في ظل أصول الإسلام

في ظل أصول الإسلام0%

في ظل أصول الإسلام مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 359

  • البداية
  • السابق
  • 359 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20741 / تحميل: 4854
الحجم الحجم الحجم
في ظل أصول الإسلام

في ظل أصول الإسلام

مؤلف:
العربية

الهالكين بسبب الرجفة سامعين لخطاب صالح وشعيب فما معنى خطابهما لهم؟

أيصح أن يُفسّر ذلك الخطاب بأنَّه خطاب تحسُّرٍ وإظهار تأسّفٍ؟

كلا ، إنّ هذا النوع من التفسير على خلاف الظاهر، وهو غير صحيح حسب الاُصول التفسيرية وإلاّ لتلاعب الظالمون بظواهر الآيات وأصبح القرآن الكريم لعبةً بيد المغرضين، يفسّ-رونه حسب أهوائهم وأمزجتهم.

على أنّ مخاطبة الاَرواح المقدّسة ليست أمراً ممتنعاً في العقل حتّى تكون قرينةً عليه.

٣- أمر النبي بالتكلّم مع الاَنبياء:

جاء في الذكر الحكيم قوله تعالى لنبيه:

( وَاسْألْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحمنِ ءَالهة يُعْبَدونَ ) (١) .

ترى أنّ اللّه سبحانه يأمر النبي الاَكرم بسوَال الاَنبياء الذين بعثوا قبله، ومن التأويل الباطل إرجاعها إلى سوَال علماء أهل الكتاب استظهاراً من قوله سبحانه:( فَإنْ كُنْتَ في شَكٍّ مِمّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْألِ الَّذِينَ يَقرَءُونَ الكتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الحقُّ مِنْ رَبّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَ-رِينَ * وَلا تَكُونَّنَ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بآياتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الخَاسِرِينَ ) (٢)

____________________

(١)الزخرف: ٤٥.

(٢)يونس: ٩٤- ٩٥.

٢٦١

وقوله سبحانه:( فَاسأَلْ بَني إسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرعَونَ إنّي لاَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً ) (١)

وَوجهُ البُطلان هو: أنَّ الخطاب في الآية الاُولى وإن كان مُتوجهاً إلى النبي لكنَ المقصود هو الاُمّة بقرينة قوله:( ولا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ ) و( وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا )

ومثلها الآية الثانية فالخطاب وإن كان للنبي وأمره سبحانه بأن يسأل بني إسرائيل عن الآيات النازلة إلى موسى، ولكنّه من قبيل «إياك أعني واسمعي يا جارة» والنبيّ أجلّ وأعظم من أن يشكل عليه شيء، ويسأله من علماء بني إسرائيل.

هاتان الآيتان راجعتان إلى سوَال الاُمّة من علماء بني إسرائيل وقرّاء كتبهم، وهذا بخلاف قوله:( اسْأَل مَنْ أرْسَلْنَا مِنْ قَبِلَكَ مِنْ رُسُلِنا ) فإنّه خطاب للنبي حقيقةً.

وأمّا ما هو الوجه في سوَال الاَنبياء في مجال التوحيد( أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحمنِ ءَالهَة يُعبَدُون ) فلا نعرفه، وقد تضافرت الروايات على أنّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - تكلّم مع الاَنبياء السالفين ليلة المعراج.

هذا هو ما يرشدنا إليه الوحي في مجال امكان ارتباط الاَحياء بالاَرواح.

وأمّا السنَّة الدالّة على إمكان اتّصال الاَحياء بالاَرواح المقدسة فأحاديثها أكثر من أن تحصى.

____________________

(١)الاِسراء: ١٠١.

