في ظل أصول الإسلام

في ظل أصول الإسلام0%

في ظل أصول الإسلام مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 359

  • البداية
  • السابق
  • 359 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20745 / تحميل: 4854
الحجم الحجم الحجم
في ظل أصول الإسلام

في ظل أصول الإسلام

مؤلف:
العربية

ما في بَطْني مُحَرَّراً ) (١) .

فإنّ اللام فيه للغاية، وبين المعنيين بونٌ بعيد والذي يضفي على العمل لون العبادة، كون الشخص هو الغاية والمقصد.

ثم يجب أن لا نحصر جواز إهداء الثواب في الاَعمال المذكورة في الروايات بل نُعَمِّم هذا الجواز بحيث يشمُلُ جميع الاَعمال وذلك بالغاء الخصوصيّة، فكما يجوز إهداء ثواب الصدقة والحجّ والعتق يجوز إهداء ثواب قراءة القرآن إلى الموتى.

خاصّة وأنّ هناك أحاديث مرويةٌ عن أهل البيت -عليهم‌السلام - جوّزت مثل هذا العمل، وسوّغت إهداء ثواب قراءة القرآن إلى الميّت وصرّحت بوصوله إليه، وانتفاعه به فلماذا يُترك رأي أهل البي-ت -عليهم‌السلام - ويكتفى بقول أحد أئمة المذاهب الاَربعة.

أفلا ينبغي الرجوع إلى قول أهل البيت إلى جنب أقوال أئمّة المذاهب الاَربعة على قدم المساواة.

وأظن أنّ للقوم وراء هذا الاِنكار أهدافاً خطيرةً وهو: أنّ القول بعدم انتفاع الموتى من عمل الاَحياء ذريعة لاِنكار حياتهم، وبالتالي أنّ الاَنبياءوالاَولياء أمواتٌ لا ينتفعون بشيء ممّا يُقَدّم إليهم من أحبائهم وشيعتهم.

فإذا كانوا كذلك فما معنى التوسّل والاستغاثة بهم وندائهم؟!

____________________

(١) آل عمران: ٣٥.

٣٠١

بحث في النذور:

قد تفضل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضحى عن أمته أحياء وأمواتا وضحى الصحابة والتابعون عن نبيهم، فقد أخرج ابن ماجة وعبد الرزاق وغيرهما عن عائشة وأبي هريرة: أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا أراد أن يضحي اشترى كبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجودين فذبح أحدهما عن محمد وآل محمد والآخر عن أمته من شهد لله بالتوحيد وله بالبلاغ.

وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي: أن النبي ذبح بيده وقال: " اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي ".

وصريح ذلك وصول الثواب إليهم وانتفاعهم.

روى أبو داود بسنده في باب الأضحية عن الميت عن علي بن أبي طالب أنه كان يضحي عن النبي بكبش وكان يقول: " أوصاني أن أضحي عنه فأنا أضحي عنه "(١) .

ما يترتب على هذا الأصل:

ويترتب على هذا الأصل صحة عمل المسلمين حيث يقومون بأعمال حسنة صالحة وربما أهدوا ثوابها إلى أحبائهم وأعزتهم الموتى، وهو أمر يوافق عليه الكتاب والسنة، بل صرحا به تصريحا.

____________________

(١) سنن أبي داود ج ٢ كتاب الضحايا.

٣٠٢

فما يقوم به المسلمون لموتاهم من إهداء ثواب الأعمال الصالحة لهم، أو ما يفعلونه عند قبور الأنبياء والأولياء من إطعام الطعام وتسبيل الماء بنية أن يصل ثوابها إليهم إنما يقتدون فيها بسعد بن عبادة الذي سأل النبي عن حكم الصدقة عن أمه أينفعها؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم. فقال فأي الصدقة أفضل؟ قال: الماء. فحفر بئرا، وقال: هذه لأم سعد.

فهم في هذا سعديون لا وثنيون، لا يريدون عبادة الموتى، بل يريدون إيصال الثواب إليهم كما فعل سعد.

