في ظل أصول الإسلام

في ظل أصول الإسلام0%

في ظل أصول الإسلام مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 359

  • البداية
  • السابق
  • 359 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20744 / تحميل: 4854
الحجم الحجم الحجم
في ظل أصول الإسلام

في ظل أصول الإسلام

مؤلف:
العربية

قال ابن حنيف: فواللّه ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتّى دخل علينا الرجل كأنّه لم يكن به ضرّ قط(١) ج - توسّل الخليفة بعمّ النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - : إنّ سيرة المسلمين في حياة النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وبعدها، تعرب عن أنّهم كانوا يتوسّلون بأولياء اللّه والصالحين من عباده، دون أن يدور في خلد أحدٍ منهم بأنّه أمرٌ حرام أو شرك أو بدعة، بل كانوا يرون التوسّل بدعاء الصالحين طريقاً إلى التوسّل بمنزلتهم، وشخصيتهم، فإنّه لو كان لدعاء الرجل الصالح أثر فإنّما هو لاَجل قداسة نفسه وطهارتها، ولولاهما لما استجيبت دعوته، فما معنى الفرق بين التوسّل بدعاء الصالح وبين التوسّل بشخصه وذاته، حتّى يكون الاَوّل نفس التوحيد والآخر عين الشرك أو ذريعةً إليه. إنّ التوسّل بالصالحين والطيبين والمعصومين من الذنب والمخلصين من عباد اللّه لم يكن قط أمراً جديداً بين الصحابة بل كان ذلك امتداداً للسيرة الموجودة قبل الاِسلام، فقد تضافرت الروايات التأريخية على ذلك وإليك البيان: د - استسقاء عبد المطَّلب بالنبيّ وهو رضيع: لقد استسقى عبد المطلب بالنبيّ الاَكرم وهو طفل صغير، حتّى قال

____________________

(١)المعجم الكبير للحافظ سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني (٣٦٠) ٩: ١٦- ١٧، باب ما أُسند إلى عثمان بن حنيف برقم ٨٣١٠ والمعجم الصغير له أيضاً ١: ١٨٣ - ١٨٤.

٢٤١

ابن حَجَر: إنَّ أبا طالب يشير بقوله:

وأبيضُ يُستسقَى الغمامُ بِوجهِ * هِثمالُ اليَتامى عصمة للاَرامِلِ إلى ما وقَعَ في زمن عبد المطلب حيث استسقى لقريش والنبيّ معه غلام(١) ه- استسقاء أبي طالب بالنبيّ وهو غلام: اخرج ابن عساكر عن أبي عرفة، قال: قدمتُ مكّة وهم في قحط فقالت قريش: يا أبا طالب أقحَطَ الوادي وأجدب العيالُ، فهلمّ فاستسقِ، فخرج أبو طالب ومعه غلام - يعني: النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - كأنّه شمسُ دُجىً تجلّتْ عن سحابةٍ قَتماء، وحوله أغيلِمة فأخذه أبو طالب فألصقَ ظهره بالكعبة، ولاذ إلى الغلام وما في السماء قذعة، فأقبل السحابُ من هاهنا وهاهنا واغدقَ واغدودقَ وانفجرَ له الوادي وأخصبَ النادي والبادي وفي ذلك يقول أبو طالب:وأبيضُ يستسقى الغمامُ بوجهه * ثُمالُ اليتامى عصمةٌ للاَرامل(٢) وقد كان استسقاء أبي طالب بالنبي وهو غلام، بل استسقاء عبدالمطلب به وهو صبي أمراً معروفاً بين العرب، وكان شعر أبي طالب في هذه الواقعة ممّا يحفظه أكثر الناس.

____________________

(١)فتح الباري ٢: ٣٩٨ ودلائل النبوّة ٢: ١٢٦.

(٢)فتح الباري ٢: ٤٩٤ والسيرة الحلبيّة ١: ١١٦.