٢٦٢

الاَحاديث وإمكان الارتباط بالاَرواح:

١- روي عن النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - أنَّه وقف على قليب «بدر» وخاطب المشركين الذي قُتلوا وأُلقيت جثثهم في القليب:

«لقد كُنتم جيران سوء لرسول اللّه، أخرجتموه من منزلِهِ وطردتموه، ثمّ اجتمعتُم عليه فحاربتموه فقد وجدتُ ما وعدني ربّي حقاً»

فقال له رجلٌ: يا رسول اللّه ما خطابُك لهامٍ قد صديت؟ فقال -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - :

«واللّه ما أنتَ بأسمع منهم، وما بينهم وبين أن تأخذهم الملائكة بمقامع من حديد إلاّ أن أعرض بوجهي - هكذا - عنهم»(١)

٢- روي أنَّ الاِمام علياً بعد أن وضعت الحرب في معركة الجمل أوزارها مرَّ على كعب بن سور وكان قاضي البصرة فقال لمن حوله:

«أجلسوا كعبَ بن سور» فأجلسوه بين شخصين يُمسكانه - وهو صريعٌ - فقال -عليه‌السلام - :

«يا كعب بن سور قد وجدت ما وَعَدَني ربّي حقّاً فهل وجدتَ ما وَعَدكَ حقّاً» ؟ ثمّ قال:

«أضجعوه» ثمّ سار قليلاً حتّى مرَّ بطلحة بن عبد اللّه صريعاً فقال:

____________________

(١)صحيح البخاري ٥: باب قتل أبي جهل : ٧٦ وسيرة ابن هشام ٢: ٢٩٢.

٢٦٣

«أجلِسوا طلحة» فأجلسوه، فقال -عليه‌السلام - :

«يا طلحة قد وجدتُ ما وعَدَني ربّي حقّاً فهل وجدت ما وعَدَك ربّي حقّاً» ثم قال:

«أضجعوا طلحة» فقال له رجل:

«يا أمير الموَمنين ما كلامك لقتيلين لا يسمعان منك»؟ فقال -عليه‌السلام - :

«يا رجل واللّه لقد سمعا كلامي، كما سَمِعَ أهلُ القَلِيبِ كلامَ رسول اللّه»(١)

ثمّ إنَّ المسلمين - على اختلاف مذاهبهم - يسلّمون على رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - في الصلاة عند ختامها فيقولون: «السلامُ عليكَ أيُّها النبي ورحمةُ اللّه وبركاته». وينطلقون في ذلك من تعليم النبي ذلك للمسلمين، وأنّه سنّة النبيّ ثابتةٌ له في حياته وبعد وفاته(٢) فإذا كانت صلاتنا وعلاقتنا بالنبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - قد انقطعت بوفاته فما معنى مخاطبته والسلام عليه يومياً؟ إنّ هذا السلام يدلّ على إمكان الارتباط بروحه المقدّسة بل وقوعه.

____________________

(١)حق اليقين للسيد عبد اللّه شبر ٢: ٧٣.

(٢)كتاب الخلاف ١: ٤٧ وقد اتفقت كلمة إئمة المذاهب الاَربعة على وجود هذا السلام في التشهد.

٢٦٤

فلو كانت الصلة منقطعة فما معنى قول الرسول فيما تواتر عنه في زيارته لاَهل البقيع لعائشة: «أمرني ربّي أن آتي البقيع فأستغفرَ لهم». قلتُ: كيف أقول يا رسول اللّه؟ قال: «قولي السلام على أهل الديار من الموَمنين والمسلمين، يرحم اللّه المستقدمين منّا والمستأخرين». وفي رواية: «السلام عليكم دار قوم موَمنين، وأنا وإياكم متواعدون غداً، ومواكلون، وانّا إن شاء اللّه بكم لاحقون. اللّهم اغفر لاَهل البقيع». إلى غير ذلك من الصور المختلفة لزيارة النبيّ لبقيع الغرقد، والاختلاف في الصور إنّما هو لاَجل تكرار العمل منه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فلاحظ المصادر(١) . كلّ ذلك يكشف عن حياة الموَمنين أو قسم منهم، وأنّ الصلة بعد وفاتهم موجودة. ثمّ إنّ للوهابيين شُبهات في حياة الاَنبياء أو إمكان الاتصال بهم نذكرها مع التحليل:

____________________

(١)صحيح مسلم ٢: باب ما يقال عند دخول القبر : ٦٣، سنن النسائي ٣: ٧٦ وسنن أبي داود ٢:٩٦.