٣٠٣

٣٠٤

١٢- زيارة القبور

في السنّة النبوية

والسفر إلى زيارة النبيّ الاَكرم

زيارة القبور والآثار الاَخلاقية والتربوية.

شبهتان لابن تيميّة وجوابهما.

معالجة حديث النهي عن شدّ الرحال إلى غير ثلاثة مساجد.

زيارة القبور والآثار الاَخلاقية والتربوية:

إنّ زيارة القبور تنطوي على آثار أخلاقية وتربوية هامّة، لاَنّ مشاهدة المقابر التي تضم في طياتها مجموعة كبيرة من الذين عاشوا في هذه الحياة، ثمّ انتقلوا إلى الآخرة يوَدّي إلى تخفيف روح الطمع والحرص على الدنيا، وربّما يغيّر سلوك الاِنسان فيترك المظالم والمنكرات ويتوجه إلى اللّه والآخرة.

٣٠٥

لذا يقول الرسول الاَعظم -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - : «زُوروا القبور فإنّها تذكّركم بالآخرة»(١)

وربّما يُستفاد من بعض الاَحاديث أنّ النبيّ نهى يوماً عن زيارة القبور ثمّ رخّصها، ولعلّ النهي كان لملاك آخر وهو أنَّ كثرة الاَموات - يومذاك - كانوا من المشركين فنهى النبي عن زيارتهم و لمّا كثر الموَمنون بينهم رخّصها بإذن اللّه عزّ وجلّ وقال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنّها تُزهّد في الدنيا وتذكّر في الآخرة»(٢)

وقالت عائشة: إن رسول اللّه رخَّص في زيارة القبور. وقالت: إنَّ النبي قال: «أمرني ربي أن آتي البقيع وأستغفر لهم» قلت: كيف أقول يا رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - ؟

قال: «قولي: السلام على أهل الديار من الموَمنين والموَمنات يرحم اللّه المستقدمين منّا والمستأخرين إنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون».

وقد جاء في الصحاح والمسانيد صور الزيارات التي زار بها النبي البقيع(٣)

هذا كلّه في زيارة قبور المسلمين وأمّا زيارة أوليائهم من النبيّ والاَئمّة والشهداء والصالحين، فلا شكّ أنّ لزيارتهم نتائج بنّاءة نشير إليها.

____________________

(١)شفاء السقام: ١٠٧.

(٢)سنن ابن ماجة ١: ١١٧، باب من جاء في زيارة القبور.

(٣)لاحظ صحيح مسلم ٢: ٦٤ باب ما يقال عند دخول القبور، والسنن للنسائي ٧٦ والسنن لاَبي داود ٢: ١٩٦ وغيرهما.

٣٠٦

إنّ زيارة مراقد هذه الشخصيات هو نوعٌ من الشكر والتقدير على تضحياتهم وإعلام للجيل الحاضر بأنّ هذا هو جزاء الذين يسلكون طريق الحق والهدى، والفضيلة، والدفاع عن المبدأ والعقيدة، وهذا لا يدفعنا إلى زيارة قبورهم فقط، بل إلى إبقاء ذكرياتهم حيّةً ساخنةً، والمحافظة على آثارهم وإقامة المهرجانات، في ذكرى مواليدهم، وعقد المجالس وإلقاء الخُطَب المفيدة في أيام التحاقهم بالرفيق الاَعلى، وهذا شيء يدركه كل ذي مسكة.

ولاَجل ذلك نرى أنّ الاُمم الحيّة يتسابقون في زيارة مدفن روَسائهم وشخصياتهم الذين ضحّوا بأنفسهم وأموالهم في سبيل إحياء الشعب، واستقلاله من أيدي المستعمرين والظالمين ويقيمون الذكريات الموَدّية لاِحياء معالمهم، دون أن يخطر ببال أحد أنَّ هذه الاَمور عبادة لهم، فأين التعظيم للشخصيات من عبادتها؟ فإنّ التعظيم تقدير لجهودهم والعبادة من تأليههم واتخاذهم أرباباً. فهل هناك من يخلط بين الاَمرين منّا أو من غيرنا.