٢٤٢

ويظهر من الروايات أنّ استسقاء أبي طالب بالنبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - كان موضع رضا من رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فإنّه بعد ما بُعث للرسالة استسقى للناس، فجاء المطرُ وأخصب الوادي فقال النبيّ: «لو كان أبو طالب حيّاً لقرّت عيناه، مَن يُنشدنا قولَه» ؟ فقام عليّ -عليه‌السلام - وقال: يا رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - كأنّك أردتَ قوله:وأبيضُ يستسقى الغمامُ بوجهه * ثُمالُ اليتامى عصمةٌ للاَرامل(١) إنّ التوسّل بالاَطفال الاَبرياء في الاستسقاء أمرٌ ندب إليه الشرع الشريف، فهذا هو الاِمام الشافعي يقول في آداب صلاة الاستسقاء: وأُحبُّ أن يخرج الصبيانُ، ويتنظّفوا للاستسقاء وكبار النساء ومن لا هيئة له منهنّ، ولا أُحبُّ خروج ذوات الهيئة ولا آمر بإخراج البهائم(٢) وما الهدف من إخراج الصبيان والنساء الطاعنات في السن، إلاّ استنزال الرحمة بهم وبقداستهم وطهارتهم، وكلُ ذلك يعرب عن أنَّ التوسّل بالاَبرياء والصلحاء والمعصومين مفتاح استنزال الرحمة، وكأنّ المتوسّل بهم يقول: ربّي وسيدي إنّ الصغير معصومٌ من الذنب، والكبير الطاعن في السن أسيرُك في أرضك، وكلتا الطائفتين أحقّ بالرحمة والمرحمة، فلاَجلهم أنزل رحمتك إلينا، حتّى تعمّنا في ظلّهم. فإنّ الساقي ربّما يسقي مساحة كبيرة لاَجل شجرة واحدة وفي ظلّها

____________________

(١)إرشاد الساري ٢: ٣٣٨.

(٢)الاُم ١: ٢٣٠.

٢٤٣

تسقى الاَعشاب وسائر الخضروات غير المفيدة. وفي ضوء التحليل تقدر على تفسير توسّل الخليفة بعمّ الرسول: «العباس بن عبد المطلب» الذي سيمر عليك، وأنّه كان توسّلاً بشخصه وقداسته وصلته بالرسول وتعرف بالتالي انّ هذا العمل كان إمتداداً للسيرة المستمرة قبل هذا، وانّ هذا لا يمتُّ إلى التوسّل بدعاء العباس بصلة، وإنّما هو شيء اخترعه الوهابيون للحفاظ على موقفهم المسبق في هذه المسائل. و - التوسّل بعمّ النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - : ما تعرّفت عليه سابقاً كانت مقدمة لدراسة هذا الحديث الذي يرويه البخاري في صحيحه ويقول: «كان عمر بن الخطاب إذا قحطوا استسقى بالعبّاس بن عبد المطلب (رض) وقال: اللّهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا، وإنَّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا. قال : فيسقون»(١) هذا نصّ البخاري وهو يدلّ على أنَّ عمر بن الخطاب عند دعائه واستسقائه توسّل بعمّ النبيّ وشخصه وشخصيته وقداسته وقرابته من النبيّ، لا بدعائه ويدلّ على ذلك أُمور:

١- قول الخليفة عند الدعاء. قال: «اللّهمّ كنَّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا وإنَّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا» وهذا ظاهر في أنّ الخليفة قام بنفسه بالدعاء عند الاستسقاء، وتوسّل بعمّ الرسول في دعائه.

____________________

(١)صحيح البخاري، باب صلاة الاستسقاء ٢: ٣٢.

٢٤٤

ولو كان المقصود هو التوسّل بدعاء العباس لكان على الخليفة أن يقول: يا عمّ رسول اللّه كنّا نطلب الدعاء من الرسول فيسقينا اللّه والآن نطلب منك الدعاءَ فادعُ لنا.

٢- روى ابن الاَثير كيفية الاستسقاء فقال: استسقى عمر بن الخطاب بالعبّاس عام الرمادة لمّا اشتدّ القتل فسقاهم اللّهُ تعالى به، وأخصبت الاَرض، فقال عمر: هذا واللّه الوسيلة إلى اللّه والمكان منه، وقال حسان:سأل الاِمامُ وقد تتابع جَدبُنا * فسقى الغمام بغُرّةِ العبّاسِ عمّ النبيّ وصنوِ والدِهِ الذي * وَرِثَ النبيَّ بذاكَ دون الناسِ أحيى الاِلهُ به البلادَ فأصبحتْ * مُخضرَّة الاَجناب بعدَ اليأس ولمّا سقى الناس طفقوا يتمسَّحون بالعبّاس ويقولون: هنيئاً لك ساقيَ الحرمين(١) أمعنِ النظر في قول الخليفة: هذا واللّه الوسيلة.

٣- ويظهر من شعر حسان أنّ المُستسقي كان هو نفس الخليفة وهو الداعي حيث قال: «سألَ الاِمامُ ...» وكان العبّاسُ وسيلته لاستجابة الدعاء. وأظنّ أنّ هذه الروايات الصحيحة لا تُبقي شكاً ولا ريباً في نفس أحد

____________________

(١)الجزري: أُسد الغابة ٣: ١١١، طبعة مصر.