٢٦٥

الشبهة الاُولى: البرزخ مانعٌ من الاتصال: انّ الشيخ السلفي «الرفاعي» الذي نهج منهج الوهابيين في التمسّك بالشبهات في مقابل الواضحات لمّا رأى الآيات والروايات صريحة في حياة الاَنبياء والاَولياء بعد الوفاة، ورأى إمكان الاتصال بها ثانياً، أثار الشبهة التالية بقوله: إنّ الحياة البرزخيّة حياة لا يعلمها إلاّ اللّه فهي حياةٌ مستقلّةٌ نوَمن بها، ولا نعلم ماهيَّتها وإنَّ بين الاَحياء والاَموات حاجزاً يمنع الاتصال فيما بينهم قطعياً، وعلى هذا يستحيل الاتصال لا ذاتاً ولا صفاتاً، وأنّه سبحانه يقول:( وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُون ) (١) يُلاحظ عليه: أنّ الحياة بمعناها الحقيقي مجهولة الكُنه سواء أكانت حياة دنيوية أم برزخية ولا يعلم حقيقتها بل حقيقة الاَشياء إلاّ خالقها، غير أنّ ذلك لا يمنع من أن نتعرف عليها بآثارها كما هو المتعارف في المعرفة فإنّنا نعرف الاَشياء بآثارها وخصوصيّاتها، ومن خصوصيات الحياة في الكائن الاِنساني الدركُ والشعور قال سبحانه:( واللّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمْهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ والاَبْصارَ والاَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون ) (٢) وعلى ذلك فلو كانت هناك حياةٌ فلا تنفك عن لوازمها وخصوصياتها.

____________________

(١)التوصّل إلى حقيقة التوسّل: ٢٦٧.

(٢)النحل: ٧٨.

٢٦٦

وأمّا معنى قوله:( مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (١) فالمراد من «ورائهم» كونه أمامهم، ومحيطاً بهم، وسمّي وراءَهم بعناية أنّه يطلبهم، كما أنَّ مستقبل الزمان أمام الاِنسان، وفي نفس الوقت يقال: وراءَك يوم كذا بعناية أنّ الزمان يطلب الاِنسان ليمرّ عليه، وبذلك يُعلم معنى قوله سبحانه:( وَكانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأخُذُ كُل سَفِينَةٍ غصباً ) (٢) فكأنّ الملك وجنوده محيطون بالبحر أو بمعابره ومضائقه فهم يتعقّبون كل سفينة ليأخذوها. وأمّا البرزخ فهو الحاجز بين الشيئين قال سبحانه:( بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لايَبْغِيان ) (٣) . وكونه حاجزاً لا يعني انقطاع الصلة بين أهل الدنيا وأهل البرزخ، بل يكون مانعاً من رجوع الناس إلى حياة الدنيا. وممّا يوَيد ذلك هو أنَّ الآية وردت في رد طلب الكافرين الرجوع إلى الدنيا، كما يحكيه عنهم قوله سبحانه:( حَتّى إذا جاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قالَ رَبّ ارْجعُونِ لَعَلّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُو قائِلُها ) . فعند ذلك يوَكّد النفي المستفاد من قوله: (كلاّ) الصريح في عدم إمكان الرجوع، فيقول:( وَمِنْ ورائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَومِ يُبْعَثُون ) أي ثمت مانع من الرجوع إلى يوم البعث. وبعبارة أُخرى: أنّ المراد من الحاجز ليس هو وجود جدار رفيعٍ بين

____________________

(١)الموَمنون: ١٠٠.

(٢)الكهف: ٧٩.

(٣)الرحمن: ٢٠.

