في ظل أصول الإسلام

في ظل أصول الإسلام0%

في ظل أصول الإسلام مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 359

  • البداية
  • السابق
  • 359 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20753 / تحميل: 4854
الحجم الحجم الحجم
في ظل أصول الإسلام

في ظل أصول الإسلام

مؤلف:
العربية

٩- التوسّل بالاَسباب والوسائل

الاَسباب الطبيعية في نظرتين.

التوسّل بالاَسباب غير الطبيعية.

التوسّل بذوات الاَنبياء والصالحين.

التوسّل بحقّ الاَنبياء والصالحين.

التوسّل بمقام النبيّ.

الاَسباب الطبيعية في نظرتين:

تشهد النظرة العلمية، والفلسفية، بقيام النظام الكوني على أساس سلسلة الاَسباب والمسبّبات، وارتباط كل ظاهرة من الظواهر الطبيعية، بعلَّة وسبب ماديّ، وهذا النظام - بمجموعه- نظام ممكن، محتاج في ذاته وفعله، إلى واجبٍ غني بالذات، وحيثُ انّ الاِمكان والافتقار لازم وجود الممكن، فالنظام الذي يتألّف من سلسلة العلل والمعلولات، يكون في وجوده وبقائه، وتأثيره وفعله، قائماً باللّه تبارك وتعالى، دون أن يتمتع باستقلال ذاتي واستغناء عنه، حدوثاً وبقاءً ، ذاتاً وفعلاً.

٢٢١

هذه هي نظرية الموحّد، وأمّا الماديّ فيعتقد بأصالة العلل الماديّة، واستقلالها في التأثير، من غير أن يسندها إلى واجب غني بالذات.

إنَّ الاعتقاد بأنّ النظام القائم مبني على العلل والاَسباب الطبيعية، مشتركٌ بين الاِلهيّ والماديّ، وإنّما يفترقان في القول بالتبعيّة والاَصالة، فمن جَعَل وجودهما وتأثيرهما تبعاً لوجود اللّه سبحانه وإرادته فهو إلهيّ موحّدٌ، ومن أضفى عليها طابع الاَصالة وصفة الاستقلال، فهو ماديٌّ منكرٌ لما وراء الطبيعة.

إنَّ قضية عدم استقلال العلل الطبيعية أو استقلالها هو الحدّ الفاصل بين التوحيد والشرك، وبه يتميّ-ز الموحّد عن المشرك.

فاللّه سبحانه يصف قوماً بالشرك لاَنّهم إذا واجهوا المشاكل المستعصية، توجّهوا إلى اللّه وإذا نجحوا عادوا إلى نسيانه، ويقول سبحانه:( وَإِذَا مَسّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوا رَبَّهُمْ مُنيبينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَريقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهمْ يُشْرِكُونَ ) (١)

والمراد من الشرك في الآية ليس العودة إلى عبادة الاَوثان، بل المراد أوسع من ذلك، فإنّ الكثيرين وإن كانوا موحّدين عادوا بعد انكشاف الضرّ عنهم إلى حالتهم الاُولى فنسوا اللّه سبحانه واعتمدوا على الاَسباب الطبيعيّة مُضفين عليها طابع الاَصالة وصفة الاستقلال، ولا شكّ أنّ النظر إلى الاَسباب العاديّة من هذه النافذة، هو شرك.

____________________

(١)الروم: ٣٣.

٢٢٢

فالمدرسة الاِلهيّة والمدرسة المادية، تشتركان في الاعتقاد بقانون العلّية والمعلولية، وتفترقان في التبعيّة والاَصالة.

ولا أرى أنّ أحداً يصف التوسّل بالاَسباب (بما أنّها قائمةٌ باللّه سبحانه وموَثّرة بإذنه ومشيئته) بالشرك، كيف وهذا هو أساس الحياة، وطبيعتها ونظامها.

إنَّ القرآن الكريم يصف ذا القرنين بقوله:( حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهما قَوماً لاَ يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً * قَالُواْ يَا ذَا الْقَرْنَيْن إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ في الاَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً * قَالَ مَا مَكَّنّي فيهِ ربّي خَيْرٌ فَأَعينُوني بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمَاً * ءَاتُوني زُبَرَ الحَدِيدِ حَتَّى إِذَا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُواْ حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قَالَ ءَاتوني أُفْرغْ عَلَيْهِ قِطْراً * فَمَا اسْطاعُواْ أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً * قَالَ هذا رَحْمَةٌ من رَبّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبّي حَقّاً ) (١)

إنَّ الاِمعان في هذه الآيات يقودنا إلى دروس عديدة في التوحيد نُشير إلى بعضها:

١- إنّ طلب العون من البشر لا يُنافي التوحيد، ولا يوجب الشرك، حتّى ولو فُسّرَ الشرك بأنّه عبارة عن التعلّق بغير اللّه سبحانه. فهذا هو ذو القرنين الذي يصف اللّه سبحانه مقامه ومنزلته بقوله:( إِنَّا مَكَّنّا لَهُ فِي

____________________

(١)الكهف: ٩٣ - ٩٨.

