر أو عليه والصلاة عنده وإليك نماذج من ذلك:

١- يقول السمهودي في حقّ السيدة فاطمة بنت أسد، أُمّ الاِمام أمير الموَمنين عليّ -عليه‌السلام - : فلمّ-ا تُوفيت خرج رسول اللّه، فأمر بقبرها فحفر في موضع المسجد الذي يقال له اليوم قبر فاطمة.

____________________

(١)تحذير الساجد : ٨٥.

٢٠٥

٢- يضيف السمهودي أيضاً: إنّ موضع قبر فاطمة بنت أسد تحوّل بعد ذلك إلى مسجد، ويقول: إنّ مصعب بن عمير وعبد اللّه بن جحش دُفنا تحت المسجد الذي بُني على قبر حمزة(١)

وقد كان هذا المسجد موجوداً إلى زمان احتلال الوهابيين لهذه البقاع المقدّسة فدمّروه بمعاول الظلم والضغينة.

هذا كلّه حول بناء المسجد، و أمّا إقامة الصلاة لدى القبور: فكفى في ذلك:

٣- إنّ عائشة قضت حياتها في بيتها وصلَّت فيه تمام عمرها ولم يكن بينها وبين القبر أيّ جدار إلى أن دفن عمر ، فبُني جدار حال بينها وبين القبور الثلاثة(٢)

٤- روي أنّ فاطمة بنت النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - كانت تذهب إلى زيارة قبر عمّها حمزة فتبكي وتصلّي عنده(٣)

٥- روى السيوطي في أحاديث المعراج أنّ النبيّ نزل في المدينة وطور سيناء وبيت لحم وصلّى فيها، وقال جبرئيل: صلّيت في طيبة وإليها مهاجرتك، وصلّيت في طور سيناء حيث كلَّم اللّه موسى، وصلّيت في بيت لحم حيث ولد المسيح(٤) .

____________________

(١)وفاء الوفا ٣: ٨٩٧ و ٩٢٢.

(٢)المصدر نفسه ٢: ٥٤٤.

(٣)السنن للبيهقيّ ٤:٧٨، ومستدرك الصحيحين للحاكم ١: ٣٧٧.

(٤)الخصائص الكبرى ١: ١٥٤.

٢٠٦

وهل هناك فرق بين المولد والمدفن؟

كل ذلك محكمات لا محيص لمسلم من الاَخذ بها وعدم العدول عنها، فلو وردت هناك روايات تخالف ذلك فنحن على مفترق طريقين:

١- الاِمعان في دلالتها ومورد ورودها، حتّى يتبيّن لنا عدم مخالفتها لما دلّ عليه الكتاب، وجرت عليه سيرة المسلمين عامّة.

٢- طرحها وضربها عرض الجدار بحكم مخالفتها للكتاب والسيرة القطعية، وإنّها كلَّما كثرت أسانيدها وتوفر نقلَتُها ازدادت ضعفاً لاَنّ الناقلين وهم التابعون لم يعملوا بها أبداً، بل ضربوها عرض الجدار أو فسّروها على النحو الذي نفسّ-رها، وإليك سرد تلك الاَحاديث وتفسيرها بالمعيار العلمي.

النهي عن اتّخاذ قبور الاَنبياء مساجد:

قد عرفت أنّ السيدة عائشة قد اتّخذت قبر النبيّ الاَكرم -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - مسجداً صلّت في أكثر من عشر سنوات، كما أنّ التابعين اتّخذوا قبر النبيّ الاَكرم مسجداً لاَنفسهم وللاَجيال التالية، ولم يظهر من أحد الردّ والنقاش في هذا الاَمر.

وقد عرفت أنّ سعيد بن المسيب إنّما كره ما أمر به الوليد لاَجل أنّ تخريب بيوت أزواج النبيّ وأولاده أثار ضجة وبكاءً بين النساء والرجال، ولم يكن استنكاره على اتّخاذ قبر النبيّ مسجداً.

٢٠٧

كما عرفت أنّ أئمّة أهل البيت والفقهاء العشرة وافقوا على ذلك الاَمر ولم يبدوا نكيراً ولكننا نرى من جانب آخر انّه روي عن رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - أنّه قال:

١- «قاتل اللّه اليهود اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

٢- «لعن اللّه اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

٣- «ألا وانّ من كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتّخذوا القبور مساجد، إنّي أنهاكم عن ذلك».