٢٤٥

في جواز التوسّل بأشخاص الصالحين وذواتهم فضلاً عن دعائهم، وإليك البحث في الاَقسام الاُخر للتوسّل. التوسّل بحقّ الاَنبياء والصالحين: إنّ من أقسام التوسّل، التوسّل بحقّ الاَنبياء الذي تفضل به سبحانه عليهم، فجعلهم أصحاب الحقوق، وأوجب على نفسه أداءها. وليس معنى ذلك أنّ للعباد، أو لبعضهم على اللّه حقّاً ذاتياً يلزم عليه تعالى الخروج والتحلّل منه، بل الحقّ كلّه للّه. وإنّما المراد هو المقام والمنزلة التي يمنحها سبحانه تكريماً لهم، وليس لاَحدٍ على اللّه حقٌّ إلاّ ما جعله اللّه عزَّ وجلّ حقّاً على ذمّته تفضلاً وتكريماً، قال سبحانه:( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المُوْمِنينَ ) (١) . ويدل على ذلك من الروايات ما رواه أبو سعيد الخدري: قال رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - : «ما خَرجَ رجل من بيته إلى الصلاة وقال: اللّهمّ أسألك بحقِّ السائلين عليك وبحقّ ممشاي هذا، فإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سُمعةً وخرجت اتّقاء سَخَطِك وابتغاءَ مَرضاتِك، فأسألك أن تُعيذني من النار وأن تغفرَ لي ذنوبي إنّه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت، إلاّ أقبل اللّه عليه بوجهه، واستغفر له سبعون ألف ملك»(٢) وما رواه عمر بن الخطاب، قال: قال رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - : «لمّا اقترف آدم

____________________

(١)الروم: ٤٧.

(٢)ابن ماجة ج١ باب المساجد: ٢٦١، ومسند أحمد ٣: ٢١.

٢٤٦

الخطيئة قال: ربّي أسألك بحقّ محمّد لما غفرت لي، فقال اللّه عزَّ وجلّ : ياآدم كيف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟ قال: لاَنّكَ لما خلقتني بيدكَ ونفختَ فيّ من روحك، رفعتُ رأسي فرأيت على قوائم العرشِ مكتوباً: لا إله إلاَّ اللّه محمّدٌ رسول اللّه ، فعلمت أنّك لم تضف إلى اسمك إلاّ أحبَّ الخلق إليك، فقالَ اللّه عزَّ وجلّ: صدقت يا آدم إنّه لاَحبُّ الخلقِ إليَّ وإذا سألتني بحقّه فقد غفرتُ لك ولولا محمّدٌ ما خلقتك»(١) وقد عرفت في الفصل المعقود لبيان ملاك التوحيد والشرك عند البحث عن احلافه سبحانه بحقّ أنبيائه حديث أنس بن مالك على وجه التفصيل وأنّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - قال عند دفن فاطمة بنت أسد: «اللّه الذي يُحيي ويميت وهو حيّ لا يموت إغفر لاُمّي فاطمة بنت أسد ولقِّنها حُجّتها ووسِّع عَليها مدخلها بحقِّ نبيّك والاَنبياء الذين من قبلي فإنّك أرحم الراحمين». والروايات الواردة في هذا المجال كما يمكن الاستدلال بها على جواز الاِحلاف يمكن أيضاً الاستدلال بها على جواز التوسّل بهم غير أنّ التوسّل مدلولٌ مطابقي والحلف مدلولٌ التزامي. التوسّل بمقام النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - ومنزلته وجاهه: إنّ هذا النوع من التوسّل ليس قسماً آخربل يرجع إلى التوسّل بحقّهم، بل التحقيق هو: أنَّ التوسّل ليس له إلاّ قسم واحد وهو توسيط قداسة

____________________

(١)دلائل النبوّة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة لاَبي بكر أحمد بن الحسين البيهقيّ (ت ٣٨٤ - م ٢٥٨) طبع دار الكتب العلمية ٥: ٤٨٩.