إذا وقفت على الآثار البنّاءة لزيارة مطلق القبور وزيارة قبور الاَولياء والصالحين نذكر خصوص ما ورد من الروايات التي جاء فيها البعث والحثُ على زيارة قبر النبيّ الاَعظم -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم -

قد نقل القاضي تقيُّ الدين أبو الحسن عبد الكافي السبكي ١٥ حديثاً في ذلك المجال وتكلّم في أسنادها وصحَّح كثيراً منها(١)

____________________

(١)شفاء السقام في زيارة قبر الاِمام: ٣- ٣٤ الباب الاَوّل في الاَحاديث الواردة في الزيارة.

٣٠٧

كما قام العلاّمة السمهوديّ المتوفى سنة ٩١١ في كتابه القيّم (وفاء الوفا بأحوال دار المصطفى) بنقل روايات كثيرة في هذا المجال(١)

كما أنَّ الفقهاء والمذاهب الاَربعة في مصر في العصر الحاضر أفتوا بأنّ زيارة قبر النبي من أفضلِ المندوبات ونحن نذكر بعض الروايات إتماماً للفائدة:

١- عن عبد اللّه بن عمر: «من زار قبري وجَبَتْ له شفاعتي».

وقد بسط تقي الدين السبكي في طريق هذا الحديث في شفاء السقام ١٠٣ وقال في صفحة ٨: والرواة جميعهم إلى موسى بن هلال ثُقاة لا ريب فيهم وموسى بن هلال من مشايخ أحمد بن حنبل وأحمد لم يكن يروي إلاّ عن ثقة، وقد نقله من الحفّاظ قُرابة ٤٠ حافظاً.

٢- عن عبد اللّه بن عمر مرفوعاً: «إنَّ من جاءني زائراً لا تحمله إلاّ زيارتي كان حقّاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة».

وقد رواه عن الحافظ ١٦ حافظا.

وقد فصّل السبكيّ في طريق هذا الحديث وأخرجه من طرق شتّى، لاحظ ص ١٣ - ١٦.

٣- عن عبد اللّه بن عمر: من صبَّح فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي.

أخرجه من الحفّاظ قرابة خمس وعشرين حافظاً.

____________________

(١)وفاء الوفا ٤: ١٣٣٦

٣٠٨

وقد بسّط تقي الدين السبكي الكلام في طُرُقه في شفاء السقام ص١٦- ٢١ فمن أراد التوسّع والوقوف على متون الروايات وأسماء من أخرجها من الحفّاظ فليرجع إلى «شفاء السقام» للسبكي، ووفاء الوفاء للسمهودي وإحياء العلوم للغزالي، شرح الشفاء للقاضي إلى غير ذلك من الكتب الموَلفة في هذا المجال.

شبهتان لابن تيميّة وتابعيه في زيارة النبيّ

ولقد أثار ابن تيميّة شبهتين في هذا المجال نشير إليهما:

١- كون الزيارة على هذا الوجه المخصوص بدعةً.

٢- كون الزيارة من تعظيم غير اللّه المفضي إلى الشرك.

أمّا الشبهة الاُولى؛ فهي باطلةٌ من رأسٍ، وذلك لاَنَّ البدعة الاصطلاحية المحرّمة فقهياً - كما أسلفنا - هو «إدخال ما ليس في الدين، في الدين».

ثمّ هل يمكن لاَحدٍ بعد هذه النصوص المتضافرة القول بأنّ زيارة قبور الاَنبياء والاَئمة والاَولياء ليست من الدين؟ وأنّه لم يأمر بها وقد أمر هو بزيارة القبور؟

فهل يتصوّر أنّه لا يعادل زيارة قبر مُسلم؟

كبرت كلمةً تخرج من أفواههم، وقد أمر النبيُّ بزيارة قبور الموَمنين، ويكون هو - العياذ باللّه - أقل درجةً من متابعيه.