٤- «أخرجوا أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب، واعلموا أنّ شرار الناس الذين اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

٥- «لعنَ اللّهُ اليهود اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(١)

إذا قلنا بصحّة هذه الاَحاديث سنداً فكيف يمكن الجمع بينها وبين عمل التابعين والمسلمين في الاَجيال المتلاحقة وعمل السيدة عائشة وبنت النبيّ الاَكرم فاطمة -عليها‌السلام - ؟؟

ولقد استغل الوهابيون هذه الاَحاديث وخرجوا بهذه النتيجة وهي: أنّ مفاد هذه الروايات هو:

____________________

(١) راجع للوقوف على مصادر هذه الاَحاديث صحيح البخاري كتاب الجنائز ٢: ١١١، سنن النسائي ج٢، كتاب الجنائز: ٨٧١، صحيح مسلم ٢: ٥٦٨، كتاب المساجد وغيرها وقد جمع مصادر الحديث وصوره المختلفة محمّد ناصر الدين الاَلباني في كتابه تحذير الساجد: ١١- ٢٨، فذكر للحديث ١٤ صورة، كما جمعها أبو عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي في كتاب رياض الجنّة : ٢٧٨- ٢٨١.

٢٠٨

أ - حرمة بناء المساجد على القبور.

ب - وحرمة قصد الصلاة فيها.

حتى قال ابن تيميّة: إنّ المسجد والقبر لا يجتمعان(١)

وهذا هو الكلام الذي يكرّره كل من جاء بعده ونظر إلى هذه الروايات بعقيدة مسبقة، تاركاً جانباً إجماع الاُمّة ودلالة الكتاب على الجواز كما بيّناه.

دراسة الاَحاديث الناهية:

إنّ دراسة هذه الاَحاديث تجعلنا أمام احتمالات أربعة تقول: إنّ النهي إنّما هو عن:

الصلاة على القبور بالسجود عليها تعظيماً.

أو الصلاة باتجاه القبور واتّخاذها قبلة.

أو بناء المساجد على القبور وقصد الصلاة فيها تبرّكاً بالمقبور.

أو إقامة الصلاة عند مراقد الاَنبياء ومقابرهم.

فهل لهذه الاَحاديث إطلاق يعمّ كل هذه الصور والمحتملات كما ادّعاه الاَلباني تبعاً لشيخه ابن تيمية، وزعم أنّ هذه الاَحاديث من جوامع كلمه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - ؟

أو أنّ الاَحاديث تنصرف بشهادة القرائن المتصلة والمنفصلة إلى بعض

____________________

(١)مجموعة الرسائل والمسائل ١: ٥٩- ٦٠، وزاد المعاد تأليف ابن القيم : ٦٦١.

٢٠٩

الصور وهي الصور التي تلازم كون العمل شركاً، والمصلّ-ي مشركاً، وخارجاً عن الحدود التي حدّدها الكتاب والسنّة؟ وإليك البيان:

١- إنّ الحديث يركّز على عمل اليهود والنصارى وأنّهم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وينهى المسلمين عن متابعتهم في ذلك.

وبما أنّ أهل الكتاب معروفون بالشرك وعبادة غير اللّه طيلة القرون والعصور، فالمسيحية تعبد المسيح وأُمّه كما أنّ كثيراً منهم اتّخذوا الاَحبار والرهبان أرباباً من دون اللّه، يحرّمون ما أحلَّ اللّه، ويحلّلون ما حرَّم اللّه.

واليهود هم الذين طلبوا من نبيّهم أن يجعل لهم إلهاً كما أنّ لغيرهم آلهة، وهم الذين عبدوا العجل بل عبدوا بعد رحلة الكليم أرباباً وآلهة، فهم كأنّهم مفطورون على الوثنية وعبادة البشر.

فعند ذلك ينصرف الحديث إلى عمل يكون على نمط عمل اليهود والنصارى شكلاً وجوهراً. ولا يمكن أن يدّعى أنّ الحديث يعمّ ما إذا كان عمل اتّخاذ القبور مساجد مجرّداً عن أيّ شرك أو إقامة الصلاة عند قبورهم من باب التبرّك بهم.

٢- إنّ رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - يصف متخذي القبور مساجد في بعض هذه الاَحاديث بكونهم شرار الناس. فقد روى مسلم في كتاب المساجد أنّ أُم حبيبة وأُم سلمة ذكرتا كنيسة رأتاها في الحبشة فيها تصاوير لرسول اللّه، فقال رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - : «إنّ أُولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بُني على قبره مسجداً وصوّر فيه تلك الصور، أُولئك شرار الخلق عند اللّه»(١)

____________________

(١)صحيح مسلم ٢: كتاب المساجد: ٦٦٦.