٢٤٧

النبيّ وشخصيته وحرمته عند اللّه تبارك وتعالى، حتّى يستجيب دعاء الاِنسان لاَجلها ولو كان لدعاء النبيّ أثر هو الاجابة فإنّما هو في ظل قداسته وشخصيته. وهناك كلمة قيّمة للشيخ محمّد الفقي في هذا الصعيد نأتي بنصّها: يمتاز الاَنبياء والرُسل عن سواهم بمميزات لها خطورتها وعظم شأنها، ويتمتعون بخصوصيات تجلُّ عن التقدير والتعبير، فهم يتفاوتون عن الخلائق بشتى الخوارق، ويختصون بأنواع رائعة من المعجزات وأسمى المقامات:( ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُوَتِيهِ مَن يَشاء واللّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ ) (١)

والذي وهبهم هذه العطايا وأنعم عليهم بهذه الامتيازات، كتب لهم في سجلّ الحوائج قضاء ما يطلبون، وما يرجون لاَنَّهم رُسله إلى خلقه يُلجأ إليهم عند الشدائد، ويُستغاثُ بهم في الملمّ-ات في الحياة، إجماعاً بين المسلمين حتّى الوهابية ومن بعدها حسب ما دلّت عليه الاَحاديث واستفاضت الاَخبار. كيف يشك إنسان في جواز التوسّل بهم والاستغاثة عند المُلمّ-ات مع أنّ الاَنبياء يستغيثون بالنبيّ الاَكرم يوم تذهلُ كل مُرضعة عمّ-ا أرضعت، وتضعُ كلّ ذات حمل حملها، وترى الناسَ سُكارى وما هم بسكارى. فتطلب الخلائق في هذا الموقف من الاَنبياء إغاثتهم، والاستشفاع بهم، فيحيلونهم كلٌ بدوره إلى خير شفيعٍ، وأعظم مُغيث فيقصدون كعبة الشفاعة وقبلة الاِغاثة، فيستجيب لرغباتهم ويسارع لاِغاثتهم وإنقاذهم ويهمّ

____________________

(١)الحديد: ٢١.

٢٤٨

لمرضاتهم بما عُهد فيه من فضل وما عُرف عنه من كرم. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه: «أنا سيدُ الناس يوم القيامة. هل تدرون مِمَّ ذلك؟ يجمع اللّه الاَوّلين والآخرين في صعيدٍ واحدٍ فيبصرهم الناظرُ ويسمعهم الداعي وتدنو الشمسُ من جماجم الناسِ فيبلغُ الناسَ من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناسُ: ألا ترون إلى ما أنتم فيه؟ ألا ترون إلى ما بلغكم؟ ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربّكم؟ فيقول بعضُ الناس لبعض: أبوكم آدم، فيأتونه فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر خلقك اللّهُ بيدِه ونفخ فيك من روحِهِ وأمر الملائكة فسجدوا لك وأسكنك الجنّة ألا تشفع لنا إلى ربّك؟ ألا ترى ما نحنُ فيه ما بلغنا؟ فيقول: إنّ ربّي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبلَه مثله ولا يغضب بعده مثله، وإنّه نهاني عن الشجرة فعصيتهُ. نفسِ-ي نفسِ-ي نفسِ-ي. اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً - عليه الصلاة والسلام - فيقولون: يا نوحُ أنتَ أوّل الرسل بُعثتَ إلى أهل الاَرض وقد سمّ-اك اللّه عَبداً شكوراً ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما بَلَغنا؟ ألا تشفع لنا إلى ربّك (الحديث). وفيه أنّهم - صلوات اللّه عليهم أجمعين - يحيلون الناس إلى سيّد الرُسل والخلق، فيأتونه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فيقولون: يامَن أنتَ رسولُُ اللّه وخاتم الاَنبياء وقد غَفَرَ اللّه لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخّر، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ إشفع لنا إلى ربّك. قال: فانطلقُ فآتي تحت العرش فأقعُ ساجداً إلى ربّي، ثمّ يفتحُ اللّه عليّ من محامدِهِ وحُسن الثناء عليه شيئاً لم يفتح على أحدٍ قبلي. ثمّ يُقال: يا

٢٤٩

محمّد إرفع رأسك واشفَع تُشَفَّعْ، فأرفعُ رأسي فأقولُ: ياربِّ أُمّتي يا ربّ أُمّتي، يا ربّ أُمّتي...»(١) .