٢٦٧

الحياة الدنيوية، والحياة البرزخية أو ستار حديدي يمنع اللقاء بين من في العالَمين، بل المراد هو أنَّ الحياتين قد قُدّرتا على شكلٍ خاصٍّ لا يختلط أحدهما بالآخر، فإنّ الحياة الماديّة القائمة على الكَون والفَساد، والفعل والانفعال تختلف عن الحياة البرزخية المبرأة عن هذه الآثار كما هو الحال في الآية المباركة:( وَبَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيان ) (١) وحصيلة الكلام هي: أنّ القول بوجود الحاجز لا يلازم انقطاع الصلة،بل الحاجز يمنع عن اختلاط الحياتين إحداهما بالاَخرى، لا أنّه يمنع عن وجود الصلة والاتّصال بينهما، فشتّان الفرق بين الاَمرين. واستنتاجالثاني (المنع من الاتصال) من الاَوّل (المنع من اختلاط الحياتين)أشبه بالتفسير بالرأي، ولو صحّ ما ذُكر فما معنى تكلّم النبيّ صالح وشعيب مع قومهما وما معنى تكلّم رسول الاِسلام -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - مع الاَنبياء في المعراج؟ بل أيّ معنى لتمنّي حبيب النجار بعد مصرعه وقوله:( يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ) ؟ والآية بصدد بيان أنّ بين الموت والبعث عالماً آخر يبقى الاِنسان فيه إلى أن يُبعث، وأمّا انقطاع الصلة فهو من باب التفسير بالرأي، ولا تفيده الآية قط.

____________________

(١)بل من المحتمل أن يكون البرزخُ بمعنى عالم المثال والحياة المخصوصة ولكنه يحتاج إلى ثبوت ذلك الاصطلاح في الذكر الحكيم.

٢٦٨

الشبهة الثانية: امتناع إسماع الموتى: قال سبحانه:( فإِنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى... ) (١) وقال تعالى:( وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ في القُبُور ) (٢) فالآيتان صريحتان في امتناع إسماع الموتى. والجواب على هذا واضح: فإنّ هاتين الآيتين ناظرتان إلى الاَجسادالموجودة في القبور، فإنّها هي التي لا تسمع، ولا تعي، والاتصاللايكون بيننا وبين هذه الاَجساد بل يتحقّق بيننا وبين الاَرواحالطاهرة والنفوس الزكية الباقية الخالدة، وإن تَبَعثرَ الجسدُ وتناثرتأجزاوَه فالاَرواح هي التي يُسلَّم ويُصلَّى عليها وهي التي تسمعُ وترد. وأمّا الحضور عند المراقد التي تضم الاَجساد والاَبدان فلاَجل أنّه يبعث على التوجّه إلى صاحب تلك الاَجساد ويكون أدعى إلى تذّكر خصاله، وصفاته، وإلاّ فإنّ الارتباط بهم، والسلام عليهم يمكن حتى ولو من مكان ناءٍ وبلدٍ بعيد، كما تصرّح بعضُ أحاديث الصلاة على رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم -

____________________

(١)الروم: ٥٢.

(٢)فاطر: ٢٢.

٢٦٩

الشبهة الثالثة: انقطاع عمل الاِنسان: إنّ الكاتب السلفي «الرفاعي» استدلَّ على انقطاع الصلة بالحديث المتواتر عن رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - : «إذا ماتَ المرءُ انقطع عمله إلاّ عن ثلاثٍ: صدقة جارية، وعلم يُنتفع به، وولد صالح يدعو له» وهذه الرواية تشمل النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - أيضاً. والعجب من هذا الكاتب، فهو يخلط بين موضوعين هما: الاَوّل: هل الميّت ينتفع بعمل الغير أو لا؟ الثاني: هل الميّت له فعلٌ من الاَفعال في عالم البرزخ أو لا؟ ولو صحّ الاستدلال بالحديث فإنّما يصحّ في الموضع الاَوّل. وأمّا الموضع الثاني وهو هل للميت فعلٌ في البرزخ أو لا؟ وأنّه هل هو مبدأ لفعل أو لا؟ فلا صلة للحديث به، وكيف يمكن القول بأنّه لا فعل لهم هناك، وهذا هو القرآن الكريم يتحدَّث عن الشهداء بأنّهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم، وهذا هو حبيب النجار يحكي القرآن ما يتمنّاه لقومه بقوله:( يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُون ) وهكذا تزول الشبهات ويبقى الاَصل سليماً وهو أنّ الاَنبياء أحياء بعد مفارقة الاَرواح لاَجسادهم الطاهرة، وانّه يمكن اتصال الاَحياء بأرواحهم وهو ما دلّ عليه الكتاب والسنّة في أكثر من آية وأكثر من حديث اعتقده المسلمون على مر العصور

٢٧٠

ما يترتب على هذا الاَصل: ويترتب على هذا الاَصل أمران:

١- يصحُ الاعتقاد بأنّ النبي الاَكرم -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - من الشهداء على أعمال العباد، كما نصّ به القرآن الكريم إذ يصرّح تارة بكونه شاهداً على أهل عصره المعاشرين له خاصّة إذ يقول:( وَجِئْنا بِكَ عَلَ-ى هوَلاءِ شَهيداً ) (١) أو( وَكُنْتَ عَلَيهِم شَهيداً ما دُمْتُ فيهم ) (٢) تارة وبكونه شاهداً على الاُمم جميعاً إذ يقول:( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (٣) تارة أُخرى وكون الشهادة فرع الشعور، وهو فرع الحياة. ولو قلنا بموت النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وفنائه مُطلقاً، أو قلنا بانقطاع صلته بنا، وصلتنا به، فما معنى كونه شهيداً علينا، وكون النبيّ شاهداً على جميع الاَجيال الاِسلامية. على أنّه يجب أن نحمل لفظ الشهادة على المعنى الحقيقي، وأمّا تفسيره بغير هذا فهو تفسير مادّي للقرآن الكريم وهو مرفوض وغير مقبول.

٢- إنّه إذا ثبتت حياة النبيّ والاَولياء البرزخية، وثبت إمكان الصلة فلا محذور من طلب شيءٍ منهم، سواء أكان الفعل أمراً خارجياً أم دعاءً أم شفاعةً، وقيامهم بالاِجابة يتردّد بين أمرين: إمّا أن يكونوا قادرين على الاِجابة

____________________

(١) النساء: ٤١.

(٢)المائدة : ١١٧.

(٣)البقرة: ١٤٣.

٢٧١

أو لا؟ فعلى الاَوّل يقومون بإجابة استغاثة المضطر، وعلى الثاني يكون التوسّل لغواً. مثلاً لا شكّ في أنَّ المسيح -عليه‌السلام - كان في حال حياته إذا طُلِبَ منه شيءٌ خارق للعادة فعله بإذن اللّه سبحانه، فإذا طُلِبَ منه نظير هذا الاَمر بعد ما رُفِعَ فهو بين أن يكون متمكّناً من الاِجابة، أولا. فعلى الفرض الاَوّل يقوم بالاِجابة بإذن من اللّه. وعلى الثاني يكون التوسّل لغواً وعبثاً. وقس على ذلك كل ما يطلبه الاِنسان من الاَنبياء والاَولياء مع الاعتقادبكونهم عبادَ اللّه الصالحين وانهّم لا يقومون بفعلٍ إلاّ بإذن اللّه سبحانه. وبهذا تقف على قيمة الضجيج الذي يثيره الوهابيون في مجال التوسّل بالنبيّ وعترته، والاَولياء والصالحين فتارة ينفون حياتهم - بعد الموت - بالمرة، وتارة ينفون إمكان الاتّصال بهم، وثالثة يدَّعون لغوية مثل هذا التوسّل ورابعة يعدّونه شركاً ويكفّرون به المسلمين الموحّدين. وقد عرفت أنّ الاَمرين الاَوّلين (أي حياة الاَنبياء بعد الموت، وإمكان الاتصال بهم) ثابتان بالكتاب والسنَّة. وأمّا الاَمر الثالث فأمره دائر بين الاِجابة وعدمها، وأمّا كونه شركاً فقد عرفت حقيقته عند بيان ميزان التوحيد والشرك.