٢٢٣

الاَرْضِ وآتَيْناهُ مِنْ كُلّ شَيْء سَبَباً ) (١) قد استعان بالناس لبناء السدّ ولم يرَ القرآن ذلك مُنافياً للتوحيد ومُستلزماً للشرك فقال: (أَعينوني بِقُوّةٍ)

٢- إنّه توسّل في الاَمور الطبيعية بأسبابها وعلم أنّ سُنّته الحكيمة جرت على إيجاد المُسبّب بأسبابه فقال:( ءَاتُوني زُبَرَ الحَدِيدِ حَتَّى إِذَا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُواْ حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قَالَ ءَاتوني أُفْرغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٢) ) .

٣- صرّح بأنّ لتأثير هذه الاَسباب أمداً خاصّاً ينتهي بانتهاء قوتها، وما هذا إلاّ لاَنّ السبب موجودٌ ممكنٌ قائم باللّه سبحانه نافذ بتسبيبه وقد تعلّقت سُنته بفناء الاَشياء وانتهاء أمدها، وإليه أشار بقوله:( قَالَ هذا رَحْمَةٌ من رَبّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّاء ) (٣)

إنّ الاستغاثة بالاَحياء والاستعانة بهم أمرٌ جرت عليه سُنَّة العقلاء في جميع العصور والاَجيال، فهذا موسى الكليم - عليه وعلى نبيّنا السلام - استغاثه بعض شيعته فأجابه بدون أن يخطر بباله أنَّ الاستغاثة لا تجوز إلاّ باللّه سبحانه، قال عزَّ وجلَّ حاكياً تلك الواقعة:( وَدَخَلَ المَدينَةَ عَلَى حيِن غَفْلَةٍ مِنْ أهْلِها فَوَجَدَ فيها رَجلَيْنِ يَقْتَتِلان هَذَا مِن شِيعَتهِ وَهَذا مِن عَدُوّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضى عَلَيْهِ (٤) ) .

____________________

(١)الكهف: ٨٤.

(٢)الكهف: ٩٦.

(٣)الكهف: ٩٨.

(٤)القصص: ١٥.

٢٢٤

وما هذا إلاّ لاَنّ الذي من شيعته كان يعتقد بأنّ موسى لو أغاثه فإنّما يغيثه بقوّة وبإذن من اللّه سبحانه، ويدلّ عليه عدم ردع موسى له.

ثمّ إنّ هذا هو الذكر الحكيم - مع أنّه يحصر النصر باللّه بقوله:( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ العَزيزِ الحَكيمِ ) (١) يطلب النصر من الموَمنين ويقول عزَّ وجلّ:( يَا أَيُّها الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللّهَ يَنْصُرُكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدامَكُمْ (٢) ) .

كما ويمدح الاَنصار الذين آووا النبيّ ونصروه ويقول سبحانه:( الَّذينَ ءَاوَوْا وَنَصرُواْ أُولئِكَ بَعْضهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) (٣)

هذه الآيات وأمثالها تكشف عن أصل رصين تدور عليه رحى الحياة، وهو مشروعية التمسّك بالاَسباب الطبيعية وطلب النصر من الناس، والاستغاثة بهم بشرط أن يعتقد الطالب والمُستغيث أنّها أسبابٌ ووسائل غير أصيلة، قائمة باللّه سبحانه، نافذة بإذنه ومشيئته، وانّ ذلك بالتالي ليس بشرك.

إنّ الاستعانة بالناس والاستغاثة بهم لا يتنافى مع حصر الاستعانة باللّه في قوله:( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعينُ ) لاَنّ الاستعانة بهم (باعتقاد أنّه سبحانه هو الذي أمدَّهم بالقوّة فلو قاموا بعمل فإنّما يقومون به بحوله وقوّته سبحانه) يوَكّد حصر الاستعانة فيه عزّ وجلّ.

____________________

(١) آل عمران: ١٢٦.

(٢)محمّد: ٧.