وأمّا الشبهة الثانية، فنقول: كيف تكون زيارة النبيّ مفضية إلى الشرك

٣٠٩

مع أنّ زيارة قبر نبىِّ التوحيد استشعارٌ لحقيقته، وتقديس لمعناه؟

ونعم ما كتب الشيخ محمد أبو زهرة في هذا المجال إذ قال:

فإنّ التقديس الذي يتصل بالرُّسل إنّما هو لفكرتهم التي حملوها، فالتقديس لمحمّد -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - تقديس للمعاني التي دعا إليها، وحث عليها فكيف يُتصوّر من موَمن عَرِفَ حقيقة الدعوة المحمدية أن يكون مُضمراً لاَي معنىً من معاني الوثنية وهو يستعبر العبر، ويستبصر ببصيرته عند الحضرة الشريفة والروضة المنيفة، فإذا كان خوف ابن تيمية من أن يوَدي ذلك إلى الوثنية بمضيّ الاَعصار والدهور، فإنّه خوفٌ من غير جهة، لاَنّ الناس كانوا يَزُورُون قبر الرسول -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - إلى أوّل القرن الثامن ثم استمرُّوا على هذه السيرة في العصور من بعده إلى يومنا هذا، ومع ذلك لم يُنظر إلى هذا العمل نظرة عبادة أو وثنية، ولو تفرط أحدٌ فهو من العوامّ ، ولا يمنع تلك الذكريات العطرة، بل يجب إرشادهم لا منعهم من الزيارة وتكفيرهم(١)

وقال الشيخ محمد زاهد الكوثري أحد علماء الاَزهر الشريف:

إنَّ سعي ابن تيمية في منع الناس من زيارة النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - يدلّ على ضغينةٍ كامنةٍ فيه نحو النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وكيف يُتصوّر الاِشراك بسبب الزيارة والتوسُّل في المسلمين الذي يعتقدون في حقّه أنّه عبده ورسولُه وينطقون بذلك في صلاتهم نحو عشرين مرّة في كل يوم على أقل التقادير إدامةً لذكرى ذلك، ولم يزل أهل العلم ينهون العوام من البدع في كل شوَونهم ويرشدونهم إلى السنّة في الزيارة وغيرها إذا حدث منهم بدعةٌ في شيء، لم يعدُّهم وهم في يوم

____________________

(١)كلام أبو زهرة في كتابه حول حياة ابن تيمية.

٣١٠

من الاَيام به مشركين بسبب الزيارة أو التوسّل، وأوّل من رماهُم بالاِشراك بتلك الوسيلة هو ابن تيمية، وجرى خلفه من أراد استباحة أموال المسلمين ودمائهم لحاجةٍ في النفس(١) .

السفر إلى زيارة النبي الاَكرم -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - :

وربّما يظهر من بعض الوهابيين، القول بجواز زيارة النبي الاَكرم، ولكن يُحرّم شدّ الرحال إليها، مستدلاً بحديث ستعرفه.

والذي يدل على جواز السفر أُمور نشير إليها:

الاَوّل: ما ورد من الاَحاديث في الحث على زيارة النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وسيوافيك نصّها فإنّها بين صريح في جواز السفر أو مُطلق يعمُّ المقيم والمسافر، فقول النبيّ وفعله حجّتان

أمّا قوله: فقد روي عن عبد اللّه بن عمر أنّه قال النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - : «من جاءني زائراً لا تعمله (تحْمِلهُ) إلاّ زيارتي في حياتي».

واللفظ الثاني صريحُ في الجواز مطلق يعم المسافر والمقيم في المدينة، ستوافيك هذه النصوص عن أعلام المحدّثين.

وأمّا فعله: فقد روي عن طلحة بن عبد اللّه قال: خرجنا مع رسول اللّه يُريدُ قبور الشهداء إلى أن قال: فلمّا جئنا قبور الشهداء قال: «هذه قبور إخواننا»(٢)

____________________

(١)تكملة السيف الصقيل: ١٥٦.