٢٧٢

توسّل السلف دليل على إمكان الارتباط: ثمّ إنّ الظاهر ممّا ورد عن الصحابة والتابعين أنّهم كانوا يتوسّلون بدعاء النبيّ مرّة بعد أُخرى، ونذكر فيما يأتي نماذج من عملهم هذا الذي يدلّ على أنّهم كانوا يعتقدون عمومية الاَمر الذي جاء في الكتاب العزيز، أعني: قوله تعالى:( وَلَو أَنَّهُمْ إذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحيماً ) (١) .وإنّ ذلك يشمل حال حياة النبي وحال وفاته، ويشمل الحياة الدنيوية والحياة البرزخية: ١- روى البيهقي عن مالك قال: أصاب الناس قحطٌ في زمان عمر بن الخطاب فجاء رجل إلى قبر النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فقال: يار سول اللّه استسق اللّه لاَُمتك فإنّهم قد هَلَكوا فأتاه رسول اللّه في المنام وقال: إئت عمر فاقرئه السلام وأخبره أنَّهم مُسقَون. يقول السمهودي بعد نقل الحديث: ومحلُ الاستشهاد طلبُ الاستسقاء منه وهو في البرزخَ، ودعاوَه لربّه في هذه الحالة غير ممتنع، وعلمه بسوَال من يسأله قد ورد، فلا مانع عن سوَال الاستسقاء وغيره منه كما كان في الدنيا(٢) ٢- روى ابن عساكر في تاريخه وابن الجوزي في «مثير الغرام الساكن» وغيرهما بأسانيدهم إلى محمد بن حرب الهلالي قال: دخلت المدينة فأتيت قبر النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فزرته وجلستُ بحذائه وجاء اعرابيٌ فزاره ثمّ قال: يا خير الرسل

____________________

(١)النساء: ٦٤.

(٢)دلائل النبوّة ٧: ٤٧.

٢٧٣

إنَّ اللّه أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه:( وَلَو أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم ) -إلى قوله: -( رَحِيماً ) وإني جئتك مُستغفراً ربَّك من ذنبي(١) وفي رواية: وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مُستشفعاً بك إلى ربّي ثمّ بكى وأنشأ يقول:يا خيرَ من دُفنت بالقاع أعظمه * فطاب من طيبهن القاعُ والاَكُمُ نفسي الفداءُ لقبرٍ أنتَ ساكنُه * فيه العفافُ وفيه الجودُ والكرمُ ثمّ استغفر وانصرف(٢)

٣- روى السمهودي عن الاِمام محمد بن موسى بن النعمان في كتابه «مصباح الظلام في المستغيثين بخير الاَنام» عن محمد بن المنكدر: أودع رجل عند أبي ثمانين ديناراً وخرج للجهاد، وقال لاَبي: إنْ احتجت أنفقها إلى أن أعود، وأصاب الناس جهدٌ من الغلاء فأنفق أبي الدنانير فقدم الر جل وطلب ماله فقال أبي عُد إليَّ غداً وباتَ بالمسجد يلوذ بقبر النبيّ مرّةً، وبمنبره مرّةً حتى كادَ أن يُصبح يستغيث بقبر النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - بينما هو كذلك فإذا بشخص في الظلام يقول دونكها يا أبا محمّد، فمدَّ أبي يده فإذا بصرَّةٍ فيها ثمانون ديناراً فلما أصبح جاءَ الرجل فدفَعها إليه(٣) ٤- التقى المنصُور الدوانيقي الاِمام مالك في مسجد رسول اللّه فقال: يا أبا عبد اللّه أستقبل القبلةَ وادعُو أم أستقبل رسول اللّه؟

____________________

(١)وفاء الوفا ٤: ١٣٧١.

(٢)المصدر نفسه ٤: ١٣٦١.

(٣)المصدر نفسه ٤: ١٣٨٠.

٢٧٤

قال مالك: لِمَ تَصرف وجهكَ عنه وهو وسيلتُك ووسيلة أبيك آدم إلى اللّه يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفّعه اللّه(١)

٥- دخل أبو بكر في حجرة رسول اللّه بعد غسله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فكشفَ عن وجهِ رسولِ اللّه وقبّلهُ وقال: بأبي أنتَ وأُمّي طبتَ حَياً وميّتاً اذْكُرنا عند ربك(٢) .

٦- وقال أمير الموَمنين عليُّ -عليه‌السلام - عندما ولي غُسْلَ رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - : بأبي أنت وأُمّي اذْكرنا عند ربك واجعلنا من بالِك(٣) وقد نقل السمهودي قصصَاً كثيرة من هذا النوع في كتابه القيم «وفاء الوفا». وفي نهاية المطاب ننبّه على نكتة هامة تُزيل الشبهة من الاَساس وهي: أنّ هذه القصص والقضايا مبثوثة بكثرة في الكتب، ولو أراد أحد جمعها لاَلّف منها كتاباً ضخماً. على أنّنا لا يمكننا تصديقها جميعاً مع العلم أنَّ بينها قضايا صادقة صدرت عن أُناس صالحين غير أنَّها بكثرتها تدلّ على أنّ التوسّل كان أمراً رائجاً منذ عصر الصحابة إلى زماننا هذا، ولم يكن أمراً غريباً عند المسلمين. ولو فرضنا أنّ بعض هذه القضايا تخالف الواقع فلا ريب أنّه من باب استغلال الوضّاعين لاَصل مسلَّم صحيح بين المسلمين فإنّهم نسجوا بعض

____________________

(١)وفاء الوفا ٩: ١٣٧٦.