(٣)الاَنفال: ٧٢.

٢٢٥

وإنّما يُنافي الحصر لو اعتقدنا بأنّ للاَسباب والوسائط أصالةً واستقلالاً في العمل والتصرّف، وهذا ممّا لا يليق أن يُنسب إلى موحّد أبداً.

إنّ القرآن حافلٌ بحصر أفعال باللّه سبحانه، فهو ينسبها إليه في صورة الحصر، ولكنّه يعود فينسبها في نفس الوقت إلى غيره وليس هناك تهافت وتضاد بين الاِسنادين والنسبتين لاَنّ المحصور باللّه سبحانه غير المنسوب إلى غيره.

يقول سبحانه:( إِيَّاكَ نَسْتَعينُ ) وفي الوقت نفسه يقول عزّ وجلّ( اسْتَعِينواْ بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ وَإِنّها لَكَبيرةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشِعينَ ) (١)

يقول سبحانه:( إِذَا مَرِضْتُ فَهُو يَشْفِينِ ) (٢) . وفي الوقت نفسه يقول تعالى:( يَخْرُجُ مِن بُطُونِها شَرابٌ مُختَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ ) (٣)

يقول سبحانه:( قُلْ للّهِ الشَّفاعَةُ جميعاً ) (٤) وفي الوقت نفسه يثبت الشفاعة للملك يقول:( كَمْ مِن مَلَكٍ في السَّماواتِ لا تُغْنِى شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى ) (٥)

إلى غير ذلك من الآيات الورادة في وفاة النفوس وكتابة الاَعمال ممّا أُسند فعله إلى اللّه بصورة الحصر وإلى غيره أيضاً، من غير تضاد أو تناقض لاَنّ الفعل المحصور باللّه هو غير المنسوب إلى غيره، فالصادر من اللّه يكون

____________________

(١)البقرة: ٤٥.

(٢)الشعراء: ٨٠.

(٣) النحل: ٦٩.

(٤)الزمر: ٤٤.

(٥)النجم: ٢٦.

٢٢٦

على سبيل الاَصالة (أي بقدرة ذاتية) والاستقلال (أي بإرادة ذاتية) والصادر عن غير اللّه يكون بقدرة غير أصيلة وإرادة غير مستقلة ولهذا لا يكون هناك تعارض أو تناقض.

وهذا هو حقّ التوحيد الذي أرشدنا إليه البرهانُ العقليّ والتدبّرُ في الذكر الحكيم.

هذا كلّه راجع إلى التوسّل بالاَسباب الطبيعية وقد عرفت أنّ التوسّل بها على وجهٍ لا يضرُّ بالتوحيد بل يوَيده ويوَكّده.

التوسّل بالاَسباب غير الطبيعية:

إنّ عالم الكون عالمٌ فسيحٌ لا يحيط الاِنسان بأسرارِه ودقائقِه، وإنّ ما اكتشفه الاِنسانُ من ذلك ليس سوى قدر ضئيل بالنسبة إلى ما خفي عليه، كيف وما أُوتي الانسان من العلم إلاّ قليلاً(١)

فهذا هو العالم الفيزيائي الذائع الصيت «اينشتاين» وقف عند درج صغير في أسفل مكتبته وقال: إنَّ نسبة ما أعلم إلى مالا أعلم كنسبة هذا الدرج إلى مكتبتي(٢) .

وعلى ضوء ذلك فللّه سبحانه في هذا العالم أسباب وعلل أُخرى لم يصل إليها البشر، اللّهمّ إلاّ الاَمثل فالاَمثل من الاَنبياء والاَولياء ممّن عرفوا

____________________

(١)اقتباس من قوله سبحانه:( ويَسْأَلونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحِ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتيتُمْ مِن العِلْمِ إِلاَّ قَليلاً ) الاِسراء: ٨٥.

(٢)مجلة رسالة الاِسلام العدد الاَول: السنة الرابعة وكان عليه أن يقول: إنّه أقل حتّى من هذه النسبة.

٢٢٧

الكتاب أو أُوتوا علماً منه(١)

إنَّ القرآن الكريم يصفُ عِجل السامريّ بقوله:( فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هَذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ ) (٢)

وبعد ما رجع موسى من الميقات ورأى الحال فسأل السامري عن كيفية عمله وأنّه كيف قدر على ما صنع فأجابه بقوله:( بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِن أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوّلَتْ لي نَفْسي ) (٣)

ففسَّ-ر عمله بأنّه أخذ قبضةً من أثر الرسول فعالج بها مطلوبهم، فأصبحَ العجلُ ذا خوار، وهذا ينتج أنّه توسّل بسبب غير مألوف ولا معلوم.

