في ظل أصول الإسلام

في ظل أصول الإسلام0%

في ظل أصول الإسلام مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 359

  • البداية
  • السابق
  • 359 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20754 / تحميل: 4854
الحجم الحجم الحجم
في ظل أصول الإسلام

في ظل أصول الإسلام

مؤلف:
العربية

أم هل يمكن أن يقول بأنّه لم يكن لاِرادة يُوسف في عودة البصر لاَبيه أيّ تأثير؟

كل هذه الحقائق والوقائع تبيّ-ن لنا منزلة الاَنبياء والاَولياء عند اللّه تبارك وتعالى، وبذلك نقف على قيمة ما كتبه الشيخ المودودي، حيث يقول: «صفوة القول أنّ التصوّر الذي لاَجله يدعو الاِنسان الاِله ويستغيثه ويتضرّع إليه، هو لا جرم تصوّر كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة وللقوى الخارجة عن دائرة نفوذ قوانين الطبيعة».

فإنّه يلاحظ عليه: أنّ الاعتقاد بالسلطة الغيبيّة الخارجة عن إطار السنن الطبيعية لا يُوجب الاعتقاد بالاُلوهيّة حتماً.

بل إنَّ السلطة حتّى على الكون بأجمعه - فضلاً عن بعضه - إذا كانت بإخطار اللّه تعالى وبإذن منه - لا تلازم الاُلوهيّة.

فكما أنّ اللّه أعطى لآحاد الاِنسان قدرةً محدودةً في أُمورهم العاديّة وفضّلَ بعضهم على بعض في تلك القدرة، فكذلك لا مانع من أن يعطي لفرد أو أفراد من خيار عباده، قدرةً تامةً نافذةً على جميع جوانب الكون عادية أو غير عادية، وذلك بنفسه لا يستلزم الاُلوهيّة.

نعم إنّ الذي ينبغي أن يدور حوله البحث هو وجود تلك القدرة، وأنّه سبحانه هل أعطاها لاَحد أو لا؟

وقد صرّح القرآن بذلك في عدّة موارد منها على ما عرفت في حقّ بعض الاَنبياء والصالحين.

١٨١

فالحقّ أنّ السلطة الغيبيّة التي أعطاها اللّه سبحانه لخيار عباده ليتصرّفوا بها في الكون بإذنه ومشيئته ويخرقوا بها قوانين الطبيعة في مجالات خاصّة لا تستلزم الاعتقاد بوجودها في أحد، الاعتقاد بأُلوهيته، ولا يكون صاحب مثل هذه السلطة ندّاً وشريكاً للّه سبحانه ولا يلزم منه مساواته باللّه سبحانه.

نعم، الاعتقاد بالسلطة الغيبيّة «المفوَّضة» والتي يتصرّف بها صاحبها في الطبيعة من دون حاجة إلى إذن اللّه سبحانه هو الموجب للاعتقاد بالاُلوهية، وقد قال سبحانه:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) (١)

كما وأنّ الذكر الحكيم يثبت للملائكة قدرةً خارقةً من قبض الاَرواح، وإهلاك الاُمم، ويثبت للنبيّ الاَعظم -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - كون صلاته موجبة لسكون الاَرواح والقلوب، يقول سبحانه:( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (٢) .

ما يترتّب على هذا الاَصل:

ويترتّب على الاَصل:

١- إنّ الاعتقاد بأنّ اللّه سبحانه يدفع عن الاِنسان الضرّ أو يجلب إليه النفع في ظلّ دعاء النبيّ، في الدنيا والآخرة، ليس شركاً لاَنّه لو كان -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم -

____________________

(١)الرعد: ٣٨.

(٢)التوبة: ١٠٣.

١٨٢

مستجاب الدعوة، يكون الداعي إيّاه الطالب منه محقّاً في طلبه، ولو لم يكن كذلك يكون الطلب لغواً لا شركاً.