(٢)أخرجه أبو داود في سننه ١: ٣١١ والبيهقي في السنن الكبرى ٥: ٣٤٩، والمراد من الشهداء شهداء أُحد كما هو مورد الحديث.

٣١١

الثاني: الاِجماع، لاِطباق السلف والخَلَف، لاَنّ الناس لم يزالوا في كلّ عامٍ إذا قضوا الحج يتوجّهون إلى زيارته -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وأنّه من يفعل ذلك قبل الحج.

قال السبكي: هكذا شاهدناه وشاهده من قبلنا وحكاه العلماء عن الاَعصار القديمة وكلُّهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه وإن لم يكن طريقهم، ويقطعون فيه مسافةً بعيدةً وينفقون فيه الاَموال، ويبذلون فيه المهج، معتقدين أنَّ ذلك قربةٌ وطاعةٌ، وإطباقُ هذا الجمعِ العظيم من مشارِقِ الاَرض ومغاربها على مرّ السنين وفيهم العلماء والصلحاء وغيرهم يستحيل أن يكون خطأ وكلُّهم يفعلون ذلك على وجه التقرّب به إلى اللّه عزّ وجلّ، ومن تأخر فإنّما يتأخر بعجزٍ أو تعويق المقادير مع تأسُّفه عليه وودّه لو تيسَّ-ر له ومن ادّعى أنّ هذا الجمع العظيم مجمعون على خطأٍ فهو المخطىَ.

وما ربّما يقال من أنّ سفرهم إلى المدينة لاَجل قصد عبادةٍ أُخرى وهو الصلاة في المسجد، باطلٌ جداً، فإنّ المنازعة فيما يقصُدُه الناس مكابرةٌ في أمر البديهة فمن عَرِفَ الناس عَرِفَ أنَّهم يقصدون بسفرهم الزيارة يعرّجون إلى طريق المدينة ولا يخطر غير الزيارة من القُرُبات إلاّ ببال قليلٍ منهم، ولهذا قلَّ القاصِدُون إلى البيتِ المقدَّس مع تيسّر إتيانه، وإن كان في الصلاة فيه من الفضل ما قد عُرِفَ، فالمقصودُ الاَعظم في المدينة الزيارة كما أنّ المقصود الاَعظم في مكّة الحجّ أو العمرة، وصاحب هذا السوَال إن شكّ في نفسه فليسأل من كلّ من توجّه إلى المدينة ما قَصَدَ بذلك؟(١)

الثالث: إنّه إذا كانت الزيارةُ قربةً وأمراً مُستحباً على الوجه العام أو

____________________

(١)شفاء السقام في زيارة خير الاَنام لتقي الدين السبكي: ٨٥ - ٨٦، ط بولاق مصر.

٣١٢

الخاص فالسفر وسيلةُ القربة، والوسائل معتبرةٌ بالمقاصد فيجوز قطعاً.

الرابع: ما نقله الموَرخون عن بعض الصحابة والتابعين في هذا المجال.

قال ابن عساكر في ترجمة بلال: إنّ بلالاً رأى في منامه رسول اللّه وهو يقول له: ما هذه يا بلال، أما آن لك أن تَزورني يا بلال؟ فانتبه حزيناً، وجِلاً خائفاً، فَرَكِبَ راحلتَه وقصد المدينة فأتى قبر النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فجعل يبكى عنده ويمرّغ وجهه عليه، فأقبل الحسنُ والحسين – رضي ‌الله ‌عنهما - فجعل يضمُّهما ويقبّلهما فقالا له: نشتهي نسمعُ أذانك الذي كنت توَّذن به لرسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - ، فَفَعَلَ، فعلا سطحَ المسجد، فوقف موقفه الذي كان يقف فيه، فلما أن قال: «اللّه أكبر - اللّه أكبر» ارتجّت المدينة، فلما أن قال: «أشهد أنّ لا إله إلاّ اللّه» ازدادت رجّتها، فلما أن قال: «أشهد أنّ محمّداً رسولُ اللّه» خرجت العواتقُ من خُدورهن فقالوا: أَبُعِثَ رسولُ اللّهِ. فما رُئي يوماً أكثر باكياً بالمدينة بعدَ رسول اللّه من ذلك اليوم(١)

إنّ عمر بن عبد العزيز كان يبعث بالرسول قاصداً من الشام إلى المدينة ليقرىَ النبيّ السلام ثمّ يرجع.