ومن - يا تُرى - هذا الرسول الذي أشار إليه، وما أثره، فهو بعد غير معلوم.

إنّ هذا البحث لم يكن مقصوداً بالذات، إنّما المقصود بالذات، هو الاِشارة إلى أنّ المسبّبات المعنوية، كتحصيل رضاء اللّه سبحانه والتقرّب منه لا يحصل أيضاً إلاّ بأسباب، فكما أنّ التعلّق بالاَسباب المادية لاَجل تحصيل مُسبَّباتها لا يُنافي أصل التوحيد، فهكذا الحال في الاَمور المعنوية فهي لا تحصل إلاّ بالتمسّك بأسبابها.

____________________

(١)إشارة إلى قوله عزَّ وجلّ:( وَقالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْم مِنَ الكِتابِ أنا ءَاتيك بِهِ قَبْلَ أن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) النمل: ٤٠.

(٢)طه: ٨٨.

(٣)طه: ٩٦.

٢٢٨

وإلى هذه الحقيقة يُشير قوله سبحانه حيث يقول:( يَا أيُّها الَّذِينَ ءَامَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسيلَةَ وَجاهِدُوا في سَبيلِهِ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (١)

فاللّه سبحانه حثَّنا للتقرّب إليه على التمسّك بالوسائل وابتغائها، والآية دعوة عامّة لا تختص بسببٍ دون سببٍ، بل تأمر بالتمسُّك بكلّ وسيلة توجب التقرّب إليه سبحانه. وعندئذ يجب علينا التتبع في الكتاب والسنّة، حتّى نقف على الوسائل المقرّبة إليه سبحانه، وهذا ممّا لا يعلم إلاّ من جانب الوحي، والتنصيص عليه في الشريعة، ولولا ورود النصّ لكان تسمية شيء بأنّه سببٌ للتقرّب، بدعةً في الدين، لاَنّه من قبيل إدخال ما ليس من الدين في الدين.

ونحن إذا رجعنا إلى الشريعة نقف على نوعين من الاَسباب المقرّبة إلى اللّه سبحانه:

(النوع الاَوّل): الفرائض والنوافل التي ندب إليها الكتاب والسنّة، ومنها التقوى، والجهاد الواردين في الآية، وإليه يُشير عليّ أمير الموَمنين -عليه‌السلام - ويقول: «إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون إلى اللّه سبحانه وتعالى، الاِيمان به، وبرسوله، والجهاد في سبيله، فإنّه ذروة الاِسلام، وكلمة الاِخلاص فإنّها الفطرة، وإقامة الصلاة، فإنّها الملّة، وإيتاء الزكاة فإنّها فريضة واجبة، وصوم شهر رمضان فإنّه جُنّة من العقاب، وحجّ البيت واعتماره فإنّهما، ينفيان الفقر، ويرحضان الذنب، وصلة الرحم فإنّها مثراة في المال، ومنسأة من الاَجل، وصدقة السرّ فإنّها تكفّر الخطيئة، وصدقة العلانية فإنّها تدفع ميتة

____________________

(١)المائدة: ٣٥.

٢٢٩

السوء، وصنائع المعروف فإنّها تقي مصارع الهوان»(١)

غير أنّ مصاديق هذا النمط من الوسيلة لا تنحصر في ما جاء في الآية أو في تلك الخطبة بل هي من أبرزها.

(النوع الثاني): وسائل ورد ذكرها في السنّة الكريمة، وحثّ عليها الرسول وتوسّل بها الصحابة والتابعون، وكلّها توجب التقرّب إلى اللّه سبحانه، وهذا هو الذي نتطلّبه في هذا الاَصل حتّى يُعلم أنّ الوسيلة لا تنحصر في الفرائض والمندوبات الرائجة بل هناك وسائل للتقرّب دلَّت عليها السنّة وهو التوسّل بالنبيّ الاَكرم على أشكاله المختلفة التي سنذكرها، فهذا علي -عليه‌السلام - يقول في وصفه: «اللّهمّ اعل على بناء البانين بناءه، وأكرم لديك نُزُلَه، وشرّف عندك منزله وآته الوسيلة وأعطه السناء والفضيلة واحشرنا في زمرته»(٢)

فإذا وقفنا على أنّ النبيّ هو الوسيلة المقرّبة إلى اللّه، فيجب علينا مراجعة السنّة لنطَّلع على كيفية التوسّل به فهي تبيّن لنا تلك الكيفية.