إنّ التوسّل بالاَنبياءِ والاَولياءِ ليس بملاك جسمانيّتهم فإنّهم وغيرهم في ذلك المجال سواسية، وإنّما يُتوسّل بهم بروحانيتهم العالية وهي محفوظةٌ في حال الحياة وبعد الارتحال إلى البرزخ وإلى الآخرة. فالتفريق في التوسّل بين الحياة والممات تنشأ من نظرة مادية تعطي الاَصالة للجسم والمادة ولا تُقيم للمعنى والروحانية وزناً ولا قيمة. فالنبيّ الاَكرم مدار الفضائل والكمالات وهو يتمتع بأروع الكرامات وكلّها ترجع إلى روحانيته ومعنويته القائمة المحفوظة في جميع الحالات. فما هذا التفريق بين الحياة المادية والبرزخية والاُخروية؟ فمن اتّخذ الاَنبياء والاَولياء وغيرهم ممن باتوا لربّهم سجداً وقياماً أسباباً حال حياتهم أو بعد مماتهم، وسائل لقضاء حوائجهم ووسائط لجلب الخير ودفع الشر، لم يحيدوا عمّ-ا تهدف إليه الشريعة ولم يتجاوزوا الخطَّ المشروع ولم يتعدّوا مقصود الرسالة النبويّة وغاياتها. فالاَسباب لا يمكن إنكارها، ولا يُعقل تجاهلُها، ولا يتأتّى جحودها لاَنّه تعالى هو الذي خَلَقَ الاَسباب والمسبّبات ورتَّب النتائج على المقدَّمات، فمن تمسّك بالاَسباب فقد تمسَّك بما أمر اللّه سبحانه(٢) إلى هنا تمّ بيان أقسام التوسّل ودلائل جواز الجميع.

____________________

(١)صحيح البخاري ٦: ١٠٦، صحيح مسلم ١:١٣٠، مسند أحمد ٢: ٤١٢.

(٢)التوسّل والزيارة للشيخ محمّد الفقي المصري : ١٦١.

٢٥٠

١٠- ١- حياة الاَنبياء والاَولياء بعد الرحيل

٢- إمكان الاتّصال بهم وإسماعهم

حياة الاَنبياء والاَولياء.

الاَحاديث الدالة على حياة الاَنبياء.

امكان الارتباط بالاَرواح المقدسة.

النبي صالح يخاطب قومه الهالكين.

مخاطبة النبي شعيب قومه الهالكين.

أمر النبي بمكالمة الاَنبياء.

الاَحاديث وامكان الارتباط بالاَرواح.

شبهات ثلاث وأجوبتها.

توسّل السلف دليل على امكان الارتباط.

أ - حياة الاَنبياء والاَولياء:

إنَّ الموت ومفارقة الروح للبدن من سنن اللّه الحكيمة التي كتبها على كلّ إنسان، فلا محيص من الموت ولا مفرَّ منه.

٢٥١

قال سبحانه:( كُلّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الموت ) (١)

وقال سبحانه:( إِنَّكَ مَيّتٌ وإِنَّهُمْ مَيّتُون ) (٢)

وهذا الاَمر من القضايا الواضحة التي لا يشك فيها أحد، ولا يحتاج إلى برهنة.

إنّما الكلام هو في حقيقة الموت، فهل الموت انعدام وفناء مطلق، وصيرورة الشيء كأن لم يكن شيئاً مذكوراً أو أنَّه انتقال من دار إلى دار أُخرى، ومن عالم إلى عالم آخرٍ؟

وبعبارة أُخرى، هل الموت هو فناءٌ أو هو خروج الروح من البدن المادي العنصري، وتعلّقه ببدن آخر يناسبه، ويلائمه؟

الماديّون المنكرون لعالم الاَرواح، والنافون لما وراء الطبيعة على الاَوّل، فهم يعتقدون أنّ في الموت فناء الاِنسان وضلاله في الاَرض بحيث لا يبقى شيء من بعد ذلك، إلاّ الذرات الماديّة المبعثرة في الطبيعة، ولهذا لا يُمكن إعادة الشخصية البشرية، إذ ليس هناك شيء متوسّط بين المبتدأ والمعاد.

والاِلهيون على الثاني، وأنّ الموت خروج الروح من البدن العنصري وتعلّقه ببدن آخر يناسبه، وهو أمر يدعمه كتاب اللّه الاَكبر، ويدلّ عليه بأوضح دلالة، ويفنّد دليل المشركين القائلين:( أإذا ضَلَلْنَا في الاَرضِ أَإنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) بقوله:( قُل يَتَوفّاكُمْ مَلَكُ الموتِ الذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمّ إلى

____________________

(١)آل عمران: ١٨٥.

(٢)الزمر: ٣٠.

٢٥٢

رَبِّكُمْ تُرْجعُون ) (١) .