وعلى كلا التقديرين فإنّ الداعي أو الطالب يرى أنّ الاَمر بيد اللّه سبحانه، وأنّ دعاء النبيّ سببٌ من الاَسباب، فكما أنّ الاِنسان يلتجىء في الاَمور الدنيوية والاَُخروية إلى أسباب نجاحه، ولا يعدّ ذلك شركاً وخروجاً عن جادة التوحيد، فهكذا إذا لجأ إلى دعاء النبيّ معتقداً بأنّه سبب من أسباب نجاح مطلبه وحاجته.

٢- إنّ طلب برء المريض من الاَنبياء وردّ الضالة وقضاء الحاجة لا يكون شركاً، سواء كان في حال حياة النبيّ أو في حال مماته لاَنّه لا يزيد ذلك على طلب برء المريض من المسيح أو طلب إحياء الموتى منه، وهو حسب نفس الاَمر لا يخلو من حالتين، بين قادر وعاجز.

فعلى الاَوّل يحظى الطلب بالتنجيز والتحقّق إذا توفّرت الشرائط.

وعلى الثاني يكون لغواً.

وإلى ذلك يشير السيّد الاَمين في قصيدة له حيث يقول:

إن كان ليس بقادرٍ في زعمِكُمْ

فيكون مثلَ سوَال مشي المقعَدِ

أو كانَ يقدرُ وهو أصوبُ لم يكنْ

شِركاً وليس مريدُه بمفنَّدِ(١)

إنّ عدّ طلب الاَمور الخارقة للعادة، من الشرك في العبادة، مبنيٌ على

____________________

(١)العقود الدرّية: ٢٠٣.

١٨٣

عدم وضع حدّ منطقي يُميَّز به فعل اللّه سبحانه عن فعل عباده.

فربّما يُتخيَّل أنّ الميزان هو كون الفعل الخارق للعادة، فعلهُ سبحانه، والموافق للعادة هو فعل عباده، مع أنّ هذا التعريف غير صحيح أبداً لما عرفت من أنَّ مَن طلب حاجة من حىٍّ وإن كان جارياً على وفق العادة، وتصوّر أنّه يقوم به مستقلاّ ً وبحول وقوّة ذاتيتين، فقد زعم أنّه إله ويكون طلبه عبادة له، وإنّما الميزان كونُ الفاعل إنّما يفعل ما يفعل بحول وقوّة نابعة من نفسه أو بحولٍ مُكتسب وقوّةٍ مأذونة، فيكون في الاَوّل ملازماً لاُلوهيته وفي الثانية غير ملازم لربوبيته.

وخلاصة القول:

أنّ الميزان الصحيح في تمييز فعل اللّه عن فعل غير اللّه هو الاستقلالية والاَصالة في القيام بالفعل، لا الخارقية للعادة وغير الخارقية للعادة.

فإنّ فعل اللّه هو ما يكون مستنداً إلى استقلال في التأثير، وأصالة في القدرة، أي أنّ اللّه يأتي به من دون أن يعتمد على أحد أو يستأذن أحداً فوقه.

بينما فعل غير اللّه هو ما يكون صادراً عن قدرة مكتسبة، وواقعة بإذن واجازة من اللّه سبحانه، سواء كان هذا الفعل خارقاً للعادة أو غير خارق للعادة.

فمن اعتقد بصدور فعل (عادي أو غير عادي) من أحد على الطراز الاَوّل فقد اعتقد بأُلوهيته لاَنّه أضفى على فعله طابع الفعل الاُلوهي وصبغهُ بصبغة الاُلوهية، فكان مشركاً.

١٨٤

وأمّا لو اعتقد بصدور فعل (عادي أو غير عادي) من أحد على الطراز الثاني لم يعتقد بأُلوهيته قط لاَنّه لم يُضف على فعله طابع الفعل الاُلوهي، ولم يصبغه بصبغة الاُلوهية، لم يكن مشركاً.