٢١٠

إنّ توصيفهم بأنّهم شرار الخلق عند اللّه، يميط الستر عن حقيقة عملهم إذ لا يوصف الاِنسان بالشر المطلق إلاّ إذا كان مشركاً، قال سبحانه:( إِنَّ شَرَّ الدَّوابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) (١) وقال:( إِنَّ شَرَّ الدَّوابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُوْمِنُونَ ) (٢)

كل ذلك يكشف عن مرمى هذا الحديث، وإنّ عملهم لم يكن عملاً مجرّداً مثل صرف بناء المسجد على القبر، أو الصلاة فيه أو إقامة الصلاة عند القبور، بل كان عملاً مقترناً بالشرك بألوانه المختلفة كاتّخاذ القبر أو صاحبه المدفون فيه إلهاً ومعبوداً، أو قبلة عند الصلاة أو السجدة عليها بمعنى اتّخاذها مسجوداً.

٣- إنّ الروايات الناهية الواردة في المقام على قسمين:

قسم يشتمل على اللعن، وهذا مختص باتّخاذ قبور الاَنبياء والصالحين مساجد، وقد مرّ بعضها.

وقسم آخر مُشتمل على مجرّد النهي، من دون اقتران باللعن، وقد ورد ذلك في مُطلق القبور:

أ - عن أبي مرصد الغنويّ قال: قال رسول اللّه : «لا تجلسوا على القبور، ولا تُصلّوا إليها»(٣)

____________________

(١)الاَنفال: ٢٢.

(٢) الاَنفال: ٥٥.

(٣)صحيح مسلم ٧: ٣٨.

٢١١

ب - عن أبي سعيد الخدري، قال، قال رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - : «الاَرض كلّها مسجدٌ إلاّ المقبرة والحمّ-ام»(١) وغير ذلك.

ج - عن عبد اللّه بن عمر: نهى عن الصلاة في المقبرة(٢)

فعندئذ يجب التأمّل في هذا التفريق فلماذا اقترن القسم الاَوّل (أي الروايات النهي عن اتّخاذ قبور الاَنبياء مساجد) باللعن دون الآخر، الذي ورد فيه مُجرد النهي، المحمول على الكراهة مُطلقاً، أو في ما إذا كان القبر بحيال المصلّ-ي، أو كانت الصلاة بين القبرين.

إنّ هذا الفرق ليس إلاّ لاَنّ القسم الاَوّل ناظر إلى عمل اليهود والنصارى مع قبور أنبيائهم.

فبما أنّ عملهم مع تلك القبور كان مُقترناً بالشرك، بالسجود لها، تعظيماً لهم أو باتخاذها قبلة استحقوا اللعن، وعرِّفوا بأنَّهم شرار الناس ونهي المسلمون عن اتّباعهم.

وأمّا القسم الآخر فحيث لم يكن مُقترناً بذلك أبداً، لذلك جاء فيه النهي المجرَّد عن اللعن.

وبهذا لا يمكن القول بإطلاق هذه الاَحاديث وعموميتها لكل الاَحوال.

____________________

(١)سنن أبي داود ١: ١٨٤.

(٢)موارد الظمان: ١٠ كما في رياض الجنّة.

٢١٢

٤- إنّ السيدة عائشة، قالت: قال رسول اللّه: «لَعَنَ اللّهُ اليهود والنصارى اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد»

قالت: فلولا ذاك لاُبرِزَ قبرُه، غير أنّه خُشِيَ أن يُتَّخذَ مسجداً(١)

ومن المعلوم أنَّ المسلمين بعدما دفنوا النبيّ في بيته سوّروه بحائط مستدير لا مُربع، لئلاّ يُشابه الكعبة.

ومن المعلوم أيضاً أنّ التسوير بالجدران وعدم إبراز قبره إنّما يمنع عن اتّخاذه مسجوداً، أو قبلة، وأمّا الصلاة في جنبه فلم يكن الجدار مانعاً عنها.

ومُراد السيدة عائشة هو: أنّ عدم إبراز القبر وستره بالحيطان منع المسلمين عن أن يرتكبوا ما كان اليهود والنصارى يرتكبونه.

ومن المعلوم أنّ الجدران منعت عن الصور الشركيّة كصورة اتّخاذه مسجوداً، أو قبلة، لا عن إقامة الصلاة المجرّدة من هذه الضمائم إلى جانبه.