قال السبكي: إنّ سفر بلال في زمن صدر الصحابة ورسول عمر بن عبد العزيز في زمن صدر التابعين من الشام إلى المدينة، لم يكن إلاّ للزيارة والسلام على النبيّ ولم يكن الباعثُ على السفر ذلك من أمر الدنيا ولا من أمر الدين ولا من قصد المسجد ولا من غيره(٢)

____________________

(١) شفاء السقام: ٤٤ -٤٧ وقد نقله من مصادر كثيرة، قال: وذكره الحافظ أبو محمّد عبد الغني المقدسي في «الكامل في ترجمة بلال».

(٢) شفاء السقام: ٤٤ -٤٧ وقد نقله من مصادر كثيرة، قال: وذكره الحافظ أبو محمّد عبد الغني المقدسي في «الكامل في ترجمة بلال».

٣١٣

إنّ عمر لما صالح أهل بيت المقدس وقدم عليه كعب الاَحبار وأسلم وفرِحَ عمر بإسلامه، قال عمر له: هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبر النبي وتتمتع بزيارته؟ فقال لعمر: أنا أفعلُ ذلك، ولما قدم عمرُ المدينة أول ما بدأ بالمسجد وسلم على رسول اللّه.

ذكر ابن عساكر في تاريخه وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن بأسانيدهم إلى محمد بن حرب الهلالي قال: دخلتُ المدينة، فأتيت قبر النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وزرته وسلَّمتُ بحذائه، فجاءه إعرابيٌّ فزاره، ثمّ قال: يا خير الرسل إنّ اللّه أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه:( وَلَو أَنَّهُمْ إذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) .

وإنّي جئتك مُستغفراً ربّك ذُنوبي، مُستشفعاً بك إلى اللّه ثمّ بكى وأنشأ يقول:

يا خيرَ من دُفنت بالقاع أعظمُه

فطاب من طيبهنّ القاعُ والاَكُمُ

نفسي الفداءُ لقبرٍ أنتَ ساكنُه

فيه العفافُ وفيه الجودُ والكرمُ

وقد ذيَّله أبو الطيب أحمد بن عبد العزيز بأبيات وقال:

وفيه شمسُ التُّقى والدينِ قد غَرُبَت

من بَعدِما أشرَقَتْ من نورِها الظُّلَمُ

حاشا لوجهِكَ أن يَبلَى وَقد هُدِيَت

في الشَّرق والغَرب من أنواره الاُمم(١)

____________________

(١)شفاء السقام: ٥٢.

٣١٤

وبذلك تعرف قيمة ما ذكره ابن تيمية حول السفر إلى المشاهد المشرفة التي فيها مراقد أئمّة أهل البيت -عليهم‌السلام - وقال: وقد رخَّصَ بعضُ المتأخّرين في السفر إلى المشاهد ولم ينقلوا ذلك عن أحد من الاَئمّة ولا احتجوا بحجّة شرعية(١) .

تحليل دليل المخالف:

إنّ ابن تيمية أوّل من أفتى بحرمة السفر إلى زيارة الرسول واستدلَّ بحديث روي بصور ثلاث:

١- لا تُشَدُّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الاَقصى.

٢- إنّما يُسافَر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة ومسجدي ومسجد إيلياء.

٣- تُشدُّ الرحّال إلى ثلاثة مساجد(٢)

فلو قلنا بأنَّ لفظة (إنّما) تفيد الحصر، تكون الصورة الثانية مثل الصورة الاُولى في إفادة الحصر وإلاّ فينحصر الاستدلال بالصورة الاُولى.