١٨٥

١٨٦

٨- التبرّك بآثار الرسول -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم -

العلل الطبيعية والخارقة للعادة.

التبرّك بالنبيّ في حياته وبآثاره بعد مماته.

التبرّك بتحنيك الاَطفال.

التبرّك بالمسح والمسّ.

التبرّك بفضل وضوئه.

التبرّك بسوَر شرابه وطعامه.

ما يترتّب على هذا الاَصل.

إنّ التوحيد في «الخالقية» يقضي بأنّه لا موَثّر في الوجود إلاّ اللّه سبحانه، وأنّه هو الحيّ القيُّوم، وأنّ غيره قائم به، ولكن انحصار الخالقية في اللّه سبحانه لا يعني أنّ الواجب جلّ اسمه هو السبب المباشر لكلّ شيء، كما أنّ التوحيد في «الربوبيّة» لا يعني أنّه المدبّر للعالم بنفسه بلا تسبيب من الاَسباب وبلا تنسيق من العلل التي توَثّر بعضها في بعضٍ، ويتأثّر بعضها من الآخر، لبطلان ذلك عقلاً وكتاباً:

١٨٧

أمّا عقلاً، فقد شهدت البراهين العقليّة على أنّ الوجود متّحدٌ حقيقةً، مختلف مرتبةً، فإذا كان كذلك فلا معنى أن يكون الوجود موَثّراً في مرتبة«الواجب» تعالى غير موَثّر في مرتبة «الممكن» ما دام الوجود كما قلنامتّحدٌ حقيقةً، وإنّما هو مختلفٌ في الرتبة. ولهذا فإنّ من يدّعيتأثيراللّهمن دون تسبّب من الاَسباب يقول ذلك بلسانه وقلبه موَمن بخلافه.

وأمّا كتاباً، فإنّ الذكر الحكيم مليءٌ بالآيات الصريحة بتأثير العلل والعوامل الطبيعية في آثارها، وقد أوردنا بعض هذه الآيات في ذيل مبحث الشرك في العبادة.

والحاصل أنّ هناك فرقاً واضحاً بين القول بأنّ اللّه هو الموَثّر المباشر في كل شيء، والقول بأنّه هو الموَثّر الاَصيل عن طريق جعل الاَسباب، فمثلاًهو سبحانه المخرج للثمرات من الاَشجار لكن بسبب الماء(١) فاللّهسبحانه هو الموَثّر التامّ والقيُّوم المطلق، الذي يقوم به كُلّ شيء، ويوَثّربه كلُّ شيء، وأمّا غيره فإنّ وجوده وتأثيره وأثره بإرادته وإذنه سبحانه،وهذا هو حقيقة التوحيد والخالقية، وقد أوضحنا مراتب التوحيد في محلّه(٢)

____________________

(١)إشارة إلى قوله سبحانه:( وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ )

(٢)لاحظ مفاهيم القرآن الجزء الاَول، وهي من تأليف الاُستاذ العلاّمة السبحاني بقلم الكاتب.

١٨٨

العلل الطبيعية والعلل الخارقة للعادة:

وكما جرت سنّةُ اللّه الحكيمة على إجراء الفيض وإيصاله إلى الناس عن طريق العلل الطبيعية غالباً، فإنّها جرت في بعض الموارد على إجرائه إلى الناس عبر علل غير مألوفه، أو خارقةٍ للعادة، كما نرى ذلك في المعاجز والكرامات.

وبما أنّ القسم الاَوّل (أي اجراء اللّه لفيضه عن طريق العلل الطبيعية) واضحٌ نعطفُ عنان البحث إلى الثاني (أي اجراء الفيض عبر سبل خارقة للعادة والمألوف) فنقول:

قال سبحانه:( وَإِذْ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ ) (١) فقد أجرى سبحانه فيضه الحيويّ عن طريق غير عاديّ.

ومثله قوله سبحانه:( كُلّما دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَريّا المِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ) (٢) .