وهذا دليلٌ واضحٌ على أنّ الحديث كان بصدد نهي المسلمين عن اتّخاذ القبر مسجوداً وقبلة.

والعجب من الشيخ الاَلبانيّ حيث إنّه أراد استغلال الحديث لتأييد مذهبه، وموقفه، فسَّر قولها: «فلولا ذاك لاُبرِزَ قَبرُه» بأنّ المقصود هو الدفنُ خارج بيته(٢) ، مع أنّ العبارة لا تتحمَّل هذا ، لاَنَّها تركز على القبر الموجود فيكون المقصود: ولولا ذاك لكشف قبره ولم يتخذ عليه حائطٌ.

____________________

(١)البخاري ٣: ١٥٩ ومسلم ٢: ٧٦.

(٢)أي لولا لعن رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - لدفنوه خارج بيته.

٢١٣

٥- قال أبو هريرة: قال رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - : «اللّهمّ لا تجعل قبري وثناً، لَعَنَ اللّه قوماً اتّخذوا قُبورَ أنبيائهم مساجد»(١)

إنّ العلاقة بين الجملتين تكشف عن أنّ المقصود بالاستنكار والرفض هو: اتّخاذ قبور الاَنبياء مساجد على نحوٍ يعود القبر وثناً يُعبد، أو يُصلّى إليه.

وأمّا الصلاة للّه تبارك وتعالى، وإلى الكعبة إلى جانب القبر تبرّكاً به فلا تجعل القبر وثناً يُعبد، وهذا هو قول اللّه تعالى وهو يأمر الحجيج باتّخاذ مقام إبراهيم مصلّى، ويقول:( وَاتَّخِذُواْ مِنْ مَقامِ إبراهيمَ مُصَلّى ) (٢)

وليست الصلاة عند القبر إلاّ كمثل الصلاة عند مقام إبراهيم، من دون فرق

غير أنّ جسد النبي إبراهيم قد لامس هذا المكان مرّة أو مرّات معدودة، ولكن مقابر الاَنبياء احتضنت أجسادهم التي لا تبلى دائماً(٣)

علماء الحديث وأحاديث النهي:

إنَّ علماء الحديث وجهابذته فهموا من هذه الاَحاديث نفس ما قلناه، وفسّ-روها على نحو ما فسّ-رناه، وإن لم يذكر الاَلباني وغيره شيئاً من هذه التفاسير والكلمات.

____________________

(١)مسند أحمد بن حنبل ج٢: ٢٤٦.

(٢)البقرة: ١٢٥.

(٣) سنن أبي داود كتاب الصلاة - فضل الجمعة.

٢١٤

وها نحن نذكر نماذج من تلك الكلمات ليتضح الحال:

أ - يقول العسقلاني: إنّما صوّر أوائلهم الصور ليستأنسوا بها، ويتذكَّروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم وثمَّ خلفهم قومٌ جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أنَّ أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظّمونها فحذَّر النبيُّ عن مثل ذلك سدّاً للذريعة الموَدّية إلى ذلك.

إلى أن يقول: قال البيضاوي لمّا كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الاَنبياء تعظيماً لشأنهم، ويجعلونها قبلةً يتوجّهون في الصلاة نحوها، واتخذوها أوثاناً، لعنهم(١) ، ومنع المسلمين عن مثل ذلك.

فأمّا من اتّخذ مسجداً في جوار صالح وقصد التبرّك بالقرب منه لا للتعظيم ولا للتوجّه نحوه، فلا يدخل في الوعيد المذكور(٢)

ب - ويقول النووي في شرح صحيح مُسلم: قال العلماء: إنَّما نهى النبيّ عن اتّخاذ قبره وقبر غيره مسجداً خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتنان به، فربّما أدّى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الاُمم الخالية ولما احتاجت الصحابة والتابعون إلى زيادة في مسجد رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - حين كثُر المسلمون، وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوتُ أُمّهات الموَمنين فيه، ومنها حجرة عائشة مدفن رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وصاحبيه بنوا على القبر حيطاناً مُرتفعة مُستديرة حوله لئلا يظهر في المسجد فيصلّ-ي إليه العوام ويعود المحذور.

____________________

(١)أي لعنهم رسولُ اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم -

(٢)فتح الباري في شرح صحيح البخاري ١: ٥٢٥ ط دار المعرفة، وقريب منه ما في إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري ٢: ٤٣٧ باب بناء المساجد على القبور.