وإذا بلغ الكلام إلى هنا، فلا مناص من أن نبسط الكلام في بيان أقسام التوسّل، فإنّ للتوسّل أقساماً متنوّعة هي:

١- توسّل الموَمن إلى اللّه تعالى بأسمائه وصفاته، وقد ورد هذا النوع من التوسل في كثير من الاَدعية والروايات ولا حاجة للبيان، والتمثيل.

____________________

(١)نهج البلاغة، الخطبة: ١١٠.

(٢) المصدر نفسه: ١٠٦.

٢٣٠

٢- توسّل الموَمن إلى اللّه تعالى بأعماله الصالحة وقد ورد هذا النوع من التوسّل في الروايات، فقد روى البخاري ومسلم والنسائي عن أبي عمران: أنَّ رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - قال: بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم، يمشون إذ أصابهم مطر فآووا إلى غار فانطبق عليهم فقال بعضهم لبعض : إنّه واللّه يا هوَلاء لا ينجيكم إلاّ الصدق، فليدع كلّ رجل منكم بما يعلم أنّه قد صدق فيه فذكر كلّ واحد عملاً صالحاً أتى به للّه سبحانه، وكلّما ذكر واحد عمله، انساخت الصخرة قليلاً، حتّى إذا تمّ كلامهم فرّج اللّه عنهم فخرجوا(١)

فقد توسّل كل واحد من الاَشخاص المذكورين بعمله الصالح، واستجيبت دعوته ، ونجى من الهلكة.

٣- التوسّل بدعاء الموَمن ومن أبرز مصاديقه التوسّل بدعاء النبيّ الاَكرم وهذا ما حثّ عليه الذكر الحكيم ولم يختلف في جوازه اثنان، قال سبحانه:( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ جاءُوكَ فَاسْتَغْفَروا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَّحيماً ) (٢) .

وقال سبحانه حاكياً عن ولد يعقوب:( يا أَبانا اسْتَغفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنّا كُنّا خاطِئينَ * قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّي إِنَّهُ هُو الغَفُورُ الرَّحيمُ ) (٣)

وقال سبحانه مندّداً بتولّي المنافقين عن النبيّ والتوسّل بدعائه:( وَإِذا قيلَ لَهُمْ تَعالَواْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوّواْ رُوَوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ

____________________

(١)الدرّ المنثور ٤: ٢١٣ تفسير سورة الكهف.

(٢)النساء: ٦٤.

(٣)يوسف ٩٧- ٩٨.

٢٣١

يَصُدّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرونَ ) (١)

ولاَجل ذلك كان الصحابة والتابعون يتوسّلون بالنبيّ في تفريج الكُربات وتيسير العسير وإنزال الغيث إلى غير ذلك من المصاعب والمحن.

هذا كلّه ممّا لا يُناقش فيه أحد حتّى الوهابيون عامّة تبعاً لابن تيمية(٢) لقيام الاَدلّة الصريحة عليها، ووقوعها أكثر من مرّة بلا نكير ولا اشكال.

إنّما الكلام في التوسّل بدعاء النبي بعد وفاته، وهذا هو الذي حرَّمته الوهابية وربَّما وصفوه بالشركية، ولكن أين هو من الشرك؟ إذ كيف يمكن أن يكون طلب الدعاء من النبيّ في حال حياته عين التوحيد ويكون بعد وفاته عين الشرك، مع وحدة العملين من حيث الماهيّة والحقيقة؟!!

نعم لو كان هناك كلام واشكال في هذا المورد فليكن في كون هذا النوع من

____________________

(١)المنافقون: ٥.

(٢) مجموعة الرسائل والمسائل ١: ١٤.

٢٣٢

التوسّل مُفيداً أم لا، لا كونه مُنافياً للتوحيد ومُتلائماً مع الشرك، وتوضيح ذلك أنّ الطلب من غير اللّه إن كان شركاً فلا فرق أن يكون في حياته أو بعد مماته. نعم يمكن أن يدّعي أحد أنّه مفيد ومجدٍ في حال الحياة وغير مفيد ولا مجدٍ بعد الوفاة لكون المدعوّ ميّتاً، وهذا أمر آخر غير التوحيد والشرك.