ومعنى الآية هو أنّ الموت ليس ضلالاً في الاَرض وأنَّ الشخصية الاِنسانية ليست هي الضالة الضائعة في ثنايا التراب، إنّما الضال في الاَرض هو أجزاء البدن العنصري المادي، فهذه الاَجزاء هي التي تتبعثر في الاَجواء والاَراضي، ولا يشكّل البدن حقيقة الشخصية الاِنسانية، ولا مقوّماً لها، وإنّما واقعيتها هي نفس الاِنسان، وروحه، وهي لا ينتابها ضلالٌ، ولا يطرأ عليها تبعثر، بل يأخذها( يَتَوفّاكُم مَلَكُ الموت الذي وُكّلَ بِكُمْ ثَّمَ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون )

ويتجلّى معنى الآية بوضوح إذا عرفنا أنَّ التوفّي في الآية يعني الاَخذ في مثل قوله سبحانه:( اللّهُ يتَوفّى الاَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها والَّتي لَمْ تَمُتْ في مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتي قَضى عَلَيْها المَوتَ ويُرْسِلُ الاَخرى إلى أَجَلٍ مُسَمًّى إنَّ في ذَلِكَ لآياتٍ لِقَومٍ يَتَفَكّرُونَ ) (٢)

والمعنى: هو أنّ اللّه يقبض الاَنفس ويأخذها في مرحلتين: حين الموت، وحين النوم، فما قضى عليها بالموت أمسكها ولم يردها إلى الجسد، وما لم يقض عليها بالموت أرسلها إلى أجل مسمّى.

كل ذلك يكشف عن أنّ الموت ليس علامة الفناء وآية العدم بل هناك انخلاع عن الجسد، وارتحال إلى عالم آخر، ولولا ذلك لما كانت الآية جواباً على اعتراض المشركين، ورداً على زعمهم.

____________________

(١)السجدة: ١٠ -١١.

(٢)الزمر: ٤٢.

٢٥٣

وليست هذه الآية نسيجة وحدها في هذا المجال، بل هناك آياتٌ أُخرى تصرّح بحياة لفيفٍ من الموَمنين والكافرين، ولا ينكر دلالة القرآن على هذه الحقيقة إلاّ من اتّخذ موقفاً مسبقاً في المقام.

قال سبحانه:( ولا تَحْسَبَنَّ الَّذينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون * فَرِحينَ بِما ءَاتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهمْ مِنْ خَلْفِهِمْ ألاّ خَوفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُون * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وأنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أجرَ الموْمِنين ) (١)

ودلالة الآية واضحة لا تحتاج إلى مزيد بيان.

هذا حبيب النجّار قد صدق المرسلين، ولقي من قومه أذى شديداً حتى قضى نحبه عندما ارتحل إلى العالم الاُخروي فلما( قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةِ قالَ يَا لَيْتَ قُومِي يَعْلَمُونَ * بِما غَفَرَ لي ربّي وَجَعَلَني مِنَ المُكَرَمِين ) (٢)

إنَّه يتمنَّى في ذلك الحال لو أنَّ قومَه الموجودين في الدُنيا علموا بما أعطاه تعالى من المغفرة، وجزيل الثواب ليرغبوا في مثله وليوَمنوا، لينالوا ذلك(٣)

ومن المعلوم أنّ دخول الجنَّة والتمنّي هذا كان قبل قيام الساعة، ويدلّ على ذلك قوله تعالى في الآية اللاحقة:( وَمَا أَنْزَلْنا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنْ السَّماءِ ) الصريح في أنَّهم قُتلوا بعده بالصيحة. وبالتالي فإنّ المراد

____________________

(١)آل عمران : ١٦٩- ١٧١.

(٢)يس: ٢٦- ٢٧.

(٣)مجمع البيان ٨: ٤٢١.

٢٥٤

بالجنَّة هو جنَّة البرزخ دون جنَّة الآخرة(١)

وإذا كان الشهداء والصالحون أمثال حبيب النجار المصدّق للرسل أحياءٌ يرزقون، فكيف ظنّك بالاَنبياء والصدّيقين المتقدمين على الشهداء برتبتين، قال سبحانه:

( وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ والرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبيّينَ والصدّيقِينَ والشّهَداءِ والصّالِحينَ وحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقا ) (٢)

فلو كان الشهيد حيّاً يرزق، فالرسولُ الاَكرم الذي ربّى الشهداء، واستوجب لهم تلك المنزلة العليا، أولى بالحياة بعد الوفاة، وبعده الصدّيقون.

على أنَّ الحياة بعد الموت ليست مختصةً بالاَنبياء، والصدّيقين والشهداء، بل يصرّح الذكر الكريم أنّ روَوس الكفر والنفاق هم أيضاً أحياءٌ بعد مفارقة أرواحهم لاَبدانهم ولكن معذّبين بعد الموت، قال اللّه سبحانه:

( وحَاقَ بآلِ فِرعَوْنَ سُوءُ العَذابِ * النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيها غُدُوّاً وَعَشِيّا وَيَومَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُواْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذاب ) (٣)

ترى أنّ الذكر الحكيم يصوّر حالهم قبل قيام الساعة، وبعده فهم يُعرضون على النار قبل القيامة، بينما يُطرحون فيها بعد قيامها.