وقوله سبحانه:( وَهُزّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنيّاً ) (٣)

____________________

(١)البقرة: ٦٠.

(٢)آل عمران: ٣٧.

(٣)مريم: ٢٥.

١٨٩

إنّ ما ورد في هذه الآيات من ظهور فيضه سبحانه على خاصّة أوليائه، إنّما هو من باب الكرامة، لا الاِعجاز فالكليم لم يكن عندما طلبوا منه الماء ولبّى طلبهم بتلك الصورة الخارقة في مقام التحدّي.

كما لم تكن مريم في ذلك المقام وإنّما هو فضل ربّنا وكرامته ولطفه الخاص الذي يقع في بعض الاَزمان عندما تقتضي المصلحة ذلك.

وعلى ذلك فليس من البعيد أن تكون هناكَ عللٌ وأسبابٌ موَثّرةٌ لم نكن نعتادها قد أثّرت في أُمور بإذن اللّه سبحانه.

فهذا هو يوسف قد أرسل قميصه إلى أبيه وأمر أخوته بأن يُلقوه على وجه أبيه ليرتد بصيراً، قال سبحانه حاكياً عن لسان يوسف:( اذْهبُواْ بقَميصِى هَذا فَأَلْقوهُ عَلَى وَجهِ أَبي يَأْتِ بَصيراً فَلَمّا أَن جَاءَ البَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَ بَصِيراً... ) (١)

ومن المعلوم أنّ قميص يوسف ذاك لم يكن مصنوعاً إلاّ من القطن أو ما شابهه، ولكنّ اللّه سبحانه جعل فيه أثراً غير عادي بحيث لما أُلقي على وجه يعقوب الذي أبيضّت عيناه من الحزن عاد بصيراً.

فليس لنا أن نقول: إنَّ القميص من القطن وأيّ رابطة علمية بين القطن وعودة البصر إلى عيّني يعقوب؟

نعم ليست هناك رابطة علميّة تكشف عنها الاَجهزة المادية

____________________

(١)يوسف: ٩٣ - ٩٦.

١٩٠

المستخدمة والمعتمدة في الاَوساط العلمية.

إنّ هذه العلاقة غير العادية تظهر عند وضع القميص على عيني يعقوب واللّه سبحانه واقف على العلل الموَثّرة في هذه الحوادث.

وعلى ذلك الاَساس جرى الاِلهيون عند التبرّك بآثار أوليائهم، لاَنّهم يجدون فيها شفاء عليلهم، ورواءِ غليلهم بإذن اللّه سبحانه.

ولكنّهم ربّما يتبرّكون بالآثار من دون أن يتوقّعوا منها نتائج كتلك التي ذكرت، وإنَّما ينطلقون في ذلك من مبدأين:

الاَوّل: مبدأ الحبّ والود، والتعزير والتكريم فمن عشق شيئاً عشق لوازمه وآثاره. فحبّ الآباء والاَُمّهات يجرّنا إلى حبّ من بقي منهم وما بقي من آثارهم، وكذلك حبّ الاَنبياء والصلحاء يجرّ كل موَمن إلى حبّ كلّ ما تركوه من آثار حتّى أبنيتهم وألبستهم وأولادهم.

الثاني: ما وصل إلينا عن طريق الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنّهم كانوا يتبرّكون بكل ما يمتّ إلى النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - بصلة في المجالات المختلفة.

وقبل أن نذكر نماذج من هذا القبيل نذكر ما كتبه المحقّق العلاّمة محمّد طاهر بن عبد القادر في كتابه «تبرّك الصحابة» وهو من علماء مكّة المكرّمة حيث قال: أجمعت صحابة النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - على التبرّك بآثار رسول اللّه والاهتمام في جمعها وهم الهداة المهديّون، والقدوة الصالحون، فتبرّكوا بشعره، وبفضل وضوئه، وبفرقه، وثيابه، وآنيته، وبمسّ جسده الشريف، وبغير

١٩١

ذلك ممّا عُرف من آثاره الشريفة التي صحّت به الاَخبار عن الاَخيار.