وستعرف عند البحث عن حياة الاَنبياء وإمكان الاِتصال بهم، أنّه من التوسّلات المفيدة، إذ المفروض أنّهم أحياء، والمفروض أنّهم يسمعون كلامنا حسب ما يأتي من الروايات، وعلى ضوء ما ذُكر فلا مانع من هذا النوع من التوسّل، وأمّا إجابتهم، فهو موقوف على توفّر شروط الاِجابة كما هو الحال في طلب الدعاء في حال حياتهم، ويدل لفيف من الروايات على وقوع هذا النوع من الدعاء والطلب من النبيّ الاَكرم -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - بعد وفاته، ونحن نكتفي بروايتين:

١- ما رواه ابن عساكر في تاريخه وابن الجوزيّ في «مُثير الغرام الساكن» وغيرهما بأسانيدهم إلى محمّد بن حرب الهلالي قال: دخلت المدينة فأتيت قبر النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فزرته وجلست بحذائه وجاء اعرابيٌ فزاره ثمّ قال: يا خيرَ الرسل إنَّ اللّه أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه:( وَلَوْ أَنَّهمُ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ واسْتَغْفَرَ لَ-هُمْ الرَسُولُ لَوَجَدُوا للّهَ تَوّاباً رَحِيماً ) وإنّي جئتك مُستغفراً ربَّك من ذنوبي مُتشفّعاً بِكَ (وفي رواية: وقد جئتك مُستغفراً من ذنبي مُستشفعاً بك) إلى ربّي، ثمّ بكى وأنشأ يقول:

يا خير من دُفنت بالقاع أعظُمهُ

فطابَ من طِيبهنَّ القاعُ والاَكمُ

نفسي الفداءُ لِقبرٍ أنت ساكنُه

فيه العفافُ وفيهِ الجودُ والكَرَمُ

ثمّ استغفر وانصرف(١)

وقد رواه غير محمّد بن حرب.

٢- ما رواه البيهقيّ عن مالك قال: أصاب الناس قحط في زمان عمر ابن الخطاب، فجاء رجلٌ إلى قبر النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فقال: يا رسول اللّه، استسق اللّهَ لاُمّتك فإنّهم قد هَلَكوا، فأتاه رسول اللّه في المنام، وقال: إئت عمر فأقرئه

____________________

(١)وفاء الوفا ٤: ١٣٦١.

٢٣٣

السلام وأخبره أنّهم مُسقون(١)

فالحديث يكشف عن أنَّ التوسّل بدعاء النبيّ بعد رحلته كان رائجاً، ولو كان عملاً مُحرَّماً أو بدعة فلماذا توسّل هذا الرجل بدعائه، ولماذا بكى الخليفة بعد سماع كلامه كما ورد في ذيل الحديث؟

وقد روي في هذا النوع من التوسّل طائفة من الروايات مبثوثة في الكتب، وهي بين صحيحة السند وضعيفة السند لكنّها تشترك في اثبات شيوع هذا النوع من التوسّل بعد رحلة النبيّ الاَكرم -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم -

هذا مضافاً إلى أنّ هذه الروايات أصحَّت أسانيدها أم لا تكشف عن أمرين:

١- أنّ طلب الدعاء من النبيّ بعد رحلته لا يُنافي التوحيد وإلاّ لما فعله المسلمون الاَوائل.

٢- أنّ طلب الدعاء منه في هذه الحالة ليس أمراً محرَّماً.

وذلك أنّه لو كان التوسّل بدعاء النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - بعد رحلته شركاً، يوجب الخروج عن الدين أو أمراً محرّماً، يجب أن يتوب عنه المسلم، فلماذا قام كثير من المحدّثين بعد رحلته -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - بنقلها والاحتجاج بها؟!

أوَليس عاراً على محدّثٍ إسلامي أن ينقل في جامعه حديثاً عن النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - يشتمل على الشرك والاَمر المحرّم الواضح ولا يعلّق عليه بشيء.

ولنفترض أنّ بعض رواة هذه الاَحاديث قد وضع هذه الروايات لغاية

____________________

(١)دلائل النبوّة ج٧، باب ما جاء في روَية النبيّ في المنام: ٤٧.

٢٣٤

دنيوية، ولكن الواضع إنّما يضع الحديث لاَجل إلفات الناس إليه، ولو كان ذلك الاَمر موجباً للشرك أو الحرمة فالدواعي عن وضعها كانت مصروفة.

اذن فكثرة هذه الروايات ونقلها على مدى العصور تعرب عن أنّ نفس العمل (طلب الدعاء من النبيّ) كان أمراً توحيدياً مباحاً، وجاء الراوي ينقل المطلب على عفو الخاطر، فالروايات على كل تقدير حجّة في المقصود.