٢١٥

ولهذا قالت عائشة في الحديث: ولولا ذلك لاَُبرِزَ قبرُه، غير أنّي أخشى أن يُتّخذ مسجداً(١) .

ج - وقال السنديّ: شارح السُّنن للنسائي: اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد أي قبلة للصلاة ويصلّون إليها أو بَنَوا مساجد يُصلّون فيها، ولعلَّ وجه الكراهة أنّه قد يفضي إلى عبادة نفس القبر.

إلى أن يقول: يُحذّر النبيُّ أُمّته أن يصنعوا بقبره ما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم من اتّخاذ تلك القبور مساجد، إمّا بالسجود إليها تعظيماً لها، أو بجعلها قبلةً يتوجّهون في الصلاة إليها(٢)

د - وقال شارح آخر: إنّ حديث عائشة يرتبط بالمسجد النبويّ قبل الزيادة فيه أمّا بعد الزيادة وإدخال حجرتها فيه فقد بنوا الحجرة بشكل مُثلّث كي لا يتمكَّن أحد من الصلاة على القبر، إنّ اليهود والنصارى كانوا يعبدون أنبياءهم بجوار قُبورهم أو يجعلونهم شركاء في العبادة(٣)

ه- - قال الشيخ علي القاري: سبب لعنهم إمّا لاَنّهم كانوا يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيماً لهم، وذلك هو الشرك الجليّ، وإمّا لاَنّهم كانوا يتّخذون الصلاة للّه تعالى في مدافن الاَنبياء والسجود على مقابرهم، والتوجّه إلى قبورهم حال الصلاة، نظراً منهم بذلك إلى عبادة اللّه والمبالغة في تعظيم الاَنبياء، وذلك هو الشرك الخفيّ، فنهى النبيّ أُمّته عن ذلك إمّا لمشابهة ذلك

____________________

(١)صحيح مسلم بشرح النووي ٥: ١٣ - ١٤.

(٢)السنن للنسائي ٢: ٤١، مطبعة الاَزهر.

(٣)صحيح مسلم ٢: ٦٦.

٢١٦

الفعل سُنَّة اليهود أو لتضمّنه الشرك الخفيّ، كذا قاله بعض الشُّ-رّاح من أئمّتنا ويوَيّده ما جاء في رواية: يحذر مثل الذي منعوا(١)

أهل البيت وأحاديث النهي:

إنّ المروي عن أئمّة أهل البيت هو ما فهمه أُولئك الشرّاح، من هذه الاَحاديث، وإليك نماذج من رواياتهم الشريفة:

١- روى الصدوق مُرسلاً قال: وقال النبيّ لا تتَّخذوا قبري قبلة ولا مسجداً فإنّ اللّه لعن اليهود حيث اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد(٢) والمراد من قوله «مسجداً» بقرينة قوله «قبلةً» هو السجود عليه تعظيماً.

٢- روى الشيخ الطوسي بإسناده عن معمّر بن خلاّد عن الرضا -عليه‌السلام - قال: لا بأس بالصلاة بين المقابر ما لم يتَّخذ القبر قبلة(٣)

٣- روى الصدوق في علل الشرائع بإسناده إلى زرارة عن أبي جعفر (الباقر) -عليه‌السلام - قال: قُلت: الصلاة بين القبور، قال: بين خُللها ولا تتّخذ شيئاً منها قبلةً، فإنّ رسول اللّه نهى عن ذلك وقال: لا تتَّخذوا قبري قبلةً ولا مسجداً، فإنّ اللّه عزّ وجلّ لعنَ الذين اتّخذوا قُبور أنبيائهم مساجد(٤)

ولو كان المراد هو اتّخاذ القبر قبلةً حقيقة، بأن يُصلّى عليه من كلّ جانب كالكعبة يكون حراماً وبدعة حتماً.

____________________

(١)مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ١: ٤٥٦.

(٢)الوسائل: ج٢، الباب ٦٥، من أبواب الدفن، الحديث٢.

(٣) المصدر نفسه: ج٣، الباب ٢٥، أبواب مكان المصلّ-ي، الحديث ٣، والباب ٢٦، الحديث ٥.

(٤) المصدر نفسه: ج٣، الباب ٢٥، أبواب مكان المصلّ-ي، الحديث ٣، والباب ٢٦، الحديث ٥.

٢١٧

ولو كان المراد كون القبر أمامه وحيال وجهه، فيحمل على الكراهة لجريان سيرة المسلمين على الصلاة في الصفَّة في مسجد النبيّ والقبر بحيال المصلّي، وفي مقابله.