____________________

(١)مجموعة الرسائل الكبرى ٢: ٦٠.

(٢) أورد مسلم هذه الاَحاديث في صحيحه ج٤ كتاب الحج باب (لا تشدّ الرحال) : ٢٦ وذكره أبو داود في سننه ج١ كتاب الحج : ٤٦٩ وكذلك النسائي في سننه المطبوع مع شرح السيوطي ٢: ٣٧- ٣٨ وقد ذكر السفلي صور أُخر للحديث هي أضعف دلالة على متصور المستدل، لاحظ شفاء السقام : ٩٨.

٣١٥

فلنفترض أنّ الحديث ورد على نمط الصورتين الاُوليين، فنقول: إنّ الاستثناء لا يستغني عن وجود «المستثنى منه» وحيث لم يذكر في كلامه، فيلزم تقديره وهو أحد الاَمرين:

أ : لا تُشدُّ الرحال إلى مسجدٍ من المساجد إلاّ إلى ثلاثة. (فيكون المستثنى منه على هذا التقدير هو لفظ: مسجد).

ب : لا تشدّ الرحال إلى مكان من الاَمكنة إلاّ إلى ثلاثة مساجد (فيكون المستثنى منه على هذا التقدير هو لفظ: مكان).

أمّا على التقدير الاَوّل: فيجب علينا ملاحظة الاَمور التالية:

أوّلاً : أنّ الحديث لو دلّ على شيء فإنّما يدلّ على النهي عن شدّ الرحال إلى مسجدٍ سوى المساجد الثلاثة، وأمّا شدّ الرحال إلى الاَماكن الاَخرى فالحديث ساكت عنه، غير متعرض لشيء من أحكامه، بل النفي والاِثبات يتوجهان إلى المسجد، فالمساجد يُنهى عن شدّ الرحال إليها عدا المساجد الثلاثة.

وأمّا حكم شدّ الرحال إلى المنتزهات والمراكز العلمية أو الصناعية أو مقابر الاَولياء و الشهداء والصديقين والصلحاء فهو ساكت عنه ومن العجيب أن نستدل به على تحريم شدّ الرحال إليها.

ثانياً: إنّ النهي عن شدّ الرحال إلى غير هذه المساجد لا يعني تحريمه، بل يعني نفي الفضيلة فيه، وتلك المساجد وسوى الثلاثة لما كانت متساوية في الفضيلة والثواب، فلا ملزم لتحمّل العبء بشدّ الرحال إليها.

٣١٦

فالمساجد الجامعة متساوية في الفضيلة في عامَّة البلاد فلا وجه لشدّ الرحال إلى مسجد لاِقامة الصلاة فيها، ولكنه إذا شدّ الرحال بقصد الصلاة والعبادة لربّه لا يُعدّ عمله مُحرّماً بل غاية الاَمر أنّه لا يترتب عليه ثواب.

ثالثاً: إنّ الحديث نصٌّ أو ظاهرٌ في الحصر، مع أنّه ورد في الصحيح أنّ النبي كان يأتي مسجد «قُبا» راكباً وماشياً فيصلي فيه(١) فكيف يجتمع هذا الاَصل مع لسان وهذا الحديث الذي هو لسان الاِباء عن التخصيص؟

إنّه لا يصحّ لنا أن نقول: إنّ النهي خُصّص بعمل النبي.

وهذا ربّما يكشف عن كون حديث النهي عن شد الرحال غير صحيح من رأس، أو أنّه نُقل محرَّفاً، خصوصاً أنّه نُقِل عن طريق أبي هريرة فقط، والاستدلال بمتفرداته أمرٌ مُشكل.

وقد تنبّه ابن تيميّة لهذا الاِشكال فحاول أن يرفع التناقض، بين الحصر، وناقضه فقال: (انّه يُستحب لمن كان بالمدينة أن يذهب إلى مسجد قُبا).