فصار التبرّك بها سنَّة الصحابة (رض) واقتدى آثارهم من نهج نهجهم من التابعين والصالحين.

وقد وقع التبرّك ببعض آثاره في عهده وأقرَّهُ ولم ينكر عليه، فدلّ ذلك دلالةً قاطعةً على مشروعيته ولو لم يكن مشروعاً لنهى عنه وحذّر منه.

وكما تدلّ الاَخبار الصحيحة وإجماع الصحابة على مشروعيته، تدل على قوّة إيمان الصحابة وشدة محبّتهم وموالاتهم ومتابعتهم للرسول الاَعظم -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - على حدّ قول الشاعر:

أمرّ على الديار ديار ليلى

أُقَبّلُ ذا الجدارِ وذا الجدارا

وما حبّ الديار شغفنَ قلبي

ولكنْ حبّ من سكن الديارا(١)

بل إنّ المسلمين لشدة علاقتهم بنبيّهم سجّلوا كثيراً من خصوصيات أخلاق النبيّ والاَشياء التي تمتّ إليه بصلة، فذكروا صفة قراءته في صلاته، وحسن صوته، ووصفه في إيراد الخطب، وحسن خلقه وعشرته، وكيفيّة مشيه، ومأكله، وما كان يعجبه من الطعام، وما كان يعاف من الطعام والشراب، حتّى ذكروا شعره وشيبه وخضابه وما أطلى به من النورة، وحجامته، وما أخذ من شاربه، ولون لباسه، وأصنافه، وطولَه وعرضَه وقناعَته في الثوب، وما كان يقولُه إذا لَبِسَه، حتّى ذكروا الخُمرة التي يُصلّي

____________________

(١)تبرّك الصحابة: ٥.

١٩٢

عليها، وخاتَمه من الفضة، ونقشَ خاتمه، ونعلَه، وخُفّه، وسِواكه، ومُشطه، ومُكحلته، ومِرآته، وقَدحه، وسيوفه، ودرعه، وترسّموا رماحَه، وخيله، ودوابّه، وإبله، ولِقاحه، وخَدمه ومواليه وبيوتَه، وحُجَرَ أزواجه، وصَدقاته، والبآر التي شرب منها(١) . قال ابن هشام في الفصل الذي عقده لصلح الحديبية : إنّ قريش بعثت عُروة بن مسعود الثقفي إلى رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فجلس بين يديه وبعدما وقف على نيّة الرسول من خروجه إلى مكّة رجع إلى قومه وأخبرهم بما دار بينهم وبين الرسول -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - ثمّ قال: إنّ محمّداً لا يتوضّأ إلاّ وابتدر أصحابُه بماءِ وضوئه، ولا يسقط من شعره شيء إلاّ وأخذوه، ثمّ قال: يا معشر قريش لقد رأيتُ كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإنّي واللّه ما رأيت ملكاً في قومه قطّ مثل محمّد في أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يُسلمونَه بشيءٍ أبداً فَرَوا رأيَكم التبرّك بآثار النبيّ في حياته وبعد مماته: وها هنا نذكر نماذج من تبرّك الصحابة والتابعين بآثار الرسول في حياته وبعد مماته، ولكن لانستقصي فإنّه يدفعنا إلى تأليف كتاب في ذلك المجال(٢)

____________________

(١)لاحظ الطبقات الكبرى لابن سعد ١: ٣٧٥-٥٣٠.

(٢)وكفانا في ذلك ما كتبه الشيخ طاهر المكي، وما دبجته يراعة الاُستاذ الشيخ علي الاَحمدي حيث قام بتتبع واسع في ذلك المجال وأفرد الموضوع بالتأليف فأسماه (التبرّك) وقد طبع في بيروت وطهران.