التوسّل بالاَنبياء والصالحين أنفسهم:

هذا قسم آخر من التوسّل يتضمَّن التوسّل إلى اللّه تبارك وتعالى بأنبيائه وخاصّة أوليائه، والسوَال منه بحقّهم وهو يتضمّن إحلافه سبحانه بحقّ أوليائه، وإن كان الاِحلاف غير مصرَّح به وقد مضت روايات هذا القسم عند البحث عن ملاك التوحيد والشرك غير أنّنا نوردها في المقام بملاك آخر وهو صحّة التوسّل وهذا القسم ممّا ينكره الوهابيون مع أنّه ورد في هذا المجال الاَحاديث الصحيحة وإليك البيان:

أ - توسّل الضرير بالنبيّ الاَكرم:

عن عثمان بن حنيف أنّه قال: إنّ رجلاً ضريراً أتى النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فقال: أُدع اللّه أن يُعافيني؟

فقال -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - : إن شئت دعوت وإن شئت صبرت وهو خير؟

قال: فادعه، فأمره -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - أن يتوضأ فيُحسن وضوءه ويصلّي ركعتين

٢٣٥

ويدعو بهذا الدعاء: «اللّهمّ إنّي أسألُكَ وأتوجّهُ إليك بنبيّك نبيّ الرحمة، يا محمّد إنّي أتوجَّه بكَ إلى ربّي في حاجتي لتُقضى، اللّهمّ شَفّعهُ فيّ».

قال ابن حنيف: «فواللّه ما تفرّقنا وطالَ بنا الحديث حتّى دخل علينا كأن لم يكن به ضرٌّ»(١) .

إنَّ الاستدلال بالرواية مبنيٌّ على صحَّتها سنداً وتمامية دلالتها مضموناً.

أمّا الاَوّل: فلم يناقش في صحّتها إلاّ الجاهل بعلم الرجال، حتّى أنّ ابن تيمية قال: قد روى الترمذي حديثاً صحيحاً عن النبيّ أنّه علَّم رجلاً أن يدعو فيقول: اللّهمّ إنّ-ي أسألك وأتوسّل إليك بنبيّك. وروى النسائي نحو هذا الدعاء(٢)

وقال الترمذي: هذا حديثٌ حقٌّ حسن صحيح.

وقال ابن ماجة: هذا حديثٌ صحيحٌ. وقال الرفاعيّ: لا شكَّ أنّ هذا الحديث صحيحٌ ومشهور(٣) وبعد ذلك فلم يبق لاَحد التشكيك في صحّة سند الحديث إنّما الكلام في دلالته وإليك البيان:

____________________

(١)مجموعة الرسائل والمسائل ١: ١٣.

(٢)التوصّل إلى حقيقة التوسّل : ١٥٨.

(٣) صحيح الترمذي ٥، كتاب الدعوات الباب ١١٩، برقم ٣٥٧٨ وسنن ابن ماجة ١ : ٤٤١ برقم ١٣٨٥، مسند أحمد ٤: ١٣٨ إلى غير ذلك.

٢٣٦

إنّ الحديث يدلُّ بوضوح على أنّ الاَعمى توسّل بذات النبيّ بتعليم منه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وذلك الاَعمى وإن طلب الدعاء من النبيّ الاَكرم في بدء الاَمر ولكن النبيّ علَّمه دعاء تضمَّن التوسّل بذات النبيّ، وهذا هو المهمّ في تبيين معنى الحديث. وبعبارة ثانية؛ إنّ الذي لا ينكر عند الاِمعان في الحديث أمران: الاَوّل: أنّ الراوي طلب من النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - الدعاء ولم يظهر منه توسّلٌ بذات النبيّ. الثاني: أنّ الدعاء الذي علّمه النبيّ، تضمَّن التوسّل بذات النبيّ بالصراحة التامّة، فيكون ذلك دليلاً على جواز التوسّل بالذات. وإليك الجمل والعبارات التي هي صريحة في المقصود.

١- اللّهمّ إنّ-ي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك: إنّ كلمة «بنبيّك» مُتعلّق بفعلين هما «أسألك» و «أتوجّه إليك» والمراد من النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - نفسه القدسية وشخصيته الكريمة لا دعاءه. وتقدير كلمة «دعاء» قبل لفظ «بنبيّك» حتى يكون المراد هو «أسألك بدعاء نبيّك أو أتوجّه إليك بدعاء نبيّك» تحكّم وتقدير بلا دليل. وتأويل دون مبرر ولو أنّ مُحدّثاً ارتكب مثله في غير هذا الحديث لرموه بالجهميّة والقدريّة.