(٢)كشف الارتياب: ٦٥، عن خلاصة الكلام لاَحمد زيني دحلان الشافعي، سيرة زيني دحلان في هامش السيرة الحلبية ٣: ٣٩٢.

(٣)نهج البلاغة، الخطبة ٢٣٥.

٢٧٥

القضايا في ظلّ ذلك الاَصل. ولو فرضنا أنّه لم يكن أمراً رائجاً بين المسلمين بل كان أمراً غريباً أو محظوراً لما تجرّأ المُستغل أن ينسج قضيةً كاذبةً على نول الشرك أو المحرّم، فإنّ الذي يحفّز الوضّاع على نسج الخرافة هو استعداد العامّة لقبول تلك الخرافة ولولاه لما تجرّأ عليه لعدم حصول الغاية المتوخّاة من نسجها. فهذه القضايا الكثيرة تدل - على كلا التقديرين - على المطلوب فإن كانت صادقة فبصدقها، وإن كانت كاذبة فلاَجل حكايتها عن وجود أصل مسلَّم بين المسلمين وهو التوسّل بدعاء النبي الاَكرم قبل وبعد موته، وكان هذا الاَصل ربّما يستغلّ أحياناً من بعض المتاجرين بالدين.

٢٧٦

١١- انتفاع الموتى بأعمال الاَحياء

لا نفع للاِيمان من دون عمل. انتفاع الاِنسان بعمله وعمل غيره. عرض المسألة على الكتاب والسنّة. الاَحاديث الدالّة على انتفاع الميّت بعمل الحي. وقف المذاهب الاِسلامية من هذه المسألة. شبهات حول الموضوع وأجوبتها. ما يترتب على هذا الاَصل. لا نفع للاِيمان من دون عمل: إنّ الاِيمان إنّما ينتفع به الاِنسان إذا انضمَّ إليه العمل الصالحُ ولا ينفع إيمانٌ انقطع عن العمل وخلا منه. ولاَجل ذلك يذكر اللّه سبحانه العمل الصالح إلى جانب الاِيمان في أكثر آيات الكتاب العزيز.

٢٧٧

وقد أخطأت «المرجئة» لما زعموا أنّ الاِيمان المجرّد وسيلة نجاة ومفتاح فلاح، فقدّموا الاِيمان وأَخّروا العمل. وقد شجب أهل البيت -عليهم‌السلام - هذه الفكرة الباطلة حيث حذّروا الآباء ودعوهم إلى حفظ أبنائهم منهم: «بادِرُوا أولادَكم بالاَدَبِ قَبلَ أن يَسبِقَكُمْ إليهمُ المرجِئَة»(١) . فالاعتماد على الاِيمان مُجرّداً عن العمل، فعل النوكى والحمقى وهو لا يفيد ولا ينفع أبداً. ولقد كان لهذه الفكرة الباطلة صيغة أُخرى عند اليهود، فهم كانوا يعتمدون على مسألة الانتساب إلى الآباء، وبيت النبوّة، فَزَعموا أنَّ الثوابَ لهم والعقابَ على غيرهم حيث قالوا:( نَحْنُ أَبْناءُ اللّهِ وَأَحِبّاوَه ) أو قالوا:( لَنْ تَمَسَّنا النّارُ إلاّ أيّاماً مَعْدُودة ) وفي ظلّ هذه الفكرة اقترفوا المنكرات واستحلّوا سفكَ دماء غيرهم من الاَقوام والاُمم، والاستيلاء على أموالهم. والحق الذي عليه الكتاب والسنّة هو أنَّ المنجي هو الاِيمان المقترن بالعمل الصالح، كما أنّ التسويف في إتيان الفرائض باطل جداً وهو أن يوَخّر الاِنسان الواجب ويقول سوف أحجّ مثلاً، ويقول ذلك كلّ سنة ويوَخّر الفريضة. وهذا هو الاِمام أمير الموَمنين عليّ -عليه‌السلام - يوَكد في خطبته على العمل إذ يقول: «فاليومَ عَملٌ ولا حسابٌ ، وغداً حسابٌ ولا عمَلٌ»(٢)

____________________

(١)الكافي ٦: ٤٧، الحديث ٥.