١٩٣

١- التبرّك بتحنيك الاَطفال: كانت الصحابة تتبرّك بالنبيّ في تحنيك أطفالهم. قال ابن حجر: كل مولود وُلِدَ في حياته، رآه وذلك لتوفّر إحضار الاَنصار أولادهم إلى النبيّ للتحنيك والتبرّك، ونقل ذلك جمٌّ غفير من أعلام السنّة والحديث والتاريخ، بل إنّه لما أُفتتحت مكّة، جَعَلَ أهلُ مكّة يأتون إليه بصبيانهم يمسحُ على روَوسهم ويدعو لهم بالبركة. عن عائشة: إنّ النبيّ كان يوَتى بالصبيان فيبرّك عليهم. وعن عبد الرحمان بن عوف: ما كان يُولَد لاَحدٍ مولودٌ إلاّ أُتي به النبيّ فدعا له(١) . وقد جاء العلاّمة الاَحمدي بأسماء ٢٤ شخصاً تبرّكوا بتحنيك النبيّ منهم: إبراهيم بن أبي موسى الاَشعري لمّا أتى به أبوه إلى رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فسمّاه «إبراهيم» وحنّكه بتمرة وكان أكبرِ ولده(٢) ومنهم عبد اللّه بن عبّاس بن عبد المطلب ولد والنبيُّ وأهل بيته بالشعب من مكّة فأتي به إلى النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فحنّكه بريقه وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين(٣) .

____________________

(١)الاِصابة ١: ٥، والاستيعاب على هامش الاِصابة ٣: ٦٣١.

(٢)صحيح البخاري ٨: ٥٤، وصحيح مسلم ٣: ١٦٩٠، والاِصابة ١: ٩٦.

(٣)أُسد الغابة ٣: ١٩٣، وذخائر العقبى : ٢٢٧.

١٩٤

٢- التبرّك بالمسح والمسّ: نجد في حياة الصحابة لفيفاً منهم مَسَحَ رسول اللّه روَوسهم، وقد نقلوه في حياتهم على سبيل المباهاة والافتخار والاعتزاز. منهم:زياد بن عبد اللّه: وَفَدَ على النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فَدَخَلَ على ميمونة زوج النبيّ، فَدَخَلَ رسول اللّه فقالت: يا رسول اللّه هذا ابن أُختي ثمّ خرج حتّى أتى المسجد وبعده زياد فصلّى الظهر، ثمّ أدنى زياداً فدعا له، ووضع يده على رأسه، ثمّ حدّرها على طرف أنفه، فكانت بنو هلال تقول ما زلنا نتعرّف البركة في وجه زياد ، وقال الشاعر لعلي بن زياد:

يا ابنَ الذي مَسَحَ النبيُّ برأسِهِ

ودعا له بالخير عندَ المسْجِدِ(١)

ومنهم: خزيمة بن سواد فقد مسح رسول اللّه وجه خزيمة بن سواد فضاءت غرة بيضاء(٢) . ومنهم: السائب بن يزيد: ذهبت خالتهُ إلى النبيُّ، فقالت: يا رسول اللّه، إنّ ابن أُختي وجع، فَمَسَحَ رأسَه ودعا له بالبركة، وتوضّأ فشرب من وضوئهِ(٣) فأيّ تبرّك أوضح من ذلك وأيّ توسّل واستشفاء أجلى منه، وقد جاء العلاّمة الاَحمدي بأسماء من تبرّكوا بمسح النبيّ ومسّه أو استشفوا به.

____________________

(١)الطبقات ١: ٥١، والاِصابة ١: ٥٥٨.

(٢)الطبقات ١:٤٣.

(٣)أُسد الغابة ٢: ٢٥٦.