ثمّ روى المفسّ-رون في تفسير قوله سبحانه:( وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وُدّاً وَلا سُواعاً ولا يَغُوثَ ويَعُوقَ وَنَسْراً ) (١) عن ابن عباس أنّه قال: هوَلاء كانوا قوماً صالحين في قومهم فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوّروا تماثيلهم فلما طال عليهم الاَمد عبدوهم.

قال القرطبي: روى الاَئمّة عن أبي مرصد الغنوي قال: سمعت رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - يقول: «لا تصلّوا إلى القبور ولا تجلسوا إليها» (لفظ مسلم) أيّ لا تتَّخذوها قبلةً، فتصلّوا عليها أو إليها كما فعلَ اليهود والنصارى(٢)

ويوَيّد ذلك ما مرّ من رواية مُسلم في صحيحه عن النبيّ الاَكرم أنّه قال حينما قالت أُمّ حبيبة وأُمّ سلمة بأنّهما رأتا تصاوير في إحدى كنائس الحبشة: أنَّ أُولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوّروا فيه تلك الصور أُولئك شِرار الخلق عند اللّه يوم القيامة(٣)

إنّ الهدف من وضع صور الصالحين بجوار قبورهم كان إمّا لغاية اتّخاذها قبلةً ، أو عبادة أصحابها، كالصنم المنصوب، ومعه لا يمكن أن يستدل به وبأمثاله من الاَحاديث على تحريم مُطلق اتّخاذ القبور مساجد،

____________________

(١)نوح: ٢٣.

(٢)تفسير القرطبي ١٠: ٣٨٠.

(٣) صحيح مسلم ٢: ٦٦ كتاب المساجد.

٢١٨

بمعنى بناء المسجد عليها، أو إلى جوارها، والصلاة في تلك المساجد وإلى جانب تلك القبور والمراقد تبرّكاً بما تضمّنت من أجساد طاهرة لشخصيات مقرّبة عند اللّه تعالى.

نعم إنّ أقصى ما يدلّ عليه الحديث لو قلنا بإطلاقه هو أن يُتّخذ مدفن الاَنبياء مساجد، وأمّا بناء مسجد إلى جنب مدافنهم بحيث يكون المسجد وراء المدفن كما هو الحال في المشاهد المشرّفة لاَئمّة الشيعة فلا يعمّه النهي أبداً.

وعلى فرض وجود الاِطلاق فإذا دار الاَمر بين الاَخذ بالكتاب والسنّة الرائجة بين المسلمين من عهد التابعين إلى يومنا هذا وبين إطلاق هذه الرواية، كان الاَوّل هو المتعيَّ-ن.

والعجب من الشيخ الاَلبانيّ حيث يعتقد بإطلاق الحديث، ثمّ يردّ به دلالة الكتاب قائلاً بأنّ «شرع من قبلنا» حجّةٌ إذا لم يرد في خلافه شيءٌ(١)

وقد عرفت عدم الاِطلاق لاحتفاف الحديث بقرائن صارفة.

والخلاصة:

١- إنّ آثار النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - هو أحد الاَسباب التي لها مسبّبات في عالم الطبيعة، ويجوز التبرّك بها إمّا توصّلاً إلى مسبّبات ونتائج، وإمّا تكريماً أو حبّاً لصاحبها.

____________________

(١)راجع كتابه المذكور سابقاً.

٢١٩

٢- إنّ سيرة المسلمين جرت على التبرّك بالنبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - في حياته، وبآثاره بعد مماته بلا نكير من صحابي أو تابعي يذكر.

٣- إنّه يترتّب على هذا الاَصل جواز بناء المساجد على قبور ومدافن الاَنبياء أو إلى جانبها والصلاة للّه تعالى في تلك المساجد وعند تلك القبور، باتّجاه القبلة، تبرّكاً بأصحابها المقدسين المقرّبين عند اللّه.

٤- وإنّ الروايات المانعة من ذلك أمّا المتضمّنة للّعن فتقصد ما إذا كان على غرار ما يفعل اليهود والنصارى، من اتّخاذ القبر قبلة أو معبوداً، أو عبادة أصحابها.

وأمّا المتضمّنة لمجرّد النهي فهل تدلّ على الكراهة المدفوعة بمصلحة أعلى، هذا مضافاً إلى مخالفة هذه الروايات لتصريح الكتاب العزيز بالجواز، ولسيرة المسلمين وكلماتهم.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359