٢٣٧

٢- محمّد نبي الرحمة: لكي يتّضح أنّ المقصود هو السوَال من اللّه بواسطة النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وشخصيته فقد جاءت بعد كلمة «بنبيّك» جملة «محمّد نبيّ الرحمة» لكي يتّضح نوع التوسّل والمتوسَّل به بأكثر ما يمكن.

٣- يا محمّد إنّ-ي أتوجّه بك إلى ربّي: إنّ جملة «يا محمّد إنّ-ي أتوجّه بك إلى ربّي» تدلّ على أنّ الرجل الضرير - حسب تعليم الرسول- إتّخذ النبيّ نفسه، وسيلةً في دعائه أي أنّه توسّل بذات النبيّ لا بدعائه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم -

٤- وشفّعه فيّ: إنّ قوله «وشفّعه فيّ» معناه يا ربّ إجعل النبيّ شفيعي وتقبّلشفاعتهفي حقّي، وليس معناه تقبّل دعاءه في حقّي، فإنّه لم يرد في الحديث أنَّالنبيّدعا بنفسه حتّى يكون معنى هذه الجملة: استجب دعاءه في حقّي. ولو كان هناك دعاءٌ من النبيّ، لذكره الرواي إذ ليس دعاوَه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - من الاَمور غير المهمة حتّى يتسامح الراوي في حقّه.

٢٣٨

وحتى لو فرضنا أنّ معناه «تقبّل دعاءه في حقّي» فلا يضرُّ ذلك بالمقصود أيضاً، إذ يكون على هذا الفرض هناك دعاءان: دعاء الرسول ولم ينقل لفظه، والدعاء الذي علّمه الرسول للضرير، وقد جاء فيه التصريح بالتوسّل بذات النبيّ وشخصه وصفاته، وليس لنا التصرّف في الدعاء الذي علّمه الرسول للضرير، بحجّة أنّه كان هناك للرسول دعاءٌ. إجابة عن سوَال: إنّ ابن تيمية احتمل أن يكون هذا الحديث من قبيل التوسّل بدعاء النبيّ الاَكرم، ولكنّه خلط بين الاَمرين أو الحالتين: الاُولى: المحاورة الابتدائية التي وقعت بين النبي والضرير، فكان الموضوع في هذه المحاورة هو: دعاء الرسول بلا شك، أي طلب الضرير الدعاء من النبيّ. الثانية: الدعاء الذي علّمه الرسول للضرير، فإنّه تضمّن التوسّل بذاتِ النبيّ. والتصرّف في هذا النصّ بحجّة أنّ الموضوع في المحاورة الاُولى هو الدعاء، تصرّف عجيب، فإنّ الاَعمى لم يدر في خلده في البداية سوى دعاء الرسول المُستجاب، ولكن الرسول علّمه دعاءً جاء في التوسّل بذات النبيّ، وقد عرفت تفصيله وتحليله.

٢٣٩

ب - التوسّل بالنبيّ بتعليم من الصحابيّ الجليل: روى الطبرانيّ عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف عن عمّه عثمان بن حنيف، أنَّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان (رض) في حاجةٍ له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف فشكى ذلك إليه فقال له عثمان بن حنيف: إئت الميضأة فتوضأ ثمّ إئت المسجد فصلّ فيه ركعتين ثمّ قل: «اللّهمّ إنّ-ي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّنا محمّد -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - نبيّ الرحمة يا محمّد إنّ-ي أتوجّه بك إلى ربّي فتقضي لي حاجتي» فتذكر حاجتك ورُحْ حتّى أروحَ معك. فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثمّ أتى باب عثمان بن عفان (رض) فجاء البوّاب حتّى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان (رض) فأجلسه معه على الطنفسة فقال: حاجتك؟ فذكر حاجته وقضاها له ثمّ قال له: ما ذكرت حاجتك حتّى كان الساعة. وقال: ما كانت لك من حاجة فاذكرها. ثمّ إنّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك اللّه خيراً ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليَّ حتّى كلّمتَه فيّ، فقال عثمان بن حنيف: واللّه ما كلّمته، ولكنّي شهدتُ رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وأتاه ضريرٌ فشكى إليه ذهاب بصره فقال له النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - : فتصبر؟ فقال: يا رسول اللّه ليس لي قائدٌ فقد شقّ عليّ. فقال النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - : أئت الميضأة فتوضأ ثمّ صلِّ ركعتين، ثمّ ادع بهذه الدعوات.

٢٤٠