١٩٥

٣- التبرّك بفضل وضوئه وغسله: كان الصحابة يتبرّكون بفضل ماء وضوئه وكانوا يمسحون به، بل كادوا يقتتلون عليه ويتنافسون فيه، وقد عرفت أنّ عروة بن مسعود الثقفيّ قال لقريش بعدما رجع من عسكر رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - : «لا يتوضّأ إلاّ ابتدروا وضوءه» (أي كادوا يقتتلون عليه). وفي فتح مكّة انتزع العبّاس دلواً من ماء زمزم فَشَرِبَ منه رسولُ اللّه وتوضّأ فابتدرَ المسلمون يصبُّون على وجوههم منه ولا تسقط قطرة إلاّ بيدِ إنسان إن قَدِرَ على ما يشرب يشربها، وإلاّ مسح بها جلده. حتّى أنّ جابر بن عبد اللّه الاَنصاريّ - بعد ما توضّأ النبيّ في طست - أخذ ماء وضوئه فصبّه في بئره(١)

٤- التبرّك بسوَر شرابه وطعامه: كان الصحابة يتبرّكون بسوَر طعامه وشرابه وربّما يقدّمون التبرّك بفضل شرابه على الصيام المستحب. عن حنش بن عقيل وكان من أصحاب النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - قال: سقاني رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - شربةَ سويقٍ شَرِبَ أوّلها وشربتُ آخرَها قال: ما برحتُ أجدُ شَبَعها إذا جُعتُ، ورَيَّها إذا عَطشتُ(٢)

____________________

(١)كنز العمال ١٦: ٢٤٩.

(٢)سيرة دحلان ٢: ٢٤٦.

١٩٦

وقال أبو موسى: كنت عند النبيّ وهو نازلٌ بالجعرانة - بين مكّة والمدينة - ومعه بلال، فأتى النبيّ أعرابيٌّ، فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟ فقال له: أبشِر فقال: قد أكثرت عليّ من أبشر. فأقبل -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان فقال: إنّ هذا قد ردّ البشرى، فأقبلا أنتما قالا: قَبِلنا، ثمّ دعا بِقَدَحٍ فيه ماءٌ فَغَسَلَ يديه ووجهه ومجَّ فيه، ثمّ قال: «إشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحورِكما وأبشرا». فأخذا القدحَ فَفَعلا، فنادت أُم سلمة أن أفضِلا لاَُمّكما، فأفضَ-لا لها منه طائفة(١) ثمّ إنّ تبرّك الصحابة لم يقتصر على ذلك، بل كانوا يتبرّكون بماءٍ أدخل فيه يده المباركة، وبماءٍ من الآبار التي شرب منها، وبشعره، وعرقه، وظفره،والقدح الذي شرب منه، وموضع فمه، ومنبره، والدنانير التي أعطاها، وقبره، وجرت عادتهم على الاستشفاء به، ووضع الخدّ عليه والبكاء عنده. بل كان الصحابة والتابعون يتبرّكون بعصاه وملابسه وخاتمه ولباسه، والاَماكن التي صلّ-ى بها، أو مشى عليها، وآثار مشي أقدامه إلى غير ذلك ممّا هو مبثوث في ثنايا كتب السيرة والتاريخ، وقد جمع نصوصها ومصادرهاالعلاّمة الاَحمدي في كتاب «التبرّك» فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إليه.

____________________

(١)صحيح مسلم ج٤، باب فضائل أبي موسى: ١٩٤٣، وفتح الباري ١: ٢٥٦.