____________________

(١)تفسير الميزان ١٤: ٣٣٥.

(٢)النساء : ٦٩.

(٣)غافر: ٤٥ - ٤٦.

٢٥٥

إنّ اللّه سبحانه يذكر أنَّ قوم نوح الذين تخلّفوا عن سفينته ولم يركبوها، غرقوا وأُدخلوا ناراً:

( ممّا خَطيئاتهمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَم يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْصاراً (١) ) .

فالنار التي دخلوها، ليست النار الاَُخروية لاَنَّهم إنّما يدخلونها بعد قيام القيامة.

هذه الآيات ونظائرها توقف من يُمعن النظر فيها على أنّ الموت ليس بمعنى الفناء والانعدام، بل هو انتقالٌ من عالمٍ إلى عالمٍ آخر، ومن دار إلى أُخرى.

وهناك كلمة للاِمام الحسين -عليه‌السلام - تكشف فيها عن هذه الحقيقة إذ يقول:

«صبراً يا بني الكرام فما الموت إلاّ قِنطَرَة تعبرُ بكم عن البوَس والضراءإلى الجنان الواسعة والنعمِ الدائمةِ، فأيّكم يكرهُ أن ينتقل من سجنٍإلى قصرٍ، وما هو لاَعدائكم إلاّ كمن ينتقل من قصرٍ إلى سجن وعذاب إنَّ أبي حدثني عن رسول اللّه أنّ الدنيا سجن الموَمن وجنَّة الكافر، والموتُ جسر هوَلاء إلى جنانهم، وجسر هوَلاء إلى جحيمهم، ما كَذبتُ ولاكُذبتُ»(٢)

____________________

(١)نوح: ٢٥.

(٢)كامل الزيارات: ٣٧.

٢٥٦

وعلى هذه العقيدة علماء الاِسلام أجمعون، فهذا الاِمام الاَشعري شيخُ الاَشاعرة وموَسّس مذهبهم يقول: ومن عقائدنا أنّ الاَنبياء -عليهم‌السلام - أحياء في قبورهم. وقد ألّف كتاباً أسماه «حياة الاَنبياء»(١)

وقد نصّ بذلك أبو القاسم القشيري في كتابه «شكاية أهل السنّة» الذي جاء به تاج الدين عبد الوهاب السبكي في طبقات الشافعية وقال:

فأمّا ما حُكي عنه وعن أصحابه أنَّهم يقولون أنَّ محمداً -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - ليس بنبيّ في قبره ولا رسول بعد موته، فبهتانٌ عظيمٌ وكذبٌ محضٌ لم ينطِق منهم أحدٌ، ولا سُمِعَ في مجلس مُناظرة ذلك عنهم، ولا وُجِدَ ذلك في كتابٍ لهم، وكيف يصح ذلك وعندهم محمّد -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - حيٌّ في قبره، قال اللّه تعالى:

( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهمْ يُرْزَقُون ) (٢) .

فأخبر سبحانه بأنَّ الشهداء أحياءٌ عند ربّهم، والاَنبياء أولى بذلك لتقاصُر رتبةِ الشهيد عن درجة النبوّة قال اللّه تعالى:

( فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيينَ والصِدّيقِينَ والشُهَداءِ والصّالِحِينَ ) (٣) فرتبة الشهداء ثالث درجة النبوة، ولقد وردت الاَخبار الصحيحة والآثار المروية بما تدلّ الشهادة على هذه الجملة.

____________________

(١)طبقات الشافعية ٣: ٤٠٦ والتعبير ب- : في قبره تعبير مجازي كما لا يخفى.

(٢)آل عمران: ١٦٩.

(٣)النساء: ٦٩.

٢٥٧

الاَحاديث الدالّة على حياة النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - :

قال رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - :

١- «إنَّ للّه تعالى ملائكةً سياحينَ في الاَرض تبلّغني عن أُمّتي السلام» ومن المعلوم أنَّه لا يُبلَّغ السلام إلاّ إذا كان حيّاً.

٢- «ما من نبىٍّ يموتُ فيقيمُ في قبره إلاّ أربعين صباحاً حتّى تُردّ إليه روحُه».

٣- «ما من أحدٍ يسلّم علي إلاّ ردّ اللّهُ عزَّ وجلّ عليَّ روحي حتى أردَّعليه‌السلام ».