وهذا الجمع لا يرفع الاِشكال فإنّ الكلام في تخصيص النصّ الدالّ على الحصر وأنَّه لا يشدّ إلى غيره أبداً، سواء كان مستحباً للمقيم أو للاَعم منه ومن المسافر.

وبعبارة أوضح: أنّ حديث النهي عن شدّ الرحال دالّ على النفي الشامل للمقيم والمسافر فكيف يجمع مع الحديث المخصص.

____________________

(١)صحيح مسلم ٤: ١٢٧ وصحيح البخاري ٢: ١٧٦ السنن للنسائي المطبوع مع شرح السيوطي ٢:١٢٧.

٣١٧

هذا كلّه على فرض كون المستثنى هو (المسجد) وقد عرفت كون الحديث أجنبياً عن السَّفَر إلى غير المساجد وبما أنّ المستثنى هو (المسجد) فالمناسب هو كون المستثنى منه من هذا القبيل.

وأمّا على التقدير الثاني وهو تقدير الاَماكن وما يقاربه ويعادله، فلازم ذلك أن تكون كافّة الاَسفار محرَّمة غير السفر إلى المساجد الثلاثة، وهل يلتزم بذلك مسلمٌ، وهل يفتي به أحدٌ؟

ولو كان الحديث بصدد منع كافة الاَسفار المعنوية فكيف كان النبيّ والمسلمون يشدّون الرحال في موسم الحج إلى عرفات والمشعر ومنى؟

وهذا دليل على أنّ «المستثنى منه» هو المساجد لا الاَماكن.

أضِف إلى ذلك أنَّ الذكر الحكيم والاَحاديث الصحيحة قد حثّا على السَّفَر إلى طلب العلم والجهاد في سبيل اللّه وصلة الرحم وزيارة الوالدين قال سبحانه:( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدّينِ ولِيُنْذِرُوا قَومَهُمْ إِذا رَجِعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون ) (١)

مُضافاً إلى ما ورد في السفر للرزقِ، فلو كان الحكم في حديث النهي عن شدّ الرحال عامّاً، فما معنى هذه التخصيصات الكثيرة الوافرة التي تُنافي البلاغة، وتُزيل الحصر؟

وهناك كلمة قيّمة للغزالي في «إحياء العلوم» يقول:

القسم الثاني هو: أن يسافر لاَجل العبادة إمّا لحجٍّ أو جهاد

____________________

(١)التوبة: ١٢٢.

٣١٨

ويدخلُ في جملته زيارة قبُور الاَنبياء -عليهم‌السلام - وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والاَولياء، وكل من يُتَبرَّك بمشاهدته في حياته يتبرّك بزيارته بعد وفاتهِ، ويجوز شدُّ الرحال لهذا الغرض، ولا يمنعُ من هذا قوله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - : «لا تُشدُّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الاَقصى» لاَنّ ذلك في المساجد، فإنّها متماثلة «في الفضيلة» بعد هذه المساجد، وإلاّ فلا فرق بين زيارة قبور الاَنبياء والاَولياء والعلماء في أصل الفضل، وإن كان يتفاوت في الدرجات تفاوتاً عظيماً بحسب اختلاف درجاتهم عند اللّه(١)

خلاصة القول:

إنّ زيارة القبور جائزة بل مندوبة لاَنّها تزهّد في الدنيا وتذكّر بالآخرة، وقد ندب إليها رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وفعلها.

وإنّ زيارة القبور التي تضم أجساد الشخصيات الاِسلامية العظيمة توَدّي إلى آثار نفسية واجتماعية كبرى.

وانّ ما يثار حول هذه المسألة من شبهات مثل أنّها عبادة لاَصحاب القبور أو توَدّي إلى ذلك لا قيمة له، بعد معرفة الناس بمنزلة النبيّ والاَئمّة والصالحين، وأنّهم عباد اللّه المقربون.

____________________

(١)كتاب إحياء علوم الدين للغزالي ج٢: ٢٤٧ كتاب آداب السفر، طبعة دار المعرفة بيروت، الفتاوى الكبرى ج٢: ٢٤.

٣١٩

٣٢٠