١٩٧

ما يترتّب على هذا الاَصل: إنّ ما يترتّب على ذلك الاَصل ليس أمراً معيناً بل إنّ كلّ ما صدق عليه عنوان التبرّك بآثار الرسول والصالحين من أولياء اللّه يكون أمراً جائزاً، ولا يمكن لاَحد المنع منه بحجّة أنّه شركٌ أو أنّه أمر محرّم، وإلاّ يجب إنكار مئات الاَحاديث والروايات التي وردت حول التبرّك ولكنّنا نركّز على أمرين:

١- بناء المساجد عند القبور أو عليها. ٢- الصلاة في المشاهد المشرّفة. إنّ هذين الاَمرين ممّا شاع وذاع بين المسلمين بعد رحلة رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - إلى يومنا هذا، ولم يخطر ببالِ أحدٍ أنّه حرام أو أنّه شركٌ. ولما ظهر ابن تيميّة أفتى بحرمة الاَمرين، وقال: «ولا يشرع اتّخاذها - أيّ القبور - مساجد» وقال أيضاً: «ولا يجوز بناء المسجد على القبور». ونحن نعرض كلتا المسألتين على الكتاب أوّلاً، وسيرة المسلمين ثانياً، ثمّ نأتي بما استدلّ به الوهابيون على التحريم. عرض المسألتين على الكتاب: إنّ الكتاب أوثقُ مصدر بين المسلمين في استنباط الاَحكام الشرعية فلا يعادله شيء ولو جاء حديث يخالف النصّ الموجود في القرآن فيوَوّل وإلاّ فيطرح.

١٩٨

والكتاب الحكيم يشرح لنا كيفية عُثور الناس على قبور أصحاب الكهف، وأنّهم اختلفوا في تكريمهم وإحياء ذكراهم، أو التبرّك بهم على قولين. يقول سبحانه:( وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ اللّهِ حقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أمْرَهُمْ فَقالُواْ ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيانَاًرَبُّهُمْأَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَ-ى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ) (١)

والمفسّرون ذهبوا إلى أنّ القول الاَوّل كان لغير المسلمين، ويوَيده قولهم في حقّهم: (ربُّهم أَعْلَمُ بِهِمْ) وهو ينمّ عن عدم اهتمامٍ بالغٍ بحالهم ومكانتهم فحوّل أمرهم إلى اللّه سبحانه. وأمّا القول الثاني فنفس المضمون يحكي عن أنّه كان قول الموَمنين، حيث اقترحوا أن يتّخذوا على أصحاب الكهف مسجداً، ليتبرّكوا بالصلاة فيه. فنفس الاقتراح يحكي عن أنّ المقترحين كانوا على علاقةٍ بالمسجدِ والصلاة فيه، وإلاّ لاقترحوا بأن يتّخذوه منتزهاً أو غير ذلك. وقد قلنا عند البحث عن البناء على القبور أنّ القرآن أُسوة وقدوة، فإذا نقل شيئاً عن قوم ولم يعقّب عليه بنقد أو ردّ، ولم يكن مخالفاً للاُصول المسلّمة

____________________

(١)الكهف: ٢١.

١٩٩

يكون ذلك آية على كونه مقبولاً عند منزل الوحي. هذا ما ذكرناه سابقاً، والآن نحتج بالآية بوجه آخر وهو «حجّية شرع من قبلنا». فقد احتجّ بها الفقهاء في كثير من الاَحكام إلاّ إذا ثبتَ نسخه، ويوَيّدذلك أنّ الرسول الاَكرم -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - جاء مصدّقاً للتوراة والاِنجيل، قال تعالى:( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقّ مُصدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنَاً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ ) (١) والمراد من الكتاب هو الاَعم من التوراة والاِنجيل وصريح الآية حجّية ما في التوراة والاِنجيل من الاَحكام، إلاّ ما دلّ الدليل على نسخه، وإليه يشير بقوله:( وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) وعلى هذا، فقد روى المفسّ-رون أنّ القول بالبناء على أصحاب الكهف كان قول المشركين، والقول باتّخاذ المسجد كان قول المسلمين، قال سبحانه:( وَقَالَ الذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ) . وهذا هو الظاهر ممّا رواه ابن جرير الطبريّ، فإنّ أصحاب الكهف إنّمابُعثوا بعد سحقِ الوثنية، واستعادة الموَمنين المسيحيّين سلطتهم وكيانهم.

____________________

(١)المائدة: ٤٨.

٢٠٠