٤- «مَن صَلّ-ى عليَّ عند قَبري سمعتهُ ومن صلّ-ي عليّ نائياً أبلغته».

٥- «أتيتُ على موسى ليلةَ أُسري بي عند الكثيب الاَحمر وهو قائمٌ يصلّ-ي في قبره».

٦- «الاَنبياء أحياءٌ في قبورهم يُصلّون».

٧- «صلّوا عليّ فإنَّ صلاتكم تبلغني حيث كُنتم».

٨- «من زارني بعد وفاتي وسلَّم عليّ رددتُ -عليه‌السلام - عشراً وزارَهُ عشرةٌ من الملائكة كلُهم يسلّمون عليه ومن سلَّم عليّ في بيته ردّ اللّه عليَّ روحي حتى أُسلّم عليه»(١)

إلى غير ذلك من الاَحاديث والروايات المصرّحة بأنّ النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - حيٌّ بعد وفاته يسمعُ سلام المسلّمين عليه ويرد عليهم.

____________________

(١)راجع سنن أبي داود ٢: ٢١٨ وكنز العمال ١٠: ٣٨١ وطبقات الشافعية ٣: ٤٠٦- ٤٠٨.

٢٥٨

ب - إمكان الاتّصال بالاَرواح المقدسة:

إنّ إثبات حياة الاِنبياء إحدى المقدمات التي يتوقف عليها ما نتوخّاه من هذا الاَصل كما سيوافيك بيانه بل الاستنتاج يتوقف على مُقدمة أُخرى، وهي إمكان اتّصال الاِنسان العائش في الدنيا بالاَرواح المقدسة المتواجدة في عالم البرزخ، وهذا وإن أثبتته العلوم النفسية بعد تجارب كثيرة، لكنّنا نستدلّ عليه من طريقي الكتاب والسنّة، ونعتبر التجربة عامل دعم لهذه النظرية.

إنَّ نصوص الكتاب والسنّة تضافرت على إمكان اتصال الاِنسان العائش في الدنيا بالاِنسان العائش في عالم البرزخ يمكن استظهار ذلك من بعض الآيات:

١- النبيّ صالح يخاطب قومه الهالكين:

أخبر اللّه تعالى في القرآن الكريم عن النبي صالح -عليه‌السلام - أنّه دعا قومه إلى عبادة اللّه، وترك معجزته (الناقة) وعدم مسّها بسوء ولكنّهم عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربّهم:

( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهْم جاثِمِينَ * فَتَوَلّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ ربّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبّونَ النّاصِحِين ) (١)

ترى أنَّ اللّه يخبرُ على وجه القطع والبت بأنَّ الرجفة أهلكت أُمّة صالح

____________________

(١)الاَعراف: ٧٨ - ٧٩.

٢٥٩

-عليه‌السلام - فأصبحوا في دارهم جاثمين وبعد ذلك يُخبر أنَّ النبيّ صالحَ تولّى عنهم ثُمّ خاطبهم قائلاً:( لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ ربّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبّونَ النّاصِحِين )

والخطاب صَدَرَ من صالح لقومه بعد هلاكهم، وموتهم بشهادة جملة «فتولّ-ى» المصدَّرة بالفاء المُشْعِرة بصدور الخطاب عقيب هلاك القوم.

ثمّ إنّ ظاهر قوله:( وَلَكِنْ لا تُحِبّونَ النّاصِحِين ) يُفيد أنَّهم بلغت بهم العُنجهية أن كانوا لا يحبُّون الناصحين حتى بعد هلاكهم.

٢- مخاطبة النبيّ شعيب قومه الهالكين:

لم تكن قصةُ النبي صالح هي القصة الوحيدة من نوعها في القرآن الكريم، فقد تبعه في ذلك «شعيب» إذ خاطب قومه بعد أن عمَّهم الهلاك قال سبحانه:

( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا في دارِهمْ جاثِمِينَ * الَّذينَ كَذَّبُوا شُعيباً كأنَّ لَمْ يَغْنَوْا فِيها الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الخاسِرِنَ * فَتَولّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ ربّي ونَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءَاسى عَلى قَوْمٍ كافِرِين ) (١)

وهكذا يخاطب شُعيب قومه بعد هلاكهم ويكون صدور هذا الخطاب بعد هلاكهم بالرجفة.فلو كان الاتصال غير ممكنٍ، وغير حاصلٍ، ولم يكن

____________________

(١)الاَعراف : ٩١- ٩٣.

٢٦٠