(٢)نهج البلاغة ، الخطبة ٤٢.

٢٧٨

ويقول: «ألا إنّ اليومَ المضمارُ وغداً السباق، والسُّبْقَة الجنَّة والغايةَ النّار أفلا تائبٌ من خطيئته قبل مَنِيّته؟ ألا عاملٌ لنفسِه قبل يوم بُوَسِهِ»(١) وهذا هو ما اتّفقت عليه الاُمّة الاِسلامية وتضافرت عليه الاَحاديث والاَخبار. انتفاع الاِنسان بعمله وبعمل غيره: لكنّه سبحانه بفضله وجوده الواسِعَين وسَّعَ على الاِنسان دائرة الاِنتفاع بالاَعمال بحيث شمل الاِنتفاع بعد الموت بالاَعمال التي تتحقَّق بعد الموت.

وهي على نوعين: الاَوّل: ما إذا قام الاِنسان بعملٍ مباشرةً في زمانه وماتَ ولكن بقي العملُ يستفيد منهُ الناس كصدقةٍ جاريةٍ أجراها، أو إذا ترك علماً يُنتفع به، ويقرب منه ما إذا ربّى ولداً صالحاً يدعو له، فهو ينتفع بصدقاته وعلومه، لاَنّها أعمال مباشرة باقية بعد موته وليست كسائر أعماله المباشرية الفانية بفنائه الزائلة بموته، فالجسر الذي بناه، والنهر الذي أجراه، والمدرسة التي شيَّدها والطريق الذي عبَّده، إنّما تحقّق بسعيه، فهو ينتفع به. وقد وردت في هذا المجال روايات كثيرة، قام بنقل بعضها ابن القيّم في المسألة السادسة في كتاب له باسم «الروح»قال: وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام أنَّه لا يصل إلى الميت شيء

____________________

(١)نهج البلاغة، الخطبة ٢٨.

٢٧٩

البتة لا بدعاء ولا غيره، ثمّ قال: والدليل على انتفاعه بما تسبّب إليه في حياته ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي‌الله‌عنه - : أنَّ رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - قال: «إذا مات الاِنسان انقطع عنه عمله إلاّ من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له» فاستثناء هذه الثلاث من عمله يدل على أنَّها منه فإنّه هو الذي تسبّب إليها. وفي سنن ابن ماجة من حديث أبي هريرة -رضي‌الله‌عنه - قال: قال رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - : «إنّ ممّا يلحق الموَمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً علّمه ونشره، أو ولداً صالحاً تركه، أو مصحفاً ورّثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحّته وحياته يلحقه من بعد موته». وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث جرير بن عبد اللّه قال: قال رسولُ اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - : «من سنّ في الاِسلام سنَّة حسنةً فله أجرها وأجرُ من عمِلَ بها من بعده من غير أن يُنقص من أُجورهم شيءٌ، ومن سنَّ في الاِسلام سنةً سيئةً كان عليه وزرها ووزر من عمِلَ بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيءٌ» وهذا المعنى روي عن النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - من عدة وجوه صحاح وحسان. وفي المسند عن حذيفة قال: سأل رجلٌ على عهد رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فأمسك القوم، ثمّ إنّ رجلاً أعطاه فأعطى القوم، فقال النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - : «من سنَّ خيراً فاستُنَّ به كان له أجره ومن أُجور من تَبِعَه غير منتقص من أُجورهم شيئاً، ومن سنّ شراً فاستُنَّ به كان عليه وزرهُ ومن أوزارِ من تَبِعَه غير منتقص

٢٨٠